البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

وقيل : المراد بالخيرات هنا الحور العين. وقيل : المراد بها الغنائم من الأموال والذراري. وقيل : أعدّ الله لهم جنات ، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم.

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الأعراب. قرأ الجمهور : المعذرون بفتح العين وتشديد الذال ، فاحتمل وزنين : أحدهما : أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه : تكلف العذر ولا عذر له ، ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أنّ له عذرا فيما يفعل ولا عذر له. والثاني : أن يكون وزنه افتعل ، وأصله اعتذر كاختصم ، فأدغمت التاء في الذال. ونقلت حركتها إلى العين ، فذهبت ألف الوصل. ويؤيده قراءة سعيد بن جبير : المعتذرون بالتاء من اعتذر. وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل. الأخفش ، والفراء ، وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، والزجاج ، وابن الأنباري. وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، والضحاك ، والأعرج ، وأبو صالح ، وعيسى بن هلال ، ويعقوب ، والكسائي ، في رواية المعذرون من أعذر. وقرأ مسلمة : المعذرون بتشديد العين والذال ، من تعذر بمعنى اعتذر. قال أبو حاتم : أراد المتعذرين ، والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج ، وهي غلط منه أو عليه. واختلف في هؤلاء المعذرين أهم مؤمنون أم كافرون؟ فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة : هو مؤمنون ، وأعذارهم صادقة. وقال قتادة وفرقة : هم كافرون وأعذارهم كذب. وكان ابن عباس يقول : رحم الله المعذرين ولعن المعذرين. قيل : هم أسد وغطفان قالوا. إن لنا عيالا وأن بنا جهدا ، فأذن لهم في التخلف. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك غارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سيغني الله عنكم» وعن مجاهد : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى. قال ابن إسحاق : نفر من غفار منهم خفاف بن إيماء ، وهذا يقتضي أنهم مؤمنون ، والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين كما قال ابن عباس ، لأن التقسيم يقتضي ذلك. ألا ترى إلى قوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) فلو كان الجميع كفارا لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص ، وكان يكون التركيب سيصيبهم عذاب أليم. ويحتمل أن يكونوا كفارا كما قال قتادة ، فانقسموا إلى جاء معتذر وإلى قاعد ، واستؤنف إخبار بما يصيب

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٩٠.

٤٨١

الكافرين. ويكون الضمير في منهم عائدا على الأعراب ، أو يكون المعنى : سيصيب الذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي ، وفي الآخرة بالنار. وقرأ الجمهور : كذبوا بالتخفيف أي : في إيمانهم فأظهروا ضد ما أخفوه. وقرأ أبيّ والحسن في المشهور عنه : ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالى ولا رسوله ، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) : لما ذكر حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ، ذكر حال من له عذر في تركه. والضعفاء جمع ضعيف وهو الهرم ، ومن خلق في أصل البنية شديد المخافة والضؤولة ، بحيث لا يمكنه الجهاد. والمريض من عرض له المرض ، أو كان زمنا ويدخل فيه العمى والعرج. والذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء. قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو ، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو ، فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلّا عليهم ، كان له في ذلك ثواب جزيل. فقد كان عمرو بن الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار ، وهو في أول الجيش ، وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قد عذرك» فقال : والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة. وكان ابن أم مكتوم أعمى ، فخرج إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه ، فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى ، فضربت فأمسكه بصدره. وقرأ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (١) وشرط في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله ، وهو أن يكون نياتهم وأقوالهم سرا وجهرا خالصة لله من الغش ، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين ، داعية لهم بالنصر والتمكين. ففي سنن أبي داود «لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا هم معكم فيه» قالوا : يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال : «حبسهم العذر». وقرأ أبو حيوة : إذا نصحوا الله ورسوله بنصب الجلالة ، والمعطوف ما على المحسنين من سبيل أي : من لائمة تناط بهم أو عقوبة. ولفظ المحسنين عام يندرج فيه

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.

٤٨٢

هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم ، وقيل : المحسنين هنا المعذورون الناصحون ، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس. وإن المحسن هو المسلم ، لانتفاء جميع السبيل ، فلا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا بدليل منفصل ، فيكون يخص هذا العام الدال على براءة الذمة. وقال الكرماني : المحسنين هم الذين أطاعوا الله ورسوله في أقوالهم وأفعالهم ، ثم أكد الرجاء فقال : والله غفور رحيم ، وقراءة ابن عباس : والله لأهل الإساءة غفور رحيم على سبيل التفسير ، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف. قيل : وقوله : ما على المحسنين من سبيل ، فيه نوع من أنواع البديع يسمى : التمليح ، وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر ، أو شعر نادر ، أو قصة مشهورة ، أو ما يجري مجرى المثل. ومنه قول يسار بن عدي حين بلغه قتل أخيه ، وهو يشرب الخمر :

