البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

وهو النّبذ ومفعول (فَانْبِذْ) محذوف التقدير (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) عهدهم أي ارمه واطرحه ، وفي قوله (فَانْبِذْ) عدم اكتراث به كقوله (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) (١) (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) (٢) كما قال ، نبذ الحذاء المرقع ، وكأنه لا ينبذ ولا يرمى إلا الشيء التافه الذي لا يبالى به وقوّة هذا اللفظ تقتضي حربهم ومناجزتهم أن يستقصوا ومعنى (عَلى سَواءٍ) أي على طريق مستو قصد وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخبارا مكشوفا بيّنا أنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) فلا يكن منك إخفاء للعهد قاله الزمخشري بلفظه وغيره كابن عباس بمعناه ، وقال الوليد بن مسلم : (عَلى سَواءٍ) على مهل كما قال تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٣) الآية. وقال الفرّاء المعنى (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) على اعتدال وسواء من الأمر أي بيّن لهم على قدر ما ظهر منهم لا تفرط ولا تفجأ بحرب بل افعل بهم مثل ما فعلوا بك يعني موازنة ومقايسة. وقرأ زيد بن علي سواء بكسر السين وظاهر إنّ الله أن يكون تعليلا لقوله : (فَانْبِذْ) أي (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) على تبعد من الخيانة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) ويحتمل أن يكون طعنا على الخائنين الذين عاهدهم الرسول ويحتمل على سواء أن يكون في موضع الحال من الفاعل في (فَانْبِذْ) أي كائنا على طريق قصد أو من الفاعل والمجرور أي كائنين على استواء في العلم أو في العداوة.

ولا تحسبنّ (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) قال الزهري : نزلت فيمن أفلت من الكفار في بدر فالمعنى لا تظنهم ناجين مفلتين فإنهم لا يعجزون طالبهم بل لا بد من أخذهم ، قيل : وذلك في الدّنيا ولا يفوتون بل يظفرك الله بهم ، وقيل : في الآخرة قاله الحسن وقيل : (الَّذِينَ كَفَرُوا) عام قاله ابن عباس وأعجز غلب وفات ، قال سويد :

وأعجزنا أبو ليلى طفيل

صحيح الجلد من أثر السلاح

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ولا يحسبنّ بالياء أي (وَلا يَحْسَبَنَ) الرسول أو حاسب أو المؤمن أو فيه ضمير يعود على من خلفهم فيكون مفعولا يحسبنّ (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) لقراءة باقي السبعة بالتاء خطابا للرسول أو للسامع وجوّزوا أن يكون في قراءة الياء فاعل لا يحسبنّ ولا يحسبن هو (الَّذِينَ كَفَرُوا) وخرج ذلك على حذف المفعول الأوّل لدلالة المعنى عليه تقديره أنفسهم سبقوا وعلى إضمار أن قبل سبقوا فحذفت وهي مرادة فسدّت

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٨٧.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٤٠ ، وسورة الذاريات : ٥١ / ٤٠.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ١.

٣٤١

مسدّ مفعولي (يَحْسَبَنَ) ويؤيّده قراءة عبد الله أنهم سبقوا ، وقيل التقدير ولا تحسبنهم (الَّذِينَ كَفَرُوا) فحذف الضمير لكونه مفهوما وقد ردّدنا هذا القول في أواخر آل عمران ، وعلى أنّ الفاعل هو الذين كفروا خرّج الزمخشري قراءة الياء وذكر نقل توجيهها على حذف المفعول إما الضمير وإما أنفسهم وإما حذف أن وإما أنّ الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال يعني سابقين أو مفلتين هاربين وعلى (وَلا يَحْسَبَنَ) قتيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا ثم قال وهذه الأقاويل كلّها متمحلة وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة انتهى ، ولم يتفرّد بها حمزة كما ذكر بل قرأ بها ابن عامر وهو من العرب الذين سبقوا اللّحن وقرأ علي وعثمان وحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش ، وتقدم ذكر توجيهها على غير ما نقل مما هو جيّد في العربية فلا التفات لقوله وليست بنيرة وتقدّم ذكر في فتح السين وكسرها في قوله (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ) (١) وأما قوله : وقيل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة فهذا لا يتأتي على قراءة حمزة لأنه يقرأ بكسر الهمزة ولو كان واقعا عليه لفتح أن وإنما فتحها من السبعة ابن عامر وحده واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي أي لا تحسبنّهم فائتين لأنهم لا يعجزون أي لا يقع منك حسبان لفوتهم لأنهم لا يعجزون أي لا يفوتون ، وقرأ الأعمش ولا يحسب بفتح السين والياء من تحت وحذف النون وينبغي أن يخرج على حذف النون الخفيفة لملاقاة الساكن فيكون كقوله :

لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه

وقرأ ابن محيصن لا تعجزوني بكسر النون وياء بعدها ، وقال الزجاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على أن المعنى أنهم لا يعجزونني وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال الشاعر :

تراه كالثّغام يعمل مسكا

يسوء الغالبات إذا فليني

البيت لعمرو بن معدي كرب ، وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة :

ولقد علمت ولا محالة أنّني

للحادثات فهل تريني أجزع

فهذا يجوز على الاضطرار فقال قوم : حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها في

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٣.

