البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

الثاني أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وذلك إعمال لا يجوز لا يقال ضرب زيد شديد عمرا ، الثالث أنه يلزم من ذلك إعمال ما قبل (إِلَّا) في ما بعدها من غير أن يكون ذلك المفعول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له وإذ ليس واحدا من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يوم الجمعة وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش ، وأما كونه منصوبا بما في (عِنْدِ اللهِ) من معنى الفعل فيضعفه المعنى لأنه يصير استقرار النصر مقيدا بالظرف والنصر من عند الله مطلقا في وقت غشي النعاس وغيره وأما كونه منصوبا بما جعله الله فقد سبقه إليه الحوفيّ وهو ضعيف أيضا لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل (إِلَّا) وليس أحد تلك الثلاثة ، وقال الطبري العامل في (إِذْ) قوله (وَلِتَطْمَئِنَ). قال ابن عطية : وهذا مع احتماله فيه ضعف ، وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ظرفا لما دلّ عليه (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وقد سبقه إلى قريب من هذا ابن عطية فقال : ولو جعل العامل في (إِذْ) شيئا قرنها بما قبلها لكان الأولى في ذلك أن يعمل في (إِذْ حَكِيمٌ) لأن إلقاء النعاس عليهم وجعله أمنة حكمة من الله عزوجل انتهى ، والأجود من هذه الأقوال أن يكون بدلا.

وقرأ مجاهد وابن محيصن وأبو عمرو وابن كثير (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) مضارع غشى و (النُّعاسَ) رفع به ، وقرأ الأعرج وابن نصاح وأبو حفص ونافع يغشيكم مضارع أغشى ، وقرأ عروة بن الزبير ومجاهد والحسن وعكرمة وأبو رجاء وابن عامر والكوفيون يغشيكم مضارع غشي و (النُّعاسَ) في هاتين القراءتين منصوب والفاعل ضمير الله وناسبت قراءة نافع قوله (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) (١) وقراءة الباقين وينزل حيث لم يختلف الفاعل ومعنى يغشيكم يعطيكم به وهو استعارة جعل ما غلب عليهم من النعاس غشيانا لهم ، وتقدم شرح (النُّعاسَ) و (أَمَنَةً) في آل عمران والضمير في (مِنْهُ) عائد على الله وانتصب (أَمَنَةً) ، قيل على المصدر أي فأمنتم أمنة والأظهر أنه انتصب على أنه مفعول له في قراءة يغشيكم لاتحاد الفاعل لأنّ المغشي والمؤمن هو الله تعالى ، وأما على قراءة (يُغَشِّيكُمُ) فالفاعل مختلف إذ فاعل (يُغَشِّيكُمُ) هو (النُّعاسَ) والمؤمن هو الله وفي جواز مجيء المفعول له مع اختلاف الفاعل خلاف ، وقال الزمخشري ، (فإن قلت) : أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحدا ، قلت بلى ولكن لما كان معنى (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) تتغشون انتصب (أَمَنَةً) على أن النعاس والأمنة لهم والمعنى إذ تتغشون أمنة بمعنى أمنا أي لأمنكم

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٤.

٢٨١

و (مِنْهُ) صفة لها أي (أَمَنَةً) حاصلة لكم من الله تعالى ، (فإن قلت) : هل يجوز أن ينتصب على أن الأمنة للنعاس الذي هو (يُغَشِّيكُمُ) أي يغشاكم النعاس لأمنه على أنّ إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة أو على أنه إمامكم في وقته كان من حق النعاس في ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة من الله تعالى لو لا ها لم يغشاكم على طريقة التمثيل والتخييل ، (قلت) : لا تتعدى فصاحة القرآن عن احتماله وله فيه نظائر ولقد ألمّ به من قال :