اليوم خمر ويبدو في غد خبر

والدهر من بين إنعام وإيئاس

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) ، معطوف على ما قبله ، وهم مندرجون في قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وأنهم بالغوا في تحصيل ما يخرجون به إلى الجهاد حتى أفضى بهم الحال إلى المسألة ، والحاجة لبذل ماء وجوههم في طلب ما يحملهم إلى الجهاد ، والاستعانة به حتى يجاهدوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يفوتهم أجر الجهاد. ويحتمل أن لا يندرجوا في قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، بأن يكون هؤلاء هم الذين وجدوا ما ينفقون ، إلا أنهم لم يجدوا المركوب ، وتكون النفقة عبارة عن الزاد لا عبارة عما يحتاج إليه المجاهد من زاد ومركوب وسلاح وغير ذلك مما يحتاج إليه. وهذه نزلت في العرباض بن سارية. وقيل : في عبد الله بن مغفل. وقيل : في عائذ بن عمرو. وقيل : في أبي موسى الأشعري ورهطه. وقيل : في تسعة نفر من بطون شتى فهم البكاءون وهم : سالم بن عمير من بني عمرو من بني عوف ، وحرمي بن عمرو من بني واقف ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار ، وسلمان بن صخر من بني المعلى وأبو رعيلة عبد الرحمن بن زيد بن بني حارثة ، وعمرو بن غنمة من بني سلمة ، وعائذ بن عمرو المزني. وقيل : عبد الله بن عمرو المزني. وقال مجاهد : البكاءون هم بنو بكر من مزينة. وقال الجمهور : نزلت في بني مقرن ، وكانوا ستة إخوة صحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس في الصحابة ستة إخوة غيرهم. ومعنى لتحملهم أي : على ظهر مركب ، ويحمل عليه أثاث المجاهد. قال معناه : ابن عباس. وقال أنس بن مالك :

٤٨٣

لتحملهم بالزاد. وقال الحسن بن صالح : بالبغال. وروي أنّ سبعة من قبائل شتى قالوا : يا رسول الله قد ندبتنا إلى الخروج معك ، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك فقال : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فتولوا وهم يبكون.

وقرأ معقل بن هارون : لنحملهم بنون الجماعة ، وإذا تقتضي جوابا. والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو قلب ، ويكون قوله : تولوا جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل : فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول؟ قيل : تولوا وأعينهم تفيض. وقيل : جواب إذا تولوا ، وقلب جملة في موضع الحال من الكاف ، أي : إذا ما أتوك قائلا لا أجد ، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله : حصرت صدورهم قاله الزمخشري. أو على حذف حرف العطف أي : وقلت ، قاله الجرجاني وقاله ابن عطية وقدره : فقلت بالفاء وأعينهم تفيض جملة حالية. قال الزمخشري : (فإن قلت) : فهل يجوز أن يكون قوله : قلت لا أجد استئنافا مثله يعني : مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف؟ كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا ، فقيل : ما لهم تولوا باكين؟ قلت : لا أجد ما أحملهم عليه ، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض (قلت) : نعم ، ويحسن انتهى. ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب ، فكيف في كلام الله وهو فهم أعجمي؟ وتقدّم الكلام على نحو وأعينهم تفيض من الدمع في أوائل حزب (لَتَجِدَنَّ) (١) من سورة المائدة. وقال الزمخشري : هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك : تفيض دمعا ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض. ومن للبيان كقولك : أفديك من رجل ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز انتهى. ولا يجوز ذلك لأنّ التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن ، وأيضا فإنه معرفة ، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة. وانتصب حزنا على المفعول له ، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء : أو مصدر في موضع الحال. وأن لا يجدوا مفعول له أيضا ، والناصب له حزنا ، قال أبو البقاء : ويجوز أن يتعلق بتفيض انتهى. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزنا مفعولا له والعامل فيه تفيض ، لأنّ العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. وقوله : أن لا يجدوا ما ينفقون فيه دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٨٢.

٤٨٤

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ

٤٨٥

عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)

٤٨٦

وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)

الأعراب صيغة جمع ، وفرق بينه وبين العرب. فالعربي من له نسب في العرب ، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ ، ما كان من العرب أو من مواليهم. فالعربي من له نسب في العرب ، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ ، كان من العرب أو من مواليهم. وللفرق نسب إليه على لفظه فقيل : الأعرابي ، وجمع الأعراب على الأعارب جمع الجمع.