٣٤٢

موضع الإعراب ، وقال المبرّد أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية وكذا كان يقول في بيت عمرو ، وقرأ طلحة بكسر النون من غير تشديد ولا ياء ، وعن ابن محيصن تشديد النون وكسرها أدغم نون الإعراب في نون الوقاية وعنه أيضا بفتح النون وتشديد الجيم وكسر النون ، قال النحاس : وهذا خطأ من وجهين أحدهما أنّ معنى عجزه ضعفه وضعف أمره والآخر أنه كان يجب أن يكون بنونين انتهى ، أما كونه بنون واحدة فهو جائز لا واجب وقد قرىء به في السبعة وأما عجزني مشدّدا فذكر صاحب اللوامح أن معناه بطأ وثبط قال وقد يكون بمعنى نسبني إلى العجز والتشديد في هذه القراءة من هذا المعنى فلا تكون القراءة خطأ كما ذكر النحاس.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ). لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل آلة ولا عدة وأمره تعالى بالتشريد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سبيلا للأخذ في قتاله والتمالؤ عليه فأمره تعالى للمؤمنين بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد والإعداد الارصاد وعلّق ذلك بالاستطاعة لطفا منه تعالى والمخاطبون هم المؤمنون والضمير في (لَهُمْ) عائد على الكفار المتقدّمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت ويعمّ من بعده. وقيل : يعود على الذين ينبذ إليهم العهد والظاهر العموم في كل ما يتقوى به على حرب العدوّ مما أورده المفسّرون على سبيل الخصوص والمراد به التمثيل كالرّمي وذكور الخيل وقوّة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وآلات الحرب وعددها والأزواد والملابس الباهية حتى إنّ مجاهدا رئي يتجهز للجهاد وعنده جوالق فقال هذا من القوة وأما ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر يقول «(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ألا إنّ القوة الرّمي ألا إن القوة الرمي» فمعناه والله أعلم أنّ معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي كما جاء «الحجّ عرفة» وجاء في فضل الرمي أحاديث وعلى ما اخترناه من عموم القوة يكون قوله (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) تنصيص على فضل رباط الخيل إذا كانت الخيل هي أصل الحروب والخير معقود بنواصيها وهي مراكب الفرسان الشجعان ، وقال أبو زيد الرّباط من الخيل الخمس فما فوقها وجماعة ربط وهي التي ترتبط يقال : منه ربط ربطا وارتبط انتهى ، قال :

تلوم على ربط الجياد وحبسها

وأوصى بها الله النبيّ محمدا

٣٤٣

قال ابن عطية : و (رِباطِ الْخَيْلِ) جمع ربط ككلب وكلاب ولا يكثر ربطها إلّا وهي كثيرة ويجوز أن يكون الرّباط مصدرا من ربط كصاح صياحا لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس وإن جعلناه مصدرا من رابط وكان ارتباط الخيل واتخاذها يفعله كل واحد لفعل آخر فيرابط المؤمنون بعضهم بعضا فإذا ربط كل واحد منهم فرسا لأجل صاحبه فقد حصل بينهم رباط وذلك الذي حضّ في الآية عليه وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ارتبط فرسا في سبيل الله فهو كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها» والأحاديث في هذا المعنى كثيرة انتهى ، فجوّز في رباط أن يكون جمعا لربط وأن يكون مصدرا لربط والرابط وقوله : لأنّ مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بل لها مصادر منقاسة ذكرها النحويون ، وقال الزمخشري والرّباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ويجوز أن تسمى بالرّباط الذي هو بمعنى المرابطة ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وعمرو بن دينار ومن ربط بضمّ الراء والباء وعن أبي حيوة والحسن أيضا ربط بضمّ الراء وسكون الباء وذلك نحو كتاب وكتب وكتب ، قال ابن عطية : وفي جمعه وهو مصدر غير مختلف نظر انتهى ، ولا يتعيّن كونه مصدرا ألا ترى إلى قول أبي زيد إنه من الخيل الخمس فما فوقها وإنّ جماعها ربط وهي التي ترتبط والظاهر عموم الخيل ذكورها وإناثها.

وقال عكرمة : (رِباطِ الْخَيْلِ) إناثها وفسّر القوة بذكورها واستحبّ رباطها بعض العلماء لما فيها من النّتاج كما قال : بطونها كنز ، وقيل : (رِباطِ الْخَيْلِ) الذكور منها لما فيها من القوة والجلد على القتال والكفاح والكرّ والفرّ والعدو والضمير في (بِهِ) عائد على ما من قوله (مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، وقيل : على الإعداد ، وقيل : على القوّة ، وقيل : على (رِباطِ) و (تُرْهِبُونَ) ، قالوا : حال من ضمير (وَأَعِدُّوا) أو من ضمير (لَهُمْ) ويحصل بهذا الارتباط والإرهاب فوائد منها : إنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام وباشتداد الخوف قد يلتزمون الجزية أو يسلمون أو لا يعينون سائر الكفار ، وقرأ الحسن ويعقوب وابن عقيل لأبي عمرو و (تُرْهِبُونَ) مشدّدا عدى بالتضعيف كما عدى بالهمزة ، قال أبو حاتم وزعم عمرو أن الحسن قرأ يرهبون بالياء من تحت وخفّفها انتهى ، والضمير في يرهبون عائد على ما عاد عليه (لَهُمْ) وهم الكفار والمعنى أنّ الكفار إذا علموا بما أعددتم للحرب من القوة ورباط الخيل خوفوا من يليهم من الكفار وأرهبوهم إذ يعلمونهم ما أنتم عليه من الإعداد للحرب فيخافون منكم وإذا كانوا قد أخافوا من يليهم منكم فهو أشد خوفا لكم.

وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد : تخزون به مكان ترهبون به وذكرها الطبري على

٣٤٤

جهة التفسير لا على جهة القراءة وهو الذي ينبغي لأنه مخالف لسواد المصحف ، وقرأ السلمي عدوّا لله بالتنوين ولام الجر ، قال صاحب اللوامح : فقيل أراد به اسم الجنس ومعناه أعداء الله وإنما جعله نكرة بمعنى العامّة لأنها نكرة أيضا لم تتعرف بالإضافة إلى المعرفة لأنه اسم الفاعل ومعناه الحال والاستقبال ولا يتعرف ذلك وإن أضيف إلى المعارف وأما (عَدُوَّكُمْ) فيجوز أن يكون كذلك نكرة ويجوز أن يكون قد تعرّف لإعادة ذكره ومثله رأيت صاحبا لكم فقال لي صاحبكم والله أعلم انتهى.

