البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الفضة ، وفرض عمر ضيافة وأرزاقا وكسوة. وقال الثوري : رويت عن عمر ضرائب مختلفة ، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم. وقال الشافعي وغيره : على كل رأس دينار. وقال أبو حنيفة : على الفقير المكتسب اثنا عشر درهما ، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها ، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهما ، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له. قال ابن عطية : وهذا كله في الفترة. وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير. وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة ، وعند الشافعي آخر السنة. وسميت جزية من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالعقدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :

نجزيك أو نثني عليك وأن من

أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

وقيل : لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه عن يد. قال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها. وقال عثمان : يعطونها نقدا لا نسيئة. وقال قتادة : يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم. وقيل : عن اعتراف. وقيل : عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان أي الأمر له. وقيل : عن إنعام عليهم بذلك ، لأن قبولها منهم عوضا عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم له : عليّ يد أي : نعمة. وقال القتبي : يقال أعطاه عن يد وعن ظهر يد ، إذا أعطاه مبتدئا غير مكافىء. وقيل : عن يد عن جماعة أي : لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله. واليد جماعة القوم ، يقال القوم على يد واحدة أي : هم مجتمعون. وقيل : عن يد أي عن غنى ، وقدرة فلا تؤخذ من الفقير. ولخص الزمخشري في ذلك فقال : أما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم. وإما أن يريد المعطى فالمعنى عن يد مواتية غير ممتنعة ، لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده إذا انقاد واحتجب. ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، أو عن يد إلى يد أي نقدا غير نسيئة ، أولا مبعوثا على يد آخر ولكن عن يد المعطى البريد الآخذ. وهم صاغرون جملة حالية أي : ذليلون حقيرون. وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية. قال ابن عباس : يمشون بها ملببين. وقال سليمان الفارسي : لا يحمدون على إعطائهم. وقال

٤٠١

عكرمة : يكون قائما والآخذ جالسا. وقال الكلبي : يقال له عند دفعها أدّ الجزية ويصك في قفاه. وحكى البغوي : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك فلا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره ، لأنّ الشرك هو أن يتّخذ مع الله معبودا ، بل عابد الوثن أخف كفرا من النصراني ، لأنه لا يعتقد أنّ الوثن خالق العالم ، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد ، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة. قال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم : سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف. وقيل : قاله فنحاص. وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا ، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم. قيل : والدليل على أن هذا القول كان فيهم أنّ الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب ، وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى ، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل فقال له : إلى أين تذهب؟ قال : أطلب العلم ، فحفظه التوراة ، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا فقالوا : ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه ، ونقلوا حكايات في ذلك. وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوّة النسل كما قالت العرب في الملائكة ، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم : أنّ المسيح إله ، وأنه ابن الإله. ويقال : إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة ، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوّة المحمدية وظهور دلائل صدقها ، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم ، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى.

وقرأ عاصم ، والكسائي عزير منونا على أنه عربي ، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية ، كعاذر وغيذار وعزرائيل ، وعلى كلتا القراءتين فابن خبر. وقال أبو عبيد : هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود. قيل : وليس قوله بمستقيم ، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر ، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر ، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر. ومن زعم أنّ التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) (١) وقول الشاعر :

__________________

(١) سورة الإخلاص : ١١٢ / ١ ـ ٢.