أجدر أحق وأحرى ، قال الليث : جدر جدارة فهو جدير وأجدر ، به يؤنث ويثنى ويجمع. قال الشاعر :

نخيل عليها جنة عبقرية

جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا

٤٨٧

أسس على وزن فعل مضعف العين ، وآسس على وزن فاعل وضع الأساس وهو معروف ، ويقال فيه : أس. والجرف : البئر التي لم تطو ، وقال أبو عبيدة : الهوة وما يجرفه السيل من الأودية. هار : منهال ساقط يتداعى بعضه في إثر بعض ، وفعله هار يهور ويهار ويهير ، فعين هار يحتمل أن تكون واوا أو ياء ، فأصله هاير أو هاور فقلبت ، وصنع به ما صنع بقاض وغاز ، وصار منقوصا مثل شاكي السلاح ولاث قال : لاث به الآشاء والعبريّ. وقيل : هار محذوف العين لفرعله ، فتجري الراء بوجوه الإعراب. وحكى الكسائي : تهور وتهير. أواه كثير قول أوّه ، وهي اسم فعل بمعنى أتوجع ووزنه فعال للمبالغة. فقياس الفعل أن يكون ثلاثيا ، وقد حكاه قطرب : حكى آه يؤوه أوها كقال يقول قولا ونقل عن النحويين أنهم أنكروا ذلك وقالوا : ليس من لفظ أوه فعل ثلاثي ، إنما يقال : أوّه تأويها وتأوّه تأوها. قال الراجز : فأوه الداعي وضوضأ أكلبه.

وقال المثقب العبدي :

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوه آهة الرجل الحزين

وفي أوه اسم الفعل لغات ذكرت في علم لنحو. الظمأ : العطش الشديد ، وهو مصدر ظمىء يظمأ فهو ظمآن وهي ظمآن ، ويمد فيقال ظماء. الوادي : ما انخفض من الأصل مستطيلا كمحاري السيول ونحوها ، وجمعته العرب على أودية وليس بقياسه ، قال تعالى : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (١) وقياسه فواعل ، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين. قال النحاس : ولا أعرف فاعلا أفعلة سواه ، وذكر غيره ناد وأندية قال الشاعر :

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل

والنادي : المجلس ، وحكى الفراء في جمعه أوداء ، كصاحب وأصحاب قال جرير :

عرفت ببرقة الأوداء رسما

مجيلا طال عهدك من رسوم

وقال الزمخشري : الوادي كل منعرج من جبال وآكام يكون منفذا للسيل ، وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ، ومنه الودي. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض تقول : لا تصل في وادي غيرك.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٧.

٤٨٨

اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين ، فدل لأجل المقابلة أنّ هؤلاء مسيئون ، وأي إساءة أعظم من النفاق والتخلف عن الجهاد والرغبة بأنفسهم عن رسول الله ، وليست إنما للحصر ، إنما هي للمبالغة في التوكيد ، والمعنى : إنما السبيل في اللائمة والعقوبة والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم ، وكان خبر السبيل على وإن كان قد فصل بإلى كما قالت :

هل من سبيل إلى خمر فاشربها

أم من سبيل إلى نصر بن حجاج

لأنّ على تدل على الاستعلاء وقلة منعة من دخلت عليه ، ففرق بين لا سبيل لي على زيد ، ولا سبيل لي إلى زيد. وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم : عبد الله بن أبي ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وغيرهم. ورضوا : استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا في القعود بالمدينة وهم قادرون على الجهاد ، فقيل : رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف. وعطف وطبع تنبيها على أنّ السبب في تخلفهم رضاهم بالدناءة ، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا.

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : لن نؤمن لكم علة للنهي عن الاعتذار ، لأنّ عرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ، فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كفّ عنه. قد نبأنا الله من أخباركم علة لانتفاء التصديق ، لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد ، لم يمكن تصديقهم في معاذيرهم. قال ابن عطية : والإشارة بقوله : قد نبأ الله من أخباركم إلى قوله : ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم ، ونحو هذا. ونبأ هنا تعدّت إلى مفعولين كعرف ، نحو قوله : من أنبأك هذا؟ والثاني هو من أخباركم أي : جملة من أخباركم ، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم. وقيل : نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة ، والثالث محذوف اختصارا لدلالة الكلام عليه أي : من أخباركم كذبا أو نحوه. وسيرى الله توعد أي : سيراه في حال وجوده ، فيقع الجزاء منه عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقال الزمخشري : وسيرى الله عملكم أتنيبون أم تثبتون على الكفر ، ثم تردون إشارة إلى البعث من القبور والتنبؤ بأعمالهم عبارة عن جزائهم عليها. قال ابن عيسى : وسيرى لجعله من الظهور بمنزلة ما يرى ، ثم يجازى عليه. وقيل : كانوا يظهرون

٤٨٩

للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حبا وشفقة فقيل : وسيرى الله عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما. وفي ذلك دلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم ، لا تفاوت عنده في ذلك.