يهاب النوم أن يغشى عيونا

تهابك فهو نفار شرود

وقرىء (أَمَنَةً) بسكون الميم ونظير أمن أمنة حيي حياة ونحو أمن أمنة رحم رحمة ، والمعنى أنّ ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم فلما طامن الله تعالى قلوبهم أمنهم وأقروا ، وعن ابن عباس : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى وفي الصلاة وسوسة من الشيطان انتهى ، وعن ابن مسعود شبيه هذا الكلام وقال النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وهو من الله تعالى وهو في الصلاة من الشيطان ، قال ابن عطية : وهذا إنما طريقة الوحي فهو لا محالة يسنده انتهى ، والذي قرأ (أَمَنَةً) بسكون الميم هو ابن محيصن ورويت عن النخعي ويحيى بن يعمر وغشيان النوم إياهم قيل حال التقاء الصفين ومضي مثل هذا في يوم أحد في آل عمران ، وقيل : الليلة التي كان القتال في غدها امتنّ عليهم بالنوم مع الأمر المهم الذي يرونه في غد ليستريحوا تلك الليلة وينشطوا في غدها للقتال ويزول رعبهم ، ويقال : الأمن منيم والخوف مسهر والأولى أن يكون ترتيب هذه الجمل في الزمان كترتيبها في التلاوة فيكون إنزال المطر تأخر عن غشيان النعاس ، وعن ابن نجيح أن المطر كان قبل النعاس واختاره ابن عطية قال ونزول الماء كان قبل تغشية النعاس ولم يترتب كذلك في الآية إذ القصد منها تعديد النعم فقط.

وقرأ طلحة (وَيُنَزِّلُ) بالتشديد ، وقرأ الجمهور ماء بالمد ، وقرأ الشعبي ما بغير همز ، حكاه ابن جنّي ، صاحب اللوامح في شواذ القراءات ، وخرّجاه على أنّ ما بمعنى الذي ، قال صاحب اللوامح : وصلته حرف الجر الذي هو (لِيُطَهِّرَكُمْ) والعائد عليه هو ومعناه الذي هو (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) انتهى ، وظاهر هذا التخريج فاسد لأنّ لام كي لا تكون صلة ومن حيث جعل الضمائر هو وقال معناه الذي هو ليطهركم ولا تكون لام كي هي الصلة بل الصلة هو ولام الجر والمجرور ، وقال ابن جنّي ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره فكأنه قال ما للطهور انتهى. وهذا فيه ما قلنا من مجيء لام كي صلة ويمكن تخريج هذه القراءة على

٢٨٢

وجه آخر وهو أنّ ما ليس موصولا بمعنى الذي وأنه بمعنى ماء المحدود وذلك أنهم حكوا أن العرب حذفت هذه الهمزة فقالوا ما يا هذا بحذف الهمزة وتنوين الميم فيمكن أن تخرّج على هذا إلا أنهم أجروا الوصل مجرى الوقف فحذفوا التنوين لأنك إذا وقفت على شربت ما قلت شربت ما بحذف التنوين وإبقاء الألف إما ألف الوصل الذي هي بدل من الواو وهي عين الكلمة وإما الألف التي هي بدل من التنوين حالة النصب.

وقرأ ابن المسيّب (لِيُطَهِّرَكُمْ) بسكون الطاء ومعنى ليطهركم من الجنابات وكان المؤمنون لحق أكثرهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء وكانت بينهم وبين ماء بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر ، وقيل بل المؤمنون سبقوا إلى الماء ببدر وكان نزول المطر قبل ذلك ، والمرويّ عن ابن عباس وغيره أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك ، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم نزعم أنا أولياء الله وفينا رسول الله ، وحالنا هذه ، والمشركون على الماء فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشر من رمضان حتى سالت الأودية فشرب الناس وتطهّروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال وكانت قبل المطر تسوخ فيها الأرجل فلما نزل تلبدت قالوا فهذا معنى قوله (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي من الجنابات (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي عذابه لكم بوسواسه والرجز العذاب ، وقيل رجزه كيده ووسوسته ، وقيل الجنابة من الاحتلام فإنها من الشيطان ، وورد ما احتلم نبي قط إنما الاحتلام يكون من الشيطان.

وقرأ عيسى بن عمرو (يُذْهِبَ) بجزم الباء ، وقرأ ابن محيصن (رِجْزَ) بضم الراء وأبو العالية رجس بالسين ومعنى الربط على القلب هو اجتماع الرأي والتشجيع على لقاء العدو والصبر على مكافحة العدو والربط الشد وهو حقيقة في الأجسام فاستعير منها لما حصل في القلب من الشدة والطمأنينة بعد التزلزل ، ومقتضى ذلك الربط قال ابن عباس الصبر ، وقال مقاتل الإيمان ، وقيل نزول المطر ، وهو الظاهر ، لأن قوله (لِيُطَهِّرَكُمْ) وما بعده تعليل لإنزال المطر والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة لأن المكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملا تغوص فيه الأرجل فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام والضمير في (بِهِ) عائد على المطر ، وقيل التثبيت للأقدام معنوي والمراد به كونه لا يفر وقت القتال والضمير في (بِهِ) عائد على المصدر الدال عليه (وَلِيَرْبِطَ) وانظر إلى فصاحة مجيء هذه