٤٠٢

إذا غطيف السلمى فرّا

أو لأنّ ابنا صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه ، والخبر محذوف أي : إلا هنا ومعبودنا. فقوله متمحل ، لأنّ الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى. ومعنى بأفواههم : أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان ، وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير. وقيل : معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد ، كما قال : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (١) (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (٢) ولا بد من حذف مضاف في قوله : يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله ، وهو قول الضحاك. أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي : يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوّة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوّة عزير ، واليهود أقدم من النصارى ، وهو قول قتادة. وقرأ عاصم وابن مصرف : يضاهئون بالهمز ، وباقي السبعة بغير همز. قاتلهم الله أنى يؤفكون : دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومن قاتله الله فهو المقتول. وقال ابن عباس : معناه لعنهم الله. وقال ابان بن تغلب :

قاتلها الله تلحاني وقد علمت

إني لنفسي إفسادي وإصلاحي

وقال قتادة : قتلهم ، وذكر ابن الأنباري عاداهم. وقال النقاش : أصل قاتل الدعاء ، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر ، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي :

يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني

وأخبر الناس أني لا أباليها

وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص. أنّى يؤفكون : كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجب!.

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٩.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

٤٠٣

عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) تعدت اتخذ هنا المفعولين ، والضمير عائد على اليهود والنصارى. قال حذيفة : لم يعبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ، وقد جاء هذا مرفوعا في الترمذي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث عدي بن حاتم. وقيل : كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله ، والسجود لا يكون إلا لله ، فأطلق عليهم ذلك مجازا. وقيل : علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول ، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم ، فهؤلاء اتخذوهم أربابا حقيقة. ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيرا ، وقالوا بالاتحاد. وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا ، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر. وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشيا في زمانه ، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه : أنتم عبيدي ، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الإلهية. وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة ، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهى! وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير ، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوّف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتابا في هذه الطائفة ، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج ، وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان ، وابراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة ، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بلورقة ، وأبا عبد الله بن العربي الطائي ، وعمر بن علي بن الفارض ، وعبد الحق بن سبعين ، وأبا الحسن الششتري من أصحابه ، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى ، والصفيفير من أصحابه أيضا ، والعفيف التلمساني. وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب. وقال السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها ، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره ، وكان يتكتم هذا المذهب. وكان بو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطا له خلطة كثيرة ، وكان متهما بهذا المذهب ، وخرج التلمساني من القاهرة هاربا إلى الشام من القتل على الزندقة. وأما ملوك العبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية ، وأولهم عبيد الله

٤٠٤

المتلقب بالمهدي ، وآخرهم سليمان المتلقب بالعاضد. والأحبار علماء اليهود ، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع. أخبر عن المجموع ، وعاد كل ما يناسبه. أي : اتخذ اليهود أحبارهم ، والنصارى رهبانهم. والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا ، أي : أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم. وقيل : في القرآن على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : في الكتب الثلاثة. وقيل : في الكتب المنزلة ، وعلى لسان جميع الأنبياء. وقال الزمخشري : أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه‌السلام ، أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة. وقيل : الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أربابا أي : وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون؟ وفي قوله : عما يشركون ، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) مثلهم ومثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، ونور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث ، فمن حيث سماه نورا سمى محاولة إفساده إطفاء. وقالت فرقة : النور القرآن وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها. أخبر أنهم يحاولون أمرا جسيما بسعى ضعيف ، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه. ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها ، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فهم سامع ، وناسب ذكر الإطفاء الأفواه. وقيل : إن الله لم يذكر قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا وهو زور ، ومجيء إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منه محذوف ، لأنه فعل موجب ، والموجب لا تدخل معه إلا ، لا تقول كرهت إلا زيدا. وتقدير المستثنى منه : ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان : جاز هذا في أبي ، لأنه منع وامتناع ، فضارعت النفي. وقال الكرماني : معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة. وقال الفراء : دخلت إلا لأنّ في الكلام طرفا من الجحد. وقال الزمخشري : أجرى أبى مجرى لم يرد. ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا بقوله : ويأبى الله ، وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره؟