وذكر أولا (عَدُوَّ اللهِ) تعظيما لما هم عليه من الكفر وتقوية لذمّهم وأنه يجب لأجل عداوتهم لله أن يقاتلوا ويبغضوا ثم قال (وَعَدُوَّكُمْ) على سبيل التحريض على قتالهم إذ في الطبع أن يعادي الإنسان من عاداه وأن يبغي له الغوائل والمراد بهاتين الصفتين من قرب من الكفار من ديار الإسلام من أهل مكة ومشركي العرب ، قيل ويجوز أن يراد جميع الكفار وآخرين من دونهم أصل دون أن تكون ظرف مكان حقيقة أو مجاز. قال ابن عطية : (مِنْ دُونِهِمْ) بمنزلة قولك دون أن تكون هؤلاء فدون في كلام العرب ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ومنه المثل : وأمر دون عبيدة الوزم ، قال مجاهد وآخرين : بنو قريظة ، وقال مقاتل : اليهود ، وقال السدّي : أهل فارس ، وقالت فرقة : كفار الجن ورجّحه الطبري واستند في ذلك إلى ما روي من أنّ صهيل الخيل تنفر الجنّ منه وأنّ الشياطين لا تدخل دارا فيها فرس الجهاد ونحو هذا ، وقالت فرقة : هم كل عدوّ للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشرّد بهم من خلفهم ، وقال ابن زيد : هم المنافقون وهذا أظهر لأنه قال (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم إذ هم متسترون عن أن تعلموهم بالإسلام فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلّق بالذوات وليس متعلقا بالنسبة ومن جعله متعلقا بالنسبة فقدّر مفعولا ثانيا محذوفا وقدره محاربين فقد أبعد لأنّ حذف مثل هذا دون تقدّم ذكر ممنوع عند بعض النحويين وعزيز جدا عند بعضهم فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى وقدّره بعضهم لا تعلمونهم فارغين راهبين الله يعلّمهم بتلك الحالة والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين كما قلنا على جهة الطّعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كلّ من يعلم منها نفاقا إذا سمع الآية وبفزعهم ورهبتهم غنى كبير في ظهور الإسلام وعلوّه ، وقال القرطبي ما معناه لا ينبغي أن يعين قوله (وَآخَرِينَ) لأنه تعالى قال (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) فكيف يدّعي أحد علما بهم إلا أن يصحّ حديث فيه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى ، ثم

٣٤٥

حضّ تعالى على النفقة في سبيل الله من جهاد وغيره وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل وجهّز عثمان جيش العسرة بألف دينار يوفّ إليكم جزاؤه وثوابه من غير نقص ، وقيل هذه التوفية في الدنيا على ما أنفقوا مع ما أعدّ لهم في الآخرة من الثواب.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). جنح الرّجل إلى الآخر مال إليه وجنحت الإبل مالت أعناقها في السير. قال ذو الرمة :

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه

بذكراك والعيس المراسيل جنح

وجنح الليل أقبل وأمال أطنابه إلى الأرض. وقال النابغة يصف طيورا تتبع الجيش :

جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله

إذا ما التقى الجيشان أوّل غالب

ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة ومنه الجناح لميله ، وقال النضر بن شميل : جنح الرّجل إلى فلان وجنح له إذا تابعه وخضع له والضمير في (جَنَحُوا) عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنضير ، وقيل على مشركي قريش والعرب ، وقيل على قوم سألوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبول الجزية منهم وجنح يتعدى بإلى وباللام والسّلم يذكر ويؤنّث. فقيل : التأنيث لغة ، وقيل على معنى المسالمة ، وقيل حملا على النقيض وهو الحرب ، وقال الشاعر :

وأفنيت في الحرب آلاتها

وعددت للسلم أوزارها

وتقدّم الخلاف في قراءة فتح السين وكسرها والسّلم الصّلح لغة ، فقال قتادة هي موادعة المشركين ومهادنتهم وهذا راجع إلى رأي الإمام فإن رآه مصلحة فعل وإلا فلا ، وقيل نزلت في قوم معتب سألوا الموادعة فأمر الله نبيه الإجابة إليها ثم نسخت بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، وقيل : أداء الجزية ، وقال الحسن : السلم الإسلام ، وعن ابن عباس نسخت بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، وعن مجاهد بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، قال الزمخشري : والصحيح أنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا ، وقرأ الأشهب العقيلي (فَاجْنَحْ) بضمّ النون وهي لغة قيس والجمهور بفتحها وهي لغة تميم ، وقال ابن جني : القياس في فعل اللازم ضم عين الكلمة في المضارع وهي أقيس من يفعل بالكسر وأمره تعالى بالتوكل عليه فلا يبالي بهم وإن أبطنوا الخديعة في

٣٤٦

جنوحهم إلى السلم فإنّ الله كافي من توكّل عليه و (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بنياتهم.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). أي وإن يرد الجانحون للسّلم بأن يظهروا السلم ويبطنوا الخيانة والغدر مخادعة فاجنح لها فما عليك من نياتهم الفاسدة (فَإِنَّ حَسْبَكَ) وكافيك هو (اللهُ) ومن كان الله حسبه لا يبالي بمن ينوي سوءا ثم ذكره بما فعل معه أولا من تأييده بالنّصر وبائتلاف المؤمنين على إعانته ونصره على أعدائه فكما لطف بك أوّلا يلطف بك آخرا والمؤمنون هنا الأوس والخزرج وكان بين الطائفتين من العداوة للحروب التي جرت بينهم ما كان لو لا الإسلام لينقضي أبدا ولكنه تعالى منّ عليهم بالإسلام فأبدلهم بالعداوة محبة وبالتباعد قربا.

ومعنى (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضا وكونها في الأوس والخزرج ، تظاهر به أقوال المفسرين ، وقال ابن مسعود : نزلت في المتحابّين في الله ، قال ابن عطية ولو ذهب ذاهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان بين جمعهم فكل يألف في الله. وقال الزمخشري : التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأوا من الآيات الباهرة لأنّ العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لا يكاد يأتلف منهم قلبان ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتحدوا وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم وأحدث بينهم من التحابّ والتوادّ وأما عنهم من التباغض وكلّفهم من الحب في الله والبغض في الله ولا يقدر على ذلك إلّا من يملك القلوب فهو يقلبها كما يشاء ويصنع فيها ما أراد انتهى ، وكلامه آخرا قريب من كلام أهل السنة لأنهم قالوا في هذه الآية دليل على أنّ العقائد والإرادات والكراهات من خلق الله لأنّ ما حصل من الإلف هو بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو كان الإيمان فعلا للعبد لكانت المحبّة المترتبة عليه فعلا للعبد وذلك خلاف صريح الآية ، وقال القاضي : لو لا ألطاف الله تعالى ساعة ساعة ما حصلت هذه الأحوال فأضيفت إلى الله على هذا التأويل ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته فكذلك هنا انتهى ، وهذا هو مذهب المعتزلة.

