البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

لا يترتب على المستقبل ، فالذي يظهر الوجه الأول. ومعنى إخراج الذين كفروا إياه : فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة. ونسب الإخراج إليهم مجازا ، كما نسب في قوله : (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) (١) وقصة خروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر مذكورة في السير. وانتصب ثاني اثنين على الحال أي : أحد اثنين وهما : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر رضي‌الله‌عنه.

وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه‌السلام : «من يخرج معي؟» قال : أبو بكر. وقال الليث : ما صحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أبي بكر. وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : ألا تنصروه. قال ابن عطية : بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام. وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصرة دين الله ، إذ بين فيها أنّ الله ينصره كما نصره ، إذ كان في الغار وليس معه فيه أحد سوى أبي بكر. وقرأت فرقة : ثاني اثنين بسكون ياء ثاني. قال ابن جني : حكاها أبو عمرو ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف. والغار : نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة ، مكث فيه ثلاثا. إذ هما : بدل. وإذ يقول : بدل ثان. وقال العلماء : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله تعالى ، وليس ذلك لسائر الصحابة. وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاه الرسول تسكينا لقلبه ، وأخبره بقوله : إن الله معنا ، يعني : بالمعونة والنصر. وقال أبو بكر : يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد ، وإن قتلت هلكت الأمة وذهب دين الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» وقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه :

قال النبي ولم يجزع يوقرني

ونحن في سدف من ظلمة الغار

لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا

وقد تكفل لي منه بإظهار

وإنما كيد من تخشى بوارده

كيد الشياطين قد كادت لكفار

والله مهلكهم طرا بما صنعوا

وجاعل المنتهى منهم إلى النار

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قال ابن عباس : السكينة الرحمة. وقال قتادة في

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ١٣.

٤٢١

آخرين : الوقار. وقال ابن قتيبة : الطمأنينة. وهذه الأقوال متقاربة. والضمير في عليه عائد على صاحبه ، قاله حبيب بن أبي ثابت ، أو على الرسول قاله الجمهور ، أو عليهما. وأفرده لتلازمهما ، ويؤيده أنّ في مصحف حفصة : فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما. والجنود : الملائكة يوم بدر ، والأحزاب ، وحنين. وقيل : ذلك الوقت يلقون البشارة في قلبه ، ويصرفون وجوه الكفار عنه. والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبي بكر ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ثابت الجأش ، ولذلك قال : لا تحزن إن الله معنا. وأنّ الضمير في وأيده عائد على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاء : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (١) يعني الرسول ، وتسبحوه : يعني الله تعالى. وقال ابن عطية : والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم ، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢) ويحتمل أن يكون قوله : فأنزل الله سكينته إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح ، لا أن يكون هذا يختص بقصة الغار. وكلمة الذين كفروا هي الشرك ، وهي مقهورة. وكلمة الله : هي التوحيد ، وهي ظاهرة. هذا قول الأكثرين. وعن ابن عباس : كلمة الكافرين ما قرروا بينهم من الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله : أنه ناصره. وقيل : كلمة الله لا إله إلا الله ، وكلمة الكفار قولهم في الحرب : يا لبني فلان ، ويا لفلان. وقيل : كلمة الله قوله تعالى : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٣) وكلمة الذين كفروا قولهم في الحرب : أعل هبل ، يعنون صنمهم الأكبر. وقرأ مجاهد وأيده والجمهور وأيده بتشديد الياء. وقرىء : وكلمة الله بالنصب أي : وجعل. وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار. وعن أنس رأيت في مصحف أبيّ : وجعل كلمته هي العلياء ، وناسب الوصف بالعزة الدالة على القهر والغلبة ، والحكمة الدالة على ما يصنع مع أنبيائه وأوليائه ، ومن عاداهم من إعزاز دينه وإخماد الكفر.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : لما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضرب له من الأمثال ما ضرب ، أتبعه بهذا الأمر الجزم. والمعنى : انفروا على الوصف الذي يحف عليكم فيه الجهاد ، أو على الوصف الذي يثقل. والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ،

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٨.

(٣) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢١.

