البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) وهذا يقتضي سماع كل من الفريقين كلام الآخر وهذا جائز عقلا على بعد المسافة بينهما من العلو والسّفل وجائز أن يكون ذلك مع رؤية واطّلاع من الله وذلك أخزى وأنكى للكفّار ، وجائز أن يكون ذلك وبينهم الحجاب والسّور ، وعن ابن عباس أنه لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرح بعد اليأس فقالوا : يا ربّ لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فينظرون إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وأخبروهم بقراباتهم فينادي الرجل أخوه فيقول يا أخي قد احترقت فأغثني فيقول : إنّ الله حرّمهما على الكافرين ويحتمل أن تكون مصدرية ومفسّرة ، وكلام ابن عباس يدل على أنّ هذا النداء كان عن رجاء وطمع حصول ذلك ، وقال القاضي هو مع اليأس لأنهم قد علموا دوام عقابهم وأنهم لا يفتر عنهم ولكن اليائس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل الغريق يتعلق بالزّبد وإن علم أنه لا يغنيه انتهى ، و (أَفِيضُوا) أمكن من اسقونا لأنها تقتضي التوسعة كما يقال أفاض الله عليه نعمه أي وسعها وسؤالهم الماء لشدّة التهابهم واحتراقهم ولأنّ من عادته إطفاء النار أو مما رزقكم الله لأنّ البنية البشرية لا تستغني عن الطعام إذ هو مقوّيها أو لرجائهم الرّحمة بأكل طعام و (أَوْ) على بابها من كونهم سألوا أحد الشيئين وأتى (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) عاما والعطف بأو يدل على أنّ الأول لا يندرج في العموم ، وقيل : أو بمعنى الواو لقولهم إنّ الله حرمهما ، وقيل المعنى حرم كلّا منهما فأوعلى بابها وما رزقكم الله عام فيدخل فيه الطعام والفاكهة والأشربة غير الماء وتخصيصه بالثمرة أو بالطعام أو غير الماء من الأشربة أقوال ثانيها للسدّي وثالثها للزمخشري قال : (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة فقال : ويجوز أن يراد وألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله :

علفتها تبنا وماء باردا

وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرة في أمرهم كما يفعله المضطر الممتحن انتهى وقوله وإنما يطلبون إلى آخره هو كلام القاضي وقد قدّمناه ويجوز أن يراد وألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون (أَفِيضُوا) ضمن معنى ألقوا (عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فيصحّ العطف ويحتمل وهو الظاهر من كلامه أن يكون أضمر فعلا بعد (أَوْ) يصل إلى (مِمَّا رَزَقَكُمُ) وهو ألقوا وهما مذهبان للنحاة فيما عطف على شيء

٦١

بحرف عطف والفعل لا يصل إليه والصحيح منهما التضمين لا الإضمار على ما قرّرناه في علم العربية ومعنى التحريم هنا المنع كما قال :

حرام على عينيّ أن تطعما الكرى

وإخبارهم بذلك هو عن أمر الله.

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) تقدّم تفسير مثل هذا في الأنعام.

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) هذا إخبار من الله عما يفعل بهم ، قال ابن عباس وجماعة يتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم ، وقال قتادة : (نَسُوا) من الخير ولم ينسوا من الشر ، وقال الزمخشري : يفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) كما فعلوا بلقائه فعل الناسين فلم يخطروه ببالهم ولم يهتمّوا به ، وقال الحسن والسدّي أيضا والأكثرون تتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم انتهى ، وإن قدر النسيان بمعنى الذهول من الكفرة فهو في جهة الله بتسمية العقوبة باسم الذنب (وَما كانُوا) معطوف على ما نسوا وما فيهما مصدرية ويظهر أنّ الكاف في (كَما) للتعليل.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الضمير في (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ) عائد على من تقدم ذكره ويكون الكتاب على هذا جنسا أي (بِكِتابٍ) إلهي إذ الضمير عام في الكفار ، وقال يحيى بن سلام الضمير لمكذبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابتداء كلام وتمّ الكلام عند قوله (يَجْحَدُونَ) والكتاب هو القرآن و (فَصَّلْناهُ) عالمين كيفية نفصيله من أحكام ومواعظ وقصص وسائر معانيه ، وقيل : (فَصَّلْناهُ) بإيضاح الحق من الباطل ، وقيل : نزلناه في فصول مختلفة. وقرأ ابن محيصن والجحدري فضلناه بالضاد المنقوطة والمعنى فضلناه على جميع الكتب عالمين بأنه أهل للتفضيل عليها وفي التحرير أنه فضل على سائر الكتب المنزلة بثلاثين خصلة لم تكن في غيره (فَصَّلْناهُ) صفة لكتاب وعلى علم الظاهر أنه حال من فاعل (فَصَّلْناهُ) ، وقيل التقدير مشتملا على علم فيكون حالا من المفعول وانتصب (هُدىً وَرَحْمَةً) على الحال ، وقيل مفعول من أجله ، وقرىء بالرفع أي هو (هُدىً وَرَحْمَةً) ، وقرأ زيد بن عليّ هدى ورحمة بالخفض على البدل من كتاب أو النعت وعلى النعت لكتاب خرّجه الكسائي والفرّاء رحمهما‌الله.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي مآل أمره وعاقبته قاله قتادة ومجاهد وغيرهما ، قال ابن عباس مآله يوم القيامة. وقال السدّي في الدنيا كوقعة بدر ويوم القيامة أيضا ، وقال الزمخشري ما

٦٢

يؤول إليه من تبيين صدقه وظهور صحته ما نطق به من الوعد الوعيد والتأويل مادته همزة وواو ولام من آل يؤول ، وقال الخطابي : أوّلت الشيء رددته إلى أوّله فاللفظة مأخوذة من الأول انتهى وهو خطأ لاختلاف المادتين.