٣٤٧

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وقال ابن عباس وابن عمر وأنس : في إسلام عمر ، قال ابن جبير : أسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت ، والظاهر رفع (وَمَنِ) عطفا على ما قبله وعلى هذا فسّره الحسن وجماعة أي (حَسْبُكَ اللهُ) والمؤمنون ، وقال الشعبي وابن زيد معنى الآية : حسبك الله وحسب من اتبعك ، قال ابن عطية : فمن في هذا التأويل في موضع نصب عطفا على موضع الكاف لأنّ موضعها نصب على المعنى بيكفيك الذي سدّت (حَسْبُكَ) مسدّها انتهى ، وهذا ليس بجيّد لأنّ حسبك ليس مما تكون الكاف فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب و (حَسْبُكَ) مبتدأ مضاف إلى الضمير وليس مصدرا ولا اسم فاعل إلا إنّ قيل إنه عطف على التوهم كأنه توهم أنه قيل يكفيك الله أو كفاك الله ، ولكنّ العطف على التوهم لا ينقاس فلا يحمل عليه القرآن ما وجدت مندوحة عنه والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الشعبي وابن زيد هو أن يكون (وَمَنِ) مجرورة على حذف وحسب لدلالة (حَسْبُكَ) عليه فيكون كقوله :

أكل امرئ تحسبين امرأ

ونار توقد بالليل نارا

أي وكلّ نار فلا يكون من العطف على الضمير المجرور ، وقال ابن عطية : وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بأنه ضرورة الشعر انتهى ، وليس بمكروه ولا ضرورة وقد أجاز سيبويه في الكلام وخرج عليه البيت وغيره من الكلام الفصيح ، قال الزمخشري (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) الواو بمعنى مع وما بعده منصوب تقول وحسبك وزيدا درهم ولا يجرّ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع. قال :

فحسبك والضحّاك سيف مهند

والمعنى كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا انتهى ، وهذا الذي قاله الزمخشري مخالف لكلام سيبويه ، قال سيبويه : قالوا حسبك وزيدا درهم لما كان فيه من معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال حسبك ويحسب أخاك درهم ولذلك كفيك انتهى ، كفيك هو من كفاه يكفيه وكذلك قطّك تقول كفيك وزيدا درهم وقطّك وزيدا درهم وليس هذا من باب المفعول معه وإنما جاء سيبويه به حجة للحمل على الفعل للدلالة فحسبك يدلّ على كفاك ويحسبني مضارع أحسبني فلان إذا أعطاني حتى أقول حسبي فالناصب في هذا فعل يدلّ عليه المعنى وهو في كفيك وزيدا درهم أوضح لأنه

٣٤٨

مصدر للفعل المضمر أي ويكفي زيدا وفي قطّك وزيدا درهم التقدير فيه أبعد لأنّ قطّك ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه إنما هو مفسر من حيث المعنى فقط وفي ذلك الفعل المضمر فاعل يعود على الدرهم والنية بالدرهم التقديم فيصير من عطف الجمل ولا يجوز أن يكون من باب الأعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله فلا يتوهم ذلك ، وقال الزّجاج : حسب اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع انتهى ، فعلى هذا يكون (اللهُ) فاعلا لحسبك وعلى هذا التقدير يجوز في (وَمَنِ) أن يكون معطوفا على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرور لأن اسم الفعل لا يضاف إلا أنّ مذهب الزّجاج خطأ لدخول العوامل على (حَسْبُكَ) تقول بحسبك درهم وقال تعالى : (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) (١) ، ولم يثبت كونه اسم فعل في مكان فيعتقد فيه أنه يكون اسم فعل واسما غير اسم فعل كرويد وأجاز أبو البقاء رفع (وَمَنِ) على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره وحسبك من اتبعك وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كذلك أي حسبهم الله ، وقرأ الشعبي (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) بإسكان النون وأتبع على وزن أكرم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). هاتان الجملتان شرطيّتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ولذلك دخلها النسخ إذ لو كان خبرا محضا لم يكن فيه النسخ لكنّ الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النّسخ وهذا من ذلك ولذلك نسخ بقوله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) والتقييد بالصبر في أول كلّ شرط لفظا هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى وتقييد الشرط الثاني بقوله : (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لفظا هو محذوف من الشرط الأول في قوله : (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فانظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيد من الجملة الأولى وحذف نظيره من الثانية وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبيّة أثبت في أولى جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختمت الآية بقوله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) مبالغة في شدّة المطلوبيّة ولم يأت في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاء بما قبل ذلك وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٦٢.

٣٤٩

الصحابة أنّ ثبات الواحد للعشرة كان فرضا لما شقّ عليهم انتقل إلى ثبات الواحد للاثنين على سبيل التقرّب أيضا ، وسواء كان فرضا أم ندبا هو نسخ وقول من قال : إنه تخفيف لا نسخ كمكي بن طالب ضعيف.

قال مكي : إنما هو كتخفيف الفطر في السفر ولو صام لم يأتم وأجزأه ومناسبة هذه الأعداد أنّ فرضيّة الثبات أو نديبته كان أولا في ابتداء الإسلام فكان العشرون تمثيلا للسرية والمائة تمثيلا للجيش فلما اتسع نطاق الإسلام وذلك بعد زمان كان المائة تمثيلا للسّرايا والألف تمثيلا للجيش وليس في أمره تعالى نبيه بتحريض المؤمنين على القتال دليل على ابتداء فرضية القتال بل كان القتال مفترضا قبل هذه الآية وإنما جاءت هذه حثّا على أمر كان وجب عليهم ونصّ تعالى على سبب الغلبة بأن الكفار قوم لا يفقهون ، والمعنى أنهم قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فتفل نياتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته فهو تعالى يخذلهم وذلك بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو موعود من الله بالنصر والغلبة.