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) : لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف ، وأنّ سبب الحلف هو طلبتهم أن يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم ، فاعرضوا عنهم أي : فأجيبوهم إلى طلبتهم. وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس ، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق ، فتجب مباعدتهم واجتنابهم كما قال : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (١) فمن كان رجسا لا تنفع فيه المعاتبة ، ولا يمكن تطهير الرجس. ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أن يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم ، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم ، وبيّن العلة في ذلك برجسيتهم ، وبأنّ مآل أمرهم إلى النار. قال ابن عباس : فاعرضوا عنهم لا تكلموهم. وفي الخبر أنه عليه‌السلام لما قدم من تبوك قال : «لا تجالسوهم ولا تكلموهم».

قيل : إنّ هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك ، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره ، فأذن فخرجوا وقال أحدهم : ما هو إلا شحمة لأول آكل ، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : نزل فيكم قرآن فقالوا له : وما ذلك؟ قال : لا أحفظ ، إلا إنّي سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : لوددت أن أجلد مائة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «ما جاء بك»؟ فقال له : وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسفعه الريح ، وأنا في الكن. فروي أنه ممن تاب. قال ابن عطية : فاعرضوا عنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق ، وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطا. وقوله : رجس أي نتن وقذر. وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية ، ثم عطف لمحطة الآخرة. ومن حديث كعب بن مالك : أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة ، وكانوا بضعة وثمانين ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٠.

٤٩٠

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) : قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها ، وحلف ابن أبي سرح لنكونن معه على عدوه ، وطلب من الرسول أن يرضى عنه ، فنزلت ، وهنا حذف المحلوف به ، وفي قوله : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) (١) أثبت كقوله : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها) (٢) وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) (٣) فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يمينا. وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين عنهم لنفعهم في دنياهم ، لا أنّ مقصدهم وجه الله تعالى. والمراد : هي أيمان كاذبة ، وأعذار مختلفة لا حقيقة لها. وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض ، جاء الأمر بالإعراض نصا ، لأنّ الإعراض من الأمور التي تظهر للناس ، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية ، لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى ، وخرج مخرج المتردّد فيه ، وجعل جوابه انتفاء رضا الله عنهم ، فصار رضا المؤمنين عنهم أبعد شيء في الوقوع ، لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم. ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضا وهو الفسق ، وجاء اللفظ عامّا ، فيحتمل أن يراد به الخصوص كأنه قيل : فإنّ الله لا يرضى عنهم ، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول ، إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره.

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : نزلت في أعراب من أسد ، وتميم ، وغطفان. ومن أعراب حاضري المدينة أي : أشد كفرا من أهل الحضر. وإذا كان الكفر متعلقا بالقلب فقط ، فالتقدير أشد أسباب كفر ، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة. وكانوا أشد كفرا ونفاقا لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم ، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا ضابط ، فنشأوا كما شاءوا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسول الله ، ولبعدهم عن مهبط الوحي. كانوا أطلق لسانا بالكفر والنفاق من منافقي المدينة ، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين ، فكان كفرهم سرا ولا يتظاهرون به إلا تعريضا. وأجدر أي : أحق أن لا يعلموا أي بأن لا يعلموا. والحدود : هنا الفرائض. وقيل : الوعيد عل مخالفة الرسول ، والتأخر عن الجهاد. وقيل : مقادير التكاليف

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٩٥.

(٢) سورة القلم : ٦٨ / ١٧.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٩.

٤٩١

والأحكام. وقال قتادة : أقل علما بالسنن. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الجفاء والقسوة في الفدادين» والله عليم يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدبر ، حكيم فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من ثواب وعقاب.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) : نزلت في أعراب أسد ، وغطفان ، وتميم ، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات. وقيل : من الزكاة ، ولذلك قال بعضهم : ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية. وقيل : كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعا ، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده. فعل هذا المغرم إلزام ما لا يلزم. وقيل : المغرم الغرم والخسر ، وهو قول : ابن قتيبة ، وقريب من الذي قبله. وقال ابن فارس : المغرم ما لزم أصحابه والغرام اللازم ، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه. والتربص : الانتظار. والدوائر : هي المصائب التي لا مخلص منها ، تحيط به كما تحيط الدائرة. وقيل : تربص الدوائر هنا موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهور الشرك. وقال الشاعر :

تربص بها ريب المنون لعلها

تطلق يوما أو يموت حليلها

وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة ، وقوله : عليهم دائرة السوء ، دعا معترض ، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) (١) والدعاء من الله هو بمعنى إنجاب الشيء ، لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته. وقال الكرماني : عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين ، وهنا وعد للمسلمين وإخبار. وقيل : دعاء أي : قولوا عليهم دائرة السوء أي المكروه ، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام. وقيل : يدور به الفلك في سيره ، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها. وفي الحجة يجوز أن تكون الدائرة مصدرا كالعاقبة ، ويجوز أن تكون صفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر : والسوء هنا. وفي سورة الفتح ثانية بالضم ، وباقي السبعة بالفتح ، فالفتح مصدر. قال الفراء : سوأته سوأ ومساءة وسوائية ، والضم الاسم وهو الشر والعذاب ، والفتح ذم الدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا : رجل سوء في نقيض رجل صدق ، يعنون في هذا الصلاح لا صدق اللسان ، وفي

