البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

(كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي مثل هذا التصريف والترديد والتنويع ننوّع الآيات ونردّدها وهي الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة التامة والفعل بالاختيار ولما كان ما سبق ذكره من إرسال الرّياح ومنتشرات ومبشرات سببا لإيجاد النّبات الذي هو سبب وجود الحياة وديمومتها كان ذلك أكبر نعمة الله على الخلق فقال (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي (بِإِذْنِ رَبِّهِ).

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وهو آدم عليه‌السلام وقصّ من أخباره ما قصّ واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار وأمره تعالى بترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وكان من بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا غير مستجيبين له ولا مصدّقين لما جاء به عن الله قصّ تعالى عليه أحوال الرّسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التّسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتأسي بهم ، فبدأ بنوح إذ هو آدم الأصغر وأول رسول بعث إلى من في الأرض وأمته أدوم تكذيبا له وأقلّ استجابة وتقدم رفع نسبه إلى آدم وكان نجّارا بعثه الله إلى قومه وهو ابن أربعين سنة قاله ابن عباس ، وقيل : ابن خمسين ، وقال مقاتل : ابن مائة ، وقيل : ابن مائتين وخمسين ، وقيل : ابن ثلاثمائة. وقال عون بن شداد : ابن ثلاثمائة وخمسين ، وقال وهب : ابن أربعمائة وهذا اضطراب كثير من أربعين إلى أربعمائة فما بينهما وروي أنّ الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره وهو أوّل الرّسل بعد آدم بتحريم البنات والأخوات والعمّات والخالات وجميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه‌السلام وعن الزهري أنّ العرب وفارسا والروم وأهل الشام واليمن من ذرية سام بن نوح والهند والسّند والزنج والحبشة والزّطّ والنوبة وكلّ جلد أسود من ولد حام بن نوح والتّرك والبربر ووراء الصين ويأجوج وماجوج والصقالبة من ولد يافث بن نوح ، لقد أرسلنا استئناف كلام دون واو وفي هود والمؤمنون ولقد بواو العطف ، قال الكرماني لما تقدّم ذكر الرسول مرات في هود وتقدّم ذكر نوح ضمنا في قوله وعلى الفلك لأنه أول من صنعها عطف في السورتين انتهى واللام جواب قسم محذوف أكّد تعالى هذا الإخبار بالقسم ، قال الزمخشري : (فإن قلت) : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلّا مع قد وقل عنهم قوله : حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا (قلت) : إنما كان ذلك لأنّ الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنّة لمعنى التوقّع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب

٨١

كلمة القسم انتهى ، وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماض مثبت متصرف وكان قريبا من زمان الحال أثبت مع اللام بقد الدالّة على التقريب من زمن الحال ولم تأت بقد بل باللام وحدها إن لم يرد التقريب ، قال ابن عباس : (أَرْسَلْنا) بعثنا وقال غيره حملناه رسالة يؤدّيها فعلى هذا تكون الرسالة متضمنة للبعث وهنا فقال بفاء العطف وكذا في المؤمنون في قصّة عاد وصالح وشعيب هنا قال بغير فاء والأصل الفاء وحذفت في القصتين توسّعا. واكتفاء بالرّبط المعنوي وفي قصة نوح في هود (إِنِّي لَكُمْ) (١) على إضمار القول أي فقال إني وفي ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسمّاة ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وغيرها والجملة المنبهة على الوصف الدّاعي إلى عبادة الله وهو انفراده بالألوهية المرجو إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم ولم تأت بحرف عطف لأنها بيان وتفسير لعلّة اختصاصه تعالى بأن يعبد ، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو جعفر والكسائي غيره بالجرّ على لفظ (إِلهٍ) بدلا أو نعتا ، وقرأ باقي السّبعة غيره بالرفع عطفا على موضع (مِنْ إِلهٍ) لأنّ من زائدة بدلا أو نعتا ، وقرأ عيسى بن عمر غيره بالنصب على الاستثناء والجرّ والرفع أفصح و (مِنْ إِلهٍ) مبتدأ و (لَكُمْ) في موضع الخبر ، وقيل : الخبر محذوف أي في الوجود و (لَكُمْ) تبيين وتخصيص ، و (أَخافُ) قيل : بمعنى أتيقن وأجزم لأنه عالم أن العذاب ينزل بهم إن لم يؤمنوا ، وقيل : الخوف على بابه بمعنى الحذر لأنه جوّز أن يؤمنوا وأن يستمروا على كفرهم و (يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا وهو الطوفان وفي هذه الجملة إظهار الشّفقة والحنوّ عليهم.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قال ابن عطية قرأ ابن عامر الملو بالواو وكذلك هي في مصاحف أهل الشام انتهى وليس مشهورا عن ابن عامر بل قراءته كقراءة باقي السبعة بهمزة ولم يجبه من قومه إلا أشرافهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرّسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرئاسة والعلوّ فيهما. ونراك الأظهر أنها من رؤية القلب ، وقيل : من رؤية العين ومعنى (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في ذهاب عن طريق الصواب وجهالة بما تسلك بينة واضحة وجاءت جملة الجواب مؤكدة بأن وباللام وفي للوعاء فكان الضلال جاء ظرفا له وهو فيه ولم يأت ضالا ولا ذا ضلال.

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لم يرد النفي منه على لفظ ما قالوه فلم يأت التركيب لست في

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٢٥.

٨٢

ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الانتفاء من الضلال إذ لم يعتلق به ولا ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانيا والإعراض عن جفائهم ما يدلّ على سعة صدره والتلطّف بهم.

ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دلّ على أنه على الصراط المستقيم فصحّ أن يستدرك كما تقول ما زيد بضالّ ولكنه مهتد فلكن واقعة بين نقيضين لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين : الضّلال والهدى ولا تجامع ضلالة الرسالة وفي قوله : (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربّكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولا يدعوكم إلى إفراده بالعبادة و (أُبَلِّغُكُمْ) استئناف على سبيل البيان بكونه رسولا أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظا فيه كونه خبرا لضمير متكلم كما تقول أنا رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب قال تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (١) بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربيّا مراعاة للفظ (قَوْمِ) لأنه غائب ، وقرأ أبو عمرو (أُبَلِّغُكُمْ) هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي السبعة بالتشديد والهمزة والتضعيف للتعدية فيه وجمع (رِسالاتِ) باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزّجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله ، قيل : في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة وتقدم الكلام في نصح وتعديتها ، وقال الزمخشري : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت للمنصوح له مقصودا به جانبه لا غير فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعا ولا نصيحة أنفع من نصيحة الله تعالى ورسله ، وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك ، وقال النابغة :

نصحت بني عوف فلم يتقبلوا

وفي قوله (ما لا تَعْلَمُونَ) إبهام عليهم وهو عامّ ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قطّ بأمه عذّبت فتضمّن التهديد والوعيد فيحتمل أن يريد (ما لا تَعْلَمُونَ) من صفات الله وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلها معه أو يريد (ما لا تَعْلَمُونَ) مما أوحي إلي ، قال ابن عطية : ولا بدّ أنّ نوحا عليه‌السلام وكل نبيّ مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم يعرف وما

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٤٧.

٨٣

أحسن سياق هذه الأفعال قال أولا (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ ، كما قال : إن عليك إلا البلاغ ثم قال (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أي أخلص لكم في تبيين الرّشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده ثم قال وأعلم من الله (ما لا تَعْلَمُونَ) من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يتضمّن قولهم (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) استبعادهم واستحمالهم ما أخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه الله إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي سبب استبعادهم إرسال نوح والهمزة للإنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يعجب منه إذ له تعالى ، التصرّف التام بإرسال من يشاء لمن يشاء ، قال الزمخشري : الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل أو كذبتم وعجبتم أن جاءكم انتهى ، وهو كلام مخالف لكلام سيبويه والنّحاة لأنّهم يقولون : إنّ الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكأنّ الأصل وأعجبتم لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام فقدّمت على حروف العطف لأنّ الاستفهام له صدر الكلام وقد تقدّم الكلام معه في نظير هذه المسألة وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أو كتاب معجز أو البيان أقوال والأولى أن يكون قوله (عَلى رَجُلٍ) فيه إضمار أي على لسان رجل كما قال (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (١) ، وقيل : (عَلى) بمعنى مع ، وقيل : لا حذف ولا تضمين في الحرف بل قوله (عَلى رَجُلٍ) هو على ظاهره لأن (جاءَكُمْ) بمعنى نزل إليكم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر و (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) (٢) وذكر علية المجيء وهو الإعلام بالمخوف والتحذير من سوء عاقبة الكفر ووجود التقوى منهم ورجاء الرّحمة وكأنها علة مترتبة فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف والإنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأنّ المترتب على السبب سبب.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ). أخبر تعالى أنهم كذبوه هذا مع حسن ملاطفته لهم ومراجعته لهم وشفقته عليهم فلم يكن نتيجة هذا إلّا التكذيب له فيما جاء به عن الله (وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) هم من آمن به وصدّقه وكانوا أربعين رجلا ، وقيل ثمانين رجلا وأربعين امرأة قاله الكلبي وإليهم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٤.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١٤.

٨٤

تنسب القرية التي ينسب إليها الثمانون وهي بالموصل ، وقيل : عشرة فيهم أولاده الثلاثة ، وقيل : تسعة منهم بنوه الثلاثة وفي قوله (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا) إعلام بعلّة الغرق وهو التكذيب و (بِآياتِنا) يقتضي أنّ نوحا كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله ويتعلق (فِي الْفُلْكِ) بما يتعلّق به الظّرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السّفينة من الطّوفان وعلى هذا يحتمل أن تكون في سببية أي بالفلك كقوله «دخلت النار في هرة» أي بسبب هرة و (عَمِينَ) من عمي القلب أي غير مستبصرين ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحذف لجاء على فاعل كما جاء ضائق في ضيق وثاقل في ثقيل إذا قصد به حدوث الضّيق والثقل ، قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ، وقال معاذ النحوي : رجل عم في أمره لا يبصره وأعمى في البصر. قال :

ما في غد عم ولكنني عن علم

وقد يكون العمى والأعمى كالخضر والأخضر ، وقال الليث : رجل عم إذا كان أعمى القلب.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) عاد اسم الحي ولذلك صرفه وبعضهم جعله اسما للقبيلة فمنعه الصرف قال الشاعر :

لو شهدت عاد في زمان عاد

لا نتزها مبارك الجلاد

سميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام وهود قال شيخنا أبو الحسن الآبدي النحوي : المعروف أنّ هودا عربي والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده انتهى ، وذكر الشريف النسّابة أبو البركات الجواني أنّ يعرب بن قحطان بن هود هو الذي زعمت يمن أنه أول من تكلم بالعربية ونزل أرض اليمن فهو أبو اليمن كلها وأنّ العرب إنما سميت عربا به انتهى فعلى هذا لا يكون هود عربيّا وهود هو ابن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح و (أَخاهُمْ) معطوف على نوحا ومعناه واحدا منهم وليس هود من بني عاد كما ذكرنا وهذا كما تقول أيا أخا العرب للواحد منهم ، وقيل : هو من عاد وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح فعلى هذا يكون من عاد واسم أمه مرجانة وكان رجلا تاجرا أشبه خلق الله بآدم عليهما‌السلام ، روي أنّ عادا كانت له ثلاث عشرة قبيلة ينزلون رمال عالج وهي عاد الأولى وكانوا أصحاب بساتين وزروع وعمارة وبلادهم