٤٢٢

ومن يمكنه بصعوبة ، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا. وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أعليّ أن أنفر؟ قال : نعم ، حتى نزلت : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) (١) وذكر المفسرون من معاني الخفة والثقل أشياء لا على وجه التخصيص بعضها دون بعض ، وإنما يحمل ذلك على التمثيل لا على الحصر. قال الحسن وعكرمة ومجاهد : شبابا وشيوخا. وقال أبو صالح : أغنياء وفقراء في اليسر والعسر. وقال الأوزاعي : ركبانا ومشاة. وقيل : عكسه. وقال زيد بن أسلم : عزبانا ومتزوجين. وقال جويبر : أصحاء ومرضى. وقال جماعة : خفافا من السلاح أي مقلين فيه ، وثقالا أي مستكثرين منه. وقال الحكم بن عيينة وزيد بن علي : خفافا من الإشغال وثقالا بها. وقال ابن عباس : خفافا من العيال ، وثقالا بهم. وحكى التبريزي : خفافا من الأتباع والحاشية ، ثقالا بهم. وقال علي بن عيسى : هو من خفة اليقين وثقله عند الكراهة. وحكى الماوردي : خفافا إلى الطاعة ، وثقالا عن المخالفة. وحكى صاحب الفتيان : خفافا إلى المبارزة ، وثقالا في المصابرة. وحكى أيضا : خفافا بالمسارعة والمبادرة ، وثقالا بعد التروي والتفكر. وقال ابن زيد : وقال ابن زيد : ذوي صنعة وهو الثقيل ، وغير ذوي صنعة وهو الخفيف. وحكى النقاش : شجعانا وجبنا. ويقل : مهازيل وسمانا. وقيل : سباقا إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش ، والثقال الجيش بأسره. وقال ابن عباس وقتادة : النشيط والكسلان. والجمهور على أن الأمر موقوف على فرض الكفاية ، ولم يقصد به فرض الأعيان. وقال الحسن وعكرمة : هو فرض على المؤمنين عنى به فرض الأعيان في تلك المدة ، ثم نسخ بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) (٢) وانتصب خفافا وثقالا على الحال. وذكر بأموالكم وأنفسكم إذ ذلك وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفعه عند الله ، فحض على كمال الأوصاف وقدّمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل الله. والخيرية هي في الدنيا بغلبة العدو ، ووراثة الأرض ، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله. وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر ومات فيه ، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه ، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه ، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى.

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) : أي لو كان ما

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٦١.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢٢.

٤٢٣

دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال ، وسفرا قاصدا وسطا مقاربا. وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا ، واعتذر منهم فريق لأصحابه ، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة. وليس قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ) (١) خطابا للمنافقين خاصة ، بل هو عام. واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم. لا تبعوك : لبادروا إليه ، لا لوجه الله ، ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة أي : المسافة الطويلة في غزو الرّوم. والشّقة بالضم من الثياب ، والشقة أيضا السفر البعيد ، وربما قالوه بالكسر قاله : الجوهري. وقال الزجاج : الشقة الغاية التي تقصد. وقال ابن عيسى : الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها. وقال ابن فارس : الشقة المسير إلى أرض بعيدة ، واشتقاقها من الشق ، أو من المشقة. وقرأ عيسى بن عمر : بعدت عليهم الشّقة بكسر العين والشين ، وافقه الأعرج في بعدت. وقال أبو حاتم : إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى. وحكى الكسائي : شقة وشقة. وسيحلفون : أي المنافقون ، وهذا إخبار بغيب. قال الزمخشري في قوله : وسيحلفون بالله ، ما نصه بالله متعلق بسيحلفون ، أو هو من كلامهم. والقول مراد في الوجهين أي : سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين ، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا. وقوله : لخرجنا سدّ مسدّ جواب القسم. ولو جميعا والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم ، وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة ، واستطاعة الأبدان ، كأنهم تمارضوا انتهى. وما ذهب إليه من أنّ قوله : لخرجنا ، سدّ مسدّ جواب القسم. ولو جميعا ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان : أحدهما : إن لخرجنا هو جواب القسم ، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط ، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور. والآخران لخرجنا هو جواب لو ، وجواب القسم هو لو وجوابها ، وهذا اختيار ابن مالك. إن لخرجنا يسد مسدهما ، فلا أعلم أحدا ذهب إلى ذلك. ويحتمل أن يتأوّل كلامه على أنه لما حذف جواب لو ، ودل عليه جواب القسم جعل ، كأنه سدّ مسدّ جواب القسم وجواب لو جميعا.

وقرأ الأعمش وزيد بن علي : لو استطعنا بضم الواو ، فرّ من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن : بفتحها كما جاء :

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٣٨.

٤٢٤

(اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) (١) بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب ، أي : يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى. وقال الزمخشري : يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلا من سيحلفون ، أو حالا بمعنى مهلكين. والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب ، وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالا من قوله : لخرجنا أي ، لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة ، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل : سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدا؟ يقال : حلف بالله ليفعلن ولأفعلن ، فالغيبة على حكم الإخبار ، والتكلم على الحكام انتهى. أما كون يهلكون بدلا من سيحلفون فبعيد ، لأن الإهلاك ليس مرادفا للحلف ، ولا هو نوع من الحلف ، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفا له أو نوعا منه. وأما كونه حالا من قوله : لخرجنا ، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز ، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم ، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم. فلو كان حالا من ضمير لخرجنا لكان التركيب : نهلك أنفسنا أي : مهلكي أنفسنا. وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ فليس بصحيح ، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم ، لو قلت : حلف زيد ليفعلن وأنا قائم ، على أن يكون وأنا قائم حالا من ضمير ليفعلن لم يجز ، وكذا عكسه نحو : حلف زيد لأفعلن يقوم ، تريد قائما لم يجز. وأما قوله : وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبرا عنهم بقوله : لو استطعنا لخرجنا معكم ، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدا إلى آخره كلام صحيح ، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخبارا عنهم ، بل حكاية. والحال من جملة كلامهم المحكي ، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت : قال زيد : خرجت يضرب خالدا ، تريد اضرب خالدا ، لم يجز. ولو قلت : قالت هند : خرج زيد أضرب خالدا ، تريد خرج زيد ضاربا خالدا ، لم يجز.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) : قال ابن عطية : هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق. واستأذنوا دون اعتذار منهم : عبد الله بن أبيّ ، والجد بن قيس ، ورفاعة بن التابوت ، ومن اتبعهم. فقال بعضهم : ائذن لي ولا تفتني.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦.

