البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

سورة التّوبة

بسم الله الرحمن الرحيم

بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ

٣٦١

(٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ

٣٦٢

مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)

المرصد : مفعل من رصد يرصد رقب ، يكون مصدرا وزمانا ومكانا. وقال عامر بن الطفيل :

ولقد علمت وما إخالك ناسيا

أن المنية للفتى بالمرصد

الآل الحلف والجؤار ، ومنه قول أبي جهل.

٣٦٣

لآل علينا واجب لا نضيعه

متين قواه غير منتكث الحبل

كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار ، وله أليل أي أنين يرفع به صوته. وقيل : القرابة. وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر :

أفسد الناس خلوف خلفوا

قطعوا الآل وأعراق الرحم

وظاهر البيت أنه في العهد. ومن القرابة قول حسان :

لعمرك أن لك من قريش

كل السقب من رأل النعام

وسميت إلّا لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق. وقيل : من أل البرق لمع. وقال الأزهري : الأليل البريق ، يقال : أل يؤل صفا ولمع. وقال القرطبي : مأخوذ من الحدة ، ومنه الآلة الحربة. واذن مؤللة محددة ، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إلّ فمعناه : أنّ الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها ، والعهد يسمى إلّا لصفائه ، ويجمع في القلة الآل ، وفي الكثرة الألّ وأصل جمع القلة أألل ، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمة فأبدلها ألفا ، وأدغمت اللام في اللام ، الذمة ؛ العهد. وقال أبو عبيدة : الأمان. وقال الأصمعي : كل ما يجب أن يحفظ ويحمى.

أبي يأبى منع ، قال :

أبى الضيم والنعمان يخرق نابه

عليه فافضى والسيوف معاقله

وقال :

أبى الله إلا عدله ووفاءه

فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

ومجيء مضارعه على فعل بفتح العين شاذ ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة.

شفاه : أزال سقمه. العشيرة جماعة مجتمعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة. اقترف اكتسب. كسد الشيء كسادا وكسودا بار ولم يكن له نفاق. الموطن : الموقف والمقام ، قال الشاعر :

وكم موطن لولاي طحت كما هوى

بإجرامه من قلة النيق منهوي

ومثله الوطن. حنين : واد بين مكة والطائف ، وقيل : واد إلى جنب ذي المجاز.

العيلة : الفقر ، عال يعيل افتقر. قال :

٣٦٤

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

الجزية : ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام ، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها. أو لأنها تجزى بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل.

المضاهاة : المماثلة والمحاكاة ، وثقيف تقول : المضاهأة بالهمز ، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها ، إلا إن كان ضاهت يدعى أنّ أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت : توضيت ، وقريت ، وأخطيت فيمكن. وأما ضهيأ بالهمز مقصورا فهمزته زائدة كهمزة عرفىء ، أو ممدودا فهمزته للتأنيث زائدة ، أو ممدودا بعده هاء التأنيث. حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال : جمع بين علامتي تأنيث. ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض ، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال. فمن زعم أنّ المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين ، لأصالة همزة المضاهأة ، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) هذه السورة مدنية كلها ، وقيل : إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة ، وهذا قول الجمهور. وذكر المفسرون لها اسما واختلافا في سبب ابتدائها بغير بسملة ، وخلافا عن الصحابة : أهي والأنفال سورة واحدة ، أو سورتان؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك ، فأخلينا كتابنا منه ، ويطالع ذلك في كتب المفسرين.

ويقال : برئت من فلان أبرأ براءة ، أي انقطعت بيننا العصمة ، ومنه برئت من الدين. وارتفع براءة على الابتداء ، والخبر إلى الذين عاهدتم. ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة ، أو على إضمار مبتدأ أي : هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب. قال ابن عطية : أي الزموا ، وفيه معنى الإغراء. وقال الزمخشري : اسمعوا براءة. قال : (فإن قلت) : بم تعلقت البراءة ، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ (قلت) : قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولا ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم : اعلموا أنّ الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وقال ابن عطية : لما كان عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لازما لجميع أمته حسن أن يقول : عاهدتم. وقال ابن إسحاق وغيره : كانت العرب قد

٣٦٥

أوثقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهدا عاما على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية ، وأحل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده ، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر ، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي : يذهب فيها مسرحا آمنا. وظاهر لفظة من المشركين العموم ، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم.