٢٨٣

التعليلات بدأ أولا منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة ، وهو فعل جسماني أعني اغتسالهم من الجنابة ، وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يغتسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني ، وهو فعل محله القلب ، وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يفرّون وقت الحرب فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبيّ ظهر حرف التعليل وحين ذكر لازمها لم يؤكد بلام التعليل وبدأ أولا بالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل ولأنه الذي تؤدى به أفضل العبادات وتحيا به القلوب.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) هذا أيضا من تعدد النعم إذ الإيحاء إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي ينصرهم ويعينهم وأمرهم بتثبيت المؤمنين والإخبار بما يأتي بعد من إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم والأمر بالضرب فوق أعناقهم وكلّ بنان منهم من أعظم النعم ، وفي ذلك إعلام بأنّ الغلبة والظفر والعاقبة للمؤمنين ، وقال الزمخشري : (إِذْ يُوحِي) يجوز أن يكون بدلا ثالثا من (إِذْ يَعِدُكُمُ) وأن ينتصب بثبت ، وقال ابن عطية : العامل في إذ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ولو قدّرناه قريبا لكان قوله (وَيُثَبِّتَ) على تأويل عود الضمير على الرّبط وأما عوده على الماء فيمكن أن يعمل ويثبت في إذ انتهى وإنما يمكن ذلك عنده لاختلاف زمان التثبيت عنده وزمان هذا الوحي لأنّ زمان إنزال المطر وما تعلق به من تعاليله متقدم على تغشية النعاس والإيحاء كانا وقت القتال وهذا الوحي إما بإلهام وإما بإعلام ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه إذ معكم بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين أو على إجراء (يُوحِي) مجرى تقول على مذهب الكوفيين والملائكة هم الذين أمدّ المؤمنون بهم ، ولما كان ما تقدم من تعداد النعم على المؤمنين جاء الخطاب لهم بيغشاكم (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ وَيُطَهِّرَكُمْ وَيُذْهِبَ) رجز (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) إذ كان في هذه أشياء لا تناسب منصب الرسالة ولما ذكر الوحي إلى الملائكة أتى بخطاب الرسول وحده فقال (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) ففي ذلك تشريف بمواجهته بالخطاب وحده أي مربيك والناظر في مصلحتك.

ويثبت الذين آمنوا. قال الحسن بالقتال أي فقاتلوا ، وقال مقاتل بشّروهم بالنصر فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل فيقول أبشروا فإن الله ناصركم وذكر الزجاج

٢٨٤

أنهم يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوبهم تقوى بها ، وذكر الثعلبي ونحوه قال : صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد ، وقال ابن عطية نحوه قال : ويحتمل أيضا أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) وأن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد وعلى هذا التأويل يجيء قوله (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) مخاطبة للملائكة ثم يجيء قوله (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي هذه كانت صفة الحال ويحتمل أن يكون (سَأُلْقِي) إلى آخر الآية خبرا يخاطب به المؤمنين عما يفعله بالكفار في المستقبل كما فعله في الماضي ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعا لهم وحضّا على نصرة الدين.

وقال الزمخشري والمعني أني معينكم على التثبت فثبتوهم فقوله (سَأُلْقِي فَاضْرِبُوا) يجوز أن يكون تفسيرا لقوله (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا) ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة ويجوز أن يكون غير تفسير وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصحّ عزائمهم ونياتهم وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة ، وقيل كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي فيقول إني سمعت المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفّين فيقول ابشروا فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه انتهى ، ثم قال ويجوز أن يكون قوله (سَأُلْقِي) ـ إلى قوله ـ (كُلَّ بَنانٍ) عقيب قوله (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) تلقينا للملائكة وما يثبتونهم به كأنه قال قولوا لهم (سَأُلْقِي) والضاربون على هذا هم المؤمنون انتهى.