٤٢٥

وقال بعضهم : ائذن لنا في الإقامة ، فأذن لهم استبقاء منه عليهم ، وأخذا بالأسهل من الأمور ، وتوكلا على الله. قال مجاهد : قال بعضهم : نستأذنه ، فإن أذن في القعود قعدنا ، وإن لم يأذن قعدتا ، فنزلت الآية في ذلك انتهى. وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه : ذهب ناس إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاتب بهذه الآية ، وحاشاه من ذلك ، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما قال : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة» لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل. وقد قال الله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) (١) لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي. واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا ، اختار أيسر الأمرين تكرما وتفضلا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم ، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة ، فعفا الله عنك عنده افتتاح كلام أعلمه الله به ، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن ، وليس هو عفوا عن ذنب ، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» وما وجبتا قط ومعناه : ترك أن يلزمكم ذلك انتهى. ووافقه عليه قوم فقالوا : ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب ، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره ، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون : أصلح الله الأمير كان كذا وكذا ، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر ، ومعناه الدعاء انتهى.

ولم ولهم متعلقان بأذنت ، لكنه اختلف مدلول اللامين ، إذ لام لم للتعليل ، ولام لهم للتبليغ ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما. ومتعلق الإذن غير مذكور ، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي : لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له. وقيل : متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو ، لما ترتب على خروجهم من المفاسد ، لأنهم كانوا عينا للكفار على المسلمين. ويدل عليه قوله : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (٢) وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل : لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة؟ وبيّن أنّ خروجهم معه ليس مصلحة بقوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) (٣). وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي : ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر ، هكذا قدره الحوفي. وقال أبو البقاء : حتى يتبين

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥١.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٤٧.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٤٧.

٤٢٦

متعلق بمحذوف دل عليه الكلام تقديره : هلّا أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين. وقوله : لم أذنت لهم يدل على المحذوف. ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت ، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التبيين ، وهذا لا يعاتب عليه انتهى. وكلام الزمخشري في تفسير قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم ، مما يجب اطراحه ، فضلا عن أن يذكر فيردّ عليه. وقوله : الذين صدقوا أي : في استئذانك. وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك. وتعلم الكاذبين : تريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة ، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن. وقال الطبري : حتى تعلم الصادقين في أنّ لهم عذرا ، وتعلم الكاذبين في أن الأعذار لهم. وقال قتادة : نزلت بعد هذه الآية آية النور ، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم. وهذا غلط ، لأنّ النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين الرسول في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح الله أن يأذن ، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى.

(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) : قال ابن عباس : لا يستأذنك أي بعد غزوة تبوك. وقال الجمهور : ليس كذلك ، لأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها ورد في قصة تبوك ، والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا أي : ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار لا يستأذنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا ، ويقولون : لنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا. وقيل : التقدير لا يستأذنك المؤمنون في الخروج ولا القعود كراهة أن يجاهدوا ، بل إذا أمرت بشيء ابتدروا إليه ، وكان الاستئذان في ذلك الوقت علامة على النفاق. وقوله : والله عليم بالمتقين ، شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين ، وعدة لهم بأجزل الثواب.

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) : هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلا. ومعنى ارتابت : شكت. ويتردّدون : يتحيرون ، لا يتجه لهم هدى فتارة يخطر لهم صحة أمر الرسول ، وتارة يخطر لهم خلاف ذلك.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) قال ابن عباس : عدّة من الزاد والماء والراحلة ، لأنّ سفرهم بعيد في زمان حر شديد. وفي تركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف. وقال قوم : كانوا قادرين على