(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي يظهر عاقبة ما أخبر به من الوعد والوعيد وذلك يوم القيامة يسأل تاركو أتباع الرسول هل لنا من شفعاء سؤالا عن وجه الخلاص في وقت أن لا خلاص وفي الكلام حذف أي لقد جاءت رسل ربّنا بالحق ولم نصدقهم أو ولم نتبعهم (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) والرّسل هنا الأنبياء أخبروا يوم القيامة أنّ الذي جاءتهم به رسلهم هو الحق. وقيل : ملائكة العذاب عند المعاينة ما أنذروا به ، وقرأ الجمهور (أَوْ نُرَدُّ) برفع الدّال فنعمل بنصب اللام عطف جملة فعلية على جملة اسمية وتقدّمهما استفهام فانتصب الجوابان أي هل شفعاء لنا فيشفعوا لنا في الخلاص من العذاب أو هل نرد إلى الدّنيا فنعمل عملا صالحا ، وقرأ الحسن : فيما نقل الزمخشري بنصب الدال ورفع اللام ، وقرأ الحسن فيما نقل ابن عطية وغيره برفعهما عطف (فَنَعْمَلَ) على (نُرَدُّ) ، وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة بنصبهما فنصب (أَوْ نُرَدُّ) عطفا على (فَيَشْفَعُوا لَنا) جوابا على جواب فيكون الشفعاء في أحد أمرين إما في الخلاص من العذاب وإما في الردّ إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح وتكون الشفاعة قد انسحبت على الردّ أو الخلاص و (فَنَعْمَلَ) عطف على فنرد ويحتمل أن يكون (أَوْ نُرَدُّ) من باب لألزمنك أو تقضيني حقي على تقدير من قدّر ذلك حتى تقضيني حقي أو كي تقضيني حقي فجعل اللزوم مغيا بقضاء حقه أو معمولا له لقضاء حقه وتكون الشفاعة إذ ذاك في الرد فقط وأما على تقدير سيبويه ألا إني لألزمنك إلا أن تقضيني فليس يظهر أنّ معنى (أَوْ) معنى إلا هنا إذ يصير المعنى هل تشفع لنا شفعاء إلا أن نرد وهذا استثناء غير ظاهر وقولهم هذا هل هو مع الرّجاء أو مع اليأس فيه الخلاف الذي في ندائهم (أَنْ أَفِيضُوا) ، قال القاضي وهي تدل على حكمين على أنهم كانوا قادرين على الإيمان والتوبة ولذلك سألوا الردّ الثاني إن أهل الآخرة غير مكلفين خلافا للمجبرة والنجار لأنها لو كانت كذلك ما سألوا الردّ بل كانوا يتوبون ويؤمنون.

(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي خسروا في تجارة أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدّنيا بالنفيس الباقي من الآخرة وبطل عنهم افتراؤهم على الله ما لم يقله ولا أمرهم به وكذّبهم في اتخاذ آلهة من دون الله.

٦٣

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيّه وانقسام إلى مؤمن وكافر وذكر معادهم وحشرهم إلى جنة ونار ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالّة على التوحيد وكمال القدرة والعلم والقضاء ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقرير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة ، وربّكم خطاب عام للمؤمن والكافر ، وروى بكار بن (١) (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) بنصب الهاء عطف بيان والظاهر أنه (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وعلى هذا الظاهر فسّر معظم الناس وبدأ بالخلق يوم الأحد وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : أخذ بيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «خلق الله التربة» يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» ، وقال عدي بن زيد العبادي : قضى لستة أيام خليقته ، وكان آخر يوم صوّر الرّجلا ، وهو اختيار محمد بن إسحاق ، قال ابن الأنباري هذا إجماع أهل العلم.

وقال عبد الله بن سلام وكعب والضحّاك ومجاهد واختاره الطبري بدأ بالخلق يوم الأحد وبه يقول أهل التوراة ، وقيل يوم الإثنين وبه يقول أهل الإنجيل ، قال ابن عباس وكعب ومجاهد والضحّاك مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة ولا فرق بين خلقه تعالى ذلك في لحظة واحدة أو في مدد متوالية بالنسبة إلى قدرته تعالى وإبداء معان لذلك كما زعمه بعض المفسرين قول بلا برهان فلا نسوّد كتابنا بذكره وهو تعالى المنفرد بعلم ذلك ، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ التقدير في قوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) في مقدار ستة أيام فليست ستة الأيام أنفسها وقع فيها الخلق وهذا كقوله (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٢) والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل في الجنة ولا نهار وإنما ذهب الذاهب إلى هذا لأنه إنما يمتاز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها قبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل خلق الأيام والذي أقول : إنه منى أمكن حمل الشيء على ظاهره أو على قريب من ظاهره كان أولى من حمله على ما لا يشمله العقل أو على ما يخالف الظاهر جملة وذلك بأن يجعل قوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ظرفا لخلق الأرض لا ظرفا لخلق السموات والأرض فيكون (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مدة لخلق الأرض بتربتها وجبالها وشجرها ومكروهها ونورها ودوابها وآدم عليه‌السلام وهذا يطابق

__________________

(١) هكذا بياض بعموم الأصول المقابل عليها هذا الأصل اه.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٦٢.