والذي يظهر أن ما بعد (يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) هو من جملة الموحى به وأن الملائكة هم المخاطبون بتثبيت المؤمنين وبضرب فوق الأعناق وكل بنان ، وقال السائب بن يسار : كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السّواي عن الرّعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف كان يأخذ الحصا ويرمي به الطست فيظن فيقول : كنا نجد في أجوافنا مثل هذا ، وقرأ ابن عامر والكسائي والأعرج (الرُّعْبَ) بضم العين (وَفَوْقَ) قال الأخفش : زائدة أي فاضربوا الأعناق وهو قول عطية والضحاك فيكون الأعناق هي المفعول باضربوا هذا

٢٨٥

ليس بجيد لأن (فَوْقَ) اسم ظرف والأسماء لا تزاد ، وقال أبو عبيدة : (فَوْقَ) بمعنى على تقول ضربته فوق الرأس وعلى الرأس ويكون مفعول (فَاضْرِبُوا) على هذا محذوفا أي فاضربوهم فوق الأعناق وهذا قول حسن لإبقاء (فَوْقَ) على معناها من الظرفية. وقال ابن قتيبة (فَوْقَ) بمعنى دون قال ابن عطية : وهذا خطأ بيّن وإنما دخل عليه اللبس من قوله (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) (١) في القلّة والصغر فأشبه المعنى دون انتهى. وعلى قول ابن قتيبة يكون المفعول محذوفا أي فاضربوهم ، وقال عكرمة : (فَوْقَ) على بابها وأراد الرؤوس إذ هي (فَوْقَ الْأَعْناقِ) ، قال الزمخشري : يعني ضرب الهام. قال الشاعر :

وأضرب هامة البطل المشيح

وقال آخر :

غشيته وهو في جأواء باسلة

عضبا أصاب سوء الرأس فانفلقا

انتهى. وقال ابن عطية : وهذا التأويل أنبلها ويحتمل عندي أن يريد بقوله (فَوْقَ الْأَعْناقِ) وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمّة الجشمي لابن الدّغنة السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ومنه قول الشاعر :

جعل السيف بين الجيد منه

وبين أسيل خديه عذارا

فيجيء على هذا (فَوْقَ الْأَعْناقِ) متمكّنا انتهى. فإن كان قول عكرمة تفسير معنى فحسن ويكون مفعول (فَاضْرِبُوا) محذوفا وإن كان أراد أنّ (فَوْقَ) هو المضروب فليس بجيّد لأن فوق من الظروف التي لا يتصرف فيها لا تكون مبتدأة ولا مفعولا بها ولا مضافا إليها إنما يتصرف فيها بحرف جر كقوله (مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ) (٢) هذا هو الصحيح في (فَوْقَ) وقد أجاز بعضهم أن يكون (فَوْقَ) في الآية مفعولا به وأجاز فيها التصرّف قال : تقول فوقك رأسك بالرفع وفوقك قلنسوتك بالنصب ويظهر هذا القول من الزمخشري قال : (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل فكان إيقاع الضرب فيها جزّا وتطييرا للرأس انتهى ، والبنان تقدم الكلام فيها في المفردات ، وقالت فرقة منهم الضحاك البنان هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء ، وقالت فرقة البنان الأصابع من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ١٦.

٢٨٦

اليدين والرّجلين. وقيل الأصابع وغيرها من الأعضاء والمختار أنها الأصابع. وقال عنترة العبسي :

وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها

ويضرب عند الكرب كلّ بنان

وقال أيضا :

وأن الموت طرح يدي إذا ما

وصلت بنانها بالهندواني

وضرب الكفار مشروع في كلّ موضع منهم وإنما قصد أبلغ المواضع وأثبت ما يكون المقاتل لأنه إذا عمد إلى الرأس أو الأطراف كان ثابت الجأش متبصرا فيما يضع فيه آلة قتاله من سيف ورمح وغيرهما مما يقع به اللقاء إذ ضرب الرأس فيه أشغل شاغل عن القتال وكثيرا ما يؤدّي إلى الموت وضرب البنان فيه تعطيل القتال من المضروب بخلاف سائر الأعضاء. قال الفراء : علمهم مواضع الضرب فقال : اضربوا الرؤوس والأيدي والأرجل فكأنه قال فاضربوا الأعالي إن تمكّنتم من الضرب فيها فإن لم تقدروا فاضربوهم في أوساطهم فإن لم تقدروا فاضربوهم في أسافلهم فإنّ الضرب في الأعالى يسرع بهم إلى الموت والضرب في الأوساط يسرع بهم إلى عدم الامتناع والضرب في الأسافل يمنعم من الكرّ والفرّ فيحصل من ذلك إما إهلاكهم بالكلية وإما الاستيلاء عليهم انتهى ، وفي قول الفرّاء هذا تحميل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، وقال الزمخشري والمعنى فاضربوا المقاتل والشوى لأنّ الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معا انتهى.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) الإشارة إلى ما حلّ بهم من إلقاء الرعب في قلوبهم وما أصابهم من الضرب والقتل ، والكاف لخطاب الرسول أو لخطاب كل سامع أو لخطاب الكفار على سبيل الالتفات و (ذلِكَ) مبتدأ و (بِأَنَّهُمْ) هو الخبر والضمير عائد على الكفار وتقدّم الكلام في المشاقّة في قوله (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) (١) والمشاقّة هنا مفاعلة فكأنه

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٧.

