البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

لأنه تكرار وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم ، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيمانا ، ومنه قوله تعالى : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (١) فالمعنى أنهم لا يؤمنون أهل الذمة ، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف. قال أبو حاتم : فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم انتهى. وكذا تبعه الزمخشري ، فقال : وقرىء لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم ، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث ، ولا سبيل إليه. وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يمينا وعند الشافعي يمينهم يمين ، وقال : معناه أنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه ، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ألا حرف عرض ، ومعناه هنا الحض على قتالهم. وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام ، ولا النافية ، فصار فيها معنى التخصيص. وقال الزمخشري : دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة ، ومعناها : الحض عليها على سبيل المبالغة. ولما أمر تعالى بقتل أهل الكفر أتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها ، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم. ومعنى نكثوا أيمانهم : نقض العهد. قال السدي ، وابن إسحاق ، والكلبي : نزلت في كفار مكة ، نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية ، وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى. وهمهم هو همّ قريش بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروا بدار الندوة ، فأذن الله في الهجرة ، فخرج بنفسه ، أو بنو بكر بإخراجه من المدينة لما أقدموا عليه من المشاورة والاجتماع ، أو اليهود ، هموا بغدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقضوا عهده وأعانوا المنافقين على إخراجه من المدينة ، ثلاثة أقوال أو لها للسدي. وقال الحسن : من المدينة. قال ابن عطية : وهذا مستقيم لغزوة أحد والأحزاب وغيرهما ، وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم أولا بالكتاب المبين وتحدّاهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال ، فهم البادئون ، والبادئ أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله تصدمونهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم ، وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها. وتقرر أنّ من كان في مثل صفاتهم من نكث العهود وإخراج الرسول

__________________

(١) سورة قريش : ١٠٦ / ٤.

٣٨١

والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأن لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها ، قاله : الزمخشري وهو تكثير. وقال ابن عطية : أول مرة. قيل : يريد أفعالهم بمكة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين. وقال مجاهد : ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان هذا بدء النقض. وقال الطبري : يعنى فعلهم يوم بدر انتهى. وقرأ زيد بن علي : بدوكم بغير همز ، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء ، كما قالوا في قرأت : قريت ، فصار كرميت. فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت ، فصار بدوكم كما تقول : رموكم. أتخشونهم تقرير للخشية منهم ، وتوبيخ عليها. فالله أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه. ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق ، وأن تخشوه بدل من الله أي : وخشية الله أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع ، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر ، وتقديره : بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه. وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ ، وأحق خبره قدم عليه. وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه ، والجملة خبر عن الأول. وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل ، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفة خبرا للنكرة في نحو : اقصد رجلا خير منه أبوه. إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان ، لأنهم كانوا مؤمنين. وقال الزمخشري : يعني أنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) (١).

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قررت الآيات قبل هذا أفعال الكفرة المقتضية لقتالهم ، والحض على القتال ، وحرم الأمر بالقتال في هذه ، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم ، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم ، وينصركم يظفركم بهم ، وشفاء الصدور بإعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم.

وقرأ زيد بن علي : ونشف بالنون على الالتفات ، وجاء التركيب صدور قوم مؤمنين ليشمل المخاطبين وكل مؤمن ، لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن. وقيل : المراد قوم معينون. قال ابن عباس : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديدا ، فبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشكون إليه

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٩.

٣٨٢

فقال : «أبشروا فإن الفرج قريب» وقال مجاهد والسدي : هم خزاعة. ووجه تخصيصهم أنهم هم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب ، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير. ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

وفي آخر الرجز :

وقتلونا ركعا وسجدا

وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه ، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها ، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ. وقرأت فرقة : ويذهب فعلا لازما غيظ فاعل به. وقرأ زيد بن علي : كذلك إلا أنه رفع الباء. وهذه المواعيد كلها وجدت ، فكان ذلك دليلا على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة نبوته وبدىء أولا فيها بما تسبب عن النصر وهو تعذيب الله الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم ، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون ، ثم ذكر السبب وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين ، ثم ذكر ما تسبب أيضا عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميما للنعم ، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار ، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر ، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم ، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم.