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

٤٩٢

ذلك الفساد. ومنه (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) (١) أي امرأ فاسدا. وقال المبرد : لسوء بالفتح الرداءة ، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء ، قاله أكثرهم. وقد حكي بالضم وقال الشاعر :

وكنت كذيب السوء لما رأى دما

بصاحبه يوما أحال على الدم

والله سميع لأقوالهم عليم بنياتهم.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : نزلت في بني مقرن من مزينة قاله مجاهد. وقال عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن : كنا عشرة ولد مقرن فنزلت : ومن الأعراب من يؤمن الآية يريد : الستة والسبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبينهم. وقال الضحاك : في عبد الله ذي النجادين ورهطه. وقال الكلبي : في أسلم وغفار وجهينة. ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرما ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنما ، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة. وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان ، وهو اتخاذه ما ينفق مغرما وتربصه بالمؤمنين بالدوائر. والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة ، والمعنى : يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول ، وكان يدعو للمصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم صل على آل أبي أوفى» وقال تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) (٢) والظاهر عطف وصلوات على قربات. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون وصلوات الرسول عطفا على ما ينفق ، أي : ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة. قال ابن عباس : صلوات الرسول هي استغفاره لهم. وقال قتادة : أدعيته بالخير والبركة سماها صلوات جريا على الحقيقة اللغوية ، أو لأنّ الدعاء فيها ، وحين جاء ابن أبي أوفى بصدقته قال : «آجرك الله فيما أعطيت ، وجعله لك طهورا» والضمير في أنها قيل : عائد على الصلوات. وقيل : عائد على النفقات. وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها ، والمعنى : قربة لهم عند الله. وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه ، وهو ألا وحرف التوكيد وهو أنّ. قال الزمخشري : وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأنّ الصدقة منه تعالى بمكان إذا

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٢٨.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٠٣.

٤٩٣

خلصت النية من صاحبها انتهى. وتقدم الكلام معه في دعواه أنّ السين تفيد تحقيق الوعد. وقرأ ورش : قربة بضم الراء ، وباقي السبعة بالسكون ، وهما لغتان. ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم ، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع ، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعا لما قبله ، كما قالوا : ظلمات في جمع ظلمة.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : قال أبو موسى الأشعري ، وابن المسيب ، وابن سيرين ، وقتادة : السابقون الأولون من صلى إلى القبلتين. وقال عطاء : من شهد بدرا قال : وحوّلت القبلة قبل بدر بشهرين. وقال الشعبي : من أدرك بيعة الرضوان ، بيعة الحديبية ما بين الهجرتين. ومن فسر السابقين بواحد كأبي بكر أو عليّ ، أو زيد بن حارثة ، أو خديجة بنت خويلد ، فقوله بعيد من لفظ الجمع ، وإنما يناسب ذلك في أول من أسلم. والظاهر أنّ السبق هو إلى الإسلام والإيمان. وقال ابن بحر : هم السابقون بالموت أو بالشهادة من المهاجرين والأنصار ، سبقوا إلى ثواب الله وحسن جزائه ، ومن المهاجرين والأنصار أي : ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة أولا وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. قال ابن عطية : ولو قال قائل : إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقضت الهجرة ، لكان قولا يقتضيه اللفظ ، وتكون من لبيان الجنس. والذين اتبعوهم بإحسان هم سائر الصحابة ، ويدخل في هذا اللفظ التابعون ، وسائر الأمة لكن بشرط الإحسان. وقد لزم هذا الاسم الذي هو التابعون من رأى من رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو عبد الله الرازي : الصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة والنصرة ، لأن في لفظ السابقين إجمالا ، ووصفهم بالمهاجرين والأنصار يوجب صرف ذلك إلى ما اتصف به وهي الهجرة والنصرة ، والسبق إلى الهجرة صفة عظيمة من حيث كونها شاقة على النفس ومخالفة للطبع ، فمن أقدم أولا صار قدوة لغيره فيها ، وكذلك السبق في النصرة فازوا بمنصب عظيم انتهى ملخصا.

ولما بين تعالى الصائل الأعراب المؤمنين المتصدقين ، وما أعد لهم من النعيم ، بين حال هؤلاء السابقين وما أعد لهم ، وشتان ما بين الإعدادين والثناءين ، هناك قال : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) (١) وهنا (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) ، وهناك (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) (٢) وهنا (وَأَعَدَّ لَهُمْ

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٩٩.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٩٩.