٢٨٧

تعالى لما شرع شرعا وأمر بأوامر وكذبوا بها وصدّوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق وعبّر المفسرون في قوله شاقّوا الله أي صاروا في شقّ غير شقّه.

(وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أجمعوا على الفكّ في (يُشاقِقِ) اتباعا لخط المصحف وهي لغة الحجاز والإدغام لغة تميم كما جاء في الآية الأخرى (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) (١) ، وقيل فيه حذف مضاف تقديره شاقّوا أولياء الله و (مَنْ) شرطية والجواب (فَإِنَ) وما بعدها والعائد على (مَنْ) محذوف أي (شَدِيدُ الْعِقابِ) له وتضمن وعيدا وتهديدا وبدأهم بعذاب الدنيا من القتل والأسر والاستيلاء عليهم.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) جمع بين العذابين عذاب الدنيا وهو المعجّل وعذاب الآخرة وهو المؤجّل والإشارة بذلكم إلى ما حلّ بهم من عذاب الدنيا والخطاب للمشاقّين ولما كان عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة يسيرا سمى ما أصابهم منه ذوقا لأنّ الذّوق يعرف به الطعم وهو يسير ليعرف به حال الطعم الكثير كما قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٢) فما حصل لهم من العذاب في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة من العذاب العظيم و (ذلِكُمْ) مرفوع إما على الابتداء والخبر محذوف أي ذلكم العقاب أو على الخبر والمبتدأ محذوف أي العقاب ذلكم وهما تقديران للزمخشري. وقال ابن عطية : أي ذلكم الضّرب والقتل وما أوقع الله بهم يوم بدر فكأنه قال الأمر (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) انتهى. وهذا تقرير الزجاج.

وقال الزمخشري ويجوز أن يكون نصبا على عليكم (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) كقولك زيدا فاضربه انتهى ، ولا يجوز هذا التقدير لأنّ عليكم من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا تضمر وتشبيهه له بقولك زيدا فاضربه ليس بجيد لأنهم لم يقدروه بعليك زيدا فاضربه وإنما هذا منصوب على الاشتغال وقد أجاز بعضهم في ذلك أن يكون منصوبا على الاشتغال وقال بعضهم لا يجوز أن يكون ذلك مبتدأ أو فذوقوه خبرا لأنّ ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسما موصولا أو نكرة موصوفة نحو الذي يأتيني فله درهم وكل رجل في الدار فمكرم انتهى ، وهذا الذي قاله صحيح ومسألة الاشتغال تنبني على صحة جواز أن يكون (ذلِكَ) يصحّ فيه الابتداء إلا أن قولهم زيدا فاضربه وزيد فاضربه ليست الفاء هنا

__________________

(١) سورة الحشر : ٥٩ / ٤.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٥٣.

٢٨٨

كالفاء في الذي يأتيني فله درهم لأنّ هذه الفاء دخلت لتضمن المبتدأ معنى اسم الشرط ولذلك شروط ذكرت في النحو والفاء في زيد فاضربه هي جواب لأمر مقدّر ومؤخرة من تقديم والتقدير تنبه فزيدا ضربه وقالت العرب زيدا فاضربه وقدره النحاة تنبه فاضرب زيدا وابتنى الاشتغال في زيدا فاضربه على هذا التقدير فقد بان الفرق بين الفاءين ولو لا هذا التقدير لم يجز زيدا فاضرب بل كان يكون التركيب زيدا اضرب كما هو إذا لم يقدر هناك أمر بالتنبيه محذوف.