٤٢٧

تحصيل العدّة والأهبة. وروى الضحاك عن ابن عباس : العدّة النية الخالصة في الجهاد. وحكى الطبري : كل ما يعد للقتال من الزاد والسلاح. وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية : عدّ بضم العين من غير تاء ، والفراء يقول : تسقط التاء للإضافة ، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة. وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب ، ولكن لا يقيس ذلك ، إنما نقف فيه مع مورد السماع. قال صاحب اللوامح : لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها ، وذلك لأنّ العد بغير تاء ، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه. وقال أبو حاتم : هو جمع عدة كبرة وبر ودرة ودر ، والوجه فيه عدد ، ولكن لا يوافق خط المصحف. وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم : عده بكسر العين ، وهاء إضمار. قال ابن عطية : وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد ، وسمي قتلا إذ حقه أن يقتل. وقرىء أيضا : عدة بكسر العين ، وبالتاء دون إضافة أي : عدة من الزاد والسلاح ، أو مما لهم مأخوذ من العدد. ولما تضمنت الجملة انتفاء الخروج والاستعداد ، وجاء بعدها ولكن ، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه ، لا بين متفقين ، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقا لما قبلها.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف موقع حرف الاستدراك؟ (قلت) : لما كان قوله : ولو أرادوا الخروج معطيا معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل : ولكن كره الله انبعاثهم ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ انتهى. وليست الآية نظير هذا المثال ، لأنّ المثال واقع فيه لكن بين ضدين ، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى ، والانبعاث الانطلاق والنهوض. قال ابن عباس : فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم. وبنى وقيل للمفعول ، فاحتمل أن يكون القول : أذن الرسول لهم في القعود ، أو قول بعضهم لبعض إما لفظا وإما معنى ، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه. وقال الزمخشري : جعل إلقاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود. وقيل : هو من قول الشيطان بالوسوسة. قال : (فإن قلت) : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى الله عن إلهام القبيح. (قلت) : خروجهم كان مفسدة لقوله تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) (١) فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسنا ومصلحة انتهى. وهذا

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٤٧.

٤٢٨

السؤال والجواب على طريقة الاعتزال في المفسدة والمصلحة ، وهذا القول هو ذمّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزّمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) (١) والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما قال :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) :

لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ، وضرب عبد الله بن أبيّ عسكره أسفل منها ، ولم يكن بأقل العسكرين ، فلما سار تخلف عنه عبد الله فيمن تخلف فنزلت بعرى الله ورسوله إلى قوله : وهم كارهون. وفيكم أي : في جيشكم أو في جملتكم. وقيل : في بمعنى مع. قال ابن عباس : الخبال الفساد ومراعاة إخماد الكلمة. وقال الضحاك : المكر والغدر. وقال ابن عيسى : الاضطراب. وقال الكلبي : الشر ، وقاله : ابن قتيبة. وقيل : إيقاع الاختلاف والأراجيف ، وتقدّم شرح الخبال في آل عمران. وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر ، وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير ، ولهم لا شك خبال ، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال. وقال الزمخشري : المستثنى منه غير مذكور ، فالاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء ، فكان هو استثناء متصلا لأنّ بعض أعم العام ، كأنه قيل : ما زادوكم شيئا إلا خبالا. وقيل : هو استثناء منقطع ، وهذا قول من قال : إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال. فالمعنى : ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالا. وقرأ ابن أبي عبلة : ما زادوكم بغير واو ، يعني : ما زادكم خروجهم إلا خبالا. والإيضاع الإسراع قال :

أرانا موضعين لأمر غريب

ونسحر بالطعام وبالشراب

ويقال : وضعت الناقة تضع وضعا ووضوعا قال :

يا ليتني فيها جذع

أخب فيها وأضع

قال الحسن : معناه لأسرعوا بالنميمة. وقرأ محمد بن القاسم : لأسرعوا بالفرار. ومفعول أوضعوا محذوف تقديره : ولأوضعوا ركائبكم بينكم ، لأن الراكب أسرع من

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٨٧.

٤٢٩

الماشي. وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد : ولأوفضوا أي أسرعوا كقوله : (إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (١) وقرأ ابن الزبير : ولأوفضوا بالراء من رفض أسرع في مشيه رفضا ورفضانا قال حسان :

بزجاجة رفضت بما في جوفها

رفض القلوص براكب مستعجل

وقال غيره :

والرافضات إلى منى فالقبقب

والخلاف جمع الخلل ، وهو الفرجة بين الشيئين. وقال الأصمعي : تخللت القوم دخلت بين خللهم وخلالهم ، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي : بينها ، ويبغون حال أي : باغين. قال الفراء : يبغونها لكم. والفتنة هنا الكفر قاله : مقاتل ، وابن قتيبة ، والضحاك. أو العيب والشر قاله : الكلبي. أو تفريق الجماعة أو المحنة باختلاف الكلمة أو النميمة. وقال الزمخشري : يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم. وفيكم سماعون لهم أي : نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم ، أو فيكم قوم يستمعون للمنافقين ويطيعونهم انتهى. فاللام في القول الأول للتعليل ، وفي الثاني لتقوية التعدية كقوله : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (٢) والقول الأول قاله : سفيان بن عيينة ، والحسن ، ومجاهد ، وابن زيد ، قالوا : معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم ، ورجحه الطبري. والقول الثاني قول الجمهور قالوا : معناه وفيكم مطيعون سماعون لهم. ومعنى وفيكم في خلالكم منهم ، أو منكم ممن قرب عهده بالإسلام. والله عليم بالظالمين يعم كل ظالم. ومعنى ذلك : أنه يجازيه على ظلمه. واندرج فيه من يقبل كلام المنافقين ، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين ، ومن تخلف عن هذه الغزاة من المنافقين.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) تقدّم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبي وأصحابه في هذه الغزاة ، حقّر شأنهم في هذه الآية ، وأخبر أنهم قديما سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم ، وفي الأمور المقلبة أقوال. قال ابن عباس : بغوا لك الغوائل. وقال ابن جريج : وقف اثنا عشر من المنافقين على الثنية ليلة العقبة كي يفتكوا به. وقال أبو سليمان الدمشقي : احتالوا في تشتيت أمرك وإبطال دينك. قال ابن جريج : كانصراف ابن أبيّ يوم

__________________

(١) سورة المعارج : ٧٠ / ٤٣.