٤٠٥

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والهدى التوحيد ، أو القرآن ، أو بيان الفرائض أقوال ثلاثة. ودين الحق : الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١) والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على الرسول لأنه المحدّث عنه ، والدين هنا جنس أي : ليعليه على أهل الأديان كلهم ، فهو على حذف مضاف. فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلبت أمته اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب ، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناحية الروم والمغرب ، وغلبوا المجوس على ملكهم ، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند ، وكذلك سائر الأديان. وقيل : المعنى يطلعه على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منه ، فالدين هنا شرعه الذي جاء به. وقال الشافعي : قد أظهر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق ، وما خالفه من الأديان باطل. وقيل : الضمير يعود على الدين ، فقال أبو هريرة ، والباقر ، وجابر بن عبد الله : إظهار الدّين عند نزول عيسى ابن مريم ورجوع الأديان كلها إلى دين الإسلام ، كأنها ذهبت هذه الفرقة إلى إظهاره على أتم وجوهه حتى لا يبقى معه دين آخر. وقالت فرقة : ليجعله أعلاها وأظهرها ، وإن كان معه غيره كان دونه ، وهذا القول لا يحتاج معه إلى نزول عيسى ، بل كان هذا في صدر الأمة ، وهو كذلك باق إن شاء الله تعالى. وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام وأدّى الخراج. وقيل : مخصوص بجزيرة العرب ، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحدا من الكفار. وقيل : مخصوص بقرب الساعة ، فإنه إذ ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم. وقيل : ليظهره بالحجة والبيان. وضعف هذا القول لأنّ ذلك كان حاصلا أول الأمر.

وقيل : نزلت على سبب وهو أنه كان لقريش رحلتان : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام والعراقين ، فلما أسلموا انقطعت الرحلتان لمباينة الدين والدار ، فذكروا ذلك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية. فالمعنى : ليظهره على الدين كله في بلاد الرحلتين ، وقد حصل هذا أسلم أهل اليمن وأهل الشام والعراقين. وفي الحديث : «رويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها» قال بعض العلماء : ولذلك اتسع مجال الإسلام بالمشرق والمغرب ولم يتسع في الجنوب انتهى. ولا سيما اتساع الإسلام بالمشرق في زماننا ، فقلّ ما بقي فيه كافر ، بل أسلم معظم الترك التتار والخطا ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩.

٤٠٦

وكل من كان يناوىء الإسلام ، ودخلوا في دين الله أفواجا والحمد لله. وخص المشركون هنا بالذكر لما كانت كراهة مختصة بظهور دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخص الكافرون قبل لأنها كراهة إتمام نور الله في قديم الدهر ، وباقيه يعم الكفرة من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها ، ووقعت الكراهة والإتمام مرارا كثيرة.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ

٤٠٧

سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ

٤٠٨

أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)

أصل الكنز في اللغة الضم والجمع ، ولا يختص بالذهب والفضة. قال :

لا درّ درّي إن أطعمت ضائعهم

قرف الجثى وعندي البر مكنوز

وقالوا : رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه. وقال الراجز :

على شديد لحمه كناز

بات ينزيني على أوفاز

ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة. الكي : معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد. والجبهة : معروفة وهي صفحة أعلى الوجه. والغار : معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه ، وقال ابن فارس : الغار الكهف ، والغار نبت طيب الريح ، والغار الجماعة ، والغاران البطن والفرج. ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه ، وناقة ثبطة أي بطيئة السير. وأصل التثبيط التعويق ، وهو أن يحول بين الإنسان

٤٠٩

وبين أمر يريده بالتزهيد فيه. الزهق : الخروج بصعوبة ، قال الزجاج : بالكسر خروج الروح ، وقال الكسائي والمبرد : زهقت نفسه وزهقت لغتان ، والزهق الهلاك ، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر ، والزهوق البعد ، والزهوق البئر البعيدة المهواة. الملجأ :

مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته. جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل. قال :

سبوحا جموحا وإحضارها

كمعمعة السعف الموقد

وقال مهلهل :

وقد جمحت جماحا في دمائهم

حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا

وقال آخر :

إذا جمحت نساؤكم إليه

اشظ كأنه مسد مغار

جمز قفر ، وقيل : بمعنى جمح. قال رؤبة :