٦٤

الحديث الثابت في الصحيح وتبقى ستة أيام على ظاهرها من العددية ومن كونها أياما باعتبار امتياز اليوم عن الليلة بطلوع الشمس وغروبها وأما استواؤه على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم والجمهور من السّلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد وقوم تأوّلوا ذلك على عدّة تأويلات. وقال سفيان الثوري فعل فعلا في العرش سماه استواء وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال (الْعَرْشِ) مصدر عرش يعرش عرشا والمراد بالعرش في قوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هذا وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين ومسألة الاستواء مذكورة في علم أصول الدين وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال وأبو عبد الله الرازي وذكر ذلك في التحرير فيطالع هناك ولفظة (الْعَرْشِ) مشتركة بين معان كثيرة فالعرش سرير الملك ومنه ورفع أبويه على العرش نكروا لها عرشها و (الْعَرْشِ) السّقف وكل ما علا وأظل فهو عرش و (الْعَرْشِ) الملك والسلطان والعزّ ، وقال زهير :

تداركتما عبسا وقد ثل عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل

وقال آخر :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة والعرش أربعة كواكب صغار أسفل من العواء يقال لها : عجز الأسد ويسمّى عرش السّماك والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع واستوى أيضا يستعمل بمعنى استقرّ وبمعنى علا وبمعنى قصد وبمعنى ساوى وبمعنى تساوى وقيل بمعنى استولى وأنشدوا :

هما استويا بفضلهما جميعا

على عرش الملوك بغير زور

وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) يحتمل أن يعود على المصدر الذي دلّ عليه خلق ثم استوى خلقه على العرش وكذلك في قوله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف والضمير في (اسْتَوى) عائد على الخلق المفهوم من قوله (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) (٢) أي هو الرحمن استوى خلقه على العرش لأنه تعالى لما ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسع من

__________________

(١) سورة سورة طه : ٢٠ / ٥.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٤.

٦٥

السموات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد لا يتعيّن حمل الآية على ظاهرها هذا مع الدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك. وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه الآية فقال : كيف استوى فأطرق رأسه مليّا وعلّته الرحضاء ثم قال : الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالّا ثم أمر به فأخرج.

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) التغشية التغطية والمعنى أنه يذهب الليل نور النهار ليتم قوام الحياة في الدنيا بمجيء الليل والنهار فالليل للسكون والنهار للحركة وفحوى الكلام يدلّ على أنّ النهار يغشيه الله الليل وهما مفعولان لأنّ التضعيف والهمزة معدّيان ، وقرأ بالتضعيف الأخوان وأبو بكر وبإسكان الغين باقي السبعة وبفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام حميد بن قيس كذا قال عنه أبو عمرو الداني ، وقال أبو الفتح عثمان بن جني عن حميد بنصب (اللَّيْلَ) ورفع (النَّهارَ) ، قال ابن عطية وأبو الفتح أثبت انتهى وهذا الذي قاله من أنّ أبا الفتح أثبت كلام لا يصح إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات فضلا عن النحاة الذين ليسوا مقرئي ولا رووا القرآن عن أحد ولا روي عنهم القرآن هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النّقل وعدم التجاسر ووفور الخط من العربية فقد رأيت له كتابا في كلا وكتابا في إدغام أبي عمرو الكبير دلّا على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ولا المقرءين إلى سائر تصانيفه رحمه‌الله والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى لأنّ ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراءتهم وإن كان منصوبا هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيره مفعولا ولا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا من حيث المعنى لأن المنصوبين تعدّى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا إذ رتبة التقديم هي الموضّحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى والجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليل إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثا ويجوز أن يكون حالا من النهار وتقديره محثوثا ويجوز أن ينتصب نعتا لمصدر محذوف أي طلبا حثيثا أي حاثا أو محثا ونسبة الطلب إلى الليل مجازية وهو عبارة عن تعاقبه اللازم فكانه طالب له لا يدركه بل هو في إثره بحيث يكاد يدركه وقدّم الليل هنا كما قدمه في (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) (١) وفي (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) (٢) وفي (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٣) ،

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٦١.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٤٠.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١.

٦٦

وقال أبو عبد الله الرازي وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة لأنّ تعاقب الليل والنهار يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدّة حتى إنّ الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا : الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل قبل أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ولهذا قال : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) ونظيره (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) (١) الآية شبه ذلك المسير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على السرعة والسهولة وكمال الاتصال انتهى وفيه بعض تلخيص.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) انتصب (مُسَخَّراتٍ) على الحال من المجموع أي وخلق الشمس ، وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر ، وقرأ أبان بن ثعلب برفع (وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ) فقط على الابتداء والخبر ومعنى (بِأَمْرِهِ) بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها سمي ذلك أمرا على التشبيه كأنّهن مأمورات بذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي الشمس لها نوعان من الحركة أحدهما بحسب ذاتها وذلك يتم في سنة كاملة وبسبب ذلك تحصل السّنة ، والثاني حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ويتم في اليوم بليلته فتقول الليل والنهار لا يحصلان بحركة الشمس وإنما يحصلان بحركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش فلهذا السبب لما دل على العرش بقوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وربط بقوله (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) تنبيها على أنّ حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) تنبيها على أنّ الفلك الأعظم وهو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم الشمس قوة قاهرة باعتبارها قويت على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله ، انتهى.

وتكلم في قوله (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) كلاما كثيرا هو من علم الهيئة وهو علم لم ننظر فيه قال : أربابه وهو علم شريف يطلع فيه على جزئيات غريبة من صنعة الله تعالى يزداد بها إيمان المؤمن إذ المعرفة بجزئيات الأشياء وتفاصيلها ليست كالمعرفة بجمليتها ، وقيل (بِأَمْرِهِ) أي بنفاذ إرادته إذ المقصود تبيين عظيم قدرته لقوله (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) (٢) وقوله (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ) (٣) الآية. وقيل الأمر هو الكلام.

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٤٠.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١١.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٤٠.