(٢) سورة هود : ١١ / ١٠٧.

٤٣٠

أحد بأصحابه. ومعنى من قبل أي : من قبل هذه الغزاة ، وذلك ما كان من حالهم وقت هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها. وتقليب الأمور : هو تدبيرها ظهر البطن ، والنظر في نواحيها وأقسامها ، والسعي بكل حيلة. وقيل : طلب المكيدة من قولهم : هو حول قلب. وقرأ مسلمة بن محارب : وقلبوا بتخفيف اللام. حتى جاء الحق أي : القرآن وشريعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب. وظهر أمر الله وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور أي : غلب وعلا دين الله. وهم كارهون لمجيء الحق وظهور دين الله. وفي ذلك تنبيه على أنه لا تأثير لمكرهم وكيدهم ، ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم مذ راموا ذلك رده الله في نحرهم ، وقلب مرادهم ، وأتى بضد مقصودهم ، فكما كان ذلك في الماضي كذا يكون في المستقبل.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) : نزلت في الجد بن قيس ، وذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس : «هل لك العام في جلاد بني الأصفر» وقال له وللناس : «اغزوا تغنموا بنات الأصفر». فقال الجد : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بكر بنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن وتفتني ، ولا تفتني بالنساء. هو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وقيل : ولا تفتني أي ولا تصعب عليّ حتى احتاج إلى مواقعة معصيتك فسهّل أنت عليّ ، ودعني غير مختلج. وقال قريبا منه الحسن وقتادة والزجاج قالوا : لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي ، فآثم بمخالفتك. وقال الضحاك : لا تكفرني بإلزامك الخروج معك. وقال ابن بحر : لا تصرفني عن شغلي فتفوت عليّ مصالحي ويذهب أكثر ثماري. وقيل : ولا تفتني في الهلكة ، فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل : إنه قال : ولكن أعينك بمالي. ومتعلق الإذن محذوف تقديره : في القعود وفي مجاورته الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفاقه. وقرأ ورش : بتخفيف همزة إئذن لي بإبدالها واوا لضمة ما قبلها. وقال النحاس ما معناه : إذا دخلت الواو أو الفاء على أأئذن ، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء ، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون ، والفرق أنّ ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما. وقرأ عيسى بن عمرو : لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن. قال أبو حاتم هي لغة تميم ، وهي أيضا قراءة ابن السميفع ، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي. وجمع الشاعر بين اللغتين فقال :

لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت

سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم

٤٣١

والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف ، وظهور كفرهم ، ونفاقهم. ولفظة سقطوا تنبيء عن تمكن وقوعهم فيها. وقال قتادة : الإثم بخلافهم الرسول في أمره ، وإحاطة جهنم بهم إما يوم القيامة ، أو الآن على سبيل المجاز. لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها ، أو لأنّ مصيرهم إليها.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) : قال ابن عباس : الحسنة في يوم بدر ، والمصيبة يوم أحد. وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل ، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه ، وسياق الحمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو ، ولذلك قالوا : الحسنة الظفر والغنيمة ، والمصيبة الخيبة والهزيمة ، مثل ما جرى في أول غزوة أحد. ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو ، من قبل ما وقع من المصيبة. ويحتمل أن يكون التولي حقيقة أي : ويتولوا عن مقام التحديث بذلك ، والاجتماع له إلى أهليهم وهم مسرورون. وقيل : أعرضوا عن الإيمان. وقيل : عن الرسول ، فيكون التولي مجازا.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) : قرأ ابن مسعود وابن مصرف : هل يصيبنا مكان لن يصيبنا. وقرأ ابن مصرف أيضا وأعين قاضي الرّي : هل يصيبنا بتشديد الياء ، وهو مضارع فيعل نحو : بيطر ، لا مضارع فعل ، إذ لو كان كذلك لكان صوّب مضاعف العين. قالوا : صوب رأيه لما بناه على فعل ، لأنه من ذوات الواو. وقالوا : صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة ، وبعض العرب يقول : صاب السهم يصيب ، جعله من ذوات الياء ، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل ، والصيب يحتمل أن يكون كسيدوكلين. وقال عمرو بن شقيق : سمعت أعين قاضي الري يقول : قل لن يصيبنا بتشديد النون. قال أبو حاتم : ولا يجوز ذلك ، لأن النون لا تدخل مع لن ، ولو كانت لطلحة بن مصرف لحارت ، لأنها مع هل. قال تعالى : (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) (١) انتهى. ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم ، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم ، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد ، وهذا توجيه شذوذ. أي : ما أصابنا فليس منكم ولا بكم ، بل الله هو الذي أصابنا وكتب أي : في اللوح المحفوظ أو في القرآن من الوعد بالنصر ، ومضاعفة الأجر على المصيبة ، أو ما قضى

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ١٥.