وعن ابن جريج : كان عليهم أن لا يفرّوا ويثبت الواحد للعشرة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث حمزة في ثلاثين راكبا فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب ، قيل ثم ثقل عليهم ذلك وضجّوا منه وذلك بعد مدّة طويلة فنسخ وخفّف عنهم بمقاومة الواحد للاثنين ، وقال بعض العلماء الذي استقرّ حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية إنّ كل مسلم بالغ وقف بإزاء المشركين عبدا كان أو حرّا فالهزيمة عليه محرّمة ما دام معه سلاحه يقاتل به فإن كان ليس معه سلاح فله أن ينهزم وإن قابله ثلاثة حلّت له الهزيمة والصبر أحسن ، وروى البيهقي وغيره : أنّ جيش مؤتة وكانوا ثلاثة آلاف من المسلمين وقفوا لمائتي ألف مائة ألف من الروم ومائة ألف من الأنباط وروي أنهم وقفوا لأربعمائة ألف والأوّل هو الصحيح وفي تاريخ فتح الأندلس أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف رجل وسبعمائة رجل إلى الأندلس وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة فالتقي هو وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق وكان الفتح انتهى وما زالت جزيرة الأندلس تلتقي الشرذمة القليلة منهم بالعدد الكثير من النصارى فيغلبونهم ، وأخبرنا من حضر الوقعة التي كانت في الديموس الصغير على اثني عشر ميلا من مدينة غرناطة سنة تسع عشرة وسبعمائة وكان المسلمون ألفا وسبعمائة فارس من الأندلسيين والبربر وكان النصارى مائة ألف راجل وستين ألف رام وخمسة عشر ألف فارس بين رام

٣٥٠

ومدرّع فصبروا لهم وأسروا أكابرهم وقتلوا ملك قشتالة دون جوان ونجا أخوه دون بطر مجروحا وكان ملوك النصارى ملك قشتالة المذكور وملك إفرنسة وملك يوطقال وملك غلسية وملك قلعة رباح قد خرجوا عازمين على استئصال المسلمين من الجزيرة فهزمهم الله.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : لم كرر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده ، (قلت) : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ولا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين للمائتين والمائة للألف فكذلك بين المائة للمائتين والألف للألفين انتهى ، ومعنى (بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته وتمكينه وفي قوله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ترغيب في الثبات للقاء العدوّ وتبشير بالنصر والغلبة لأنه من كان الله معه هو الغالب ، وقرأ الأعمش حرص بالصاد المهملة وهو من الحرص وهو قريب من قراءة الجمهور بالضّاد ، وقرأ الكوفيون (يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ) على التذكير فيهما ورواها خارجة عن نافع ، وقرأ الحرميان وابن عامر على التأنيث ، وقرأ أبو عمرو على التذكير في الأول ولحظ يغلبوا والتأنيث في الثانية ولحظ (صابِرَةٌ) ، وقرأ الأعرج على التأنيث كلها إلا قوله : (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ) فإنه على التذكير بلا خلاف ، وقرأ المفضل عن عاصم وعلم مبنيّا للمفعول ، وقرأ الحرميان والعربيّان والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق (ضَعْفاً) وفي الرّوم بضمّ الضاد وسكون العين وعيسى بن عمر بضمّهما وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين وهي كلها مصادر ، وعن أبي عمرو بن العلاء ضمّ الضاد لغة الحجاز وفتحها لغة تميم ، وقرأ ابن القعقاع (ضَعْفاً) جمع ضعيف كظريف وظرفاء وحكاها النّقّاش عن ابن عباس ، فقيل الضّعف في الأبدان ، وقيل في البصيرة والاستقامة في الذين وكانوا متفاوتين في ذلك ، وقال الثعالبي الضّعف بفتح الضّاد في العقل والرأي والضعف في الجسم ، وقال ابن عطية وهذا قول تردّه القراءة انتهى.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)

٣٥١

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

نزلت في أسرى بدر وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استشار أبا بكر وعمر وعليّا فأشار أبو بكر بالاستحياء وعمر بالقتل في حديث طويل يوقف عليه في صحيح مسلم ، وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة ما كان للنبي معرّفا والمراد به في التنكير والتعريف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معينا وتقدّم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي وهو هنا على حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبيّ فحذف اختصارا ولذلك جاء الجمع في قوله (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) ولم يجىء التركيب تريد أو يريد عرض الدنيا لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد عرض الدنيا قط ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب وقد طول المفسرون في قصّة هؤلاء الأسارى ، وذلك مذكور في السّير وحذفناه نحن لأن في بعضه ما لا يناسب ذكره بالنسبة إلى مناصب الرسل.

وقرأ أبو عمر وأن تكون على تأنيث لفظ الجمع وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى ، وقرأ الجمهور والسبعة (أَسْرى) على وزن فعلى وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفة كجريج وجرحى ، وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم أسارى وشبه فعيل بفعلان نحو كسلان وكسالى كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعا كسلى قاله سيبويه وهما شاذّان ، وزعم الزجاج أن أسارى جمع أسرى فهو جمع جمع وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في فعلى أهو جمع أو اسم جمع وأنّ مذهب سيبويه أنه من أبنية الجموع ومدلول أسرى وأسارى واحد ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء الأسرى هم غير الموثوقين عند ما يؤخذون والأسارى هم الموثقون ربطا ، وحكى أبو حاتم أنه سمع ذلك من العرب وقد ذكره أيضا أبو الحسن الأخفش ، وقال العرب : لا تعرف هذا كلاهما عندهم سواء.

وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب (حَتَّى يُثْخِنَ) مشدّدا عدوه بالتضعيف والجمهور بالتخفيف وعدوّه بالهمزة إذ كان قبل التعدية ثخن ومعنى (عَرَضَ الدُّنْيا) ما أخذتم في فداء الأسارى وكان فداء كل رجل عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعون أوقية وعن ابن سيرين مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهما وستة دنانير ، وكانوا مالوا إلى الفداء ليقووا ما يصيبونه على الجهاد وإيثارا للقرابة ورجاء الإسلام وكان الإثخان والقتل أهيب للكفار وأرفع لمنار الإسلام وكان ذلك إذ المسلمون قليل فلما اتسع نطاق الإسلام وعزّ أهله نزل فإما منا بعد وإما فداء ، وقرىء يريدون بالياء من تحت وسمى عرضا لأنه

٣٥٢

حدث قليل اللبث ، وقرأ الجمهور (الْآخِرَةَ) بالنصب ، وقرأ سليمان بن جماز المدنيّ بالجرّ واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف فمنهم من قدّره عرض الآخرة ، قال : وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه ، قال بعضهم : وقد حذف العرض في قراءة الجمهور وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب فنصب وممن قدّره عرض الآخرة الزمخشري قال على التقابل يعني ثوابها انتهى. ونعني أنه لما أطلق على الفداء عرض الدنيا أطلق على ثواب الآخرة عرضا على سبيل التقابل لا أن ثواب الآخرة زائل فإن كعرض الدنيا فسمّي عرضا على سبيل التقابل وإن كان لو لا التقابل لم يسمّ عرضا وقدّره بعضهم عمل الآخرة أي المؤدّي إلى الثواب في الآخرة وكلهم جعله كقوله :

ونار توقد بالليل نارا.

ويعنون في حذف المضاف فقط وإبقاء المضاف إليه على جرّه لأن جرّه مثل ونار جائز فصيح وذلك إذا لم يفصل بين المجرور وحرف العطف أو فصل بلا نحو ما مثل زيد ولا أخيه يقولان ذلك وتقدم المحذوف مثله لفظا ومعنى وأما إذا فصل بينهما بغير لا كهذه القراءة فهو شاذّ قليل ، (وَاللهُ عَزِيزٌ) ينصر أولياءه ويجعل الغلبة لهم ويمكّنهم من أعدائهم قتلا وأسرا (حَكِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها.

قال ابن عباس ومقاتل (لَوْ لا) أنّ الله كتب في أمّ الكتاب أنه سيحلّ لكم الغنائم (لَمَسَّكُمْ) فيما تعجّلتم منها ومن الفداء يوم بدر قبل أن تؤمروا بذلك (عَذابٌ عَظِيمٌ) ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد : لو سبق أنه يعذبّ من أتى ذنبا على جهالة لعوقبتم ، وقال علي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين وابن إسحاق : (سَبَقَ) أن لا يعذّب إلا بعد النهي ولم يكن نهاهم ، وقال الحسن وابن جبير وابن زيد وابن أبي نجيح عن مجاهد لو لا ما سبق لأهل بدر إنّ الله لا يعذبهم لعذّبهم ، وقال الماورديّ لو لا أن القرآن اقتضى غفران الصغائر لعذبهم ، وقال قوم : الكتاب السابق عفوه عنهم في هذا الذنب مغينا ، وقيل : هو أن لا يعذبهم والرسول فيهم ، وقيل : ما كتبه على نفسه من الرحمة. وقيل : سبق أنه لا يضلّ قوما بعد إذ هداهم ، وقيل : سبق أنه سيحلّ لهم الغنائم والفداء ، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن ، وقيل : سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر لعذّبكم بأخذ الغنائم ، واختاره النحاس.

وقال قوم : الكتاب السابق هو القرآن والمعنى لو لا الكتاب الذي سبق فآمنتم به

٣٥٣

وصدّقتم لمسّكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة ، وقال الزمخشري : لو لا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح وهو أن لا يعاقب أحدا بخطأ وكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وأنّ فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله وخفي عنهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفلّ لشوكتهم انتهى. وروي لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر وفي حديث آخر وسعد بن معاذ وذلك أن رأيهما كان أن تقتل الأسارى. والذي أقوله إنهم كانوا مأمورين أوّلا بقتل الكفار في غير ما آية كقوله (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (٢) فلما كانت وقعة بدر وأسروا جماعة من المشركين اختلفوا في أخذ الفداء منهم وفي قتلهم فعوتب من رأى الفداء إذ كان قد تقدّم الأمر بالقتل حيث لم يستصحبوا امتثال الأمر ومالوا إلى الفداء وحرصوا على تحصيل المال ألا ترى إلى قول المقداد حين أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط قال : أسيري يا رسول الله ، وقول مصعب بن عمير لمن أسر أخاه : شدّ يدك عليه فإن له أما مؤسرة ، ثم بعد هذه المعاتبة أمر الرسول بقتل بعض والمنّ بالإطلاق في بعض والفداء في بعض فكان ذلك نسخا لتحتّم القتل ، ثم قال تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) في تأييدكم ونصركم وقهركم أعداءكم حتى استوليتم عليهم قتلا وأسرا ونهبا على قلّة عددكم وعددكم (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) من غنائمهم وفدائهم عذاب عظيم منهم لكونهم كانوا أكثر عددا منكم وعددا ولكنه سهل تعالى عليكم ولم يمسّكم منهم عذاب لا يقتل ولا أسر ولا نهب وذلك بالحكم السابق في قضائه أنه يسلّطكم عليهم ولا يسلّطهم عليكم فليس المعنى لمسكم من الله وإنما المعنى لمسكم من أعدائكم كما قال : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) (٣). قال : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) (٤).

ثم قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) أي مما غنمتم ومنه ما حصل بالفداء الذي أقره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لا يفلتن منهم رجل إلا بفدية أو ضرب عنق وليس هذا الأمر منشأ لإباحة الغنائم إذ قد سبق تحليلها قبل يوم بدر ولكنه أمر يفيد التوكيد واندراج مال الفداء في عموم ما غنمتم إذ كان قد وقع العتاب في الميل للفداء ثم أقرّه الرسول وانتصب (حَلالاً) على الحال من ما إن كانت موصولة أو من ضميره المحذوف أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي أكلا حلالا وجوّزوا في ما أن تكون مصدرية وروي أنهم أمسكوا عن

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٨٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩١.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٠.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٠٤.