٦٧

(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) لما تقدّم ذكر خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأمره فيها قال ذلك أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده ويأمر به لا أحد يشركه في ذلك ولا في شيء منه ، وقيل : الخلق بمعنى المخلوق والأمر مصدر من أمر أي المخلوقات كلها له وملكه واختراعه وعلى هذا قال النقاش وغيره : الآية ردّ على القائلين بخلق القرآن لأنه فرق بين المخلوقات وبين الكلام إذ الأمر كلامه انتهى ، وهو استدلال ضعيف إذ لا يتعيّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه ، وقال الشعبي : الخلق عبارة عن الدنيا والأمر عبارة عن الآخرة.

(تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي علا وعظم ولما تقدّم (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) صدر الآية جاء آخرها فتبارك الله رب العالمين وجاء (الْعالَمِينَ) أعمّ من ربكم لأنه ذكر خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعا لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم.

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) الظاهر أنّ الدعاء هو مناجاة الله بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء ، وقال الزّجاج : المعنى اعبدوا وانتصب (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) على الحال أي متضرّعين ومخفين أو ذوي تضرّع واختفاء في دعائكم وفي الحديث الصحيح «إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا» وكان الصحابة حين أخبرهم الرسول بذلك قد جهروا بالذكر أمر تعالى بالدعاء مقرونا بالتذلل والاستكانة والاختفاء إذ ذاك ادّعى للإجابة وأبعد عن الرياء والدعاء خفية أفضل من الجهر ولذلك أثنى الله على زكريا عليه‌السلام فقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (١) وفي الحديث «خير الذّكر الخفي» وقواعد الشريعة مقررة أن السرّ فيما لم يفترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر. قال الحسن : أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٣.

٦٨

انتهى ولو عاش الحسن إلى هذا الزمان العجيب الذي ظهر فيه ناس يتسمون بالمشايخ يلبسون ثياب شهرة عند العامة بالصّلاح ويتركون الاكتساب ويتركون لهم إذكارا لم ترد في الشريعة يجهرون بها في المساجد ويجمعون لهم خداما يجلبون الناس إليهم لاستخدامهم ونتش أموالهم ويذيعون عنهم كرامات ويرون لهم منامات يدوّنونها في أسفار ويحضون على ترك العلم والاشتغال بالسنّة ويرون الوصول إلى الله بأمور يقررونها من خلوات وأذكار لم يأت بها كتاب منزل ولا نبي مرسل ويتعاظمون على الناس بالانفراد على سجادة ونصب أيديهم للتقبيل وقلّة الكلام وإطراق الرؤوس وتعيين خادم يقول الشيخ مشغول في الخلوة رسم الشيخ قال الشيخ رأى الشيخ الشيخ نظر إليك الشيخ كان البارحة يذكرك إلى نحو من هذه الألفاظ التي يخشون بها على العامة ويجلبون بها عقول الجهلة هذا إن سلم الشيخ وخادمه من الاعتقاد الذي غلب الآن على متصوفة هذا الزمان من القول بالحلول أو القول بالوحدة فإذ ذاك يكون منسلخا عن شريعة الإسلام بالكليّة والتعجب لمثل هؤلاء كيف ترتب لهم الرّواتب وتبنى لهم الربط وتوقف عليها الأوقاف ويخدمهم الناس في عروهم عن سائر الفضائل ولكن الناس أقرب إلى أشباههم منهم إلى غير أشباههم وقد أطلنا في هذا رجاء أن يقف عليه مسلم فينتفع به ، وقرأ أبو بكر بكسر ضمة الخاء وهما لغتان ويظهر ذلك من كلام أبي علي ولا يتأتى إلا على ادعاء القلب وهو خلاف الأصل ونقل ابن سيده في المحكم أنّ فرقة قرأت (وَخِيفَةً) من الخوف أي ادعوه باستكانة وخوف. وقال أبو حاتم قرأها الأعمش فيما زعموا.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وقرأ ابن أبي عبلة إن الله جعل مكان المضمر المظهر وهذا اللفظ عام يدخل فيه أوّلا الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرّع وعدم الخفية بأن يدعوه وهو ملتبس بالكبر والزهو أو أن ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك له صنعة وعادة فلا يلحقه تضرّع ولا تذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات ، وقال العلماء الاعتداء في الدعاء على وجوه منها الجهر الكثير والصّياح وأن يدعو أن يكون له منزلة نبي وأن يدعو بمحال ونحوه من الشّطط وأن يدعو طالب معصية ، وقال ابن جريج والكلبي الاعتداء رفع الصوت بالدعاء وعنه الصّياح في الدعاء مكروه وبدعة وقيل هو الإسهاب في الدعاء قال القرطبي وقد ذكر وجوها من الاعتداء في الدعاء قال : ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب العزيز ولا في السّنة فيتخير ألفاظا مقفاة وكلمات مسجعة وقد وجدها في كراريس لهؤلاء يعني المشايخ لا معوّل عليها

٦٩

فيجعلها شعاره يترك ما دعا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل هذا يمنع من استجابة الدّعاء ، وقال ابن جبير : الاعتداء في الدّعاء أن يدعو على المؤمنين بالخزي والشّرك واللعنة ، وفي سنن ابن ماجة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : أي بني سل الله الجنة وعذبه من النار فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء» زاد ابن عطية والزمخشري في هذا الحديث «وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ثم قرأ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها). هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والأديان ومعنى (بَعْدَ إِصْلاحِها) بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وما روي عن المفسّرين من تعيين نوع الإفساد والإصلاح ينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل إذا ادّعاء تخصيص شيء من ذلك لا دليل عليه كالظلم بعد العدل أو الكفر بعد الإيمان أو المعصية بعد الطاعة أو بالمعصية فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بعد إصلاحها بالمطر والخصب أو يقتل المؤمن بعد بقائه أو بتكذيب الرّسل بعد الوحي أو بتغوير الماء المعين وقطع الشجر والثمر ضرارا أو بقطع الدنانير والدراهم أو بتجارة الحكام أو بالإشراك بالله بعد بعثة الرسل وتقرير الشرائع وإيضاح الملة.