٨٥

أخصب بلاد فسخط الله عليهم فجعلها مفاوز وكانت بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن وكانوا يعبدون الأصنام ولما هلكوا لحق هود ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا ولم يأت فقال بالفاء لأنه جواب سؤال مقدّر أي فما قال لهم (يا قَوْمِ) وكذا (قالَ الْمَلَأُ) وفي قوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى ولما كان ما حلّ بقوم نوح من أمر الطوفان واقعة لم يظهر في العالم مثلها قال (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وواقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح وعهد الناس قريب بها اكتفى هود بقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) والمعنى تعرفون أنّ قوم نوح لما لم يتقوا الله وعبدوا غيره حلّ بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المشهورة.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أتى بوصف (الْمَلَأُ) بالذين كفروا ولم يأت بهذا الوصف في قوم نوح لأنّ قوم هود كان في أشرافهم من آمن به منهم مرثد بن سعد بن عفير ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن ألا ترى إلى قولهم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) (١) وقولهم (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (٢) ويحتمل أن يكون وصفا جاء للذم لم يقصد به الفرق ولنراك يحتمل أن يكون من رؤية العين ومن رؤية القلب كما تقدم القول في قصة نوح و (فِي سَفاهَةٍ) أي في خفة حلم وسخافة عقل حيث تترك دين قومك إلى دين غيره وفي سفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشيء ولما كان كلام نوح لقومه أشد من كلام هود تقوية لقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) كان جوابهم أغلظ وهو (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وكان كلام هود ألطف لقوله (أَفَلا تَتَّقُونَ) فكان جوابهم له ألطف من جواب قوم نوح لنوح بقولهم (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) ثم أتبعوا ذلك بقولهم (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب إن لم يتقوا الله أو علّقوا الظن بقوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي إنّ لنا آلهة فحصرها في واحد كذب. وقيل : الظن هنا بمعنى اليقين أو بمعنى ترجيح أحد الجائزين قولان للمفسرين والثاني للحسن والزّجاج ، وقال الكرماني : خوّف نوح الكفار بالطوفان العام واشتغل بعمل السفينة فقالوا (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث تتعب نفسك في إصلاح سفينة كبيرة في مفازة ليس فيها ماء ولم يظهر ما يدل على ذلك وهو رديف عبادة الأوثان ونسب قومه إلى السفاهة فقابلوه بمثل ذلك.

__________________

(١) سورة هود : ١١ / ٢٧.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١١١.

٨٦

(قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) تقدّمت كيفية هذا النفي في قوله (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) وهناك جاء (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) وهنا جاء (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) لما كان آخر جوابهم جملة اسمية جاء قوله كذلك فقالوا هم (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) قال هو (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي حمله الإنسان ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين والمعنى أني عرفت فيكم بالنصح فلا يحق لكم أن تتهموني وبالأمانة فيما أقول فلا ينبغي أن أكذب ، قال ابن عطية : وقوله (أَمِينٌ) يحتمل أن يريد على الوحي والذكر النازل من قبل الله ويحتمل أنه أمين عليهم وعلى غيبهم وعلى إرادة الخير بهم والعرب تقول فلان لفلان ناصح الجيب أمين الغيب ويحتمل أن يريد به من الأمن أي جهتي ذات أمن لكم من الكذب والغش ، قال القشيري : شتّان ما بين من دفع عنه ربه بقوله (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (١) و (ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٢) ومن دفع عن نفسه بقوله : (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) ، قال الزمخشري : وفي إجابة الأنبياء عليهم‌السلام من نسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أصل السفاهين وأسفلهم أدب حسن وخلق عظيم وحكاية الله عزوجل عنهم ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) أتى هنا بعلة واحدة وهي الإنذار وهو التخويف بالعذاب واختصر ما يترتب على الإنذار من التقوى ورجاء الرحمة.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي سكان الأرض بعدهم قاله السدّي وابن إسحاق ، أو جعلكم ملوكا في الأرض استخلفكم فيها قاله الزمخشري ، وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله (مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) و (إِذْ) ظرف في قول الحوفي فيكون مفعول (اذْكُرُوا) محذوفا أي واذكروا آلاء الله عليكم وقت كذا والعامل في (إِذْ) ما تضمنه النعم من الفعل وفي قول الزمخشري (إِذْ) مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم.

(وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) ظاهر التواريخ أنّ البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال فيحتمل إذ ذاك أن يكون الخلق بمعنى المخلوقين ويحتمل أن يكون مصدرا

__________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٢.

(٢) سورة التكوير : ٨١ / ٢٢.

٨٧

أي وزادكم في خلقكم بسطة أي مد وطول وحسن خلقكم قيل : كان أقصرهم ستين ذراعا وأطولهم مائة ذراع قاله الكلبي والسدّي ، وقال أبو حمزة اليماني : سبعون ذراعا. وقال ابن عباس ثمانون ذراعا. وقال مقاتل : اثنا عشر ذراعا. وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وعينه تفرخ فيها الضباع وكذلك منخره وإذا كان الخلق بمعنى المخلوقين فالخلق قوم نوح أو أهل زمانهم أو الناس كلهم أقوال ، وقيل : الزيادة في الإجرام وهي ما تصل إليه يد الإنسان إذا رفعها ، وقيل الزيادة هي في القوة والجلادة لا في الإجرام. وقيل : زيادة البسطة كونهم من قبيلة واحدة مشاركين في القوة متناصرين يحبّ بعضهم بعضا ويحتمل أن يكون المعنى و (زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) أي اقتدارا في المخلوقين واستيلاء.

(فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ذكرهم أولا بإنعامه عليهم حيث جعلهم خلفاء وزادهم بسطة وذكرهم ثانيا بنعمه عليهم مطلقا لا بتقييد زمان الجعل واذكروا الظاهر أنه من الذكر وهو أن لا يتناسوا نعمه بل تكون نعمه على ذكر منكم رجاء أن تفلحوا وتعليق رجاء الفلاح على مجرّد الذّكر لا يظهر فيحتاج إلى تقدير محذوف يترتب عليه رجاء الفلاح وتقديره والله أعلم (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) وإفراده بالعبادة ألا ترى إلى قوله (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) وفي ذكرهم (آلاءَ اللهِ) ذكر المنعم عليهم المستحقّ لإفراده بالعبادة ونبذه ما سواه ، وقيل : اذكروا هنا بمعنى اشكروا.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا الله بالعبادة مع اعترافهم بالله حبّا لما نشؤوا عليه وتآلفا لما وجدوا آباءهم عليه ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم (لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) أي على قولك يا هود ودعواك قاله ابن عطية ، وقال التأويل الأوّل أظهر فيهم وفي عباد الأوثان ولا يجحد ربوبية الله من الكفرة إلا من ادّعاها لنفسه كفرعون ونمرود انتهى ، وكان في قول هود لقومه (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) دليل قاطع على أنه لا يعبد إلا المنعم وأصنامهم جمادات لا قدرة لها على شيء البتة والعبادة هي نهاية التعظيم فلا يليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ولما نبّه على هذه الحجة ولم يكن لهم أن يجيبوا عنها عدلوا إلى التقليد البحث فقالوا (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) والمجيء هنا يحتمل أن يكون حقيقة بكونه متغيبا عن قومه منفردا بعبادة ربه ثم أرسله الله إليهم فجاءهم من مكان متغيبه ويحتمل أن يكون قولهم ذلك على سبيل الاستهزاء لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله لا يرسل إلا الملائكة فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك ولا يريدون حقيقة المجيء ولكن التعرّض والقصد كما يقال ذهب يشتمني لا يريدون حقيقة الذهاب