٣٥٤

الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها فنزلت ، وجعل الزمخشري قوله (فَكُلُوا) متسبّبا عن جملة محذوفة هي سبب وأفادت ذلك الفاء وقدّرها قد أبحت لكم الغنائم فكلوا ، وقال الزجاج الفاء للجزاء والمعنى قد أحللت لكم الفداء فلكوا وأمر تعالى بتقواه لأن التقوى حاملة على امتثال أمر الله وعدم الإقدام على ما لم يتقدّم فيه إذن ففيه تحريض على التقوى من مال إلى الفداء ثم جاءت الصفتان مشعرتين بغفران الله ورحمته عن الذين مالوا إلى الفداء قبل الإذن ، وقال الزمخشري : معناه إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم ، وقال ابن عطية : وجاء قوله (وَاتَّقُوا اللهَ) اعتراضا فصيحا في أثناء القول لأن قوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هو متصل بقوله (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) ، وقيل غفور لما أتيتم بإحلال ما غنمتم.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)

نزلت هذه الآية عقيب بدر في أسرى بدر أعلموا أنّ لهم ميلا إلى الإسلام وأنهم يؤملونه إن فدوا ورجعوا إلى قومهم ، وقيل في عباس وأصحابه قالوا للرسول : آمنا بما جئت ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا ومعنى (فِي أَيْدِيكُمْ) أي ملكتكم كأن الأيدي قابضة عليهم والصحيح أن الأسارى كانوا سبعين والقتلى سبعين كما ثبت في صحيح مسلم وهو قول ابن عباس وابن المسيب وأبي عمرو بن العلاء ، وكان عليهم حين جيء بهم إلى المدينة شقران مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال مالك : كانوا مشركين ومنهم العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان قصيرا والعباس ضخم طويل فلما جاء به قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أعانك عليه ملك» وعن العباس كنت مسلما ولكنهم استكرهوني فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن يكن ما تقول حقّا فالله يجريك فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا» وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للعباس افد ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ، فقال يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت ، فقال له : «أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن

٣٥٥

حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل» ، فقال العباس : وما يدريك قال : «أخبرني به ربي» ، قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنت عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتابا في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب ، قال العباس فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.

وروي أنه قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال البحرين ثمانون ألفا فتوضّأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرّقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ومعنى (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ) أن يتبين للناس علم الله (فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي إسلاما كما زعمتم بأن تظهروا الإسلام فإنه سيعطيكم أفضل مما أخذ منكم بالفداء وسيغفر لكم ما اجترحتموه فإن الإسلام يجب ما قبله.

وقرأ الجمهور (مِنَ الْأَسْرى) وابن محيصن من أسرى منكرا وقتادة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وأبو عمرو من السبعة من الأسارى واختلف عن الحسن وعن الجحدري ، وقرأ الأعمش يثبكم خيرا من الثواب ، وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد مما أخذ مبنيا للفاعل ، وإيتاء هذا الخير ، قيل في الدنيا وقيل في الآخرة ، وقيل فيهما والظاهر أن الضمير في (وَإِنْ يُرِيدُوا) على الأسرى لأنه أقرب مذكور ، والخيانة هي كونهم أظهر الإسلام بعضهم ثم ردّوا إلى دينهم فقد خانوا الله لخروجهم مع المشركين ، وقال الكرماني : (وَإِنْ يُرِيدُوا) يعني الأسرى خيانتك يعني نقض ما عهدوا معك فقد خانوا الله بالكفر والشكر قبل العهد ، وقيل : قبل بدر فأمكن منهم أو فأمكنك منهم وهزمتهم وأسرتهم ، وقال الزمخشري : (خِيانَتَكَ) أي ينكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) في كفرهم ونقض ما أخذ على كلّ عاقل من مشاقّه (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة ، وقيل المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء ، وقال ابن عطية : إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرّهم ذلك ولا يسكنون إليه فإن الله بالمرصاد فهم الذين خانوه بكفرهم وتركهم النّظر في آياته وهو قد بيّنها لهم وجعل لهم إدراكا يحصلونها به فصار ذلك كعهد متقرّر فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكّن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة (حَكِيمٌ) فيما يجازيهم

٣٥٦

انتهى ، وقيل الضمير في (وَإِنْ يُرِيدُوا) عائد على الذين قيل في حقهم : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) (١) أي وإن يريدوا خيانتك في إظهار الصّلح والجمهور على أن الضمير في (وَإِنْ يُرِيدُوا) عائد على الأسرى ، وروي عن قتادة : إن هذه الآية في قصة عبد الله بن أبي سرح فإن كان قال ذلك على سبيل التمثيل فيمكن ، وإن كان على سبيل أنها نزلت في ذلك فلا لأنه إنما بيّن أمره في فتح مكة وهذه نزلت عقيب بدر.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)

قسّم الله المؤمنين إلى المهاجرين والأنصار والذين لم يهاجروا فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب الله فهاجر قوم إلى المدينة وقوم إلى الحبشة وقوم إلى ابن ذي يزن ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدّين «من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وثنّى بالأنصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال لكنه عادل الهجرة الإيواء والنصر وانفرد المهاجرون بالسبق وذكر ثالثا من آمن ولم يهاجر ولم ينصر ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا ومعنى (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في النصرة والتعاون والموازرة ، كما جاء في غير آية نحو (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢). وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ذلك في الميراث آخى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة وليّ مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري. قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بعد لما لم تكن هجرة فمعنى (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) نفي الموالاة في التوارث وكان قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى) نسخا لذلك وعلى القول الأوّل يكون المعنى في نفي الولاية على أنها صفة للحال إذ لا يمكن ولايته ونصره لتباعد ما بين المهاجرين وبينهم وفي

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٦١.

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٧١.