قاربت بين عنقي وجمزي

اللمز قال الليث : هو كالغمز في الوجه. وقال الجوهري : العيب ، وأصله الإشارة بالعين ونحوها. وقال الأزهري : أصل اللمز الدفع ، لمزته دفعته. الغرم : أصله لزوم ما يشق ، والغرام العذاب الشاق ، وسمي العشق غراما لكونه شاقا ولازما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) لمّا ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصا من شأنهم وتحقيرا لهم ، وأنّ مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم ، فضلا عن اتخاذهم أربابا لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل ، وصدهم عن سبيل الله. واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة ، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين : أكل المال بالباطل ، وكنز المال إن ضنوا أن ينفقوها في سبيل الله ، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع ، وغير ذلك مما يوهمونهم به أنّ النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله ، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان

٤١٠

كنزه. وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام ، كإيهام حماية دينهم ، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام واتباع الرسول. وقيل : الجور في الحكم ، ويحتمل أن يكون يصدون متعديا وهو أبلغ في الذم ، ويحتمل أن يكون قاصرا.

وقرأ الجمهور : والذين بالواو ، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين. وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط ، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله : فبشرهم. وقيل : والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان. وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية. وقيل : كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين ، وروي هذا القول عن السدي ، والظاهر العموم كما قلناه ، فيقرن بين الكانزين من المسلمين ، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظا ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب. وروي العموم عن أبي ذر وغيره. وقرأ ابن مصرّف : الذين بغير واو ، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم ، ويحتمل الاستئناف والعموم. والظاهر ذمّ من يكنز ولا ينفق في سبيل الله. وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء ، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث هو قبل أن تفرض الزكاة ، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه ، فلذلك قال كثير من العلماء : الكنز هو المال الذي لا تؤدّى زكاته وإن كان على وجه الأرض ، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز» وعن عمر أنه قال لرجل باع أرضا أحرز مالك الذي أخذت أحفر له تحت فراش امرأتك فقال : أليس بكنز ، فقال : «ما أدّى زكاته فليس بكنز». وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدّي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك. وقال علي : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما زاد عليها فهو كنز وإن أدّيت زكاته. وقال أبوذر وجماعة معه : ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز. وهذان القولان يقتضيان أنّ الذم في جنس المال ، لا في منع الزكاة فقط. وقال عمر بن عبد العزيز : هي منسوخة بقوله : «خذ من أموالهم صدقة» (١) فأتى فرض الزكاة على هذا كله ، كأنّ الآية تضمنت : لا تجمعوا مالا فتعذبوا ، فنسخه التقرير الذي في قوله : خذ من أموالهم صدقة ، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالا من جهة أذن له فيها ويؤدّى عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة بن عبيد الله ، يقتنون الأموال ويتصرّفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٠٣.

٤١١

عن الفتنة ، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا ، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه ، وما روي عن عليّ كلام في الأفضل.

وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر : يكنزون بضم الياء ، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال لأنهما قيم الأموال وأثمانها ، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة ، ومن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال ، وكنزهما يدل على ما سواهما. والضمير في : ولا ينفقونها ، عائد على الذهب ، لأن تأنيثه أشهر ، أو على الفضة. وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعا ، فروعي المعنى كقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (١) أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم ، أو على المكنوزات ، لدلالة يكنزون. أو على الأموال ، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه. ولا ينفقونها ، أو على الزكاة أي : ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال. وقال كثير من المفسرين : عاد على أحدهما كقوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) (٢) وليس مثله ، لأن هذا عطف بأو ، فحكمهما أنّ الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو ، إلا أن ادّعى أنّ الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن ، وهو خلاف الظاهر.