إن الأسود أسود الغاب همتها

يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وقرأ الجمهور : ويتوب الله رفعا ، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره ، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم. قال الفراء والزجاج وأبو الفتح : وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا ، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى. وقرأ زيد بن علي ، والأعرج ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى الثقفي ، وعمرو بن عبيد ، وعمر بن قائد ، وأبو عمرو ، ويعقوب فيما روي عنهما : ويتوب الله بنصب الباء ، جعله داخلا في جواب الأمر من طريق المعنى. قيل : ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء. قال ابن عطية : ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أنّ التوبة يراد بها أنّ قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم ، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال. وقال غيره : لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم ، فإذا

٣٨٣

أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة من تلك الكراهة. وقيل : حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام ، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعيا لهم إلى التوبة مما تقدم ، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى. وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار ، والذي يظهر أنّ ذلك بالنسبة إلى الكفار ، فالمعنى على من يشاء من الكفار ، وذلك أنّ قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس ، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام ، ولا داعية قبل القتال. ألا ترى إلى قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة كيف كان سببا لإسلامهم ، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة ، وقد يدخل على كره واضطرار ، ثم قد تحسن حاله في الإسلام. ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولا في الإسلام ، ثم صار أمره إلى احسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته ، وكان من خيار الصحابة؟ والله عليم يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان ، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك المواعيد ، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) تقدّم تفسير نظير هذه الجملة ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلّص منكم وهم المجاهدون في سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.

(وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا. غير متخذين وليجة ، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل ، وهي البطانة. والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار ، شبه النفاق به. وقال قتادة : الوليجة الخيانة. وقال الضحاك : الخديعة. وقال عطاء : الأودّاء. وقال الحسن : الكفر والنفاق. وقال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة ، والرجل يكون في القوم وليس منهم ، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد. وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس ، وجمعها ولائج وولج ، كصحيفة وصحائف وصحف. وقال عبادة بن صفوان الغنوي :

ولائجهم في كل مبدي ومحضر

إلى كل من يرجى ومن يتخوف

وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال ،

٣٨٤

والمعنى : لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (١) ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفي هذا الوصف عنه ، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خاليا عن النفاق والرياء والتودّد إلى الكفار.

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله : أم حسبتم. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتا.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) قرأ ابن السميفع : أن يعمروا بضم الياء وكسر الميم ، أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والجحدري : مسجد بالإفراد ، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة بالجمع.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعا من قبائحهم توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام. روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك ، وطفق عليّ يوبخ العباس ، فقال الرسول : وا قطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول. فقال العباس : تظهرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا؟ فقال : أو لكم محاسن؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجرا ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم. ومعنى ما كان للمشركين : أي بالحق الواجب ، وإلا فقد عمروه قديما وحديثا على سبيل التغلب. وقال الزمخشري : أي ما صح وما استقام انتهى. وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم : فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه ، أو رفع بنائه ، وإصلاح ما تهدّم منه ، أو التعبد فيه ، والطواف به. والصلاة ثلاثة أقوال. ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله : (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام ، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته. ومن قرأ بالجمع فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام ، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد ، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فكان عامره عامر المساجد. ويحتمل أن يراد الجمع ، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد ، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٧.

٣٨٥

بذلك. وانتصب شاهدين على الحال ، والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته.

وقرأ زيد بن علي : شاهدون على إضمارهم شاهدون ، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف : لبيك لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم : نعبد اللات والعزى ، أو تكذيبهم الرسول ، أو قول المشرك : أنا مشرك كما يقول اليهودي : هو يهودي ، والنصراني هو نصراني ، والمجوسي هو مجوسي ، والصابىء هو صابىء ، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة ، وغير ذلك أقوال خمسة ، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره ، وقيل : معناه شاهدين على رسولهم ، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء ، أي أشرفهم وأجلهم قدرا.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذكر أنه من الأعمال الحميدة. قال الزمخشري : وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله : (شاهِدِينَ) (١) حيث جعله حالا عنهم ، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم انتهى. وقوله : أو الكبيرة ، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال.

(وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها. وقرأ زيد بن علي : بالياء نصبا على الحال ، وفي النار هو الخبر. كما تقول : في الدار زيد قاعدا. وقال الواحدي : دلت الآية على أنّ الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ، ولو أوصى لم تقبل وصيته ، ويمنع من دخول المساجد ، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم. وقد أنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد ثقيف وهم كفار المسجد ، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٧.

٣٨٦

إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) قرأ الجحدري ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير : مسجدا لله بالتوحيد. وقرأ السبعة وجماعة : بالجمع ، والمعنى إنما يعمرها بالحق والواجب ، ويستقيم ذلك فيمن اتصف بهذه الأوصاف. وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، ويتناول عمارتها رمّ ما تهدّم منها ، وتنظيفها ، وتنويرها ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر. ومن الذكر درس العلم بل هو أجله ، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا. وفي الحديث : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» ولم يذكر الإيمان بالرسول ، لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول ، فيتضمن الإيمان بالرسول. أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول ، لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين ، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه ، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ لا يتلقى ذلك إلا منه. والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعا لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما ، وناسب ذكر إيتاء الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعا للناس بأنّ فيها أمر الغني والفقير ، وعرفت أحوال من يؤدي الزكاة ومن يستحقها ، ولم يخش إلا الله. قال ابن عطية : يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ، ويخشى المحاذير الدنيوية ، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه. وقال الزمخشري : هي الخشية والتقوى في أبواب الدنيا ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره ، وإذا اعترضه أمر أن أحدهما حق الله تعالى ، والآخر حق نفسه ، خاف الله وآثر حق الله على حق نفسه. وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى. وعسى من الله تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن ، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية ، فكيف بمن هو عار منها : وفي ذلك ترجيح الخشية على الرجاء ، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة ، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها. وقال تعالى : أن يكونوا من المهتدين ، أي : من الذين سبقت لهم الهداية ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين ، بل جعلوا بعضا من المهتدين ، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ

٣٨٧

فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يوم الجمعة ، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية. وذكر ابن عطية وقوله أقوالا أخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة.

وقرأ الجمهور : سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات ، فاحتيج إلى حذف من الأول أي : أهل سقاية ، أو حذف من الثاني أي : كعمل من آمن. وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة : سقاة الحاج ، وعمرة المسجد ، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة. وقرأ ابن جبير كذلك ، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة. وقرأ الضحاك : سقاية بضم السين ، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال ، وظئر وظؤار ، وكان المناسب أن يكون بغير هاء ، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة. وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها ، ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقيموا عليها فهي لكم خير» وعمارة المسجد هي السدانة ، وكانت في بني عبد الدار ، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعليّ ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان وشيبة : «خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم» يعني السدانة. ومعنى الآية : إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة. ولما نفي المساواة بينهما أوضح بقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين ، من الراجح منهما وأنّ الكافرين بالله هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله ، وبما جاء به الرسول ، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبدا له فجعلوه متعبدا لأوثانهم. وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله : (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١) وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٨.

٣٨٨

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) زادت هذه الآية وضوحا في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة ، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان ، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسول وترك ديارهم التي نشأوا عليها ، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس ، المعرضين بالجهاد للتلف. فهذه الخصال أعظم درجات البشرية ، وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل ، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهم فضيلة ، فخوطبوا على اعتقادهم. أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا. وقيل : أعظم ليست على بابها ، بل هي كقوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) (١). وقول حسان :