وروي أنهم نكثوا إلّا بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين. وقال مقاتل : المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب : خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة. وقيل : هذه الآية في أهل مكة ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، فدخلت خزاعة في عهد الرسول ، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش ، وكان لبني الديل من بني بكر دم عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة ، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقوم أعانوهم بأنفسهم ، فهزمت خزاعة إلى الحرم ، فكان ذلك نقضا لصلح الحديبية ، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم ، فقدموا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستغيثين ، وأنشده عمرو فقال :

يا رب إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أبا وكنا ولدا

ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا عبدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

أبيض مثل الشمس ينمو صعدا

إن سيم خسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا

وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا الحطيم هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نصرت إن لم أنصركم» فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان ، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف ، فجعل المشركون ينقضون عهودهم ، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم ، وأذن في الحرب.

٣٦٦

فسيحوا أمر إباحة ، وفي ضمنه تهديد وهو التفات من غيبة إلى خطاب أي : قل لهم سيحوا.

يقال : ساح سياحة وسوحا وسيحانا ، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط. وقال طرفة :

لو خفت هذا منك ما نلتني

حتى ترى خيلا أمامي تسيح

قال ابن عباس والزهري : أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية ، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين ، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول ، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان. وقال السدّي وغيره : أولها يوم الأذان ، وآخرها العشر من ربيع الآخر. وقيل : العشر من ذي العقدة إلى عشرين من شهر ربيع الأول ، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة غير معجزي الله لا تفوتونه وإن أمهلكم وهو مخزيكم أي : مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب ، وفي الآخرة بالعذاب. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران : أنهم يقرأون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين ، واتباعا لكسرة النون. (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل : وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرأ الحسن والأعرج : إن الله بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأنّ ، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو لأنّ الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وزيد بن علي : ورسوله بالنصب ، عطفا على لفظ اسم أن. وأجاز الزمخشري أن ينتصب على أنه مفعول معه. وقرىء بالجر شاذا ، ورويت عن الحسن. وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار. وقيل : هي واو القسم. وروي أن أعرابيا سمع من يقرأ بالجر فقال : إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه القارئ إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية. وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلي الابتداء ، والخبر محذوف أي : ورسوله بريء منهم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وجوزوا فيه أن يكون معطوفا على الضمير المستكن في بريء ، وحسنه كونه فصل بقوله : من المشركين ، بين متحمله ، والمعطوف. ومن أجاز العطف على موضع اسم إنّ المكسورة أجاز ذلك ، مع أنّ المفتوحة. ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة ، ومنع مع المفتوحة.

قال ابن عطية : ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام

٣٦٧

سيبويه : أن لا موضع لما دخلت عليه إنّ ، إذ هو معرب قد ظهر فيه عمل العامل ، وأنه لا فرق بين إنّ وبين ليت ، والإجماع أنّ لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى. وهذا كلام فيه تعقب ، لأنّ علة كون إنّ لا موضع لما دخلت عليه ، ليس ظهور عمل العامل ، بدليل ليس زيد بقائم ، وما في الدار من رجل ، فإنه ظهر عمل العامل ، ولهما موضع. وقوله : والإجماع إلى آخره يريد : أنّ ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع ، وليس كذلك ، لأنّ الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن ، وأنّ حكم إنّ في كون اسمهن له موضع. وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة ، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد.

والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أنّ الأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء ، ويضعف جعله خيرا عن. وأذان إذا أعربناه مبتدأ ، بل الخبر قوله : إلى الناس. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله : من الله ورسوله. ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس ، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله : وأذان ، وهو بعيد من جهة أنّ المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة ، ومن جهة أنه لا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله ، وقد أخبر عنه بقوله : إلى الناس.

لما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحج ، فكره أن يرى المشركين يطوفون عراة ، فبعث أبا بكر أميرا على الموسم ، ثم أتبعه عليا ليقرأ هذه الآيات على أهل الموسم راكبا ناقته العضباء ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال : «لا يؤدي عني إلا رجل مني» فلما اجتمعا قال : أبو بكر أمير أو مأمور ، قال : مأمور. فلما كان يوم التروية خطب أبو بكر وقام عليّ يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال : «يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم» ، فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو أربعين. وعن مجاهد : ثلاث عشرة ثم قال : «أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، وأن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده» فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل : عادة العرب في نقض عهودها أن يتولى رجل من القبيلة ، فلو تولاه أبو بكر لقالوا هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود ، فلذلك جعل عليا يتولاه ، وكان أبو هريرة مع علي ، فإذا صحل صوت عليّ نادى أبو هريرة. والظاهر أنّ يوم الحج الأكبر هو يوم

