البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

أدائه. وعن بمعنى من ، وكثيرا ما يتوصل في موضع واحد بهذه ، وهذه تقول : لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى ، وفعل ذلك فلان من أسره ونظره ، وعن أسره ونظره انتهى. وقيل : كلمة من وكلمة عن متقاربتان ، إلا أنّ عن تفيد البعد. فإذا قيل : جلس عن يمين الأمير أفاد أنه جلس في ذلك الجانب ، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أنّ التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب ، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته. فلفظة عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى. والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة. فإن قلت : أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك ، وإذا قلت : من زيد دل على ابتداء الغاية ، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد. وعن أبلغ لظهور الانتقال معه ، ولا يظهر مع من. وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله ، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم. ألا ترى إلى قوله : وأن الله هو التواب الرحيم ، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة. ألا ترى إلى ما روي : «ومن تقرب إليّ شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»؟.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : صيغة أمر ضمنها الوعيد ، والمعتذرون التائبون من المتخلفين ، هم المخاطبون. وقيل : هم المعتذرون الذين لم يتوبوا. وقيل : المؤمنون والمنافقون. فسيرى الله إلى آخرها تقدم شرح نظيره. وإذا كان الضمير للمعتذرين الخالطين التائبين وهو الظاهر ، فقد أبرزوا بقوله : فسيرى الله عملكم ، إبراز المنافقين الذين قيل لهم : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) (١) وسيرى الآية تنقيصا من حالهم وتنفيرا عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول ، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن إسحاق : نزلت في الثلاثة الذين خلفوا قبل التوبة عليهم : هلال بن أمية الواقفي ، ومرارة بن الربيع العامري ، وكعب بن مالك. وقيل : نزلت في المنافقين المعرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار. وقرأ

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٩٤.

٥٠١

الحسن ، وطلحة ، وأبو جعفر ، وابن نصاح ، والأعرج ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : مرجون وترجي بغير همز. وقرأ باقي السبعة : بالهمز ، وهما لغتان ، لأمر الله أي الحكمة ، إما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا ، وإما يتوب عليهم إن تابوا. وقال الحسن : هم قوم من المنافقين أرجأهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حضرته. وقال الأصم : يعني المنافقين أرجأهم الله فلم يخبر عنهم بما علم منهم ، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا. وإما معناها الموضوعة له هو أحد الشيئين أو الأشياء ، فينجر مع ذلك أن تكون للشك أو لغيره ، فهي هنا على أصل موضوعها وهو القدر المشترك الذي هو موجود في سائر ما زعموا أنها وضعت له وضع الاشتراك. والله عليم بما يؤول إليه أمرهم ، حكيم فيما يفعله بهم.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالا وأفعالا ذكر أنّ منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعا للمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر ، وسموه مسجدا. ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء وصلى فيه ودعا لهم ، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف ، وبنو سالم بن عوف ، وحرضهم أبو عمرو الفاسق على بنائه حين نزل الشام هاربا من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال : ابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه ، فبنوه إلى مسجد قباء ، وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين : خذام بن خالد. ومن داره أخرج المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وحارثة بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ونبتل بن الحرث ، وعباد بن حنيف ، ونجاد بن عثمان ، ووديعة بن ثابت ، وأبو حنيفة الأزهر ، وبخرج بن عمرو ، ورجل من بني ضبيعة ، وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، وتدعوا لنا بالبركة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني على جناح سفر وحال وشغل ، وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه» وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلاما قارئا للقرآن حسن الصوت ، وهو ممن حسن إسلامه ، وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة ، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن ، فلما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا مالك بن الدخشم ومعنا وعاصما ابني عدي. وقيل : بعث عمار بن

٥٠٢

ياسر ووحشيا قاتل حمزة بهدمه وتحريقه ، فهدم وحرق بنار في سعف ، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة. وقال ابن جريج : صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولم يحرق.

وقرأ أهل المدينة : نافع ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وغيرهم ، وابن عامر : الذين بغير واو ، كذا هي في مصاحف المدينة والشام ، فاحتمل أن يكون بدلا من قوله : وآخرون مرجون ، وأن يكون خبر ابتداء تقديره : هم الذين ، وأن يكون مبتدأ. وقال الكسائي : الخبر لا تقم فيه أبدا. قال ابن عطية : ويتجه بإضمار إما في أول الآية ، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم. وقال النحاس والحوفي : الخبر لا يزال بنيانهم. وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه.