٤٩٤

جَنَّاتٍ تَجْرِي) ، وهناك ختم : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) وهنا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وقرأ عمر بن الخطاب ، والحسن ، وقتادة ، وعيسى الكوفي ، وسلام ، وسعيد بن أبي سعيد ، وطلحة ، ويعقوب ، والأنصار : برفع الراء عطفا على والسابقون ، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ. وعلى قراءة الجمهور وهي الجر ، يكونون قسمين : سابق أول ، وغير أول. ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم ، والذين اتبعوهم الضمير في القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار. والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي الله الخبر ، وجوّزوا في الخبر أن يكون الأولون أي : هم الأولون من المهاجرين. وجوزوا في قوله : والسابقون ، أن يكون معطوفا على قوله : من يؤمن أي : ومنهم السابقون. وجوزوا في والأنصار أن يكون مبتدأ ، وفي قراءة الرفع خبره رضي‌الله‌عنهم ، وذلك على وجهين. والسابقون وجه العطف ، ووجه أن لا يكون الخبر رضي الله ، وهذه أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن. وقرأ ابن كثير : من تحتها بإثبات من الجارة ، وهي ثابتة في مصاحف مكة. وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في مصاحفهم. وعن عمر أنه كان يرى : والذين اتبعوهم بإحسان ، بغير واو صفة للأنصار ، حتى قال له زيد بن ثابت : إنها بالواو فقال : ائتوني بأبيّ فقال : تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) (٢) وأوسط الحشر : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) (٣) وآخر الأنفال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) (٤). وروي أنه سمع رجلا يقرؤه بالواو فقال : من أقرأك؟ فقال : أبيّ فدعاه فقال : أقرأنيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن ثم قال عمر : لقد كنت أرانا وقعنا وقعة لا يبلغها أحد بعدنا.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) : لما شرح أحوال منافقي المدينة ، ثم أحوال منافقي الأعراب ، ثم بين أنّ في الأعراب ، من هو مخلص صالح ، ثم بين رؤساء المؤمنين من هم ذكر في هذه الآية أن منافقين حولكم من الإعراب ، وفي المدينة لا تعلمونهم أي : لا تعلمون أعيانهم ، أو لا تعلمونهم منافقين. ومعنى حولكم : حول بلدتكم وهي المدينة. والذين كانوا حول المدينة جهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، ومزينة ، وعصية ، ولحيان ، وغيرهم ممن جاوز المدينة. ومن أهل المدينة يجوز أن يكون من عطف المفردات ، فيكون معطوفا على من في قوله : وممن ، فيكون المجرور أن

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٢ / ١٩٢.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ٣.

(٣) سورة الحشر : ٥٩ / ١٠.

(٤) سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.

٤٩٥

يشتركان في المبتدأ الذي هو منافقون ، ويكون مردوا استئنافا ، أخبر عنهم أنهم خريجون في النفاق. ويبعد أن يكون مردوا صفة للمبتدأ الذي هو منافقون ، لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على وممن حولكم ، فيصير نظير في الدار زيد وفي القصر العاقل ، وقد أجازه الزمخشري تابعا للزجاج. ويجوز أن يكون من عطف الجمل ، ويقدر موصوف محذوف هو المبتدأ أي : ومن أهل المدينة قوم مردوا ، أو منافقون مردوا. قال الزمخشري : كقوله : أنا ابن جلا. انتهى. فإن كان شبهه في مطلق حذف الموصوف ، وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن ، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامه ، وهي في تقدير الاسم ، ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم : منا ظعن ومنا أقام. وأما أن ابن جلا فضرورة شعر كقوله :

يرمي بكفي كان من أرمى البشر

أي بكفي رجل. وكذلك أنا ابن جلا تقديره : أنا ابن رجل جلا أي كشف الأمور. وبينها وعلى الوجه الأول يكون مردوا شاملا للنوعين ، وعلى الوجه الثاني يكون مختصا بأهل المدينة. وتقدم شرح مردوا في قوله : (شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللهُ) (١) وقال هنا ابن عباس : مردوا ، مرنوا وثبتوا ، وقال أبو عبيدة : عتوا من قولهم تمرد. وقال ابن زيد : أقاموا عليه لم يتوبوا لا تعلمهم أي : حتى نعلمك بهم ، أو لا تعلم عواقب أمرهم ، حكاه ابن الجوزي. أو لا تعلمهم منافقين ، لأن النفاق مختص بالقلب. وتقدم لفظ منافقين فدل على المحذوف ، فتعدت إلى اثنين قاله : الكرماني. وقال الزمخشري : يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم. وأسند الطبري عن قتادة في قوله : لا تعلمهم نحن نعلمهم قال : فما بال أقوام يتكلفون علم الناس؟ فلان في الجنة ، فلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الرسل. قال نبي الله نوح : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) وقال نبي الله شعيب : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٣) وقال الله تعالى لنبيه : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) انتهى. فلو عاش قتادة إلى هذا العصر الذي هو قرن ثمانمائة وسمع ما أحدث هؤلاء المنسوبون إلى الصوف من الدعاوى

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١٧ ـ ١١٨.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١١٢.