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) يقال : حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى ، وتقول : أحميتها أدخلتها لكي تحمى أيضا فحميت. وقرأ الجمهور : يوم يحمى عليها بالياء ، أصله يحمى النار عليها ، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور ، لم تلحق التاء كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير. وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت : رفع إلى الأمير ، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلى النار ، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء. وقيل : من قرأ بالياء ، فالمعنى : يحمى الوقود. ومن قرأ بالتاء فالمعنى : تحمى النار. والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي : يعذبون يوم يحمى. وقرأ أبو حيوة : فيكوى بالياء ، لما كان ما أسند إليه ليس تأنيثه حقيقيا ، ووقع الفصل أيضا ذكر ، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير ، كما أدغم مناسككم وما سلككم ، وخصت هذه المواضع بالكي. قيل : لأنه في الجهة أشنع ، وفي الجنب والظهر أوجع. وقيل : لأنها

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٩.

(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ١١.

٤١٢

مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر ، بخلاف اليد والرجل. وقيل : معناه يكوون على الجهات الثلاث مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم. وقيل : لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم ، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم. وقال الزمخشري : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدّم ، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها ، وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم. لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذهب أهل الدثور بالأجور» وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا بأركانهم ، وولوا ظهورهم. وأضمر القول في هذا ما كنزتم أي : يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز ، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم ، أي : هذا الكي نتيجة ما كنزتم ، أو ثمرة ما كنزتم. ومعنى لأنفسكم : لتنتفع به أنفسكم وتلتذ ، فصار عذابا لكم ، وهذا القول توبيخ لهم. فذوقوا ما كنتم أي : وبال المال الذي كنتم تكنزون. ويجوز أن تكون ما مصدرية أي : وبال كونكم كانزين. وقرىء يكنزون بضم النون. وفي حديث أبي ذر : «بشر الكانزين برصد يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم» وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم : «الوعيد الشديد لمانع الزكاة».

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها ، فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليها وأملقوا ، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه‌السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ، ثم ابنه قلع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه جنادة بن عوف ، وعليه قام الإسلام. وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا : أنسئنا شهرا أي : أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم ، فيغيرون فيه ويعيشون. ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدّة الأشهر الأربعة ، ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ويسمون ربيعا الأول

٤١٣

صفرا ، وربيعا الآخر ربيعا الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم الموضوع لهم ، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل ، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا.

قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل عام شهرين ولاء ، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».

ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر أنواعا من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب ، ذكر أيضا نوعا منه وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى ، لأنه حكم في وقت بحكم خاص ، فإذا غيّروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله. والشهور : جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة ، بخلاف قوله : «الحج أشهر معلومات» (١) فجاء بلفظ جمع القلة ، والمعنى : شهور السنة القمرية ، لأنهم كانوا يؤرخون بالسنة القمرية لا شمسية ، توارثوه عن إسماعيل وابراهيم. ومعنى عند الله : أي ، في حكمه وتقديره كما تقول : هذا عند أبي حنيفة. وقيل : التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر ، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر. وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص : بإسكان العين مع إثبات الألف ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة ، كما روي : التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا. وقرأ طلحة : بإسكان الشين ، وانتصب شهرا على التمييز المؤكد كقولك : عندي من الرجال عشرون رجلا. ومعنى في كتاب الله قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ. وقيل : في إيجاب الله. وقيل : في حكمه. وقيل : في القرآن ، لأن السنة المعتبرة في هذه الشريعة هي السنة القمرية ، وهذا الحكم في القرآن. قال تعالى : (وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (٢) وقال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) (٣) قال ابن عطية : أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه ، وليس بمعنى قضائه وتقديره ، لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض انتهى. وعند الله متعلق بعدة. وقال الحوفي : في

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٩٧.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٨٩.