٨٨

كأنهم قالوا أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرضت لنا بتكاليف ذلك وفي قولهم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) دليل على أنه كان يعدهم بعذاب الله إن داموا على الكفر وقولهم ذلك يدلّ على تصميمهم على تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوّة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلا وقد تقدّم قوله (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) و (إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فلما كانوا يعتقدون كونه كاذبا قالوا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي في نبوّتك وإرسالك أو في أنّ العذاب نازل بنا.

(قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي حلّ بكم وتحتّم عليكم قال زيد بن أسلم والأكثرون : الرّجس هنا العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب. وقال ابن عباس : السخط. وقال أبو عبد الله الرازي : لا يكون العذاب لأنه لم يكن حاصلا في ذلك الوقت ، وقال القفال : يجوز أن يكون الازدياد في الكفر بالرين على القلوب أي لتماديهم على الكفر (وَقَعَ عَلَيْكُمْ) من الله رين على قلوبكم كقوله (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١) فإنّ الرجس السخط أو الرين فقوله (قَدْ وَقَعَ) على حقيقته من المضي وإن كان العذاب فيكون من جعل الماضي موضع المستقبل لتحقّق وقوعه.

(أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهو ذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول يستحقّ العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك ومعنى (سَمَّيْتُمُوها) سميتم بها أنتم وآباؤكم أي أحدثتموها قريبا أنتم وآباؤكم وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكرها مرثد بن سعد في شعره فقال :

عصت عاد رسولهم فأضحوا

عطاشا ما تبلّهم السماء

لهم صنم يقال له صمود

يقابله صداء والهباء

فبصرنا الرسول سبيل رشد

فأبصرنا الهدى وجلى العماء

وإنّ إله هود هو إلهي

على الله التوكّل والرجاء

فالجدال إذ ذاك يكون في الألفاظ لا مدلولاتها ويحتمل أن يكون الجدال وقع في المسمّيات وهي الأصنام فيكون أطلق الأسماء وأراد بها المسميات وكان ذلك على حذف مضاف أي (أَتُجادِلُونَنِي) في ذوات أسماء ويكون المعنى (سَمَّيْتُمُوها) آلهة وعبدتموها من دون الله ، قيل : سموا كل صنم باسم على ما اشتهوا وزعموا أنّ بعضهم يسقيهم المطر وبعضهم يشفيهم من المرض وبعضهم يصحبهم في السّفر وبعضهم يأتيهم بالرزق ..

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٥.

٨٩

(ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) والجملة من قوله (ما نَزَّلَ) في موضع الصفة والمعنى أنه ليس لكم بذلك حجة ولا برهان وجاء هنا (نَزَّلَ) وفي مكان غيره أنزل وكلاهما فصيح والتعدية بالتضعيف والهمزة سواء.

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وهذا غاية في التهديد والوعيد أي (فَانْتَظِرُوا) عاقبة أمركم في عبادة غير الله وفي تكذيب رسوله وهذا غاية في الوثوق بما يحل بهم وإنه كائن لا محالة.

(فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) يعني من آمن معه (بِرَحْمَةٍ) سابقة لهم من الله وفضل عليهم حيث جعلهم آمنوا فكان ذلك سببا لنجاتهم مما أصاب قومهم من العذاب.

(وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) كناية عن استئصالهم بالهلاك بالعذاب وتقدّم الكلام في (دابِرَ) في قوله (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) (١) وفي قوله (الَّذِينَ كَذَّبُوا) تنبيه على علة قطع دابرهم وفي قوله (بِآياتِنا) دليل على أنه كانت لهود معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعيينها.

(وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) جملة مؤكدة لقوله (كَذَّبُوا بِآياتِنا) ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى أنهم ممن علم الله تعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيمانا البتة ولو علم الله تعالى أنهم يؤمنون لأبقاهم وذلك أنّ المكذّب بالآيات قد يؤمن بها بعد ذلك ويحسن حاله فأما من حتم الله عليه بالكفر فلا يؤمن أبدا وفي ذلك تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد ومن نجا مع هود عليه‌السلام كأنه قال وقطعنا دابر القوم الذين كذّبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين ونجّى الله المؤمنين قاله الزمخشري : وذكر المفسرون هنا قصة هلاك عاد وذكروا فيها أشياء لا تعلق لها بلفظ القرآن ولا صحّت عن الرسول فضربت عن ذكرها صفحا وأما ما له تعلق بلفظ القرآن فيأتي في مواضعه إن شاء الله تعالى.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ثمود اسم القبيلة سميت باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود أخو جديس وهما ابنا جاثر بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى. وقيل سميت ثمود لقلة ما بها من الثمد وهو الماء القليل. قال الشاعر :

أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام شراع وارد الثمد

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٥.

٩٠

وكانت ثمود عربا في سعة من العيش فخالفوا أمر الله وعبدوا غيره وأفسدوا فبعث الله لهم صالحا نبيا من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فدعاهم إلى الله حتى شمط ولا يتبعه منهم إلا القليل ، قاله وهب : بعثه الله حين راهق الحلم فلما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة فأقاموا معه حتى ماتوا فقبورهم بين دار الندوة والحجر ، وصالح هو صالح بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود بن جاثر بن ارم بن سام بن نوح هكذا نسبه الشريف النسّابة الجواني وهو المنتهى إليه في علم النسب. ووقع في بعض التفاسير بين صالح وآسف زيادة أب وهو عبيد فقالوا صالح بن عبيد بن آسف ونقص في الأجداد وتصحيف جاثر بقولهم عابر ، قال الشريف الجواني في المقدمة الفاضلية والعقب من جاثر بن إرم بن سام بن نوح وجديس والعقب من ثمود بن جاثر فالخ وهيلع وتنوق وأروم من ولده صالح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بن آسف بن كاشح بن أروم بن ثمود.