٤٣٢

وحكم ثلاثة أقوال : هو مولانا ، أي ناصرنا وحافظنا قاله الجمهور. وقال الكلبي : أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة. وقيل : مالكنا وسيدنا ، فلهذا يتصرف كيف شاء. فيجب الرضا بما يصدر من جهته. وقال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ، وأن الكافرين لا مولى لهم ، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) : أي ما ينتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين ، كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب : إما النصرة ، وإما الشهادة. فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء ، والشهادة مآلها إلى الجنة. وقال ابن عباس : إنّ الحسنيين الغنيمة والشهادة. وقيل : الأجر والغنيمة. وقيل : الشهادة والمغفرة. وفي الحديث : «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخل الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة ، والعذاب من عند الله»

قال ابن عباس : هو هنا الصواعق. وقال ابن جريج : الموت. وقيل : قارعة من السماء تهلكهم كما نزلت على عاد وثمود. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون توعدا بعذاب الآخرة ، أو بأيدينا بالقتل على الكفر. فتربصوا مواعيد الشيطان إنا معكم متربصون إظهار دينه واستئصال من خالفه ، قاله الحسن. وقال الزمخشري : فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا أنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، فلا بد أن نلقى كلنا ما نتربصه لا نتجاوزه انتهى. وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد. وقرأ ابن محيصن الإحدى : بإسقاط الهمزة. قال ابن عطية : فوصل ألف إحدى وهذه لغة وليست بالقياس ، وهذا نحو قول الشاعر :

يا با المغيرة رب أمر معضل

ونحو قول الآخر :

إن لم أقاتل فالبسني برقعا

انتهى.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) : قرأ الأعمش وابن وثاب : كرها بضم الكاف ، ويعني : في سبيل الله ووجوه البر. قيل : وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ. وقال الزمخشري : هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي

٤٣٣

الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (١) ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها. ونحوه قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (٢) وقوله : أسيئي بنا أو أحسنى لا ملومة. أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى. وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي : إن تنفقوا طوعا أو كرها لم يتقبل منكم ، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى. قال ابن عطية : أنفقوا أمر في ضمنه جزاء ، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء ، والتقدير : إن تنفقوا لن نتقبل منكم. وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى. ويقدح في هذا التخريج أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء ، لأنّ لن لا تقع جوابا للشرط إلا بالفاء ، فكذلك ما ضمن معناه. ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيدا يحسن إليك ، وانتصب طوعا أو كرها على الحال ، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله ، والكره إلزام ذلك. وسمّى الإلزام كراها لأنهم منافقون ، فصار الإلزام شاقا عليهم كالإكراه. أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم ، أو إلزام منهم لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة.

والجمهور على أنّ هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال : هذا مالي أعينك به. وقال ابن عباس : فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله. فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا ، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون ، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده ، وإما كون الله لا يثيب عليه ، وعلل انتفاء التقبل بالفسق. قال الزمخشري : وهو التمرد والعتو ، والأولى أن يحمل على الكفر. قال أبو عبد الله الرازي : هذه إشارة إلى أنّ عدم القبول معلل بكونهم فاسقين ، فدلّ على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى. وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين استحقاقهما محالا ، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله : (وَما مَنَعَهُمْ) (٣) الآية وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القبول إلا الكفر. ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات ، فنفى تعالى أنّ عدم القبول

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٧٥.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٨٠.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٥٤.

٤٣٤

ليس معللا بعموم كونه فسقا ، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفرا ، فثبت أنّ استدلال الجبائي باطل انتهى. وفيه بعض تلخيص.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ).

ذكر السبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر ، وأتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه. وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى ، وإيتاء النفقة وهم كارهون. فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر ، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثوابا ، ولا يخافون بالتفريط فيها عقابا. وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثوابا. وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة ، واكتفى بهما وإن كانوا أفسد حالا في سائر أعمال البر ، لأنّ الصلاة أشرف الأعمال البدنية ، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية ، وهما وصفان المطلوب إظهارهما في الإسلام ، ويستدل بهما على الإيمان ، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذما وتقبيحا. وقرأ الأخوان وزيد بن علي : أن يقبل بالياء ، وباقي السبعة بالتاء ، ونفقاتهم بالجميع ، وزيد بن علي بالإفراد. وقرأ الأعرج بخلاف عنه : أن تقبل بالتاء من فوق نفقتهم بالإفراد. وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول. وقرأت فرقة : أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة. قال الزمخشري : وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أنّ الفعل لله تعالى انتهى. والأولى أن يكون فاعل منع قوله : ألا أنهم أي كفرهم ، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي : وما منعهم الله ، ويكون إلا أنهم تقديره : إلا لأنهم كفروا. وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه ، وإما على تقدير حذف حرف الجر ، فوصل الفعل إليه.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) : لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة ، بيّن أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها الله تعالى أسبابا ليعذبهم بها في الدنيا أي : ولا يعجبك أيها السامع بمعنى لا يستحسن ولا يفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا كقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) وفي هذا تحقير لشأن المنافقين. قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن قتيبة : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة

٤٣٥

الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة انتهى. ويكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب ، لأنّ من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها ، إلا أنّ تقييد الإيجاب المنهي عنه الذي يكون ناشئا عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا ، فنفى ذلك ، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب ، فإنه قد يكون في الدنيا ، كما يكون في الآخرة ، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة. وقال الحسن : الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله ، فالضمير في قوله : بها ، عائد في هذا القول على الأموال فقط. وقال ابن زيد وغيره : التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب ، إذ لا يؤجرون عليها انتهى. ويتقوى هذا القول بأنّ تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا ، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله : ابن عطية ، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال : إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. وقيل : أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون ، مثل عبد الله بن عبد الله بن أبي وغيره ، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاه القشيري. وقيل : يتمكن حب المال من قلوبهم ، والتعب في جمعه ، والوصل في حفظه ، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده ، ثم يقدم على ملك لا يعذره. وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم ، ونفوسهم أميل إليها ، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم. قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (١).

قال الزمخشري : (فإن قلت) : إن صح تعليق العذاب بإرادة الله تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون؟ (قلت) : المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (٢) كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى. وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني ، وهما كلاهما معتزليان. قال ابن عيسى : المعنى إنما يريد الله أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٣١.

(٢) سورة آل عمران : ٧ / ١٧٨.

٤٣٦

ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ونبه على عذاب الآخرة بعلته وهو زهوق أنفسهم على الكفر ، لأنّ من مات كافرا عذب في الآخرة لا محالة. والظاهر أن زهوق النفس هنا كناية عن الموت. قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد وتزهق أنفسهم من شدة التعذيب الذي ينالهم.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) : أي لمن جملة المسلمين. وأكذبهم الله بقوله : وما هم منكم. ومعنى يفرقون : يخافون القتل. وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية ، وهم يبطنون النفاق ، أو يخافون اطلاع الله المؤمنين على باطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار. ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكر مصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال : ويحلفون بالله على الجملة لا على التعيين ، وهي عادة الله في ستر أشخاص العصاة.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) : لما ذكر فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا ، ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار. قال ابن عباس : الملجأ الحرز. وقال قتادة : الحصن. وقال السدي : المهرب. وقال الأصمعي : المكان الذي يتحصن فيه. وقال ابن كيسان : القوم يأمنون منهم. والمغارات جمع مغارة وهي الغار ، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذا دخل مفعلة للمكان كقولهم : مزرعة. وقيل : المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع.

وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف : مغارات بضم الميم ، فيكون من أغار. قيل : وتقول العرب : غار الرجل وأغار بمعنى دخل ، فعلى هذا يكون مغارات من أغار اللازم. ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار ، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم. وقال الزجاج : ويصح أن يكون من قولهم : جبل مغار أي مفتول. ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم ، فيجيء التأويل على هذا لو يجدون نصرة أو أمورا مرتبطة مشدّدة تعصمهم منكم أو مدّخلا لولوا إليه. وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومغارّ انتهى. والمدّخل قال مجاهد : المعقل يمنعهم من المؤمنين. وقال قتادة : السرب يسيرون فيه على خفاء. وقال الكلبي : نفقا كنفق اليربوع. وقال الحسن : وجها يدخلون فيه على خلاف الرسول. وقيل : قبيلة يدخلون فيها تحميهم من

٤٣٧

الرسول ومن المؤمنين. وقال الجمهور : مدّخلا وأصله مدتخل ، مفتعل من ادّخل ، وهو بناء تأكيد ومبالغة ، ومعناه السرب والنفق في الأرض قاله : ابن عباس. بدىء أولا بالأعم وهو الملجأ ، إذ ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان ، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال ، ثم أتى ثالثا بالمدّخل وهو النفق باطن الأرض. وقال الزجاج : المدّخل قوم يدخلونهم في جملتهم. وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ومسلمة بن محارب ، وابن محيصن ، ويعقوب ، وابن كثير بخلاف عنه : مدخلا بفتح الميم من دخل. وقرأ محبوب عن الحسن : مدخلا بضم الميم من أدخل. وروي ذلك عن الأعمش وعيسى بن عمر. وقرأ قتادة ، وعيسى بن عمر ، والأعمش : مدخلا بتشديد الدال والخاء معا أصله متدخل ، فأدغمت التاء في الدال. وقرأ أبي مندخلا بالنون من الدخل. قال :