وقرأ الجمهور (وَأَنَ) بفتح الهمزة. قال الزمخشري عطف على (ذلِكُمْ) في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى مع ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير أي مكان وأنّ لكم (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ). وقال ابن عطية إما على تقدير وحتم (أَنَ) فتقدير ابتداء محذوف يكون خبره. وقال سيبويه التقدير الأمر (ذلِكُمْ) وأما على تقدير واعلموا أن فهي في موضع نصب انتهى. وقرأ الحسن وزيد بن على وسليمان التيمي وإن بكسر الهمزة على استئناف الأخبار.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)

٢٨٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ

٢٩٠

فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)

قال الليث : الجماعة يمشون إلى عدوهم هو الزحف. قال الأعشى :

لمن الظعائن سيرهن تزحف

منك السفين إذا تقاعس تجرف

وقال الفرّاء : الزحف الدّنو قليلا يقال زحف إليه يزحف زحفا إذا مشى ، وأزحفت القوم دنوت لقتالهم وكذلك تزحف وتزاحف وازحف لنا عدونا ازحافا صاروا يزحفون لقتالنا فازدحف القوم ازدحافا مشى بعضهم إلى بعض ، وقال ثعلب ومنه الزّحاف في الشعر وهو أن يسقط من الحرفين حرف ويزحف أحدهما إلى الآخر وسمّي الجيش العرمرم بالزحف لكثرته كأنه يزحف إليّ يدبّ دبيبا من زحف الصبي إذا دبّ على إليته قليلا قليلا وأصله مصدر زحف وقد جمع أزحف على زحوف. وقال الهذليّ يصف منهلا :

كان مزاحف الحيّات فيه

قبيل الصبح آثار السّياط

المتحيّز المنضم إلى جانب ، وقال أبو عبيدة : التحيّز والتحوّز التنحّي ، وقال الليث : ما لك متحوز إذا لم تستقرّ على الأرض وأصله من الحوز وهو الجمع يقال خرته في الطرس فانحاز وتحيّز انضمّ واجتمع وتحوّزت الحية انطوت واجتمعت وسمي التنحّي تحيزا لأن المتنحي عن جانب ينضمّ عنه ويجتمع إلى غيره وتحيز تفيعل أصله تحيوز اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء وتحوّز تفعل ضعفت عينه. الرمي معروف ويكون بالسهم والحجر والتراب. المكاء الصفير. وقال عنترة :

وخليل غانية تركت مجندلا

تمسكوا فريصته كشدق الأعلم

أي تصوت ومنه مكت است الدابة إذا نفخت بالريح. وقال السدي : المكاء الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء ، قال الشاعر :

إذا غرّد المكاء في غير روضة

فويل لأهل السّقاء والحمرات

وقال أبو عبيدة وغيره : مكا يمكو مكاء إذا صفر والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصّراخ والخوار والدعاء والنباح. التصدية التصفيق صدى يصدي تصدية صفق وهو فعل من الصدى وهو الصوت الركم. قال الليث : جمعك شيئا فوق شيء حتى تجعله ركاما مركوما كركام الرمل والسحاب. مضى تقدم والمصدر المضي.

٢٩١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر أنه سيلقي الرّعب في قلوب الكفار وأمر من آمن بضرب فوق أعناقهم وبنانهم حرضهم على الصبر عند مكافحة العدوّ ونهاهم عن الانهزام وانتصب (زَحْفاً) على الحال ، فقيل من المفعول أي لقيتموهم وهم جمع كثير وأنتم قليل فلا تفرّوا فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، وقيل من الفاعل أي وأنتم زحف من الزحوف وكان ذلك إشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين انهزموا وهم اثنا عشر ألفا بعد أن نهاهم عن الفرار يومئذ ، وقيل حال من الفاعل والمفعول أي متزاحفين ولم يذكر ابن عطية إلا ما يدل على أنه حال منهما قال (زَحْفاً) يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص أي يزحف بعضهم إلى بعض. وقيل انتصب (زَحْفاً) على المصدر بحال محذوفة أي زاحفين زحفا وهذا الذي قيل محكم فحرم الفرار عند اللقاء بكلّ حال. وقيل كان هذا في الابتداء الإسلام حيث كان الأمر بالمصابرة أن يواقف مسلم عشرة كفار ثم خفّف فجعل واحد في مقابلة اثنين ويأتي حكم المؤمنة الفارّة من ضعفها في آية التخفيف وعدل عن الظهور إلى لفظ (الْأَدْبارَ) تقبيحا لفعل الفار وتبشيعا لانهزامه وتضمّن هذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة.