٤١٤

كتاب الله متعلق بعدة ، يوم خلق السموات والأرض متعلق أيضا بعدّة. وقال أبو علي : لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة ، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر شهرا ، ولأنه لا يجوز انتهى. وهو كلام صحيح. وقال أبو البقاء : عدة مصدر مثل العدد ، وفي كتاب الله صفة لاثنا عشر ، ويوم معمول لكتاب على أن يكون مصدرا لا جثة ، ويجوز أن يكون جثة ، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى. وقيل : انتصب يوم بفعل محذوف أي : كتب ذلك يوم خلق السموات ، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١) جمع هنا بينهما ، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب ، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر ، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر.

وأربعة حرم سميت حرما لتحريم القتال فيها ، أو لتعظيم انتهاك المحارم فيها. وتسكين الراء لغة. وذكر ابن قتيبة عن بعضهم أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها أن يسيحوا ، والصحيح : أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم. وأولها عند كثير من العلماء رجب ، فيكون من سنتين. وقال قوم : أولها المحرم ، فيكون من سنة واحدة. ذلك الدين القيم أي : القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس. وقيل : العدد الصحيح. وقيل : الشرع القويم ، إذ هو دين ابراهيم. فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهرا ، قاله ابن عباس. والمعنى : لا تجعلوا حلالا حراما ، ولا حراما حلالا كفعل النسيء. ويؤيده كون الظلم منهيا عنه في كل وقت لا يختص بالأربع الحرم. وقال قتادة والفراء : هو عائد على الأربعة الحرم ، نهى عن المظالم فيها تشريفا لها وتعظيما بالتخصيص بالذكر ، وإن كانت المظالم منهيا عنها في كل زمان. وقال الزمخشري : فلا تظلموا فيهن أي : في الأشهر الحرم ، أي : تجعلوا حرامها حلالا. وعن عطاء الخراساني : أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل : معناه لا تأثموا فيهن بيانا لعظم حرمتهن ، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) (٢) وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور انتهى. ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور ، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن ، ولم يجىء بلفظ فيها كما

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ٣٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩٧.

٤١٥

جاء منها أربعة حرم ، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول : الجذوع انكسرت ، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول : الأجذاع انكسرن ، هذا هو الصحيح. وقد يعكس قليلا فتقول : الجذوع انكسرن ، والأجذاع انكسرت ، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال ، أو بالبداءة بالقتال ، أو بترك المحارم لعددكم أقوال. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول ، ومعناه جميعا. ولا يثنى ، ولا يجمع ، ولا تدخله أل ، ولا يتصرف فيها بغير الحال. وتقدم بسط الكلام فيها في قوله : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (١) فأغنى عن إعادته. والمعية بالنصر والتأييد ، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) : يقال : نسأه وأنسأه إذا أخّره ، حكاه الكسائي. قال الجوهري وأبو حاتم : النسيء فعيل بمعنى مفعول ، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته ، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل. ورجل ناسىء ، وقوم نسأة ، مثل فاسق وفسقة انتهى. وقيل : النسيء مصدر من أنسأ ، كالنذير من أنذر ، والنكير من أنكر ، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وقال الطبري : النسيء بالهمز معناه الزيادة انتهى. فإذا قلت : أنسأ الله ؛ الله أجله بمعنى أخّر ، لزم من ذلك الزيادة في الأجل ، فليس النسيء مرادفا للزيادة ، بل قد يكون منفردا عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسيء مصدرا كان الإخبار عنه بمصدر واضحا ، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي : إن نسأ النسيء ، أو في زيادة أي : ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، لأنه يكون المعنى : إنما المؤخر زيادة ، والمؤخر الشهر ، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.

وقرأ الجمهور : النسيء مهموز على وزن فعيل. وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني : النسيّ بتشديد الياء من غير همز ، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء ، وأدغم الياء فيها ، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا : نبي وخطية بالإبدال والإدغام. وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٨.