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) لما كان الدّعاء من الله بمكان كرره فقال أولا (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليست من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين فبدأ أوّلا بأفعال الجوارح ثم ثانيا بأفعال القلوب وانتصب (خَوْفاً وَطَمَعاً) على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين ليكونا للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة فإن انفرد أحدهما هلك الإنسان وقد قال كثير من العلماء : ينبغي أن يغلب الخوف الرّجاء طول الحياة فإذا جاء الموت غلب الرّجاء ورأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب ومنه تمنى الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة وتمنّى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأنّ مذهبه أنهم مذنبون وسالم هذا من رتبة الدّين والفضل

٧٠

بحيث قال فيه عمر بن الخطاب كلاما معناه لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لولّيته الخلافة وأبعد من ذهب إلى أن المعنى خوفا من الردّ وطمعا في الإجابة.

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قال الزمخشري : كقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) (١) ، انتهى. يعني أنّ الرحمة مختصة بالمحسن وهو من تاب وآمن وعمل صالحا وهذا كله حمل القرآن وإنما على مذهبه من الاعتزال والرحمة مؤنثة فقياسها أن يخبر عنها إخبار المؤنّث فيقال قريبة ، فقيل : ذكر على المعنى لأنّ الرحمة بمعنى الرحم والترحّم ، وقيل : ذكر لأنّ الرحمة بمعنى الغفران والعفو قاله النضر بن شميل واختاره الزّجاج ، وقيل بمعنى المطر قاله الأخفش أو الثواب قاله ابن جبير فالرحمة في هذه الأقوال بدل عن مذكر. وقيل : التذكير على طريق النسب أي ذات قرب ، وقيل : قريب نعت لمذكر محذوف أي شيء قريب ، وقيل : قريب مشبّه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول نحو خضيب وجريح كما شبه فعيل به فقيل شيئا من أحكامه فقيل في جمعه فعلاء كأسير وأسراء وقتيل وقتلاء كما قالوا : رحيم ورحماء وعليم وعلماء ، وقيل : هو مصدر جاء على فعيل كالضغيث وهو صوت الأرنب والنقيق وإذا كان مصدر أصح أن يخبر به عن المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المصدر ، وقيل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي قاله الجوهري ، وهذا ليس بجيد إلّا مع تقديم الفعل أما إذا تأخر فلا يجوز إلا التأنيث تقول الشمس طالعة ولا يجوز طالع إلا في ضرورة الشعر بخلاف التقديم فيجوز أطالعة الشمس وأطالع الشمس كما يجوز طلعت الشمس وطلع الشمس ولا يجوز طلع إلا في الشّعر ، وقيل : فعيل هنا بمعنى المفعول أي مقربة فيصير من باب كفّ خضيب وعين كحيل قاله الكرماني ، وليس بجيد لأن ما ورد من ذلك إنما هو من الثلاثي غير المزيد وهذا بمعنى مقربة فهو من الثلاثي المزيد ومع ذلك فهو لا ينقاس ، وقال الفرّاء إذا استعمل في النسب والقرابة فهو مع المؤنث بتاء ولا بدّ تقول هذه قريبة فلان وإذا استعملت في قرب المسافة أو الزمن فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول دارك مني قريب وفلانة منا قريب ، ومنه هذا وقول الشاعر :

عشية لا عفراء منك قريبة

فتدنو ولا عفراء منك بعيد

فجمع في هذا البيت بين الوجهين ، قال ابن عطية : هذا قول الفرّاء في كتابه وقد مرّ في كتب بعض المفسرين مغيرا انتهى ، وردّ الزّجاج وقال هذا على الفراء هذا خطأ لأنّ سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما وقال من احتج له هذا كلام العرب ، قال

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٨٢.

٧١

تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) (١). وقال الشاعر :

له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

وقال أبو عبيدة (قَرِيبٌ) في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع فتجيء هكذا في المؤنث والاثنين والجمع وكذلك بعيد فإن جعلوها صفة بمعنى مقتربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات. قال علي بن سليمان وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوبا كما تقول إنّ زيدا قريبا منك انتهى وليس بخطأ لأنه يكون قد اتسع في الظرف فاستعمله غير ظرف كما تقول هند خلفك وفاطمة أمامك بالرّفع إذا اتسعت في الخلف والأمام وإنما يلزم النصب إذا بقيتا على الظّرفية ولم يتسع فيهما وقد أجازوا أنّ قريبا منك زيد على أن يكون قريبا اسم إنّ وزيد الخبر فاتسع في قريب واستعمل اسما لا منصوبا على الظّرف والظاهر عدم تقييد قرب الرحمة من المحسن بزمان بل هي قريب منه مطلقا وذكر الطبري أنه وقت مفارقة الأرواح للأجساد تنالهم الرحمة.

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ

٧٢

قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٣.