٣٦٨

أحد. فقال عمر ، وابن الزبير ، وأبو جحيفة ، وطاووس ، وعطاء ، وابن المسيب : هو يوم عرفة ، وروى مرفوعا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو موسى ، وابن أبي أوفى ، والمغيرة بن شعبة ، وابن جبير ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد ، والسدي : هو يوم النحر. وقيل : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها ، قاله سفيان بن عيينة. قال ابن عطية : والذي تظاهرت به الأحاديث أنّ عليا أذّن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر ، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر ، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي‌الله‌عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره ، ويتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره ، وبهذا يترجح قول سفيان. ويقول : كان هذا يوم صفين ، ويوم الجمل ، يريد جميع أيامه. وقال مجاهد : يوم الحج الأكبر أيام منى كلها ، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم : إن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ، ووصفه بالأكبر. قال الحسن ، وعبد الله بن الحرث بن نوفل : لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون ، وصادف عيد اليهود والنصارى ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر. وضعف هذا القول بأنه تعالى لا يصفه بالأكبر لهذا. وقال الحسن أيضا : لأنه حج فيه أبو بكر ، ونبذت فيه العهود. قال ابن عطية : وهذا هو القول الذي يشبه نظر الحسن ، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونبذت فيه العهود ، وعز فيه الدين ، وذل فيه الشرك ، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله ، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه ، فحقه لهذا أن يسمى أكبر انتهى. ومن قال : إنه يوم عرفة ، فسمي الأكبر لأنه معظم واجباته ، فإذا فات فات الحج. ومن قال : إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج ، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي. وقيل : وصف بالأكبر لأنّ العمرة تسمى بالحج الأصغر. وقال منذر بن سعيد وغيره : كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة ، وكان الجمع يوم النحر بمنى ، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيه مفترقون. وقد ذكر المهدوي : أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي‌الله‌عنه. وحكى القرطبي عن ابن سيرين : أنّ يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع ، وحج معه الأمم ، وهذا يحتاج إلى إضمار ، كأنه قال : هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى. وسمي أكبر لأنه فيه ثبتت مناسك الحج. وقال فيه : «خذوا

٣٦٩

عني مناسككم» وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة ، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، فافترقتا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم ، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهدا وغيره ناكثا ، وغيره مسلما وكافرا ، هذا هو قول الجمهور. قيل : ويجوز أن يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية ، وبدليل مناداة عليّ بالجمل الأربع. فظاهره أنّ المخاطب بتلك الجمل الكفار ، ولما كان المجرور خبرا عن قوله وأذان ، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم. ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام ، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول. تقول : برئت منك ، وبرئت من الدين بخلاف من في قوله : براءة من الله ، فإنها في موضع الصفة (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي : من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسوله منكم. (فَهُوَ) أي التوب (خَيْرٌ لَكُمْ) في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم ، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار. (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي عن الإسلام (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تفوتوته عما يحل بكم من نقماته (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم ، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم ، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) قال قوم : هذا استثناء منقطع ، التقدير : لكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد أتموا إليهم عهدهم. وقال قوم منهم الزجاج : هو استثناء متصل من قوله : إلى الذين عاهدتم من المشركين. وقال الزمخشري : وجهه أن يكون مستثنى من قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) (١) لأنّ الكلام خطاب للمسلمين ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم : سيحوا ، إلا الذين عاهدتم منهم ، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم. والاستثناء بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين : ولكنّ الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفيّ كالغادر. وقيل : هو استثناء متصل ، وقبله جملة محذوفة تقديرها : اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذين عاهدتم ، وهذا قول ضعيف جدا ، والأظهر أن يكون منقطعا لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه. قال

__________________

(١) سورة براءة : ٩ / ٢.

٣٧٠

مجاهد وغيره : هم قوم كان بينهم وبين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد لمدة ، فأمر أن يفي لهم. وعن ابن عباس لما قرأ عليّ براءة قال لبني ضمرة وحي من كنانة وحي من سليم : إنّ الله قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية. والظاهر أنّ قوله : إلى مدتهم ، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين الرسول أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة. وعن ابن عباس : كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر ، فأتم إليهم عهدهم. وعنه أيضا : إلى مدتهم ، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية. وهذا بعيد ، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم ، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقض وعدم المظاهرة.

وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة ، وأبو زيد ، وابن السميفع : ينقضوكم بالضاد معجمة وتناسب العهد ، وهي بمعنى قراءة الجمهور ، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب. وهو على حذف مضاف ، أي ولم ينقضوا عهدكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني : هي بالضاد أقرب إلى معنى العهد ، إلا أنّ القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله : فأتموا إليهم. والتمام ضد النقص. وانتصب شيئا على المصدر ، أي : لا قليلا من النقص ولا كثيرا ، ولم يظاهروا عليكم أحدا كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتموا بإلى لتضمنه معنى فأدوا ، أي : فأدوه تاما كاملا. وقول قتادة : إنّ المستثنين هم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله. وقوله : يحب المتقين ، تنبيه على أنّ الوفاء العهد من التقوى ، وأنّ من التقوى أن لا يسوي بين القبيلتين.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) تقدم الكلام على انسلخ في قوله : فانسلخ. وقال أبو الهيثم : يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه ، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباسا منه ، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءا فجزءا حتى نسلخه عن أنفسنا كله ، فينسلخ. وأنشد :

إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله

كفيّ قاتلا سلخ الشهور وإهلال

والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها ، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال ، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها.

٣٧١

وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أن تذكر بالضمير نحو : لقيت رجلا فضربته. ويجوز أن يعاد اللفظ معرّفا بل نحو : لقيت رجلا فضربت الرجل ، ولا يجوز أن يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت : لقيت رجلا فضربت الرجل الأزرق ، وأنت تريد الرجل الذي لقيته ، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره ، ويكون المضروب غير الملقى. فإن وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو : لقيت رجلا فضربت الرجل المذكور. وهنا جاء الأشهر الحرم ، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها ، فليس الحرم وصفا مشعرا بالمغايرة. وقيل : الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة ، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السموات والأرض ، وهي التي جاء في الحديث فيها «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب» فتكون الأربعة من سنتين. وقيل : أولها المحرم ، فتكون من سنة. وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس ، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا. وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان ، وقد قتل أبو بكر أصحاب الردّة بالإحراق بالنار ، وبالحجارة ، وبالرمي من رؤوس الجبال ، والتنكيس في الآبار. وتعلق بعموم هذه الآية ، وأحرق عليّ قوما من أهل الرّدّة ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المثلة. ولفظ المشركين عام في كل مشرك ، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب ، ومن قاتل من هؤلاء قتل. وقال الزمخشري : يعني الذين نقصوكم وظاهروا عليكم. ولفظ : «حيث وجدتموهم» عام في الأماكن من حل وحرم. «وخذوهم» عبارة عن الأسر ، والأخيذ الأسير. ويدل على جواز أسرهم : واحصروهم ، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد وقيل : استرقوهم. وقيل : معناه حاصروهم إن تحصّنوا. وقرىء : فحاصروهم شاذا ، وهذا القول يروى عن ابن عباس. وعنه أيضا : حولوا بينهم وبين المسجد الحرام. وقيل : امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن. قال القرطبي في قوله : «واقعدوا لهم كل مرصد» دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة ، لأنّ المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة ، وهذا تنبيه على أنّ المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق ، إما بطريق القتال ، وإما بطريق الاغتيال. وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب ، وإسلال خيلهم ، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام ، إلا أن يصالحوا على مثل ذلك.

٣٧٢

قال الزمخشري : «كل مرصد» كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه ، وانتصابه على الظرف كقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١) انتهى. وهذا الذي قاله الزجاج قال : كل مرصد ظرف ، كقولك : ذهبت مذهبا ورده أبو علي ، لأنّ المرصد المكان الذي يرصد فيه العدوّ ، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعا كما حكي سيبويه : دخلت البيت ، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى. وأقول : يصح انتصابه على الظرف ، لأن قوله : «واقعدوا لهم» ليس معناه حقيقة القعود ، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ، ولما كان بهذا المعنى جاز قياسا أن يحذف منه في كما قال : وقد قعدوا منها كل مقعد.

فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملا من لفظه أو من معناه ، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في ، فيجوز جلست مجلس زيد ، وقعدت مجلس زيد ، تريد في مجلس زيد. فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه ، فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش : معناه على كل مرصد ، فحذف وأعمل الفعل ، وحذف على ، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه ، يخصه أصحابنا بالشعر. وأنشدوا :

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة

وأخفى الذي لو لا الأسى لقضاني

أي لقضي عليّ.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي عن الكفر والغدر. والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي ، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية ، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية ، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية ، وبهما تظهر القوة العملية ، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل. فخلوا سبيلهم ، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا ، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر :

خل السبيل لمن يبنى المنار به

أو يكون المعنى : فأطلقوهم من الأسر والحصر. والظاهر الأول ، لشمول الحكم لمن كان مأسورا وغيره.

وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعا ، وأبى الله أن لا تقبل الصلاة إلا

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١١٦.

٣٧٣

بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله : «لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة» وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام. قال الحافظ أبو بكر بن العربي : لا خلاف بين المسلمين أنّ من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر ، ودفن في مقابر الكفار ، وكان ماله فيئا. ومن ترك السنن فسق ، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر ، لأنه يصير رادا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء به وأخبر عنه انتهى. والظاهر أنّ مفهوم الشرط لا ينتهض أن يكون دليلا على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمدا غير مستحلّ ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره ، فلا يتعين القتل. وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال مكحول ، ومالك ، والشافعي ، وحماد بن زيد ، ووكيع ، وأبو ثور : يقتل. وقال ابن شهاب ، وأبو حنيفة ، وداود : يسجن ويضرب ، ولا يقتل. وقال جماعة من الصحابة والتابعين : يقتل كفرا ، وماله مال مرتد ، وبه قال إسحاق. قال إسحاق : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زماننا.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) قال الضحاك والسدّي : هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين. وقال الحسن ومجاهد : هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن ابن جبير : جاء رجل إلى علي رضي‌الله‌عنه فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال : لا ، لأن الله تعالى قال : وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى. وقيل : هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا ، والظاهر أنها محكمة. ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا ، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم ، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون ، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشدا طالبا للحجة والدلالة على ما يدعو إليه من الدين. فالمعنى : وإن أحد من المشركين استجارك ، أي طلب منك أن تكون مجيرا له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد ، ويقف على ما بعثت به ، فكن مجيرا له حتى يسمع كلام الله ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة. وحتى يصح أن تكون للغاية أي : إلى أن يسمع. ويصح أن تكون للتعليل ، وهي متعلقة في الحالين بأجره. ولا يصح أن يكون من باب التنازع ، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقا باستجارك أو بفأجره ، وذلك لمانع لفظي

٣٧٤

وهو : أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وحتى لا تجر المضمر ، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع. لكن من ذهب من النحويين إلى أنّ حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع ، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور. ولما كان القرآن أعظم المعجزات ، علق السماع به ، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم. وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك : أنت لم تسمع ، تريد لم تفهم. وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه. وقيل : مأمنه مصدر ، أي ثم أبلغه أمنه. وقد استدلت المعتزلة بقوله : «حتى يسمع كلام الله» على حدوث كلام الله ، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات. ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك ، وهذا مذكور في علم الكلام.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات ، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال ، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه. وفيها دلالة على أنّ التقليد غير كاف في الدين ، إذ كان لا يمهل بل يقال له : إما أن تسلم ، وإما أن تقتل. وفيها دلالة على أنه بعد سماع كلام الله لا يقر بأرض الإسلام ، بل يبلغ مأمنه ، وأنه يجب حفظه وحوطته مدة يسمع فيها كلام الله. والخطاب بقوله : استجارك وفأجره ، يدل على أنّ أمان السلطان جائز ، وأما غيره فالحر يمضي أمانه. وقال ابن حبيب : ينظر الإمام فيه والعبد. قال الأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وداود : له الأمان ، وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة : لا أمان له ، وهو قول في مذهب مالك. والحرة لها الأمان على قول الجمهور. وقال عبد الملك بن الماجشون : لا ، إلا أن يجيره الإمام ، وقوله شاذ. والصبي إذا أطاق القتال جاز أمانه ، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون ، أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن ، لا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد. قال التبريزي والكرماني : معناه النفي ، أي لا يكون لهم عهد وهم لكم ضد. ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك. وقال القرطبي :

٣٧٥

وفي الآية إضمار ، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث؟ انتهى.