فشركما لخير كما الفداء

وكأنه قيل : عظيمون درجة. وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (٢) قال أبو عبد الله الرازي : الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال وغلا فيها أضواء عالم الجمال ، وترقت من العبدية إلى العندية ، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية ، ولذلك قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (٣) انتهى ، وهو شبيه بكلام الصوفية ، ثم ذكر تعالى أنّ من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته ، الناجي من النار

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) قال ابن عباس : هي في المهاجرين خاصة انتهى ، وأسند التبشير إلى قوله : ربهم ، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم ، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم. ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيده حقيقة هي ثلاثة : الإيمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال والنفس ، قوبلوا في التبشير بثلاثة : الرحمة ، والرضوان ، والجنات. فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشئ عنها تيسير الإيمان لهم ، وثنى بالرضوان لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد ، إذ هو

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٤.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٩.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ١.

٣٨٩

بذل النفس والمال ، وقدم على الجنات لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة. وفي الحديث الصحيح : «إن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول : لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها» وأتى ثالثا بقوله : وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، أي دائم لا ينقطع. وهذا مقابل لقوله «وهاجروا» (١) لأنهم تركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين ، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة ، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم ، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع : الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد. وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم ، ثم الأشرف ، ثم التكميل. قال التبريزي : ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم. برحمة أي : رحمة لا يبلغها وصف واصف.

وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف ، وحميد بن هلال : يبشرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : ورضوان بضم الراء ، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران. وقرأ الأعمش : بضم الراء والضاد معا. قال أبو حاتم : لا يجوز هذا انتهى. وينبغي أن يجوز ، فقد قالت العرب : سلطان بضم اللام ، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا ، وخربت ديارنا ، وبقينا ضائعين ، فنزلت. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك. فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أن لا يوالوا الآباء والإخوة ، فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم. وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة ، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٠.

٣٩٠

وقرأ عيسى بن عمران : استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلا ، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطا. ومعنى استحبوا : آثروا وفضلوا ، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر. وقيل : بمعنى أحب. وضمن معنى اختار وآثر ، ولذلك عدي بعلى. ولما نهاهم عن اتخاذهم أولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم ، فقال ابن عباس : هو مشرك مثلهم ، لأنّ من رضي بالشرك فهو مشرك. قال مجاهد : وهذا كله كان قبل فتح مكة. وقال ابن عطية : وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر.

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة وذكر الأبناء لأنه ذكر المحبة ، وهم أعلق بالنفس ، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا ، لأن المقصود منها الرأي والمشورة. وقدّم الآباء لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم ، وثنى بالأبناء لكونهم أعلق بالقلوب. ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشية وهي الإخوان ، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء ، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال : وعشيرتكم.

وقرأ الجمهور : بغير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وأبو رجاء ، وأبو عبد الرحمن : بألف على الجمع. وزعم الأخفش أنّ العرب تجمع عشيرة على عشائر ، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء ، ثم ذكر وأموال اقترفتموها أي اكتسبتموها ، لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة ، بل حبها أشد ، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة ، وأكثر الناس كانوا فقراء. ثم ذكر : وتجارة تخشون كسادها ، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال ، وجعل تعالى التجارة سببا لزيادة الأموال ونمائها. وتفسير ابن المبارك بأن ذلك إشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن ، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ. وقال الشاعر :

كسدن من الفقر في قومهن

وقد زادهن مقامي كسودا

ثم ذكر : ومساكن ترضونها ، وهي القصور والدور. ومعنى : ترضونها ، تختارون الإقامة بها. وهذه الدواعي الأربعة سبب لمخالطة الكفار حب الأقارب ، والأموال ، والتجارة ، والمساكن. فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور. وفي الكلام حذف أي : أحب إليكم من امتثال أمر الله تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار

٣٩١

الإسلام. والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان. وكان الحجاج بن يوسف يقرأ : أحب بالرفع ، ولحنه يحيى بن يعمر ، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية ، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة ، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن ، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر ، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان. وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتى يأتي الله بأمره. قال ابن عباس ومجاهد : الإشارة إلى فتح مكة. وقال الحسن : الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، والفاسقين عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق ، وفي التحرير الفسق هنا الكفر ، ويدل عليه ما قابله من الهداية. والكفر ضلال ، والضلال ضد الهداية ، وإن كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا ، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة ، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله ولا أمر رسوله في الهجرة.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) لما تقدم قوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) (١) واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة ، والمواطن مقامات الحرب ومواقفها. وقيل : مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو ، وهي جمع موطن بكسر الطاء قال :

وكم موطن لولاي طحت كما هوى

بإجرامه من قلة النيق منهوى

وهذه المواطن : وقعات بدر ، وقريظة والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة. ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطنا. وحنين واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز. وصرف مذ هو بابه مذهب المكان ، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال :

نصروا نبيهم وشدّوا أزره

بحنين يوم تواكل الأبطال

وعطف الزمان على المكان. قال الزمخشري : وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة ، ويوم حنين. وقال ابن عطية : ويوم عطف على موضع قوله : في مواطن ، أو على لفظه بتقدير : وفي يوم ، فحذف حرف الخفض انتهى. وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم ، وإن كان صادرا من واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال : لن نغلب

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٤.

٣٩٢

اليوم من قلة. والقائل قال ابن المسيب : هو أبو بكر ، أو سلمة بن سلامة بن قريش ، أو ابن عباس ، أو رجل من بني بكر. ونقل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساءه كلام هذا القائل ، ووكلوا إلى كلام الرجل.

والكثرة بفتح الكاف ، ويجمع على كثرات. وتميم تكسر الكاف ، وتجمع على كثر كشذرة وشذر ، وكسرة وكسر ، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفا ، وعن النحاس أربعة عشر ألفا ، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي : اثنا عشر ألفا ، وعن مقاتل عن ابن عباس : أحد عشر ألفا وخمسمائة. والباء في بما رحبت للحال ، وما مصدرية أي : ضاقت بكم الأرض مع كونها رحبا واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهم لا يجدون مكانا يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب ، فكانها ضاقت عليهم. والرحب : السعة ، وبفتح الراء الواسع. يقال : فلان رحب الصدر ، وبلد رحب ، وأرض رحبة ، وقد رحبت رحبا ورحابة. وقرأ زيد بن علي : بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم ، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرف. ثم وليتم مدبرين أي : وليتم فارين على أدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم ، إذ ثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء الله ، فيقول لما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه ، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفا إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم ، وبني كلاب ، وعبس ، وذبيان ، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم ، فجمعت له هوزان وألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري ، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا ، فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة ، حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها ، فانهزم المسلمون. قال قتادة : ويقال إنّ الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وبلغ فلهم مكة ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل ، والعباس قد اكتنفه آخذا بلجامها ، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وابنه جعفر ، وعلي بن أبي طالب ، وربيعة بن الحرث ، والفضل بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن ، وقتل بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء من أهل بيته ، وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال ، ولهذا قال العباس :

٣٩٣

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة

وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا

وعاشرنا لا قى الحمام بنفسه

بما مسه في الله لا يتوجع

وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكة بعيرا لأبي طلحة وفي يدها خنجر ، ونزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله ، وأخذ قبضة من تراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال : «شاهت الوجوه» قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا دخل عينيه من ذلك التراب ، وقال للعباس وكان صيتا : ناد أصحاب السمرة ، فنادى الأنصار فخذا فخذا ، ثم نادى يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقا واحدا وهم يقولون : لبيك لبيك ، وانهزم المشركون فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قتال المسلمين فقال : «هذا حين حمي الوطيس» وركض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفهم على بغلته. وفي صحيح مسلم من حديث البراء : أنّ هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا ، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر ، وهو يقول : «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك» قال البراء : كنا والله إذا حمي البأس نتقي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنّ الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي أول هذا الحديث : «أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟» فقال : اشهد عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ولى.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) السكينة : النصر الذي سكنت إليه النفوس ، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري : رحمته التي سكنوا بها. وقيل : الوقار والثبات بعد الاضطراب والقلق ، ويخرج من هذا القول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه ، وعلى المؤمنين ظاهره شمول من فرّ ومن ثبت. وقيل : هم الأنصار إذ هم الذين كروا وردّوا الهزيمة. وقيل : من ثبت مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حالة فرّ الناس. وقرأ زيد بن علي : سكينته بكسر السين وتشديد الكاف مبالغة في السكينة. نحو شرّيب وطبيخ.

(وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) هم الملائكة بلا خلاف ، ولم تتعرض الآية لعددهم. فقال الحسن : ستة عشر ألفا. وقال مجاهد : ثمانية آلاف. وقال ابن جبير : خمسة آلاف. وهذا تناقض في الأخبار ، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين. وعن ابن المسيب : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال : لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلما

٣٩٤

انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسانها فقالوا : شاهت الوجوه ، ارجعوا فرجعنا ، فركبوا أكتافنا. والظاهر انتفاء الرؤية عن المؤمنين ، لأن الخطاب هو لهم. وقد روي أنّ رجلا من بني النضير قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليها بيض ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة ، وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟ فأخبروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «تلك الملائكة». وقيل : لم تروها ، نفى عن الجميع ، ومن رأى بعضهم لم ير كلهم. وقيل : لم يرها أحد من المسلمين ولا الكفار ، وإنما أنزلهم يلقون التثبيت في قلوب المؤمنين والرعب والجبن في قلوب الكفار. وقال يزيد بن عامر : كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب.

(وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي بالقتل الذي استحر فيهم ، والأسر لذراريهم ونسائهم ، والنهب لأموالهم ، وكان السبي أربعة آلاف رأس. وقيل : ستة آلاف ، ومن الإبل اثنا عشر ألفا سوى ما لا يعلم من الغنم ، وقسمها الرسول بالجعرانة ، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره. وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عليها ، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة قال : هل يرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد القتلة المشهورة ، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي ويقال له : ابن الدغنة.

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إخبار بأن الله يتوب على من يشاء فيهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام ، ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن ومن أسلم معه من قومه. وروي أنّ ناسا منهم جاؤوا فبايعوا على الإسلام وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس ، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا ، وكان سبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : «إن خير القول أصدقه ، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإمّا أموالكم» فقالوا : ما نعدل بالأحساب شيئا. وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم وذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحملت منه فلم يردها.

أخبرنا القاضي العالم أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي قراءة مني عليه بمدينة مالقة. قال : أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن بيقي بن حبلة الخزرجي باوو بولة ، قال : أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني باسكندرية (ح) وأخبرنا أستاذنا الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير قراءة مني عليه

٣٩٥

بغرناطة عن القاضي أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني عن أبي طاهر السلفي وهو آخر من حدث عنه بالغرب ، (ح) وأخبرنا عاليا القاضي السعيد صفي الدين أبو محمد عبد الوهاب بن حسن بن الفرات قراءة عليه مرتين بثغر الاسكندرية ، عن أبي الطاهر إسماعيل بن صالح بن ياسين الجبلي وهو آخر من حدث عنه قالا : أعني السلفي والجبلي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ابراهيم الرازي ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن بقاء بن محمد الوراق بمصر أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عمر اليمني التنوخي بانتفاء خلف الواسطي الحافظ (ح) وأخبرنا المحدث العدل نجيب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني عرف بابن العجمي قراءة مني عليه بالقاهرة (قلت) له : أخبرك أبو الفخر أسعد بن أبي الفتوح بن روح وعفيفة بنت أحمد بن عبد الله في كتابيهما قالا : أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد بن عقيل الجوزدانية. قالت : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة الضبي ، قال : أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ قالا : ـ أعني التنوخي والطبراني ـ أخبرنا عبيد الله بن رماحس زاد التنوخي بن محمد بن خالد بن حبيب بن قيس بن رمادة من الرملة على بريدين في ربيع الآخر من سنة ثمانين ومائتين ، وقال الطبراني ابن رماحس الجشمي القيسي برمادة الرملة سنة سبع وسبعين ومائتين ، قال : حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق زاد التنوخي الجشمي. وقال الطبراني وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال التنوخي عن زياد أنبأنا زهير أبو جندل وكان سيد قومه وكان يكنى أبا صرد. قال : لما كان يوم حنين أسرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبينا هو يميز بين الرجال والنساء ، وثبت حتى قعدت بين يديه أذكره حيث شب ونشأ في هوازن ، وحيث أرضعوه فأنشأت أقول : وقال الطبراني عن زياد قال : سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول : لما أسرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين قوم هوازن ، وذهب يفرق السبي والشاء ، فأتيته فأنشأت أقول هذا الشعر :