(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) لما نهى تعالى عن تولي الأدبار توعّد من ولّى دبره وقت لقاء العدوّ وناسب قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ) كان المعنى فقد ولّى مصحوبا بغضب الله وعدل أيضا عن ذكر الظهر إلى الدبر مبالغة في التقبيح والذمّ إذ تلك الحالة من الصفات القبيحة المذمومة جدّا ألا ترى إلى قول الشاعر :

فلسنا على الأعقاب تجري كلومنا

ولكن على أقدامنا تقطر الدما

قال في التحرير : وهذا النوع من علم البيان يسمى بالتعريض عرض بسوء حالهم وقبح فعالهم وخساسة منزلتهم وبعضهم يسميه الإيماء وبعضهم يسميه الكناية وهذا ليس بشيء فإنّ الكناية أن تصرّح باللفظ الجميل على المعنى القبيح انتهى ، والظاهر أنّ الجملة المحذوفة بعد إذ وعوض منها التنوين هي قوله إذ لقيتم الكفار تعقيل المراد يوم بدر وما وليه في ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فرّ ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف وبقي الفرار من الزحف ليس كبيرة وقد فرّ الناس يوم أحد فعفا الله عنهم وقال الله فيهم ويوم حنين (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (١) ولم يقع على ذلك تعنيف انتهى ، وهذا القول بأن

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٢٥.

٢٩٢

الإشارة بقوله يومئذ إلى يوم بدر لا يظهر لأنّ ذلك في سياق الشرط وهو مستقبل فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ولا يكون خاصا به وإن كانت نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال. قال ابن عطية والجمهور على أنه إشارة إلى يوم اللقاء الذي تضمنه قوله (إِذا لَقِيتُمُ) وحكم الآية باق إلى يوم القيامة بسبب الضعف الذي بيّنه الله في آية أخرى وليس في الآية نسخ وأما يوم أحد فإنما فرّ الناس من مراكزهم من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فرّ إنما انكشف أمام الكرة ويحتمل أن عفو الله عن من فرّ يوم أحد كان عفوا عن كثرة انتهى.

وقرأ الحسن دبره بسكون الباء وانتصب (مُتَحَرِّفاً) و (مُتَحَيِّزاً) عن الحال من الضمير المستكن في قولهم العائد على (مَنْ). قال الزمخشري : وإلا لغو أو عن الاستثناء من المولين أي ومن (يُوَلِّهِمْ) إلا رجلا منهم (مُتَحَرِّفاً) أو (مُتَحَيِّزاً) انتهى ، وقال ابن عطية : وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم من انتهى ولا يريد الزمخشري بقوله وإلا لغو أنها زائدة إنما يريد أن العامل الذي هو (يُوَلِّهِمْ) وصل إلى العمل فيما بعدها كما قالوا في لا من قولهم جئت بلا زاد أنها لغو وفي الحقيقة هو استثناء من حالة محذوفة والتقدير : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ) ملتبسا بأية حالة إلا في حال كذا وإن لم يقدّر حال غاية محذوفة لم يصحّ دخول إلا لأن الشرط عندهم واجب وحكم الواجب لا تدخل إلا فيه لا في المفعول ولا في غيره من الفصلات لأنه يكون استثناء مفرغا والاستثناء المفرغ لا يكون في الواجب لو قلت ضربت إلا زيدا وقمت إلا ضاحكا لم يصحّ والاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي أو النهي أو المؤول بهما فإن جاء ما ظاهره خلاف ذلك قدر عموم قبل إلا حتى يصح الاستثناء من ذلك العموم فلا يكون استثناء غير مفرغ ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التّولي وردّ بأنه لو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفا أو تحيّزا والتحرّف للقتال هو الكرّ بعد الفرّ يخيل عدوّه أنه منهزم ثم ينعطف عليه وهو عين باب خدع الحرب ومكائدها قاله الزمخشري ، وقال يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدوّ وأعود عليه بالشر ، والفئة هنا قال الجمهور هي الجماعة من الناس الحاضرة للحرب فاقتضى هذا الإطراق أن تكون هذه الفئة من الكفار أي لكونه يرى أنه ينكي فيها العدوّ ويبلي أكثر من إبلائه فيما قابله من الكفار إما لعدم مقاومته أو لكون غيره يعنى فيمن قاتله منهم فيتحيّز إلى فئة أخرى من الكفار ليبلي فيها واقتضى أيضا أن تكون هذه الفئة من المسلمين أي تحيّز إليها لينصرها ويقويها