والاستفهام يراد به النفي كثيرا ، ومنه قول الشاعر :

فها ذي سيوف يا هدى بن مالك

كثير ولكن ليس بالسيف ضارب

أي ليس بالسيف ضارب. ولما كان الاستفهام معناه النفي ، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل : منقطع ، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. قال الحوفي : ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين ، لأن معنى ما تقدم النفي ، أي : ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا. قال ابن عباس : هم قريش. وقال السدي : بنو جذيمة بن الديل. وقال ابن إسحاق : قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش. وقال الزمخشري : كبني كنانة وبني ضمرة. وقال قوم منهم مجاهد : هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح. وقال ابن زيد : هم قريش نزلت فلم يستقيموا ، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك. وضعف هذا القول بأنّ قريشا بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهم إلا مسلم ، وذلك بعد فتح مكة بسنة ، وكذلك خزاعة قاله الطبري. فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء.

وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف ، لقوله : كيف كان عاقبة مكرهم ، وأن يكون الخبر للمشركين. وعند على هذين ظرف للعهد ، أو ليكون ، أو للحال ، أو هي وصف للعهد. وأن يكون الخبر عند الله ، وللمشركين تبيين ، أو متعلق بيكون ، وكيف حال من العهد انتهى. والظاهر أنّ ما مصدرية ظرفية ، أي : استقيموا لهم مدة استقامتهم ، وليست شرطية. وقال أبو البقاء : هي شرطية كقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) (١) انتهى. فكان التقدير : ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم. وقال الحوفي : ما شرط في موضع رفع بالابتداء ، والخبر استقاموا ، ولكم متعلق باستقاموا ، فاستقيموا لهم الفاء جواب الشرط انتهى. فكان التقدير فأي : وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم. وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا ، لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء. وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم ، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل ، وتأولنا ما استشهد به. فعلى قوله تكون زمانية شرطية : أنّ الله يحب المتقين ، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين ،

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٢.

٣٧٦

والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين ، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد. والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها ، وحذف للعلم به في كيف السابقة ، والتقدير : كيف لهم عهد وحالهم هذه؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) (١). وقال الشاعر :

وخبرتماني إنما الموت بالقرى

فكيف وهاتا هضبة وكثيب

أي : فكيف مات وليس في قرية؟ وقال الحطيئة :

فكيف ولم أعلمهم خذلوكم

على معظم وأن أديمكم قدّوا

أي فكيف تلومونني على مدحهم؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر. وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله : كيف تطمئنون إليهم؟ وقدره غيره : كيف لا يقتلونهم؟ والواو في «وإن يظهروا» واو الحال. وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالا في قوله : (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) (٢) ومعنى الظهور العلو والظفر ، تقول : ظهرت على فلان علوته. والمعنى : وإن يقدروا عليكم ويظفروا بكم. وقرأ زيد بن علي : وإن يظهروا مبنيا للمفعول. لا يرقبوا : لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهدا أو قرابة أو حلفا أو سياسة أو الله تعالى ، أو جؤارا أي : رفع صوت بالتضرع ، أقوال.

قال مجاهد وأبو مجلز : إل اسم الله بالسريانية وعرب. ومن ذلك قول. أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة ، فقال : هذا كلام لم يخرج من إل. وقرأت فرقة : ألا بفتح الهمزة ، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد. وقرأ عكرمة : إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها ، فقيل : هو اسم الله تعالى. ويجوز أن يراد به إل أبدل من أحد المضاعفين ياء ، كما قالوا في : إما أيما. قال الشاعر :

يا ليتما أمنا سالت نعامتها

أيما إلى جنة أيما إلى نار

قال ابن جني : ويجوز أن يكون مأخوذا من آل يؤول إذا ساس ، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، أي : لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة ، من رأى أنّ الإل

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٩.

٣٧٧

هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين ، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان. ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أن ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم إذا كانوا غير ظاهرين ، فقال : يرضونكم بأفواههم. واستأنف هذا الكلام أي : حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم ، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد ، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن. وقيل : يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان ، وتأبى قلوبهم إلا الكفر. وقيل : يرضونكم في الطاعة ، وتأبي قلوبهم إلا المعصية. والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل : وأكثرهم ، لأن منهم من قضى الله له بالإيمان. وقيل : لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض ، ويجر أحدوثة السوء ، وأكثرهم خبثا الأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم ، ولا طباع مرضية تزعهم ، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة ، ومن كان بهذا الوصف كان مذموما عند الناس في جميع الأديان. ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة. وقيل : معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون ، قاله ابن عطية والكرماني.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم ، ويكون المعنى : اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمنا قليلا ، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر ، كان ذلك كالشراء والبيع. وقال مجاهد : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه. وقال أبو صالح : هم قوم من اليهود ، وآيات الله التوراة. وقال ابن عباس : هم أهل الطائف كانوا يمدون الناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام ، فصدوا عن سبيله أي صرفوا أنفسهم عن دين الله وعدلوا عنه. والظاهر أنّ ساء هنا محولة إلى فعل. ومذ هو بابها مذهب بئس ، ويجوز إقرارها على وصفها الأول ، فتكون متعدية أي : أنهم ساءهم ما كانوا يعملون ، فحذف المفهوم لفهم المعنى.