وقرأ جمهور القراء : والذين بالواو عطفا على وآخرون أي : ومنهم الذين اتخذوا ، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : والذين اتخذوا ما محله من الإعراب؟ (قلت) : محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) (١) وقيل : هو مبتدأ وخبره محذوف ، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (٢) وانتصب ضرارا على أنه مفعول من أجله أي : مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ، ومعازّة وكفرا وتقوية للنفاق ، وتفريقا بين المؤمنين ، لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أن يفترقوا عنه وتختلف كلمتهم ، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه ، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان. ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موضع الحال. وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولا ثانيا لا تخذوا ، وإرصادا أي : إعدادا لأجل من حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب أعدوه له ليصلي فيه ، ويظهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان قد تعبد في الجاهلية فسمي الراهب ، وسماه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاسق ، وكان سيدا في قومه نظيرا وقريبا من عبد الله بن أبي بن سلول ، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهرا بذلك ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد محاورة : «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم» فلم يزل يقاتله وحزب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام بمكة مظهرا للعداوة ، فلما كان الفتح هرب إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام يريد قيصر

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٢.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣٨.

٥٠٣

مستنصرا على الرسول ، فمات وحيدا طريدا غريبا بقنسرين ، وكان قد دعا بذلك على الكافرين وأمّن الرسول ، فكان كما دعا ، وفيه يقول كعب بن مالك :

معاذ الله من فعل خبيث

كسعيك في العشيرة عبد عمرو

وقلت بأن لي شرفا وذكرا

فقد تابعت إيمانا بكفر

وقرأ الأعمش : وإرصادا للذين حاربوا الله ورسوله ، والظاهر أنّ من قبل متعلقا بحارب ، يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، أي : من قبل اتخاذ هذا المسجد. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : بم يتصل قوله تعالى : من قبل؟ (قلت) : باتخذوا أي : اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف انتهى. وليس بظاهر ، والخالف هو بخرج أي : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من ضعف أو عجز عن المسير إلى مسجد قباء. قال الزمخشري : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى ، أو لإرادة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسع على المصلين انتهى. كأنه في قوله : إلا الخصلة الحسنى جعله مفعولا ، وفي قوله : أو لإرادة الحسنى جعله علة ، وكأنه ضمن أراد معنى قصد أي : ما قصدنا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإرادة الحسنى وهي الصلاة ، وهذا وجه متكلف ، فأكذبهم الله في قولهم ، ونهاه أن يقوم فيه فقال : لا تقم فيه أبدا نهاه لأن بناته كانوا خادعوا الرسول ، فهمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمشي معهم ، واستدعي قميصه لينهض فنزلت : «لا تقم فيه أبدا» ، وعبّر بالقيام عن الصلاة فيه.

قال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين : المؤسس على التقوى مسجد قباء ، أسسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وهي : يوم الاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى لأنّ الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقع منها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار ، وذلك لائق بالقصة. وعن زيد بن ثابت ، وأبي سعيد ، وابن عمر : أنه مسجد الرسول. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هو مسجدي هذا» لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى. وإذا صحّ هذا النقل لم يمكن خلافه ، ومن هنا دخلت على الزمان ، واستدل بذلك الكوفيون على أنّ من تكون لابتداء الغاية في الزمان ، وتأوله البصريون على حذف مضاف أي : من تأسيس أول يوم ، لأنّ من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان ، وتحقيق ذلك في علم النحو. قال ابن عطية : ويحسن عندي أن يستغنى عن تقدير ، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنى البداءة ، كأنه قال : من مبتدأ

٥٠٤

الأيام ، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى. وأحق بمعنى حقيق ، وليست أفعل تفضيل ، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق ، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ عبد الله بن يزيد : فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين ، والأصل الضم ، وفيه رفع توهم التوكيد ، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع. وجوزوا في فيه رجال أن يكون صفة لمسجد ، والحال ، والاستئناف. وفي الحديث قال لهم : «يا معشر الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون»؟ قالوا : يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك ، فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال : «فلا تدعوه إذا» وفي بعض ألفاظ هذا الحديث زيادة واختلاف.

وقد اختلف أهل العلم في الاستنجاء بالحجارة أو بالماء أيهما أفضل؟ ورأت فرقة الجمع بينهما ، وشذ ابن حبيب فقال : لا يستنجى بالحجارة حيث يوجد الماء ، فعلى ما روي في هذا الحديث يكون التطهير عبارة عن استعمال الماء في إزالة النجاسة في الاستنجاء. وقيل : هو عام في النجاسات كلها. وقال الحسن : من التطهير من الذنوب بالتوبة. وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة للذنوب ، فحموا عن آخرهم. وفي دلائل النبوة للبيهقي. أن أهل قباء شكوا الحمى فقال «إن شئتم دعوت الله فأزالها عنكم ، وإن شئتم جعلتها لكم طهرة» فقالوا : بل اجعلها لنا طهرة. ومعنى محبتهم التطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب الشيء المشتهى له على أشياء ، ومحبة الله إياهم أنه يحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. وقرأ ابن مصرف والأعمش : يطهروا بالإدغام ، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : قرأ نافع وابن عامر : أسس بنيانه مبنيا للمفعول في الموضعين. وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنيا للفاعل ، وبنصب بنيان. وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول ، والثانية على بنائه للفاعل. وقرأ نصر بن علي ، ورويت عن نصر بن عاصم أسس بنيانه ، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضا ، أساس جمع أسّ. وعن نصر بن عاصم آسس بهمزة