٧٣

أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥)

أقلّ الشيء حمله ورفعه من غير مشقة ومنه إقلال البطن عن الفخذ في الركوع والسجود ومنه القلّة لأنّ البعير يحملها من غير مشقة وأصله من القلة فكان المقلّ يرى ما يرفعه قليلا واستقل به أقله ، السّوق حمل الشيء بعنف. النّكد العسر القليل. قال الشاعر :

لا تنجز الوعد إن وعدت وإن

أعطيت أعطيت قافها نكدا

ونكد الرجل سئل إلحافا وأخجل. قال الشاعر :

وأعط ما أعطيته طيبا

لا خير في المنكود والناكد

الآلاء النعم واحدها إلى كمعى. أنشد الزجاج :

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحمي ولا يخون إلى

وإلى بمعنى الوقت أو إلى كقفا وإلى كحسى أو إلو كجرو ، وقع قال النضر بن شميل قرع وصدر كوقوع الميقعة وقال غيره : نزل والواقعة النازلة من الشدائد والوقائع الحروب والميقعة المطرقة. قال بعض أدبائنا :

ذو الفضل كالتبر طورا تحت ميقعة

وتارة في ذرى تاج على ملك

٧٤

ثمود اسم قبيلة سميت باسم أبيها ويأتي ذكره في التفسير إن شاء الله. النّاقة الأنثى من الجمال وألفها منقلبة عن الواو وجمعها في القلة أنوق وأنيق وفيه القلب والإبدال وفي الكثرة نياق ونوق واستنوق الجمل إذا صار يشبه الناقة. السّهل ما لان من الأرض وانخفض وهو ضدّ الحزن. القصر الدار التي قصرت على بقعة من الأرض مخصوصة بخلاف بيوت العمود سمي بذلك لقصور الناس عن ارتقائه أو لقصور عامّتهم عن بنائه. النّحت النجر والنّشر في الشيء الصلب كالحجر والخشب. قال الشاعر :

أما النهار ففي قيد وسلسلة

والليل في بطن منحوت من السّاج

عقرت الناقة قتلتها فهي معقورة وعقير ومنه من عقر جواده قاله ابن قتيبة. وقال الأزهري العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ، ولما كان سببا للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقا لاسم السبب على المسبب وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب. قال امرؤ القيس :

ويوم عقرت للعذاري مطيّتي

فيا عجبا من كورها المتحمّل

وقال غيره والعقر بمعنى الجرح. قال :

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

عتا يعتو عتوّا استكبر. الرجفة الطامّة التي يرجف لها الإنسان أي يتزعزع ويضطرب ويرتعد ومنه ترجف بوادره وأصل الرّجف الاضطراب ، رجفت الأرض والبحر رجاف لاضطرابه ، وأرجف الناس بالشر خاضوا فيه واضطربوا ، ومنه الأراجيف ورجف بهم الجبل. قال الشاعر :

ولما رأيت الحج قد حان وقته

وظلت جمال القوم بالحي ترجف

الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض السّاقين كما يرقد الأرنب والطير. غبر بقي. قال أبو ذؤيب :

فغبرت بعدهم بعيش ناضب

وإخال أني لا حق مستبقع

هذا المشهور في اللغة ومنه غبر الحيض. قال أبو بكر الهذلي :

ومبرّأ من كل غبر حيضة

وفساد مرضعة وداء معضل

وغبر اللبن في الضّرع بقيته وحكى أهل اللغة غبر بمعنى مضى ، قال الأعشى :

٧٥

غض بما ألقى المواسي له

من أمّه في الزمن الغابر

وبمعنى غاب ومنه عبر عنا زمانا أي غاب قاله الزجاج ، وقال أبو عبيدة غبر عمر دهرا طويلا حتى هرم ، المطر معروف ، وقال أبو عبيد يقال في الرّحمة مطر وفي العذاب أمطر وهذا معارض بقوله (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) (١) فإنهم لم يريدوا إلا الرّحمة وكلاهما متعدّ يقال مطرتهم السماء وأمطرتهم ، شعيب اسم نبيّ وسيأتي ذكر نسبه في التفسير إن شاء الله.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) لما ذكر تعالى الدلائل على كمال إلهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي أتبعهما بالدلائل من العالم السفلي وهي محصورة في آثار العالم العلوي ومنها الرّيح والسحاب والمطر وفي المعدن والنبات والحيوان ويترتب على نزول المطر أحوال النبات وذلك هو المذكور في الآية وانجرّ مع ذلك الدلالة على صحة الحشر والنشر البعث والقيامة وانتظمت هاتان الآيتان محصلتين المبدأ والمعاد وجعل الخبر موصولا في أنّ ربكم الله الذي وفى (وَهُوَ الَّذِي) دلالة على كون ذلك معهودا عند السامع مفروغا من تحقّق النسبة فيه والعلم به ولم يأت التركيب إنّ ربكم خلق ولا وهو يرسل الرياح ، وقرأ الرّياح نشرا جمعين وبضم الشين جمع ناشر على النسب أي ذات نشر من الطي كلابن وتامر وقالوا نازل ونزل وشارف وشرف وهو جمع نادر في فاعل أو نشور من الحياة أو جمع نشور كصبور وصبر وهو جمع مقيس لا جمع نشور بمعنى منشور خلافا لمن أجاز ذلك لأنّ فعولا كركوب بمعنى مركوب لا ينقاس ومع كونه لا ينقاس لا يجمع على فعل الحسن والسلمي وأبو رجاء واختلف عنهم والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وأبو يحيى وأبو نوفل الأعرابيان ونافع وأبو عمرو ، وقرأ كذلك جمعا إلا أنهم سكّنوا الشين تخفيفا من الضم كرسل عبد الله وابن عباس وزر وابن وثاب والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش ومسروق وابن عامر ، وقرأ نشرا بفتح النون والشين مسروق فيما حكى عنه أبو الفتح وهو اسم جمع كغيب ونشىء في غائبة وناشئة ، وقرأ ابن كثير الرّيح مفردا نشرا بالنون وضمّها وضمّ الشين فاحتمل نشرا أن يكون جمعا حالا من المفرد لأنه أريد به الجنس كقولهم : العرب هم البيض واحتمل أن يكون مفردا كناقة سرح ، وقرأ حمزة والكسائي نشرا بفتح النون وسكون الشين مصدرا كنشر خلاف طوى أو كنشر بمعنى حيي من قولهم أنشر الله الموتى فنشروا أي حيوا. قال الشاعر :

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٢٤.