(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان ، ولما كان قوله : (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) (١) يتوهم أنّ ذلك مخصوص بالمخاطبين ، نبّه على علة ذلك ، وأنّ سبب المنافاة هو الإيمان ، وأولئك أي

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٨.

٣٧٨

الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المعتدون المجاوزون الحد في الظلم والشر ونقض العهد.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فإن تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم ، أي : فهم إخوانكم ، والإخوان ، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين. ومن زعم أنّ الإخوة تكون في النسب ، والإخوان في الصداقة ، فقد غلط. قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١) وقال : أو بيوت إخوانكم ، وعلق حصول الأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة ، ويظهر أنّ مفهوم الشرط غير مراد.

(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي نبيّنها ونوضحها. وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين ، بين قوله : فإن تابوا ، وقوله : وإن نكثوا ، بعثا وتحريضا على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام ، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي : وإن نقضوا إقسامهم من بعد ما تعاهدوا وتحالفوا على أن لا ينكثوا. وطعنوا : أي عابوه وثلبوه واستنقصوه. والطعن هنا مجاز ، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه ، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة : «إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل» أي عبتموها واستنقصتموها. والظاهر أنّ هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلا ، لأنّ من أسلم ثم ارتد فيكون قوله : فقاتلوا أئمة الكفر ، أي رؤساء الكفر وزعماءه. والمعنى : فقاتلوا الكفار ، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر. وقال الكرماني : كل كافر إمام نفسه ، فالمعنى فقاتلوا كل كافر. وقيل : من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأسا في الكفر ، فهو من أئمة الكفر. وقال ابن عباس : أئمة الكفر زعماء قريش. وقال القرطبي : هو بعيد ، لأن الآية في سورة براءة ، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة قريش ولم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم. وقال قتادة : المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة ، وغيرهم ، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال ، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير. وروي عن حذيفة أنه قال : لم يجىء هؤلاء بعد ، يريد لم ينقرضوا فهم يجيئون أبدا ويقاتلون. وقال ابن عطية : أصوب ما في هذا أن يقال : إنه لا يعني بها معين ، وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٠.

٣٧٩

العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين ، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون الإشارة إليهم أولا بقوله : أئمة الكفر ، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة ، إذ الذي يتولى قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة ، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى. وقيل : المراد بالعهد الإسلام ، فمعناه كفروا بعد إسلامهم. ولذلك قرأ بعضهم : وإن نكثوا إيمانهم بالكسر ، وهو قول الزمخشري ، قال : فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم ، إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد ، وقعدوا يطعنون في دين الله تعالى ويقولون ليس دين محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم. والمشهور من مذهب مالك أنّ الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئا مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحوه قتل. وقيل : إن أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك ، وإن كفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل. وقال أبو حنيفة : يستتاب ، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقية القتل. فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، وفي العتبية أنه يقتل ، ولا يكون أحسن حالا من المسلم.

وقرأ الحرميان وأبو عمرو : بإبدال الهمزة الثانية ياء. وروي عن نافع مد الهمزة. وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع : بهمزتين ، وأدخل هشام بينهما ألفا وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام ، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها. وقال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف لفظ أئمة؟ (قلت) : همزة بعدها همزة بين بين ، أي بين مخرج الهمزة والياء. وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة ، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين ، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ، ولا يجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى. وذلك دأبه في تلحين المقرءين. وكيف يكون ذلك لحنا وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء ، وقارئ مكة ابن كثير ، وقارئ مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نافع ، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم ، أو يكون على حذف الوصف أي : لا أيمان لهم يوفون بها. وقرأ الجمهور : بفتح الهمزة. وقرأ الحسن ، وعطاء ، وزيد بن علي ، وابن عامر : لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق. قال أبو علي : وهذا غير قوي ،

٣٨٠