٥٠٥

مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء إساس بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرىء أساس بفتح الهمزة ، وأس بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان ، فهذه تسع قراءات. وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم : أفمن أسس بالتخفيف والرفع ، بنيانه بالجرّ على الإضافة ، فأسس مصدر أس : الحائط يؤسة أسا وأسسا. وعن نصر أيضا أساس بنيانه كذلك ، إلا أنه بالألف ، وأسّ وأسس وأساس كلّ مصادر انتهى. والبنيان مصدر كالغفران ، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق. وقيل : هو جمع واحده بنيانه قال الشاعر :

كبنيانة القاريّ موضع رحلها

وآثار نسعيها من الدفّ أبلق

وقرأ عيسى بن عمر على تقوى بالتنوين ، وحكى هذه القراءة سيبويه ، وردها الناس. قال ابن جني : قياسها أن تكون ألفها للإلحاق كارطي. وقرأ جماعة منهم : حمزة ، وابن عامر ، وأبو بكر ، جرف بإسكان الراء ، وباقي السبعة وجماعة بضمها ، وهما لغتان. وقيل : الأصل الضم. وفي مصحف أبي فانهارت به قواعده في نار جهنم ، والظاهر أنّ هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين : مسجد قباء ، أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسجد الضرار ، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما ، وكذلك قال كثير من المفسرين. وقال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين. وروى سعيد بن جبير : أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رؤي منه الدخان يخرج ، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة ، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان. وقيل : هذا ضرب مثل أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق ، وبين أنّ بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم. قال ابن عطية : قيل : بل ذلك حقيقة ، وأنّ ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله : قتادة ، وابن جريج. وخير لا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار ، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل.

وقال الزمخشري : والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ورسوله خير ، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ، لا جعل مجازا عن ما ينافي التقوى.

٥٠٦

(فإن قلت) : فما معنى قوله تعالى : فانهار به في نار جهنم؟ (قلت) : لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل : فانهار به على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، ولتصور أنّ الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها ، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل. وكنه أمره والفاعل فانهار أي : البنيان أو الشفا أو الجرف به ، أي : المؤسس الباني ، أو أنهار الشفا أو الجرف به أي : بالبنيان. ويستلزم انهيار الشفا والبنيان ، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره. والله لا يهدي القوم الظالمين ، إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار ، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته ، فبنوه ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدرا أي : لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان ، ويحتمل أن يراد به المبني ، فيكون على حذف مضاف أي : لا يزال بناء المبنى. قال ابن عباس : لا يزالون شاكين. وقال حبيب بن أبي ثابت : غيظا في قلوبهم ، أي سبب غيظ. وقيل : كفرا في قلوبهم. وقال عطاء : نفاقا في قلوبهم. وقال ابن جبير : أسفا وندامة. وقال ابن السائب ومقاتل : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه. وقال قتادة : في الكلام حذف تقديره : لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي : حزازة وغيظا في قلوبهم. وقال ابن عطية : الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال ، والريبة الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه ، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه. والحزازة من أجله ، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك. ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق ، واعتقاد صواب فعلهم ، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام. فمقصد الكلام : لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء. وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر. وقيل له : أفكفر مجمع بن جارية؟ قال : لا ، ولكنها حزازة. قال ابن عطية : ومجمع رحمه‌الله ، قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ، ولا قصد سوء. والآية إنما عنت من أبطن سوءا. وليس مجمع منهم. ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم. وجملة هذا أنّ الريبة في الآية نعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من

٥٠٧

النفاق. وقال أبو عبد الله الرازي : جعل نفس البنيان ريبة لكونه سببا لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بعضهم له ، وارتيابهم في نبوته ، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد ، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلا ونهبا ، أو بقوا شاكين : أيغفر الله لهم تلك المعصية؟ انتهى ، وفيه تلخيص.