وقرأ ابن وثاب والأعمش : (وَإِلى ثَمُودَ) بكسر الدال والتنوين مصروفا في جميع القرآن جعله اسم الحي والجمهور منعوه الصرف جعلوه اسم القبيلة والأخوة هنا في القرابة ، لأنّ نسبه ونسبهم راجع إلى ثمود بن جاثر وكل واحد من هؤلاء الأنبياء نوح وهود وصالح تواردوا على الأمر بعبادة الله والتنبيه على أنه لا إله غيره إذ كان قومهم عابدي أصنام ومتخذي آلهة مع الله كما كانت قريش والعرب ففي هذه القصص توبيخهم وتهديدهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك من الهلاك المستأصل من العذاب وكانت قصة نوح مشهورة طبقت الآفاق وقصة هود وصالح مشهورة عند العرب وغيرهم بحيث ذكرها قدماء الشعراء في الجاهلية وشبهوا مفسدي قومهم بمفسدي قوم هود وصالح قال بعض قدمائهم في الجاهلية :

فينا معاشر لن يبغوا لقومهم

وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا

أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته

إذ أهلكت بالذي سدّى لها عاد

أو بعده كقدار حين تابعه

على الغواية أقوام فقد بادوا

وقيل ابن عنز هو من قوم هود وسيأتي ذكر خبره عند ذكر إرسال الريح على قوم هود إن شاء الله وقدار هو ابن سالف عاقر ناقة صالح ويأتي خبره إن شاء الله.

(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي آية ظاهرة جلية وشاهد على صحة نبوتي وكثر استعمال هذه الصفة استعمال الأسماء في القرآن فولّيت العوامل كقوله حتى جاءتهم البيّنة وقوله (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (١) والمعنى الآية البينة وبالآيات البينات فقارب أن تكون كالأبطح

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٤٤.

٩١

والأبرق إذ لا يكاد يصرح بالموصول معها وقوله (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) كأنه جواب لقولهم ائتنا ببينة تدلّ على صدقك وأنك مرسل إلينا و (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق بجاءتكم أو في موضع الصفة لآية على تقدير محذوف أي من آيات ربكم.

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) لما أبهم في قوله (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) بيّن ما الآية فكأنه قيل له ما البينة قال (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) وأضافها إلى الله تشريفا وتخصيصا نحو بيت الله وروح الله ولكونه خلقها بغير واسطة ذكر وأنثى ولأنه لا مالك لها غيره ولأنها حجة على القوم ولما أودع فيها من الآيات ذكرها في قصة قوم صالح و (لَكُمْ) بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها كأنه قال (لَكُمْ) خصوصا وانتصب (آيَةً) على الحال والعامل فيها ها بما فيها من معنى التنبيه أو اسم الإشارة بما فيه من معنى الإشارة أو فعل مضمر تدلّ عليه الجملة كأنه قيل انظر إليها في حال كونها آية أقوال ثلاثة ذكرت في علم النحو ، وقال الحسن هي ناقة اعترضها من إبلهم ولم تكن تحلب ، وقال الزّجاج : قيل إنه أخذ ناقة من سائر النوق وجعل الله لها شربا يوما ولهم شرب يوم وكانت الآية في شربها وحلبها ، قيل : وجاء بها من تلقاء نفسه ، وقال الجمهور : هي آية مقترحة لما حذرهم وأنذرهم سألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السّنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا قل صالح نعم فخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها الإجابة فلم تجبهم ثم قال سيدهم جندع بن عمرو بن جواس وأشار إلى صخرة منفردة من ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وعشراء ، والمخترجة ما شاكلت البحت من الإبل فأخذ صالح عليه‌السلام مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن قالوا : نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحرّكت فانصدعت عن ناقة كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عظما وهم ينظرون ثم نتجت سقبا مثلها في العظم فامن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحبا أوثانهم وريّان ابن كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود وهذه الناقة وسقبها مشهور قصتهما عند جاهلية العرب وقد ذكروا السّقب في أشعارهم. قال بعضهم يصف ناسا قتلوا بمعركة حرب بأجمعهم :

كأنهم صابت عليهم سحابة

صواعقها كالطير هن دبيب

رغى فوقهم سقب السماء فداحض

بشكته لم يستلب وسليب

٩٢

قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعا.

(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) لما أضاف الناقة إلى الله أضاف محل رعيها إلى الله إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى لا ملككم ولا إنباتكم وفي هذا الكلام إشارة إلى أن هذه الناقة نعمة من الله ينال خيرها من غير مشقّة تكلف علف ولا طعمة وهو شأن الإبل كما جاء في الحديث قال فضالة الإبل ، قال مالك : ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربّها و (تَأْكُلْ) جزم على جواب الأمر ، وقرأ أبو جعفر في رواية (تَأْكُلْ) بالرفع وموضعه حال كانت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ترد غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تفجج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) نهاهم عن مسّها بشيء من الأذى وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى إذا كان قد نهاهم عن مسّها بسوء إكراما لآية الله فنهيه عن نحرها وعقرها ومنعها عن الماء والكلأ أولى وأحرى والمسّ والأخذ هنا استعارة وهذا وعيد شديد لمن مسّها بسوء والعذاب الأليم هو ما حلّ بهم إذ عقروها وما أعد لهم في الآخرة.

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ذكر صالح قومه بما ذكر به هود قومه فذكر أولا نعما خاصة وهي جعلهم خلفاء بعد الأمة التي سبقتهم وذكر هود لقومه ما اختصوا به من زيادة البسطة في الخلق وذكر صالح لقومه ما اختصوا به من اتخاذ القصور من السهول ونحت الجبال بيوتا ثم ذكرا نعما عامة بقولهما (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) ومعنى (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أنزلكم بها وأسكنكم إياها والمباءة المنزل في الأرض وهو من باء أي رجع وتقدم ذكره و (الْأَرْضِ) هنا الحجر ما بين الحجاز والشام و (تَتَّخِذُونَ) حال أو تفسير لقوله (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) فلا موضع له من الإعراب والظاهر أن بعض السهول اتخذوه قصورا أي بنوا فيه قصورا وأنشئوها فيه ولم يستوعبوا جميع سهولها بالقصور وقال الزمخشري : (مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي يبنونها من سهولة الأرض بما يعملون منها الرهض واللبن والآجر يعني أن القصور التي بنوها أجزاؤها متخذة من لين الأرض كالجيار والآجر والجصّ كقوله (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) (١) يعني أنّ الصورة كانت مادّتها من الحلي كما أن القصور مادتها من سهول الأرض والأجزاء

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٨.