٧٦

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميت الناشر

وقرأ (الرِّياحَ) جمعا ابن عباس والسّلمي وابن أبي عبلة (بُشْراً) بضم الباء والشين ورويت عن عاصم وهو جمع بشيرة كنذيرة ونذر ، وقرأ عاصم كذلك إلا أنه سكن الشين تخفيفا من الضم ، وقرأ السلمي أيضا (بُشْراً) بفتح الباء وسكون الشين وهو مصدر بشر المخفف ورويت عن عاصم ، وقرأ ابن السميقع وابن قطيب بشرى بألف مقصورة كرجعى وهو مصدر فهذه ثماني قراءات أربعة في النون وأربع في الباء فمن قرأ بالباء جمعا أو مصدرا بألف التأنيث ففي موضع الحال من المفعول أو مصدرا بغير ألف التأنيث فيحتمل ذلك ويحتمل أن يكون حالا من الفاعل ومن قرأ بالنون جمعا أو اسم جمع فحال من المفعول أو مصدرا فيحتمل أن يكون حالا من الفاعل وأن كون حالا من المفعول أو مصدرا ليرسل من المعنى لأنّ إرسالها هو إطلاقها وهو بمعنى النّشر فكأنه قيل ينشر الرياح نشرا ووصف الريح بالنشر بأحد معنيين بخلاف الطي وبالحياة ، قال أبو عبيدة : في النشر أنها المتفرقة في الوجوه ، وقال الشاعر في وصف الرّيح بالإحياء والموت :

وهبّت له ريح الجنوب وأحييت

له ريدة يحيي المياه نسيمها

والرّيدة والمريد أنه الرّيح. وقال الآخر :

إني لأرجو أن تموت الرّيح

فأقعد اليوم وأستريح

ومعنى (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها أثرا والتعيين عن إمام الرحمة بقوله (بَيْنَ يَدَيْ) من مجاز الاستعارة إذ الحقيقة هو ما بين يدي الإنسان من الإحرام وقال الكرماني : قال هنا (يُرْسِلُ) لأنّ قبل ذلك (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) فهما في المستقبل فناسبه المستقبل وفي الفرقان وفاطر (أَرْسَلَ) لأن قبله (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) وبعده (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ) (١) وكذا في الروم (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ) (٢) ليوافق ما قبله من المستقبل وفي فاطر قبله (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) (٣) وذلك ماض فناسبه الماضي انتهى ملخصا.

(حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ). هذه غاية لإرسال الرّياح والمعنى أنه تعالى يرسل الرّياح مبشرات أو مبشرات إلى سوق السّحاب وقت إقلاله إلى بلد ميت

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٤٥.

(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٤٦.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ١.

٧٧

والسحاب اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث فيذكر كقوله (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ) (١) كقوله (يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) (٢) ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (٣) وكقوله (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) (٤) وثقله بالماء الذي فيه ونسب السّوق إليه تعالى بنون العظمة التفاتا لما فيه من عظيم المنة وذكر الضمير في (سُقْناهُ) رعيا للفظ كما قلنا إنه يذكر. وقال السدّي يرسل تعالى الرياح فتأتي السحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض حيث يلتقيان فيخرجه من ثم ثم ينتشر ويبسطه في السماء وتفتح أبواب السماء ويسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك قال وهذا التفصيل لم يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى. ومذهب أهل الحق أن الله تعالى هو الذي يسخّر الرّياح ويصرفها حيث أراد بمشيئته وتقديره لا مشارك له في ذلك وللفلاسفة كيفية في حصول الرياح ذكرها أبو عبد الله الرازي وأبطلها من وجوه أربعة يوقف عليها في كلامه وللمنجمين أيضا كلام في ذلك أبطله ، وقال في آخره فثبت بهذا البرهان أنّ محرّك الرّياح هو الله تعالى وثبت بالدليل العقلي صحّة قوله (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ).

وعن ابن عمران الرّياح ثمان أربع منها عذاب وهي : القاصف والعاصف والصّرصر والعقيم وأربع منها رحمة : الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات واللام في (لِبَلَدٍ) عندي لام التبليغ كقولك قلت لك ، وقال الزمخشري : لأجل بلد فجعل اللام لام العلة ولا يظهر فرق بين قولك سقت لك مالا وسقت لأجلك مالا فإنّ الأوّل معناه أوصلته لك وأبلغتكه والثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له المال غير الذي علّل به السوق ألا ترى إلى صحة قول القائل لأجل زيد سقت لك مالك. ووصف البلد بالموت استعارة حسنة لجدبه وعدم نباته كأنه من حيث عدم الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه ولما كان ذلك موضع قرب رحمة الله وإظهار إحسانه ذكر أخص الأرض وهو البلد حيث مجتمع الناس ومكان استقرارهم ولما كان في سورة يس المقصد إظهار الآيات العظيمة الدالة على البعث جاء التركيب باللفظ العام وهو قوله (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) (٥) وبعده (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) و (آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) وسكن ياء الميت عاصم وأبو عمرو والأعمش.

(فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) الظاهر أنّ الباء ظرفية والضمير عائد على بلد ميت أي فأنزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور ويحسن عوده إليه فلا يجعل لأبعد مذكور ، وقيل الباء سببيّة والضمير

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٤.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٤٣.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ١٢.

(٤) سورة ق : ٥٠ / ١٠.