ولا يدي في حميت السمن تندخل

وقال أبو حاتم : قراءة أبي متدخلا بالتاء. وقرأ الأشهب العقيلي : لوالوا إليه أي لتابعوا إليه وسارعوا. وروى ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل ، عن أبيه ، عن جده وكانت له صحبة أنه قرأ لوالوا إليه من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال : أظنها لو ألوا بمعنى للجأوا. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي : وهذا مما جاء فيه فاعل وفعل بمعنى واحد ، ومثله ضاعف وضعف انتهى. وقال الزمخشري : وقرأ أبي بن كعب متدخلا لوالوا إليه لا لتجأوا إليه انتهى. وعن أبيّ لولوا وجوههم إليه. ولما كان العطف بأو عاد الضمير إليه مفردا على قاعدة النحو في أو ، فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ ، أو على المدخل ، فلا يحتمل على أن يعود في الظاهر على المغارات لتذكيره ، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها. وهم يجمحون يسرعون إسراعا لا يردهم شيء. وقرأ أنس بن مالك والأعمش : وهم يجمزون. قيل : يجمحون ، ويجمزون ، ويشتدون واحد. وقال ابن عطية : يجمزون يهرولون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما أذلقته الحجارة جمز.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) : اللامز حرقوص بن زهير التميمي ، وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم غنائم حنين فقال : اعدل يا رسول الله الحديث. وقيل : هو ابن الجواظ المنافق قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم. وقيل :

٤٣٨

ثعلبة بن حاطب كان يقول : إنما يعطي محمد قريشا. وقيل : رجل من الأنصار أتى الرسول بصدقة يقسمها ، فقال : ما هذا بالعدل؟ وهذه نزغة منافق.

والمعنى : من يعيبك في قسم الصدقات. وضمير ومنهم للمنافقين ، والكاف للرسول. وهذا الترديدين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم ، وإن لمزهم الرسول إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال ، وأنّ رضاهم وسخطهم إنما متعلقه العطاء. والظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه. وقيل : التقدير فإن أعطوا منها كثيرا يرضوا ، وإن لم يعطوا منها كثيرا بل قليلا ، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين! لأنّ الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه ، بل قد يجوز أن يتأخر نحو : إن أسلمت دخلت الجنة ، فإنما يقتضي مطلق الترتب. وأما جواب الشرط الثاني فجاء بإذا الفجائية ، وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم ، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها. ومفعول رضوا محذوف أي : رضوا ما أعطوه. وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون ، ولأنّ رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين ، بل للدنيا. وقرأ الجمهور : يلمزك بكسر الميم. وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم : بضمها ، وهي قراءة المكيين ، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ الأعمش : يلمزك. وروى أيضا حماد بن سلمة عن ابن كثير : يلامزك ، وهي مفاعلة من واحد. وقيل : وفرق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم أهل مكة في الغنائم استعطافا لقلوبهم ، فضج المنافقون.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) : هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم ، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا : كفانا فضل الله ، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم ، وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره : لكان خيرا لهم في دينهم ودنياهم. وكان ذلك الفعل دليلا على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان ، لأنّ ذلك تضمن الرضا بقسم الله ، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون : سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وقيل : جواب لو هو قوله : وقالوا على زيادة الواو ، وهو قول كوفي. قال الزمخشري : والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم ، وقالوا : كفانا فضل الله تعالى وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى ، فسيؤتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر مما آتانا اليوم ، إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى. وقال ابن عباس : راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب. وقال التبريزي : راغبون في أن

٤٣٩

يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس. وقيل : ما آتاهم الله بالتقدير ، ورسوله بالقسم انتهى. وأتى أولا بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب ، فكل قضائه صواب وحق ، لا اعتراض عليه. ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان ، فحسبنا ما رضي به. ثم أتى ثالثا بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا مادّ لهم بنعمه وإحسانه ، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعم الله مترادفة عليه حالا ومآلا ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة. ثم أتى رابعا بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره ، والرغبة إليه ، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب ، وما تضمن الإقرار باللسان ، تعاطفتا. ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم : حسبنا الله لم تتعاطفا ، إذ هما كالشرح لقولهم : حسبنا الله ، فلا تغاير بينهما.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : لما ذكر تعالى من يعيب الرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء ، أو يخص أقاربه ، أو يأخذ لنفسه ما بقي. وكانوا يسألون فوق ما يستحقون ، بيّن تعالى مصرف الصدقات ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما قسم على ما فرضه الله تعالى. ولفظه إنما إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها ، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف ، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به ، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه. والظاهر أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف. والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير ، فتكون الفقراء عين المساكين. والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائما ، إذ لم يرد نص في نسخ شيء منها. والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجودا ، والخلاف في كل شيء من هذه الظواهر. فأما أنّ مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف ، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أنه يجوز أن يقتصر على بعض هؤلاء الأصناف ، ويجوز أن يصرف إلى جميعها. فمن الصحابة : عمر ، وعليّ ، ومعاذ ، وحذيفة ، وابن عباس ، ومن التابعين النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو العالية ، وابن جبير ، قالوا : في أيّ صنف منها وضعتها أجزأتك. قال ابن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فخيرتهم بها كان أحب إليّ. قال الزمخشري : وعليه مذهب أبي حنيفة قال غيره : وأبي يوسف ، ومحمد ، وزفر ، ومالك. وقال جماعة من التابعين : لا يجوز الاقتصار على أحد هذه

٤٤٠