٣٥٧

ذلك حضّ للأعراب على الهجرة ، قيل ولا يجوز أن تكون الموالاة لأنه عطف عليه وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غير النّصرة انتهى. ولما نزل (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) قال الزبير هل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا فنزل (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) ومعنى ميثاق عهد لأن نصركم إياهم نقض للعهد فلا تقاتلون لأنّ الميثاق مانع من ذلك وخصّ الاستنصار بالدين لأنه بالحمية والعصبية في غير الدين منهي عنه وعلى تقتضي الوجوب ولذلك قدّره الزمخشري بقوله : فواجب عليكم أن تنصروهم. وقال زهير :

على مكثريهم رزق من يعتريهم

وعند المقلّين المساحة والبذل

وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة (وَلايَتِهِمْ) بالكسر وباقي السبعة والجمهور بالفتح وهما لغتان قاله الأخفش ، ولحن الأصمعي الأخفش في قراءته بالكسر وأخطأ في ذلك لأنها قراءة متواترة ، وقال أبو عبيدة بالكسر من ولاية السلطان وبالفتح من المولى يقال مولى بين الولاية بفتح الواو ، وقال الزجاج بالفتح من النصرة والنسب وبالكسر بمنزلة الإمارة قال : ويجوز الكسر لأنّ في تولي بعض القوم بعضا جنسا من الصناعة والعمل وكل ما كان من جنس الصناعة مكسور مثل القصارة والخياطة وتبع الزمخشري الزجاج فقال : وقرىء (مِنْ وَلايَتِهِمْ) بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث ووجه الكسر أنّ تولي بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمرا ويباشر عملا ، وقال أبو عبيد والذي عندنا الأخذ بالفتح في هذين الحرفين نعني هنا ، وفي الكهف لأنّ معناهما من الموالاة لأنها في الدين ، وقال الفرّاء : يريد من مواريثهم فكسر الواو أجب إليّ من فتحها لأنها إنما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائي يذهب بفتحها إلى النصرة وقد ذكر الفتح والكسر في المعنيين جميعا ، وقرأ السلمي والأعرج بما يعملون بالياء على الغيبة.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وقرأت فرقة أولى ببعض. قال ابن عطية : هذا لجمع الموارثة والمعاونة والنصرة ، وقال الزمخشري ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله في المسلمين ومعناه نهي المسلمين عن الموالاة الذين كفروا وموارثيهم وإيجاب مساعدتهم

٣٥٨

ومصادقتهم وإن كانوا أقارب وإن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا. وقال غيره : لما ذكر أقسام المؤمنين الثلاثة وأنهم أولياء ينصر بعضهم بعضا ويرث بعضهم بعضا بين أن فريق الكفار كذلك إذ كانوا قبل بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي أهل الكتاب منهم قريشا ويتربّصون بهم الدوائر فصاروا بعد بعثه يوالي بعضهم بعضا وإلبا واحدا على الرسول صونا على رئاساتهم وتحزّبا على المؤمنين.

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ). الضمير المنصوب في (تَفْعَلُوهُ) عائد على الميثاق أي على حفظه أو على النصر أو على الإرث أو على مجموع ما تقدم أقوال أربعة ، وقال الزمخشري : أي إن لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضا حتى في التوارث تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك كان الشرك ظاهرا والفساد زائدا ، وقال ابن عطية : والفتنة المحنة بالحرب وما انجرّ معها من الغارات والجلاء والأسر والفساد الكبير ظهور الشّرك ، وقال البغوي : الفتنة في الأرض قوّة الكفر والفساد الكبير ضعف الإسلام ، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي : كثير بالثاء المثلثة وروي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ وفساد عريض.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)

هذه الآية فيها تعظيم المهاجرين والأنصار وهي مختصرة إذ حذف منها بأموالهم وأنفسهم وليست تكرارا لأن السابقة تضمنت ولاية بعضهم بعضا وتقسيم المؤمنين إلى الأقسام الثلاثة وبيان حكمهم في ولايتهم ونصرهم وهذه تضمنت الثناء والتشريف والاختصاص وما آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم وتقدم تفسير أواخر نظيرة هذه الآية في أوائل هذه السورة.

وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)

٣٥٩

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ). يعني الذين لحقوا بالهجرة من سبق إليها فحكم تعالى بأنهم من المؤمنين السابقين في الثواب والأجر وإن كان للسابقين شفوف السّبق وتقدّم الإيمان والهجرة والجهاد ومعنى (مِنْ بَعْدُ) من بعد الهجرة الأولى وذلك بعد الحديبية قاله ابن عباس ، وزاد ابن عطية وبيعة الرضوان وذلك أنّ الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة قبل ذلك وكان يقال لها الهجرة الثانية لأن الحرب وضعت أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة. وبه قال عليه‌السلام : لا هجرة بعد الفتح. وقال الطبري : (مِنْ بَعْدُ) ما بينت حكم الولاية فكان الحاجز بين الهجرتين نزول الآية فأخبر تعالى في هذه الآية أنهم من الأولين في الموازرة وسائر أحكام الإسلام ، وقيل : من بعد يوم بدر ، وقال الأصمّ : من بعد الفتح وفي قوله (مَعَكُمْ) إشعار أنهم تبع لا صدر كما قال فأولئك مع المؤمنين وكذلك فأولئك منكم كما جاء «مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم».

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). أي وأصحاب القرابات ومن قال : إنّ قوله في المؤمنين المهاجرين والأنصار (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في المواريث بالأخوة التي كانت بينهم ، قال : هذه في المواريث وهي نسخ للميراث بتلك الأخوة وإيجاب أن يرث الإنسان قريبه المؤمن وإن لم يكن مهاجرا واستدلّ بها أصحاب أبي حنيفة على توريث ذوي الأرحام ، وقالت فرقة منهم مالك : ليست في المواريث وهذا فرار عن توريث الخال والعمّة ونحو ذلك ، وقالت فرقة : هي في المواريث إلا أنها نسختها آية المواريث المبيّنة ، والظاهر أنّ (كِتابِ اللهِ) هو القرآن المنزّل وذلك في آية المواريث ، وقيل : في كتاب الله السابق ، اللوح المحفوظ ، وقيل : في كتاب الله في هذه الآية المنزلة ، وقال الزجاج : في حكمه ، وتبعه الزمخشري ، فقال في حكمه وقسمته وختم السورة بقوله (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، في غاية البراعة إذ قد تضمنت أحكاما كثيرة في مهمّات الدين وقوامه وتفصيلا لأحوال ، فصفة العلم تجمع ذلك كله وتحيط بمبادئه وغاياته.

٣٦٠