٤١٦

وقرأ السلمي وطلحة والأشهب وشبل : النسء بإسكان السين. والأشهب : النسي بالياء من غير همز مثل الندى. وقرأ مجاهد : النسوء على وزن فعول بفتح الفاء ، وهو التأخير. ورويت هذه عن طلحة والسلمي. وقول أبي وائل : إنّ النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف. وقول الشاعر :

أنسنا الناسئين على معدّ

شهور الحل نجعلها حراما

وقال آخر :

نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها

من قبلكم والعز لم يتحول

وأخبر أنّ النسيء زيادة في الكفر أي : جاءت مع كفرهم بالله ، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفرا. قال تعالى : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١) كما أنّ المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيمانا. قال تعالى : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٢) وأعاد الضمير في به على النسيء ، لا على لفظ زيادة. وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص : يضل مبنيا للمفعول ، وهو مناسب لقوله : زين ، وباقي السبعة مبنيا للفاعل. وابن مسعود في رواية ، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب : يضل أي الله ، أي : يضل به الذين كفروا اتباعهم. ورويت هذه القراءة عن : الحسن ، والأعمش ، وأبي عمرو ، وأبي رجاء. وقرأ أبو رجاء : يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام ، أضلّ بفتح الضاد منقولا ، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن : نضل بالنون المضمومة وكسر الضاد ، أي : نضل نحن. ومعنى تحريمهم عاما وتحليلهم عاما : لا يرادان ذلك ، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام. وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفرا بدلا من المحرم ، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة ، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة ، وإنّ هذه كانت حال القوم.

وتقدم لنا أنّ الذي انتدب أولا للنسيء القلمس. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة. وعن ابن عباس : إنّ أول من فعل ذلك عمرو بن لحيّ ، وهو أول من سيب السوائب ، وغيّر دين إبراهيم. وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة. والمواطأة : الموافقة ، أي ليوافقوا

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٥.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢٤.

٤١٧

العدة التي حرم الله وهي الأربعة ولا يخالفونها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين. والواجبان هما العدد الذي هو أربعة في أشخاص أشهر معلومة وهي : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم كما تقدم. ويقال : تواطؤوا على كذا إذا اجتمعوا عليه ، كان كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. ومنه الإيطاء في الشعر ، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد ، وهو عيب إن تقارب. واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله : ويحرمونه ، وذلك على طريق الأعمال. ومن قال : إنه متعلق بيحلونه ويحرمونه معا ، فإنه يريد من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب. قال ابن عطية : ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد ، فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها ، بمثابة أن يفطر رمضان ، ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر انتهى. وقرأ الأعمش وأبو جعفر : ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه ، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف. فسكنت لاستثقال الضمة عليها ، وذهبت لالتقاء الساكنين ، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا. وجاء عن الزهري : ليواطيوا بتشديد الياء ، هكذا الترجمة عنه. قال صاحب اللوامح : فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهه انتهى. فيحلوا ما حرم الله أي بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله تعالى من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها. وقرأ الجمهور : زين لهم سوء أعمالهم مبنيا للمفعول. والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان ، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم. وقرأ زيد بن علي : زيّن لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة ، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم. قال الزمخشري : خذلهم الله تعالى فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة. والله لا يهدي أي : لا يلطف بهم ، بل يخذلهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. وقال أبو علي : لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب. وقال الأصم : لا يحكم لهم بالهداية. وقيل : لا يفعل بهم خيرا ، والعرب تسمي كل خير هدى ، وكل شر ضلالة انتهى. وهذا إخبار عمن سبق في علمه أنهم لا يهتدون.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) : لما أمر الله رسوله بغزاة تبوك ، وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار ، عظم ذلك على الناس