امنن علينا رسول الله في كرم

فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على بيضة قد عاقها قدر

مفرق شملها في دهرها غير

أبقت لنا الحرب هتافا على حرن

على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركهم نعماء تنشرها

يا أرجح الناس حلما حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها

إذ فوك يملأوها من محضها الدرر

إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها

وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

٣٩٦

يا خير من مرحت كمت الجياد به

عند الهياج إذا ما استوقد ا

لشرر لا تجعلنا كمن شالت نعامته

واستبق منا فإنا معشر

زهر إنا نؤمل عفوا منك نلبسه

هذى البرية أن تعفو وت

نتصر إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت

وعندنا بعد هذا اليوم م

دّخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه

من أمهاتك أن العفو م

شتهر واعف عفا الله عما أنت راهبه

يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر

وفي رواية الطبراني تقديم وتأخير في بعض الأبيات ، وتغيير لبعض ألفاظ. فترتيب الأبيات بعد قوله : إذ أنت طفل قوله : لا تجعلنا ، ثم إنا لنشكر ، ثم فالبس العفو ، ثم تأخير من مرحت ، ثم إنا نؤمل ، ثم فاعف. وتغيير الألفاظ قوله : وإذ يربيك بالراء والباء مكان الزاي والنون. وقوله للنعماء : إذ كفرت. وقوله : إذ تعفو. وفي رواية الطبراني قال : فلما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الشعر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» وقالت قريش : ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وقالت الأنصار : ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وفي رواية التنوخي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فلله ولكم» وقالت الأنصار : ما كان لنا فلله ولرسوله ، ردّت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا أن يقرأ على مشركي مكة أول براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأنّ الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدّة وانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت. وقيل : لما نزل إنما المشركون نجس ، شق على المسلمين وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت : وإن خفتم عيلة الآية. والجمهور على أنّ المشرك من اتخذ مع الله إلها آخر ، وعلى أنّ أهل الكتاب ليسوا بمشركين. ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الإشراك لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (١) أي يكفر به. وقرأ الجمهور : نجس بفتح النون والجيم ، وهو مصدر نجس نجسا أي قذر قذرا ، والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس. قال ابن عباس ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيره : الشرك هو الذي نجسهم ، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١١٦.

٣٩٧

والخنازير. وقال الحسن : من صافح مشركا فليتوضأ. وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال : إن الوضوء يجب من مسّ المشرك ، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية. وقال قتادة ، ومعمر بن راشد وغيرهما : وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب ، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل ، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين ، وهو مذهب مالك. وقال ابن عبد الحكم : لا يجب ، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فجعلوا نجسا مبالغة في وصفهم بالنجاسة.