٩٣

التي صنعت منها وظاهر الاتخاذ هنا العمل فيتعدّى (تَتَّخِذُونَ) إلى مفعول واحد ، وقيل : يتعدى إلى اثنين والمجرور هو الثاني ، وقرأ الحسن (وَتَنْحِتُونَ) بفتح الحاء ، وزاد الزمخشري : أنه قرأ وتنحاتون بإشباع الفتحة قال كقوله :

ينباع من دفري أسيل حرّه

انتهى. وقرأ ابن مصرف بالياء من أسفل وكسر الحاء وقرأ أبو مالك بالباء من أسفل وفتح الحاء ومن نقرأ بالياء فهو التفات وانتصب (بُيُوتاً) على أنها حال مقدّرة إذ لم تكن الجبال وقت النحت بيوتا كقولك إبر لي هذه اليراعة قلما وخطّ لي هذا قباء ، وقيل : مفعول ثان على تضمين (وَتَنْحِتُونَ) معنى و (تَتَّخِذُونَ) ، وقيل : مفعول بتنحتون و (الْجِبالَ) نصب على إسقاط من أي من الجبال ، وقرأ الأعمش (تَعْثَوْا) بكسر التاء لقولهم أنت تعلم وهي لغة و (مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة ، قال ابن عباس : القصور لمصيفهم والبيوت في الجبال لمشتاهم ، وقيل : نحتوا الجبال لطول أعمارهم كانت القصور تخرب قبل موتهم ، قال وهب : كان الرجل يبني البنيان فتمرّ عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده فتمر عليه مائة سنة فيخرب فأضجرهم ذلك فاتخذوا الجبال بيوتا.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) قرأ ابن عامر وقال الملأ بواو عطف والجمهور قال بغير واو و (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وصف للملأ إما للتخصيص لأنّ من أشرافهم من آمن مثل جندع بن عمرو وإما للذم و (اسْتَكْبَرُوا) وطلبوا الهيبة لأنفسهم وهو من الكبر فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو تكون استفعل بمعنى فعل أي كبروا لكثرة المال والجاه فيكون مثل عجب واستعجب والذين (اسْتُضْعِفُوا) أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم أتباع الرّسل و (لِمَنْ) بدل من الذين استضعفوا والضمير في (مِنْهُمْ) إن عاد على المستضعفين كان بدل بعض من كلّ ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين وإن عاد على (قَوْمِهِ) كان بدل كل من كلّ وكان الاستضعاف مقصورا على المؤمنين وكان الذين استضعفوا قسما واحدا ومن آمن مفسرا للمستضعفين من قومه واللام في (لِلَّذِينَ) للتبليغ والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف وفي قولهم (مِنْ رَبِّهِ) اختصاص بصالح ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم.

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) جواب للمستضعفين وعدولهم عن قولهم هو مرسل إلى قولهم (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) في غاية الحسن إذ أمر رسالته معلوم واضح مسلم

٩٤

لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلم بإرساله فأخبروا بأنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلّا التصديق بما جاء به وتضمن كلامهم العلم بأنه مرسل من الله تعالى.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فالذي آمنتم به هو من حيث المعنى بما أرسل به لكنه من حيث اللفظ أعمّ قصدوا الردّ لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما.

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادرا عن بعضهم لما كان عقرها عن تمالئ واتفاق حتى روي أنّ قدارا لم يعقرها إلا عن مشاورة الرّجال والنساء والصبيان فأجمعوا على ذلك وسبب عقرها أنها كانت إذا وقع الحر نصبت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه وإذا وقع البرد تلبث ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشقّ ذلك عليهم وكانت تستوفي ماءهم شربا ويحلبونها ما شاء الله حتى ملوها وقالوا ما نصنع باللبن الماء أحبّ إلينا منه وقال لهم صالح يوما إنّ هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه فولد لعشرة نفر فذبح التّسعة أولادهم وبقي العاشر وهو سالف بن قدار وكان قدار أحمر أزرق قصيرا ولذلك قال بعض شعراء الجاهلية :

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

قال الشّراح غلط وإنما هو أحمر ثمود وهو قدار وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في السّنة وكان التسعة إذا رأوه قالوا : لو عاش بنونا كانوا مثل هذا فأحفظهم أن قتلوا أولادهم بكلام صالح فأجمعوا على قتله فكمنوا له في غار ليبيتوه ، ويأتي خبر التبييت وما جرى لهم في سورة النمل إن شاء الله ، وروي أنّ السبب في عقرها أن امرأتين من ثمود من أعداء صالح وهما عنيزة بنت غنم أم مجلز زوجة ذؤاب بن عمرو وتكنّى أم غنم عجوز ذات بنات حسان ومال من إبل وبقر وغنم وصدوف بنت المحيّا جميلة غنية ذات مواش كثيرة فدعت عنيزة على عقرها قدارا على أن تعطيه أيّ بناتها شاء وكان عزيزا منيعا في قومه ودعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب إلى ذلك وعرضت نفسها عليه إن فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا لذلك وجعلت له نفسها فأجاب قدار ومصدع واستغويا سبعة نفر فكانوا تسعة رهط فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وكمن قدار في أصل صخرة ومصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة بابنتها وكانت من أحسن النساء فسفرت لقدار ثم مرت الناقة به

٩٥

فشدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فطعن في لبّتها ونحرها وخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها وطبخوه وذكروا لسبقها حكاية الله أعلم بصحتها ، وقيل سبب عقرها أنّ قدارا شرب الخمر وطلبوا ماء لمزجها فلم يجدوه لشرب الناقة فعزموا على عقرها وكمن لها فرماها بالحربة ثم سقطت فعقرها ، وقال بعض شعراء العرب وقد ذكر قصة الناقة :

فأتاها أحيمر كأخي السه

م بعضب فقال كوني عقيرا

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي استكبروا عن امتثال أمر ربهم وهو ما أمر به تعالى على لسان صالح من قوله (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) ولا تمسّوها بسوء ومن اتباع أمر الله وهو دينه وشرعه ويجوز أن يكون المعنى صدر عتوهم عن أمر ربهم كأنّ أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم ونحو عن هذه ما في قوله (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (١).

(وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي من العذاب لأنه كان سبق منه ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فاستعجلوا ما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الإخبار بذلك الوعيد وبغيره ولذلك علقوه بما هم به كافرون وهو كونه من المرسلين ، وقرأ ورش والأعمش (يا صالِحُ ائْتِنا) وأبو عمرو إذا أدرج بإبدال همزة فاء (ائْتِنا) واو الضمة جاء صالح ، وقرأ باقي السبعة بإسكانها وفي كتاب ابن عطية قال أبو حاتم : قرأ عيسى وعاصم أوتنا بهمز وإشباع ضمّ انتهى ، فلعله عاصم الجحدري لا عاصم بن أبي النجود أحد قراء السبعة.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) روي أن السّقب لما عقروا الناقة رغا ثلاثا فقال صالح لكلّ رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام فقالوا هازئين به متى ذلك وما آية ذلك فقال تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمريها ويوم شيار مسوديها ثم يصبحكم العذاب يوم أول يوم وهو يوم الأحد فرام التسعة عاقر والناقة قتله وبيتوه فدمغتهم الملائكة بالحجارة فقالوا له أنت قتلتهم وهمّوا بقتله فحمته عشيرته وقالوا : وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث فإن صدق لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كذّب فأنتم من وراء ما تريدون فأصبحوا يوم الخميس مصفرّي الوجوه كأنها طليت بالخلوق فطلبوه ليقتلوه فهرب إلى بطن من ثمود يقال له بنو غنم فنزل على سيدهم أبي هدب لقيل وهو مشرك فغيبه ولم يقدروا عليه فعذّبوا أصحاب صالح فقال : منهم مبدع بن هدم

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٨٢.

٩٦

يا نبي الله عذّبونا لندلّهم عليك أفندلّهم قال : نعم فدلّهم عليه فأتوا أبا هدب فقال لهم : عندي صالح ولا سبيل لكم عليه فأعرضوا عنه وشغلهم ما نزل بهم فأصبحوا في الثاني محمّري الوجوه كأنها خضبت بالدّم وفي الثالث مسوديها كأنها طليت بالقار وليلة الأحد خرج صالح ومن أسلم معه إلى أن نزل رملة فلسطين من الشام فأصبحوا متكفنين متحنطين ملقين أنفسهم بالأرض يقلبون أبصارهم لا يدرون من أين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا كلهم إلا امرأة مقعدة كافرة اسمها دريعة بنت سلف عند ما عاينت العذاب خرجت أسرع ما يرى حتى أتت وادي القرى فأخبرت بما أصاب ثمود واستسقت فشربت وماتت ، وقيل : خرج صالح ومن معه من قومه وهم أربعة آلاف إلى حضرموت فلما دخلوها مات صالح فسمي المكان حضر موت ، وقيل مات بمكة ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.

قال مجاهد والسدّي : (الرَّجْفَةُ) الصيحة ، وقال أبو مسلم : الزلزلة الشديدة ، قال الزمخشري : (جاثِمِينَ) هامدين لا يتحركون موتى يقال : الناس جثوم أي قعود لا حراك بهم ولا ينسبون بنسبة ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى انتهى ، وقيل : معناه حمما محترقين كالرّماد الجاثم ذهب هذا القائل إلى أنّ الصيحة اقترن بها صواعق محرقة ، قال الكرماني : حيث ذكر الرّجفة وهي الزلزلة وحدّ الدار وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فاتصل كل واحد منهما بما هو لائق به ، وقيل في دارهم أي في بلدهم كنى بالدار عن البلد ، وقيل : وحدّ والمراد به الجنس والفاء في (فَأَخَذَتْهُمُ) للتعقيب فيمكن العطف بها على قولهم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) على تقدير قرب زمان الهلاك من زمان طلب الإتيان بالوعد ولقرب ذلك كان العطف بالفاء ويمكن أن يقدر ما يصحّ العطف بالفاء عليه أي فواعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) ولا منافاة بين (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وبين (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وبين (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) كما ظنّ قوم من الملاحدة لأنّ الرجفة ناشئة عن الصّيحة صيح بهم فرجفوا فناسب أن يسند الأخذ لكل واحد منهما وأما فأهلكوا بالطاغية فالباء فيه للسببية أي أهلكوا بالفعلة الطاغية وهي الكفر أو عقر الناقة والطاغية من طغى إذا تجاوز الحدّ وغلب ومنه تسمية الملك والعاتي بالطاغية وقوله (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) (١) وقال

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ١١.

٩٧

تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) (١) أي بسبب طغيانها حصل تكذيبهم ويمكن أن يراد بالطاغية الرّجفة أو الصّيحة لتجاوز كل منهما الحدّ.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ظاهر العطف بالفاء أنّ هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم فيكون الخطاب على سبيل التفجّع عليهم والتحسّر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزدادوا إيمانا وانتفاء عن معصية الله واقتضاء لما جاء به نبيه عن الله ويكون معنى قوله ولكن (لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ولكن كنتم لا تحبون الناصحين فتكون حكاية حال ماضية وقد خاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل قليب بدر وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ، وقيل : كان توليه عنهم وقت عقر الناقة وقولهم (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) وذلك قبل نزول العذاب وهو الذي يقتضيه ظاهر مخاطبته لهم وقوله (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) وهو الذي في قصصهم من أنه رحل عنهم ليلة أن أخذتهم الرّجفة صبحتها ، وبعد ظهور أمارات الهلاك التي وعد بها قال الطبري : وقيل لم تهلك أمة ونبيها فيها ، وروي أنه ارتحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في هلاكهم وخطابه هذا كخطابهم نوح وهود عليهما‌السلام في قولهما (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) وذكر النصح بعد ذلك لكنه لما كان قوله (أَبْلَغْتُكُمْ) ماضيا عطف عليه ماضيا فقال : (وَنَصَحْتُ) ، وقوله : (لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) أي من نصح لك من رسول أو غيره أي ديدنكم ذلك لغلبة شهواتكم على عقولكم. وجاء لفظ (النَّاصِحِينَ) عامّا أي أيّ شخص نصح لكم لم تقبلوا في أي شيء نصح لكم وذلك مبالغة في ذمّهم.

وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من مائها ولا يستقوا منها فقالوا : يا رسول الله قد طبخنا وعجنّا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك الطبيخ والعجين ويهرقوا ذلك الماء وأمرهم أن يستقوا من الماء الذي كانت ترده ناقة صالح وإلى الأخذ بهذا الحديث ، أخذ أبو محمد بن حزم في ذهابه إلى أنه لا يجوز الوضوء بماء أرض ثمود إلا إن كان من العين التي كانت تردها الناقة ، وعن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : «لا يدخل أحد منكم القرية ولا

__________________

(١) سورة الشمس : ٩١ / ١١.

٩٨

تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» وفي الحديث أنه مر بقبر فقال أتعرفون ما هذا؟ قالوا لا قال «هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من ثمود فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلّم فلما خرج من الحرم أصابه فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب» قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) هو لوط بن هارون أخي إبراهيم عليه‌السلام وناحور وهم بنو تارح بن ناحور وتقدّم رفع نسبه وقوله هم أهل سدوم وسائر القرى المؤتفكة بعثه الله تعالى إليهم ، وقال ابن عطية بعثه الله إلى أمّة تسمى سدوم وانتصب (لُوطاً) بإضمار وأرسلنا عطفا على الأنبياء قبله و (إِذْ) معمولة لأرسلنا وجوّز الزمخشري وابن عطية : نصبه بواذكر مضمرة زاد الزمخشري أنّ (إِذْ) بدل من لوط أي واذكر وقت قال لقومه ، وقد تقدم الكلام على كون إذ تكون مفعولا بها صريحا لأذكر وأنّ ذلك تصرف فيها والاستفهام هو على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هذا الفعل القبيح و (الْفاحِشَةَ) هنا إتيان ذكران الآدميين في الأدبار ولما كان هذا بالفعل معهودا قبحه ومركوزا في العقول فحشه أتى معرّفا بالألف واللام أو تكون أل فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإنه قال فيه : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) (١) فأتى به منكرا أي فاحشة من الفواحش وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون من فعله ولا ذكره في أشعارهم والجملة المنفية تدلّ على أنهم هم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها والمبالغة في (مِنْ أَحَدٍ) حيث زيدت لتأكيد نفي الجنس وفي الإتيان بعموم العالمين جمعا.

قال عمر بن دينار : ما رئي ذكر على ذكر قبل قوم لوط روي أنهم كان يأتي بعضهم بعضا ، وقال الحسن : كانوا يأتون الغرباء كانت بلادهم الأردن تؤتى من كل جانب لخصبها فقال لهم إبليس هو في صورة غلام إن أردتم دفع الغرباء فافعلوا بهم هكذا فمكنهم من نفسه تعليما ثم فشا واستحلوا ما استحلوا وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد من عالمي زمانهم ومن ذهب إلى أن المعنى (ما سَبَقَكُمْ) إلى لزومها ويشهدها وفي تسمية هذا الفعل بالفاحشة دليل على أنه يجري مجرى الزنا يرجم من أحصن ويجلد من لم يحصن وفعله

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٣٢.

٩٩

عبد الله بن الزبير أتى بسبعة منهم فرجم ربعة أحصنوا وجلد ثلاثة وعنده ابن عمر وابن عباس ولم ينكروا وبه قال الشافعي ، وقال مالك : يرجم أحصن أو لم يحصن وكذا المفعول به إن كان محتلما وعنده يرجم المحصن ويؤدّب ويحبس غير المحصن وهو مذهب عطية وابن المسيب والنخعي وغيرهم وعن مالك أيضا يعزر أحصن أو لم يحصن وهو مذهب أبي حنيفة وحرق خالد بن الوليد رجلا يقال له الفجاء عمل ذلك العمل وذلك برأي أبي بكر وعليّ وأنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجمع رأيهم عليه وفيهم عليّ بن أبي طالب ، وروي أنّ ابن الزبير أحرقهم في زمانه وخالد القشيري بالعراق وهشام.

و (ما سَبَقَكُمْ) جملة حالية من الفاعل أو من (الْفاحِشَةَ) لأنّ في (سَبَقَكُمْ بِها) ضميرهم وضميرها ، وقال الزمخشري : هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولا بقوله (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) ثم وبّخهم عليها فقال : أنتم أول من عملها أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا لم لا نأتيها فقال : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به ، وقال الزمخشري : والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله ومنه قوله عليه‌السلام «سبقك بها عكاشة» انتهى ، ومعنى التعدية هنا قلق جدا لأنّ الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي بجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة وبيان ذلك أنك إذا قلت صككت الحجر بالحجر فمعناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيدا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأوّل تأثير في الثاني ولا يتأتّى هذا المعنى هنا إذ لا يصحّ أن يقدّر أسبقت زيدا الكرة أي جعلت زيدا يسبق الكرة إلا بمجاز متكلّف وهو أن تجعل ضربك للكرة أول جعل ضربة قد سبقها أي تقدّمها في الزمان فلم يجتمعا.

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) هذا بيان لقوله (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وأتى هنا من قوله أتى المرأة غشيها وهو استفهام على جهة التوبيخ والإنكار ، وقرأ نافع وحفص (إِنَّكُمْ) على الخبر المستأنف و (شَهْوَةً) مصدر في موضع الحال قاله الحوفي وابن عطية ، وجوّزه الزمخشري وأبو البقاء أي مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين لقبحها أو مفعول من أجله قاله الزمخشري ، وبدأ به أبو البقاء أي للاشتهاء لا حامل لكم على ذلك إلا مجرد الشهوة ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمة وأنهم لا داعي لهم من جهة العقل كطلب النسل ونحوه و (مِنْ دُونِ النِّساءِ) في موضع الحال أي منفردين

١٠٠