٤١٨

وأحبوا المقام ، نزلت عتابا على من تخلف عن هذه الغزوة ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام ، غزا فيها الروم في عشرين ألفا من راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون. وخص الثلاثة بالعتاب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة ، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسبما يأتي إن شاء الله تعالى. ولما شرح معاتب الكفار رغب في مقابلتهم. وما لكم استفهام معناه الإنكار والتقريع ، وبني قيل للمفعول ، والقائل هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يذكر إغلاظا ومخاشنة لهم وصونا لذكره. إذ أخلد إلى الهوينا والدعة : من أخلد وخالف أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ الأعمش : تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم ، وهو ماض بمعنى المضارع ، وهو في موضع الحال ، وهو عامل في إذا أي : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا. وقال أبو البقاء : الماضي هنا بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وموضعه نصب. أي : أيّ شيء لكم في التثاقل ، أو في موضع جر على مذهب الخليل انتهى. وهذا ليس بجيد ، لأنه يلزم منه حذف أن ، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل ، وحذف أن في نحو هذا قليل جدا أو ضرورة. وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا ، لأن معمول المصدر الموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا ، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبرا لما. وقرىء : اثاقلتم على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ ، ولا يمكن أن يعمل في إذا ما بعد حرف الاستفهام. فقال الزمخشري : يعمل فيه ما دل عليه ، أو ما في ما لكم من معنى الفعل ، كأنه قال : ما تصنعون إذا قيل لكم ، كما تعمله في الحال إذا قلت : ما لك قائما. والأظهر أن يكون التقدير : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا ، وحذف لدلالة اثاقلتم عليه. ومعنى اثاقلتم إلى الأرض : ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر. وقيل ملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله : الزجاج. ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدي بإلى. وفي قوله : أرضيتم ، نوع من الإنكار والتعجب أي : أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي. ومن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي : بدل الآخرة كقوله : (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) (١) أي بدلا ، ومنه قول الشاعر :

فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبردة باتت على طهيان

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٦٠.

٤١٩

أي بدلا من ماء زمزم ، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى تبرد. وأصحابنا لا يثبتون أن تكون من للبدل. ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير : فما متاع الحياة الدنيا محسوبا في نعيم الآخرة. وقال الحوفي : في الآخرة متعلق بقليل ، وقليل خبر الابتداء. وصلح أن يعمل في الظرف مقدما ، لأنّ رائحة الفعل تعمل في الظرف. ولو قلت : ما زيد عمرا إلا يضرب ، لم يجز.

(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : هذا سخط على المتثاقلين عظيم ، حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل قوما آخرين خيرا منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئا. وقيل : يعذبكم بإمساك المطر عنكم. وروي عن ابن عباس أنه قال : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبيلة فقعدت ، فأمسك الله عنها المطر وعذبها به. والمستبدل الموعود بهم ، قال : جماعة أهل اليمن. وقال ابن جبير : أبناء فارس. وقال ابن عباس : هم التابعون ، والظاهر مستغن عن التخصيص. وقال الأصم : معناه أنه تعالى يخرج رسوله من بين أظهرهم إلى المدينة. قال القاضي : وهذا ضعيف ، لأنّ اللفظ لا دلالة فيه على أنه ينتقل من المدينة إلى غيرها ، ولا يمتنع أن يظهر في المدينة أقواما يعينونه على الغزو ، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضا حال كونه هناك. والضمير في : ولا تضروه شيئا ، عائد على الله تعالى أي : ولا تضروا دينه شيئا. وقيل : على الرسول ، لأنه تعالى قد عصمه ووعده بالنصر ، ووعده كائن لا محالة. ولما رتب على انتفاء نفرهم التعذيب والاستبدال وانتفاء الضرر ، أخبر تعالى أنه على كل شيء تتعلق إرادته به قدير من التعذيب والتغيير وغير ذلك.

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) : ألا تنصروه فيه انتفاء النصر بأيّ طريق كان من نفر أو غيره. وجواب الشرط محذوف تفسيره : فسينصره ، ويدل عليه فقد نصره الله أي : ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف يكون قوله تعالى : فقد نصره الله جوابا للشرط؟ (قلت) : فيه وجهان : أحدهما : فسينصره ، وذكر معنى ما قدمناه. والثاني : أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى. وهذا لا يظهر منه جواب الشرط ، لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق ، والماضي

٤٢٠