(٣) سورة هود : ١١ / ٨٦.

٤٩٦

والكلام المبهرج الذي لا يرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتجري على الإخبار الكاذب عن المغيبات ، لقضى من ذلك العجب. وما كنت أظن أنّ مثل ما حكى قتادة يقع في ذلك الزمان لقربه من الصحابة وكثرة الخير ، لكن شياطين الإنس يبعد أن يخلو منهم زمان. نحن نعلمهم. قال الزمخشري : نطلع على سرهم ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم إبطانا ، ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروبه ، ولهم فيه اليد الطولى انتهى. وفي قوله : نحن نعلمهم تهديد وترتب عليه بقوله : سنعذبهم مرتين. والظاهر إرادة التثنية ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد ، بل يكون المعنى على التكثير كقوله : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (١) أي كرة بعد كرة. كذلك يكون معنى هذا سنعذبهم مرة بعد مرة. وإذا كانت التثنية مرادة فأكثر الناس على أنّ العذاب الثاني هو عذاب القبر ، وأما المرة الأولى فقال ابن عباس في الأشهر عنه : هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق. وروي في هذا التأويل أنه عليه‌السلام خطب يوم جمعة بدر فندر بالمنافقين وصرح وقال : «اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق ، واخرج أنت يا فلان ، واخرج أنت يا فلان» حتى أخرج جماعة منهم ، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا ، وأن الجمعة فاتته ، فاختفى منهم حياء ، ثم وصل المسجد فرأى أنّ الصلاة لم تقض وفهم الأمر. قال ابن عطية : وفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جهة التأديب اجتهاد منه فيهم ، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام ، وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون ، ولا عذاب أعظم من هذا. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين ، فهذا أيضا من العذاب انتهى. ويبعد ما قال ابن عطية لأنه نص على نفاق من أخرج بعينه ، فليس من باب إخراج العصاة ، بل هؤلاء كفار عنده وإن أظهروا الإسلام. وقال قتادة وغيره : العذاب الأول علل وأدواء أخبر الله نبيه أنه سيصيبهم بها ، وروي أنه أسرّ إلى حذيفة باثني عشر منهم وقال : «ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتا» وقال مجاهد : هو عذابهم بالقتل والجوع. قيل : وهذا بعيد ، لأن منهم من لم يصبه هذا. وقال ابن عباس أيضا : هو هو أنهم بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه. وقال ابن إسحاق : هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته. وقيل : ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم. وقال الحسن : الأول ما يؤخذ من أموالهم قهرا ، والثاني

__________________

(١) سورة الملك : ٦٧ / ٤٠.

٤٩٧

الجهاد الذي يؤمرون به قسرا لأنهم يرون ذلك عذابا. وقال ابن زيد : مرتين هما عذاب الدنيا بالأموال والأولاد كل صنف عذاب فهو مرتان ، وقرأ (فَلا تُعْجِبْكَ) (١) الآية. وقيل : إحراق مسجد الضرار ، والآخر إحراقهم بنار جهنم. ولا خلاف أن قوله : إلى عذاب عظيم هو عذاب الآخرة وفي مصحف أنس سيعذبهم بالياء ، وسكن عياش عن أبي عمر والياء.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : نزلت في عشرة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك فلما دنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة أوثق سبعة منهم. وقيل : كانوا ثمانية منهم : كردم ، ومرداس ، وأبو قيس ، وأبو لبابة. وقيل : سبعة. وقيل : ستة أوثق ثلاثة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، فيهم أبو لبابة. وقيل : كانوا خمسة. وقيل : ثلاثة أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن خذام الأنصاري. وقيل : نزلت في أبي لبابة وحده. ويبعد ذلك من لفظ وآخرون ، لأنه جمع ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد حين قدم فصلى فيه ركعتين ، وكانت عادته كلما قدم من سفر ، فرآهم موثقين فسأل عنهم : فذكروا أنهم أقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يحلهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم ، رغبوا عني ، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين» فنزلت ، فأطلقهم وعذرهم. وقال مجاهد : نزلت في أبي لبابة في شأنه مع بني قريظة حين استشاروه في النزول على حكم الله ورسوله ، فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذبحهم إن نزلوا ، فلما افتضح تاب وندم ، وربط نفسه في سارية في المسجد ، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت ، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه. والاعتراف : الإقرار بالذنب عملا صالحا توبة وندما ، وآخر سيئا. أي تخلفا عن هذه الغزاة قاله : الطبري ، أو خروجا إلى الجهاد قبل. وتخلفا عن هذه قاله : الحسن وغيره. أو توبة وإثما قاله : الكلبي. وعطف أحدهما على الآخر دليل على أنّ كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن ، فليس فيه إلا أنّ الماء خلط باللبن ، قال معناه الزمخشري : ومتى خلطت شيئا شيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به ، من حيث مدلولية الخلط ، لأنها أمر نسبي. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاء شاة ودرهما ، بمعنى شاة بدرهم.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٥٥.