(٥) سورة يس : ٣٦ / ٣٣.

٧٨

عائد على السحاب. وقيل عائد على المصدر المفهوم من سقناه فالتقدير بالسّحاب أو بالسّوق والثالث ضعيف لأنه عائد على غير مذكور مع وجود المذكور وصلاحيته للعود عليه. وقيل : عائد على السحاب والباء بمعنى من أي فأنزلنا منه الماء كقوله (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (١) أي منها وهذا ليس بجيد لأنه تضمين من الحروف.

(فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) الخلاف في (بِهِ) كالخلاف السابق في به. وقيل :

الأول عائد على السحاب والثاني على البلد عدل عن كناية إلى كناية من غير فاصل كقوله : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٢) وفاعل أملى لهم الله تعالى.

(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي مثل هذا الإخراج (نُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم أحياء إلى الحشر (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) بإخراج الثمرات وإنشائها خروجكم للبعث إذ الإخراجات سواء فهذا الإخراج المشاهد نظير الإخراج الموعود به خرج البيهقي وغيره عن رزين العقيلي قال قلت : يا رسول الله كيف يعيد الله الخلق وما آية ذلك في خلقه؟ قال «أما مررت بوادي قومك جدبا ثم مررت به خضرا» قال : نعم قال : «فتلك آية الله في خلقه» انتهى ، وهل التشبيه في مطلق الإخراج ودلالة إخراج الثمرات على القدرة في إخراج الأموات أم في كيفيّة الإخراج وأنه ينزل مطر عليهم فيحيون كما ينزل المطر على البلد الميّت فيحيا نباته احتمالان ، وقد روي عن أبي هريرة أنه يمطر عليهم من ماء تحت العرش يقال له ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع فإذا كملت أجسامهم نفخ فيها الرّوح ثم يلقي عليهم نومة فينامون فإذا نفخ في الصّور الثانية قاموا وهم يجدون طعم النوم فيقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً الطَّيِّبُ) الجيّد الترب الكريم الأرض ، (وَالَّذِي خَبُثَ) المكان السبخ الذي لا ينبت ما ينتفع به وهو الرديء من الأرض ، ولما قال (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) تمم هذا المعنى بكيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والأرض السّبخة وتلك عادة الله في إنبات الأرضين وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافيا حسنا وحذفت لفهم المعنى ولدلالة (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) عليها ولمقابلتها بقوله (إِلَّا نَكِداً) ولدلالة (بِإِذْنِ رَبِّهِ) لأنّ ما أذن الله في إخراجه لا يكون إلا على أحسن حال و (بِإِذْنِ رَبِّهِ) في موضع الحال وخصّ خروج نبات الطيّب

__________________

(١) سورة الإنسان : ٦٧٦.

(٢) سورة محمد : ٤٧ / ٢٥.

٧٩

بقوله (بِإِذْنِ رَبِّهِ) على سبيل المدح له والتشريف ونسبة الإسناد الشريفة الطيبة إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإذنه تعالى ومعنى (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بتيسيره وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضا والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) عليه فكلّ من الجملتين فيه حذف وغاير بين الموصولين فصاحة وتفنّنا ففي الأولى قال : (الطَّيِّبُ) وفي الثانية قال : (الَّذِي خَبُثَ) وكان إبراز الصّلة هنا فعلا بخلاف الأوّل لتعادل اللفظ يكون ذلك كلمتين الكلمتين في قوله (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) والطيب والخبيث متقابلان في القرآن كثيرا (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) (١) و (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (٢) (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) (... وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) (٣) إلى غير ذلك والفاعل في (لا يَخْرُجُ) عائد على (الَّذِي خَبُثَ) وقد قلنا إنه صفة لموصوف محذوف والبلد لا يخرج فيكون على حذف مضاف إما من الأوّل أي ونبات الذي خبث أو من الثاني أي لا يخرج نباته فلما حذف استكنّ الضمير الذي كان مجرورا لأنه فاعل ، وقيل هاتان الجملتان قصد بهما التمثيل ، فقال ابن عباس وقتادة مثال لروح المؤمن يرجع إلى جسده سهلا طيّبا كما خرج إذا مات ولروح الكافر لا يرجع إلّا بالنّكد كما خرج إذ مات انتهى ، فيكون هذا راجعا من حيث المعنى إلى قوله (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى) أي على هذين الوصفين.

وقال السدّي مثال للقلوب لما نزل القرآن كنزول المطر على الأرض فقلب المؤمن كالأرض الطيبة يقبل الماء وانتفع بما يخرج ، وقلب الكافر كالسّبخة لا ينتفع بما يقبل من الماء ، وقال النحاس : هو مثال للفهيم والبليد ، وقال الزمخشري : وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك وعن مجاهد ذرّية آدم خبيث وطيّب وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر المطر وإنزاله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد انتهى ، والأظهر ما قدّمناه من أنّ المقصود التعريف بعبادة الله تعالى في إخراج النبات في الأرض الطيبة والأرض الخبيثة دون قصد إلى التمثيل بشيء مما ذكروا ، وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر (يَخْرُجُ نَباتُهُ) مبنيّا للمفعول ، وقرأ ابن القعقاع (نَكِداً) بفتح الكاف ، قال الزّجاج : وهي قراءة أهل المدينة ، وقرأ ابن مصرّف بسكونها وهما مصدران أي ذا نكد وكون نبات الذي خبث محصورا خروجه على حالة النكد مبالغة شديدة في كونه لا يكون إلا هكذا ولا يمكن أن يوجد (إِلَّا نَكِداً) وهي إشارة إلى من استقر فيه وصف الخبيث يبعد عنه النزوع إلى الخير.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١٠٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٧.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٧.

٨٠