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص : إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي : يتقطع ، وباقي السبعة بالضم ، مضارع قطع مبنيا للمفعول. وقرىء يقطع بالتخفيف. وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب : إلى أن نقطع ، وأبو حيوة إلى أن تقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة ، ونصب قلوبهم خطابا للرسول أي : تقتلهم ، أو فيه ضمير الريبة. وفي مصحف عبد الله : ولو قطعت قلوبهم ، وكذلك قرأها أصحابه. وحكى أبو عمرو هذه القراءة : إن قطعت بتخفيف الطاء. وقرأ طلحة : ولو قطعت قلوبهم خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو كل مخاطب. وفي مصحف أبي : حتى الممات ، وفيه حتى تقطع. فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى : بالقتل. وأما على من قرأه مبنيا للمفعول ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم : بالموت أي : إلى أن يموتوا. وقال عكرمة : إلى أن يبعث من في القبور. وقال سفيان : إلى أن يتوبوا عما فعلوا ، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه. قال ابن عطية : وليس هذا بظاهر ، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحا يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هما. وقال الزمخشري : لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسألون عنه ، وأما ما دامت سليمة مجتمعة فالريبة قائمة فيها متمكنة. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار. وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم. والله عليم بأحوالهم ، حكيم فيما يجري عليهم من الأحكام ، أو عليم بنياتهم ، حكيم في عقوباتهم.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) :

نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى ، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو. وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٥٠٨

عند العقبة فقالوا : اشترط لك ولربك ، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة ، فاشترط صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمايته مما يحمون منه أنفسهم ، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة فقالوا : ما لنا على ذلك؟ قال : الجنة ، فقالوا : نعم ربح البيع ، لا تقيل ولا نقائل. وفي بعض الروايات : ولا نستقيل ، فنزلت.

والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ، وعن جابر بن عبد الله : نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد فكبر الناس ، فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرف ركابه على أحد عاتقيه فقال : يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال : «نعم» فقال : بيع ربح لا تقيل ولا نستقيل. وفي بعض الروايات : فخرج إلى الغزو فاستشهد. وقال الحسن : لا والله إن في الأرض مؤمن إلا وقد أحدث بيعته. وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش : وأموالهم بالجنة ، مثّل تعالى إثابتهم بالجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء ، وقدم الأنفس على الأموال ابتداء بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد. وفي لفظة اشترى لطيفة وهي : رغبة المشتري فيما اشتراه واعتباطه به ، ولم يأت التركيب أن المؤمنين باعوا ، والظاهر أنّ هذا الشراء هو مع المجاهدين. وقال ابن عيينة : اشترى منهم أنفسهم أن لا يعملوها إلا في طاعة ، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله ، فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله. وعلى هذا القول يكون يقاتلون مستأنفا ، ذكر أعظم أحوالهم ، ونبه على أشرف مقامهم. وعلى الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون ، في موضع الحال. وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والعربيان ، والحرميان ، وعاصم : أولا على البناء للفاعل ، وثانيا على البناء للمفعول. وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والأخوان بعكس ذلك ، والمعنى واحد ، إذ الغرض أنّ المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل ، وفيهم من يقتل ، وفيهم من يجتمع له الأمران ، وفيهم من لا يقع له واحد منهما ، بل تحصل منهم المقاتلة. وقال الزمخشري : يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى : (تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (١) انتهى. فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال ، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالا. وانتصب وعدا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، لأنّ معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله الجنة على الجهاد في سبيله ، والظاهر من قوله : في التوراة

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ١١.

٥٠٩

والإنجيل والقرآن ، أنّ كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة ، فيكون في التوراة متعلقا بقوله : اشترى. ويحتمل أن يكون متعلقا بتقدير قوله مذكورا ، وهو صفة فالعامل فيه محذوف أي : وعدا عليه حقا مذكورا في التوراة ، فيكون هذا الوعد بالجنة إنما هدى هذه الأمة قد ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن. وقيل : الأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع ، ومن أوفى استفهام على جهة التقرير أي : لا أحد ، ولما أكد الوعد بقوله عليه حقا أبرزه هنا في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد ، إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائز إخلافه ، والعهد لا يجوز إلا الوفاء به ، إذ هو آكد من الوعد. قال الزمخشري : ومن أوفى بعهده من الله ، لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قطه؟ ولا ترى ترى غيبا في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال ، واستعمال قط في غير موضوعة ، لأنه أتى به مع قوله : لا يجوز عليه قبيح قط. وقط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي. ثم قال : فاستبشروا ، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم ، وهي حكمة الالتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب ، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد ، ومحيل على البيع السابق. ثم قال : وذلك هو الفوز العظيم أي : الظفر للحصول على الربح التام ، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : قال ابن عباس : لما نزل إنّ الله اشترى من المؤمنين الآية قال رجل : يا رسول الله وإن زنا ، وإن سرق ، وإن شرب الخمر؟ فنزلت التائبون الآية.

وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إلى التحلي بها عباده ، وليكونوا على أوفى درجات الكمال. وآية أنّ الله اشترى مستقلة بنفسها ، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان ، فيندرج فيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، وإن لم تكن فيه هذه الصفات. والشهادة ماحية لكل ذنب ، حتى روي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه. وقالت فرقة : هذه الصفات شرط في المجاهد. والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله. وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى : (إِنَ

٥١٠

اللهَ اشْتَرى) (١) الآية وقال : لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل ، فقال الضحاك : ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق ، وعلى هذين القولين ترتب إعراب التائبون ، فقيل : هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون ، وما بعده خبر بعد خبر أي : التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وقيل : خبره الآمرون. وقيل : خبره محذوف بعد تمام الأوصاف ، وتقديره : من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) (٢) ولذلك جاء : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها. وقيل : التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون ، أي الذين بايعوا الله هم التائبون ، فيكون صفة مقطوعة للمدح ، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش : التايبين بالياء إلى والحافظين نصبا على المدح. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين ، وقاله أيضا : ابن عطية. وقيل : يجوز أن يكون التائبون بدلا من الضمير في يقاتلون. قال ابن عباس : التائبون من الشرك. وقال الحسن : من الشرك والنفاق. وقيل : عن كل معصية. وعن ابن عباس : العابدون بالصلاة. وعنه أيضا المطيعون بالعبادة ، وعن الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء. وعن ابن جبير : الموحدون السائحون. قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : الصائمون شبهوا بالسائحين في الأرض ، لا متناعهم من شهواتهم. وعن عائشة : سياحة هذه الأمة الصيام ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الأزهري : قيل : للصائم سائح ، لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه ، كان ممسكا عن الأكل ، والصائم ممسك عن الأكل. وقال عطاء : السائحون المجاهدون. وعن أبي أمامة : أنّ رجلا استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السياحة فقال : «إنّ سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» صححه أبو محمد عبد الحق. وقيل : المراد السياحة في الأرض. فقيل : هم المهاجرون من مكة إلى المدينة. وقيل : المسافرون لطلب الحديث والعلم. وقيل : المسافرون في الأرض لينظروا ما فيها من آيات الله ، وغرائب ملكه نظر اعتبار. وقيل : الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته. والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها ، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف. ولما كان الأمر مباينا للنهي ، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل ، حسن العطف في قوله : والناهون ودعوى

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١١١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٩٥.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ١١٢.

٥١١

الزيادة ، أو واو الثمانية ضعيف. وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن ، إذا بدأ أولا بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى ، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله. ولما ذكر تعالى مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يبشر المؤمنين. وفي الآية قبلها فاستبشروا أمرهم بالاستبشار ، فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار ، وأمر رسوله أن يبشرهم.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) : قال الجمهور : ومداره على ابن المسيب ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، نزلت في شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه وقال : «أي عمّ قل لا إله إلا لله كلمة أحاج لك بها عند الله» وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب : يا محمد لو لا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك ، ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب ، ومات فنزلت : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية ، فترك الاستغفار لأبي طالب. وروي أن المؤمنين لما رأوه يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك ذكروا في قوله : «ما كان للنبي والذين آمنوا».

وقال فضيل بن عطية وغيره : لما فتح مكة أتى قبر أمه ووقف عليه حتى سخنت عليه الشمس ، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار فلم يؤذن له ، فأخبر أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها ، ونزلت الآية وقالت فرقة : نزلت بسبب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله لأزيدن على السبعين» وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه. وتضمن قوله ما كان للنبي الآية النهي عن الاستغفار لهم على أي حال كانوا ، ولو في حال كونهم أولي قربى. فقوله : ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة ، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب أنّ ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها. ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٥٦.

٥١٢

كانوا في غاية القرب ، ونبه على الوصف الشريف من النبوة والإيمان ، وأنه مناف للاستغفار لمن مات على ضده وهو الشرك بالله. ومعنى من بعد ما تبين أي : وضح لهم أنهم أصحاب الجحيم لموافاتهم على الشرك ، والتبين هو بإخبار الله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (١) والظاهر أنّ الاستغفار هنا هو طلب المغفرة ، وبه تظافرت أسباب النزول. وقال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة. قالوا : والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ، ومن هذا قول أبي هريرة : رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قيل له : ولأبيه؟ قال : لا لأن أبي مات كافرا ، فإن ورد نص من الله على أحد إنه من أهل النار وهو حي كأبي لهب امتنع الاستغفار له ، فتبين كينونة المشرك أنه من أصحاب الجحيم تمويه على الشرك وبنص الله عليه وهو حي ، أنه من أهل النار. ويدخل على جواز الاستغفار للكفار إذا كانوا أحياء ، لأنه يرجى إسلامهم ما حكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عن نبي قبله شجه قومه ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر عنه بأنه قال : «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».

ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدى به ، ولذلك قال جماعة من المؤمنين : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه ، بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه ، وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه ابراهيم. والموعدة التي وعدها ابراهيم أباه هي قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) (٢) وقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) (٣). والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم ، وكان أبوه بقيد الحياة ، فكان يرجوا إيمانه ، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدوّ لله وأنه يموت كافرا وانقطع رجاؤه منه ، تبرأ منه وقطع استغفاره. ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم : قراءة الحسن ، وحماد الراوية ، وابن السميفع ، وأبي نهيك ، ومعاذ القارئ ، وعدها أباه. وقيل : لفاعل ضمير والد إبراهيم ، وإياه ضمير إبراهيم ، وعده أبو أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه ، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه.

وقرأ طلحة : وما استغفر إبراهيم ، وعنه وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال. والذي يظهر أنّ استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا. ألا ترى إلى قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٨.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٤٧.

(٣) سورة الممتحنة : ٦٠ / ٤.

٥١٣

إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (١) وقوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) (٢) ويضعف ما قاله ابن جبير : من أن هذا كله يوم القيامة ، وذلك أنّ ابراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله : سأستغفر لك ربي ، فيقول له : الزم حقوى فلن أدعك اليوم لشيء ، فيدعه حتى يأتي الصراط ، فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا ، فيتبرأ منه حينئذ انتهى ما قاله ابن جبير ، ولا يظهر ربطه بالآخرة.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : خفي على إبراهيم عليه‌السلام أنّ الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده. (قلت) : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى له الإيمان جاز الاستغفار له على أنّ امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي ، لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر. ألا ترى إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» وعن الحسن قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ فلانا يستغفر لآبائه المشركين فقال : «ونحن نستغفر لهم» وعن علي رضي‌الله‌عنه : رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له : فقال : أليس قد استغفر إبراهيم انتهى؟ وقوله : لأنّ العقل يجوز أن يغفر الله للكافر رجوع إلى قول أهل السنة.

والأوّاه : الدعاء ، أو المؤمن ، أو الفقيه ، أو الرحيم ، أو المؤمن التواب ، أو المسبّح ، أو الكثير الذكر له ، أو التلاء لكتاب الله ، أو القائل من خوف الله ، أواه المكثر ذلك ، أو الجامع المتضرع ، أو المؤمن بالحبشية ، أو المعلم للخير ، أو الموفى ، أو المستغفر عند ذكر الخطايا ، أو الشفيق ، أو الراجع عن كل ما يكرهه الله ، أقوال للسلف ، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات. وقال الزمخشري : أوّاه فقال : من أوّه كلأل من اللؤلؤ ، وهو الذي يكثر التأوه ، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه. وقوله : لأرجمنك انتهى. وتشبيه أوّاه من أوّه بلآل من اللؤلؤ ليس بجيد ، لأنّ مادة أوّه موجودة في صورة أوّاه ، ومادة لؤلؤة مفقودة في لأل لاختلاف التركيب ، إذ لأل ثلاثي ، ولؤلؤ رباعي ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية. وفسروا الحليم هنا بالصافح عن الذنب الصابر على الأذى ، وبالصبور ، وبالعاقل ، وبالسيد ، وبالرقيق القلب الشديد العطف.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) : مات قوم كان عملهم على الأمر الأول : كاستقبال بيت المقدس ، وشرب الخمر ،

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٨٦.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤١.

٥١٤

فسأل قوم الرسول بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلك فنزلت. وقال الكرماني : أسلم قوم من الأعراب فعملوا بما شاهدوا الرسول يفعله من الصلاة إلى بيت المقدس ، وصيام الأيام البيض ، ثم قدموا عليه فوجوده يصلي إلى الكعبة ويصوم رمضان ، فقالوا : يا رسول الله دنا بعدك بالضلال ، إنك على أمر وأنا على غيره فنزلت. وقيل : خاف بعض المؤمنين من الاستغفار للمشركين دون إذن من الله فنزلت الآية مؤنسة أي : ما كان الله بعد أن هدى للإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمقارفتهم ذنبا لم يتقدم منه نهي عنه. فأما إذ بين لهم ما يتقون من الأمر ، ويتجنبون من الأشياء ، فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة. وقال الزمخشري : يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه ، وبين أنه محظور ، ولا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالا ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم ، وعلمه بأنه واجب الاتقاء والاجتناب ، وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي في هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها ، وهي أنّ المهدى للإسلام إذا أقبل على بعض محظورات الله داخل في حكم الضلال ، والمراد بما يتقون ما يجب اتقاؤه للنهي. فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فغير موقوف على التوقيف انتهى. وفي هذا الأخير من كلامه وفي قوله : قبل في تفسير ليضل ولا يسميهم ضلالا ولا يخذلهم دسيسة الاعتزال ، وفي كلامه إسهاب ، وهو بسط ما قال مجاهد ، قال : ما كان ليضلكم بالاستغفار للمشركين بعد إذ هداكم للإيمان حتى يتقدم بالنهي عن ذلك ، ويبينه لكم فتتقوه انتهى. وتقدم في أسباب النزول ما يشرح به الآية من سؤالهم عمن مات ، وقد صلى إلى بيت المقدس ، وشرب الخمر ، ومن قصة الأعراب.

والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها وفي شرحها : أنه تعالى لما بين أنه لا يستغفر للمشركين ولو كانوا أولي قربى ، كان في هذه الآية وفي التي بعدها تباين ما بين القرابة حتى منعوا من الاستغفار لهم ، فمنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الاستغفار لعمه أبي طالب وهو الذي تولى تربيته ونصره وحفظه إلى أن مات ، ومنع ابراهيم من الاستغفار لأبيه وهو أصل نشأته ومربيه ، وكذلك منع المسلمون من الاستغفار للمشركين أقرباء وغير أقرباء ، فكأنه قيل : لا تعجب لتباين هؤلاء ، هذا خليل الله ، وهذا حبيب الله ، والأقرباء المختصون بهم المشركون أعداء الله ، فإضلال هؤلاء لم يكن إلا بعد أن أرشدهم الله إلى طريق الحق

٥١٥

بما ركز فيهم من حجج العقول التي أغفلوها ، وتبيين ما يتقون بطريق الوحي ، فتظافرت عليهم الحجج العقلية والسمعية ، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتبعوا ما جاءت الرسل به عن الله تعالى ، ولذلك ختمها بقوله : إن الله بكل شيء عليم ، فيضل من يشاء ويختص بالهداية من يشاء. فالمعنى : وما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي : يجتنبونه فلا يجدي ذلك فيهم ، فحينئذ يدوم إضلالهم. ولما ذكر تعالى علمه بكل شيء ، فهو يعلم ما يصلح لكل أحد ، وما هيىء له في سابق الأزل ، ذكر ما دل على القدرة الباهرة من أنه له ملك السموات والأرض ، فيتصرف في عباده بما شاء ، ثم ذكر من أعظم تصرفاته الإحياء والإماتة أي : الإيجاد والإعدام. وتفسير الطبري هنا قوله : يحيي ويميت ، بأنه إشارة إلى أنه يجب للمؤمنين أن لا يجزعوا من عدو وإن كثر ، ولا يهابوا أحدا فإنّ الموت المخوف ، والحياة المحتومة إنما هي بيد الله ، غير مناسب هنا وإن كان في نفسه قولا صحيحا. وتقدم شرح قوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١) في البقرة.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) : لما تقدم الكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك ، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم ، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار ، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم ، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم ، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك ، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة ويطيلون فيها ، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه.

قال ابن عطية : التوبة من الله رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه ، وقد يكون في الأكثر رجوعا عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة ، وقد يكون رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها. وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها ، إلى حالة بعد ذلك أكمل منها. وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٧.

٥١٦

الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا. وقال الزمخشري : تاب الله على النبي كقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١) (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (٢) وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى ، وأنّ صفة الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح. وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٣) انتهى. وقيل : لا يبعد إن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في قبول التوبة. اتبعوه : أي اتبعوا أمره ، فهو من مجاز الحذف. ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج ، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي : في وقت العسرة ، والتباعة مستعارة للزمان المطلق ، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم. قال :

غداة طفت علماء بكر بن وائل

عشية قارعنا جذام وحميرا

وآخر :

إذا جاء يوما وارثي يبتغي الغنى

وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة ، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة ، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة ، وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة ، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة العسرة. والعسرة : الضيق والشدة والعدم ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلب الدنانير بيده وقال : «وما على عثمان ما عمل بعد هذا» وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من بر. وقال مجاهد ، وقتادة ، والحسن : بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر ، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين ،

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٢.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٤٠. ومحمد : ٤٧ / ٤٧.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٤٣.

٥١٧

وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ، ثم يفعل بها كلهم ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرفع يديه يدعو ، فما رجعهما حتى انكسبت سحابة ، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر. وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل ، فأمر بجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير ، فدعا فيه بالبركة ثم قال : «خذوا في أوعيتكم فملأوها حتى لم يبق وعاء» وأكل القوم كلهم حتى شبعوا ، وفضلت فضلة. وكان الجيش ثلاثين ألفا وزيادة ، وهي آخر مغازيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيها خلف عليا بالمدينة. وقال المنافقون خلفه بغضا له ، فأخبره بقولهم فقال : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى»؟ ووصل صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أوائل بلاد العدو ، وبث السرايا ، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف.

(يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ) قال الحسن : همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة. وقيل : زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة ، لما رأته من شدّة العسرة وقلة الوفر ، وبعد الشقة ، وقوة العدو المقصود. وقال ابن عباس : تزيغ ، تعدل عن الحق في المبايعة. وكاد تدل على القرب ، لا على التلبس بالزيغ. وقرأ حمزة وحفص : يزيغ بالياء ، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن ، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر ، لأنّ النية به التأخير. ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد ، وتزيغ الخبر وسط بينهما ، كما فعل ذلك بكان. قال أبو علي : ولا يجوز ذلك في عسى ، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار ، أي من بعد ما كاد هو أي : الجمع. وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء ، كأنه قال : من بعد ما كاد القوم. وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النحو : من أنّ خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعا رافعا ضمير اسمها. فبعضهم أطلق ، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة ، ولا يكون سببا ، وذلك بخلاف كان. فإنّ خبرها يرفع الضمير ، والسبي لاسم كاد ، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر ، والمرفوع ليس ضميرا يعود على اسم كاد بل ولا سببا له ، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضا. وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا

٥١٨

التركيب في مثل كان : يقوم زيد ، وفيه خلاف ، والصحيح المنع. وأما توجيه الآخر فضعيف جدا من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم ، ومن حيث يكون خبر كاد واقعا سببيا ، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة ، ومعناها مراد ، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل كان إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : من بعد ما زاغت ، بإسقاط كاد. وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) (١) مع تأثيرها للعامل ، وعملها هي. فأحرى أن يدعي زيادتها ، وهي ليست عاملة ولا معمولة.

وقرأ الأعمش والجحدري : تزيغ برفع التاء. وقرأ أبي : من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم ، الضمير في عليهم عائد على الأولين ، أو على الفريق فالجملة كرّرت تأكيدا. أو يراد بالأول إنشاء التوبة ، وبالثاني استدامتها. أو لأنه لما ذكر أنّ فريقا منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانيا رفعا لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة ، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم. والثلاثة الذين خلفوا تقدمت أسماؤهم ، ومعنى خلفوا عن الغزو غزو تبوك قاله : قتادة. أو خلفوا عن أبي لبابة وأصحابه ، حيث تيب عليهم بعد التوبة على أبي لبابة وأصحابه إرجاء أمرهم خمسين يوما ثم قبل توبتهم. وقد ردّ تأويل قتادة كعب بن مالك بنفسه فقال : معنى خلفوا تركوا عن قبول العذر ، وليس بتخلفنا عن الغزو. وقرأ الجمهور : خلفوا بتشديد اللام مبنيا للمفعول. وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام. وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي ، وذر بن حبيش ، وعمرو بن عبيد ، ومعاذ القاري ، وحميد : بتخفيف اللام مبنيا للفاعل ، ورويت عن أبي عمرو أي : خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا من الخالفة. وقرأ أبو العالية وأبو الجوزاء كذلك مشدّد اللام. وقرأ أبو زيد ، وأبو مجلز ، والشعبي ، وابن يعمر ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ، ومحمد الباقر ، وابنه جعفر الصادق : خالفوا بألف أي : لم يوافقوا على الغزو. وقال الباقر : ولو خلفوا لم يكن لهم. وقرأ الأعمش : وعلى الثلاثة المخلفين ، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير ، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف. حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تقدم تفسير نظيرها في هذه السورة في قصة حنين. وضاقت عليهم أنفسهم استعارة ، لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وخرجت عن فرط الوحشة والغم ، وظنوا أي : علموا. قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : أيقنوا ، كما قالوا في قول الشاعر :

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٤٠.

٥١٩

فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج

سراتهم في الفارسي المسرّد

وقال قوم : الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين ، لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن ، أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة ، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة. وجاءت هذه الجمل في كنف إذا في غاية الحسن والترتيب ، فذكر أولا ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم ، ونبوة الناس عن كلامهم. وثانيا وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم ، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع ، فذكر أولا ضيق المحل ، ثم ثانيا ضيق الحال فيه ، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة سم الخياط مع المحبوب ميدان. ثم ثالثا لما يئسوا من الخلق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه ، وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) (١) وإذا إن كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره : تاب عليهم ، ويكون قوله : ثم تاب عليهم ، نظير قوله : ثم تاب عليهم ، بعد قوله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) (٢) الآية. ودعوى أنّ ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جدا ، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم. ومن زعم أنّ إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله : خلفوا أي : خلفوا إلى هذا الوقت ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا ، أو ليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علما منهم أنّ الله توّاب على من تاب ، ولو عاد في اليوم مائة مرة. وقيل : معنى ليتوبوا ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها. وقيل : ليتوبوا ، ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم من الاختلاط بالمؤمنين ، وتستكن نفوسهم عند ذلك. قال ابن عطية : وقوله : ثم تاب عليهم ليتوبوا ، لمّا كان هذا القول في تعديد نعمه بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله تعالى ليكون ذلك منبّها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٣) ليكون هذا أشد تقريرا للذنب عليهم ، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه. وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها أنها تكمل مع

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٥٣.

(٢) سورة الصف : ٦١ / ٥.

(٣) سورة الصف : ٦١ / ٥.

٥٢٠