٤٩٨

والاعتراف بالذنب دليل على التوبة ، فلذلك قيل : عسى الله أن يتوب عليهم. قال ابن عباس : عسى من الله واجب انتهى. وجاء بلفظ عسى ليكون المؤمن على وجل ، إذ لفظة عسى طمع وإشفاق ، فأبرزت التوبة في صورته ، ثم ختم ذلك بما دل على قبول التوبة وذلك ، صفة الغفران والرحمة. وهذه الآية وإن نزلت في ناس. مخصوصين فهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة. وقال أبو عثمان : ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم. وفي حديث الإسراء والمعراج من تخريج البيهقي : أنّ الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وتابوا رآهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول إبراهيم ، وفي ألوانهم شيء ، وأنهم خلطت ألوانهم بعد اغتسالهم في أنهر ثلاثة ، وجلسوا إلى أصحابهم البيض الوجوه.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) : الخطاب للرسول ، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت. فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله : خذ من أموالهم. والذي تظاهرت به أقوال المتأولين ابن عباس وغيره : أنها في هؤلاء المتخلفين ، وقال جماعة من الفقهاء : المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة. فقوله : على هذا من أموالهم هو لجميع الأموال ، والناس عام يراد به الخصوص في الأموال ، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب. وفي المأخوذ منهم كالعبيد ، وصدقة مطلق ، فتصدق بأدنى شيء. وإطلاق ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد. وفي قوله : خذ ، دليل على أنّ الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها. ومن أموالهم : متعلق بخذ وتطهرهم ، وتزكيهم حال من ضمير خذ ، فالفاعل ضمير خذ. وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدم كان حالا ، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة ، وأن يكون استئنافا ، وأن يكون ضمير تطهرهم عائدا على صدقة ، ويبعد هذا العطف ، وتزكيهم فيختلف الضمير أن ، فأما ما حكى مكي من أنّ تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ ، فقد ردّ بأنّ الواو للعطف ، فيكون التقدير : صدقة مطهرة ومزكيا بها ، وهذا فاسد المعنى ، ولو كان بغير واو جاز انتهى. ويصح على تقدير مبتدأ محذوف ، والواو للحال أي : وأنت تزكيهم ، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب. والتزكية مبالغة في التطهر وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال. وقرأ الحسن : تطهرهم من أطهر وأطهر وطهر للتعدية من طهر. وصلّ عليهم أي ادع لهم ، أو استغفر لهم ، أو صل عليهم إذا

٤٩٩

ماتوا ، أقوال. ومعنى سكن : طمأنينة لهم ، إنّ الله قبل صدقتهم قاله : ابن عباس. أو رحمة لهم قاله أيضا ، أو قربة قاله أيضا ، أو زيادة وقار لهم قاله : قتادة ، أو تثبيت لقلوبهم قاله : أبو عبيدة ، أو أمن لهم. قال :

يا جارة الحي إن لا كنت لي سكنا

إذ ليس بعض من الجيران أسكنني

وهذه أقوال متقاربة. وقال أبو عبد الله الرازي : إنما كانت صلاته سكنا لهم لأنّ روحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت روحا قوية مشرقة صافية ، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ثارت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم ، وصفت سرائرهم ، وانقلبوا من الظلمة إلى النور ، ومن الجسمانية إلى الروحانية. قال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان عرف بابن النقيب في كتابه التحرير والتحبير : كلام الرازي كلام فلسفي يشير فيه إلى أنّ قوى الأنفس مؤثرة فعالة ، وذلك غير جائز على طريقة أهل التفسير انتهى. وقال الحسن وقتادة : في هؤلاء المعترفين المأخوذ منهم الصدقة هم سوى الثلاثة الذين خلفوا. وقرأ الأخوان وحفص : إن صلاتك هنا ، وفي هود صلاتك بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع. والله سميع باعترافهم ، عليم بندامتهم وتوبتهم.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) : قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون ، فنزلت. وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه : ألم تعلموا بالتاء على الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطابا للمتخلفين الذين قالوا : ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء؟ واحتمل أن يكون على معنى : قل لهم يا محمد ، وأن يكون خطابا على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول ، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء. وهو تخصيص وتأكيد أنّ الله من شأنه قبول توبة من تاب ، فكأنه قيل : أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة ، ويقبل الصدقات الخالصة النية لله؟ وقيل : وجه التخصيص بهو ، هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره ، فاقصدوه ووجهوها إليه. قال الزجاج : وأخذ الصدقات معناه قبولها ، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل ، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة ، فيأخذها الله بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل. وقال ابن عطية : المعنى يأمر بها ويشرعها كما تقول : أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على

٥٠٠