وقرأ أبو حيوة : نجس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، أي : جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وهو اسم فاعل من نجس ، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش. وقرأ ابن السميفع : أنجاس ، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف ، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل. وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين ، أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام. والظاهر أنّ النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام ، وهذا مذهب أبي حنيفة. وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد. وقال الزمخشري : إنّ معنى قوله : «فلا يقربوا المسجد الحرام» فلا يحجوا ولا يعتمروا ، ويدل عليه قول عليّ حين نادى ببراءة : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، قال : ولا يمنعون من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى. وقال الشافعي : هي عامة في الكفار ، خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد. وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد. وقال عطاء : المراد بالمسجد الحرام الحرم ، وأنّ علي المسلمين أن لا يمنكوهم من دخوله. وقيل : المراد من القربان أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ، ويعزلوا عن ذلك. وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية ، أو عبد المسلم ، والمعنى بقوله بعد عامهم هذا : هو عام تسع من الهجرة ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميرا على الموسم وأتبع بعلي ونودي فيها ببراءة. وقال قتادة : هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعيلة الفقر. وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه : عائلة وهو مصدر كالعاقبة ، أو نعت لمحذوف أي : حالا عائلة ، وإنّ

٣٩٨

هنا على بابها من الشرط. وقال عمرو بن قائد : المعنى وإذ خفتم كقولهم : إن كنت ابني فأطعني ، أي : إذ كنت. وكون إن بمعنى إذ قول مرغوب عنه. وتقدّم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى. قال الضحاك : ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة. وقال عكرمة : أغناهم بادرار المطر عليهم ، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم ، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، وعلق الإغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت. وقيل : لإجراء الحكم على الحكمة ، فإن اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم. وقال القرطبي : إعلاما بأنّ الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد ، وإنما هو فضل الله. ويروى للشافعي :

لو كان بالحيل الغني لوجدتني

بنجوم أقطار السماء تعلقي

لكن من رزق الحجا حرم الغنى

ضدان مفترقان أي تفرق

ومن الدليل على القضاء وكونه

بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

إن الله عليم بأحوالكم حكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة. وقال ابن عباس : عليم بما يصلحكم ، حكيم فيما حكم في المشركين.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) نزلت حين أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغز والروم ، وغزا بعد نزولها تبوك. وقيل : نزلت في قريظة والنضير فصالحهم ، وكانت أول جزية أصابها المسلمون ، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم ، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ، إذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به قاله الكرماني. وقال الزجاج : لأنهم جعلوا له ولدا وبدلوا كتابهم ، وحرموا ما لم يحرم ، وحللوا ما لم يحلل. وقال ابن عطية : لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ، إذ يلقونها من غير طريقها. وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة ، لأنهم شبهوا وقالوا : عزير ابن الله وثالث ثلاثة ، وغير ذلك. ولهم أيضا في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان. وقول اليهود في النار يكون فيها أياما انتهى. وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة ، والمؤمن لا يجسم انتهى. والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم الله في كتابه ورسوله في

٣٩٩

السنة. وقيل : في التوراة والإنجيل ، لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل ، والرسول على هذا موسى وعيسى ، وعلى القول الأول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : ولا يحرمون الخمر والخنزير وقيل : ولا يحرمون الكذب على الله ، قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (١) ، (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢) وقيل : ما حرم الله من الربا وأموال الأميين ، والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن. ولا يدينون دين الحق أي : لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق ، وما سواه باطل. وقيل : دين الحق دين الله ، والحق هو الله قاله : قتادة. يقال : فلان يدين بكذا أي يتخذه دينا ويعتقده. وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام ، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان له وخضع. قال زهير :

لئن حللت بجوفي بني أسد

في دين عمرو وحلت بيننا فدك

(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان لقوله : الذين. والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصا. وأجمع الناس على ذلك. وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أنّ الجزية تؤخذ منهم انتهى. وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب. وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم. وقالت فرقة : لا تؤخذ منهم جزية ، ولا توكل ذبائحهم. وقيل : تؤخذ منهم الجزية ، ولا تؤكل ذبائحهم. وقال الأوزاعي : تؤخذ من كل عابد وثن أو نار أو جاحد مكذب. وقال أبو حنيفة : لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية. وقال مالك : تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائنا من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد. وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط. والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين. وقال مالك في الواضحة : إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط ، وتضرب على رهبان الكنائس. واختلف في الشيخ الفاني ، ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس ولا لوقت إعطائها. فأما مقدارها فذهب مالك

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١١١.

٤٠٠