٢٩٣

إذا رأى فيها ضعفا وأغنى غيره في قتال من قاتله من الكفار وبهذا فسر الزمخشري قال (إِلى فِئَةٍ) جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها ، وقيل الفئة هنا المدينة والإمام وجماعة المسلمين أينما كانوا ، وروي هذا عن عمر : انهزم رجل من القادسيّة فأتى المدينة إلى عمر رضي‌الله‌عنه فقال يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : أنا فئتك. وعن ابن عمر رضي‌الله‌عنه : خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون. فقال : بل أنتم العكارون وأنا فئتكم. قال ثعلب العكارون العطّافون ، وقال غيره : يقال للرجل الذي يولّي عن الحرب لم يكن راجعا عكر واعتكر.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتقوا السبع الموبقات وعد فيها الفرار من الزحف وفي التحرير التولّي الذي وقع عليه الوعيد هو الفرار مع المصابرة على الثبات فأما إذا جاءه من لا يستطيع معه الثبات فليس ذلك بالفرار انتهى. وما أحسن ما استعذر الحارث بن هشام إذ فرّ فقيل فيه :

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمره ولجام

وقال الحارث من أبيات :

وعلمت أني إن أقاتل واحدا

أقتل ولم يضرر عدوّي مشهدي

واستدلّ القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفسّاق من أهل الصلاة لأنها دلّت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم. قال : وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار كما فعلوا في آيات الوعيد لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة وهو قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) انتهى ، ولا حجة في ذلك لأنه عامّ مخصوص والظاهر أنه يجوز التحيّز سواء عظم العسكر أم لا ، وقيل لا يجوز إذا عظم والظاهر أنّ الفرار من الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ولذلك قال ابن القاسم لا تقبلوا شهادة من فرّ من الزّحف وإن فر أمامهم ومن فرّ فليستغفر الله ففي الترمذي : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيّوم غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل

٢٩٤

قتلت وأسرت فنزلت. قال الزمخشري : والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع انتهى ، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) كان امتثال ما أمروا به بابا للقتل فقيل (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي لستم مستبدين بالقتل لأنّ الأقدار عليه والخالق له إنما هو الله ليس للقاتل فيها شيء لكنه أجرى على يده فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبت لله وفي ذلك ردّ على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم ، ومجيء (لكِنَ) هنا أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت لله هو المنفيّ عنهم وهو حقيقة القتل ومن زعم أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم أوّل الكلام على معنى فلم يتسببوا لقتلكم إياهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة إلى آخر كلامه ، وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفيّة بلم لأنّ لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع لأنّ لنفي الماضي طريقين إحداهما أن تدخل ما على لفظه والأخرى أن تنفيه بلم فتأتي بالمضارع والأصل هو الأول لأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب وفي الجملة مبالغة من وجهين أحدهما أن النفي جاء على حسب الإيجاب لفظا. الثاني إن نفي ما صرح بإثباته وهو قوله (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) ولم يصرّح في قوله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) بقوله إذ قتلتموهم وإنما بولغ في هذا لأن الرمي كان أمرا خارقا للعادة معجزا آية من آيات الله على أي وجه فسر الرمي لأنهم اختلفوا فيه ، فقال ابن عباس قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر قبضة من تراب فقال : «شاهت الوجوه» أي قبحت فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفيه ومنخريه منها شيء ، وقال حكيم بن حزام فسمعنا صوتا من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست فرمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الرّمية فانهزموا ، وقال أنس : رمى ثلاث حصيات يوم بدر واحدة في ميمنة القوم وواحدة في ميسرتهم وثالثة بين أظهرهم ، وقال : «شاهت الوجوه» فانهزموا.

وقيل الرمي هنا رمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأنّ الآية نزلت عقب بدر وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وبعدها وذلك بعيد ، وقيل المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حصن خيبر فسار في الهوى حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهذا فاسد والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا وقوله (وَما رَمَيْتَ) نفي و (إِذْ رَمَيْتَ) إثبات فاحتيج إلى تأويل وهو أن

٢٩٥

يغاير بين الرميين فالمنفيّ الإصابة والظفر والمثبت الإرسال ، وقيل المنفيّ إزهاق الروح والمثبت أثر الرّمي وهو الجرح وهذان القولان متقاربان ، وقيل ما استبددت بالرمي إذ أرسلت التراب لأنّ الاستبداد به هو فعل الله حقيقة وإرسال التراب منسوب إليه كسبا كأن المعنى ، (وَما رَمَيْتَ) الرمي الكافي (إِذْ رَمَيْتَ) ونحوه قول العباس بن مرداس :

وقد كنت في الحرب ذا تدرإ

فلم أعط شيئا ولم أمنع

أي لم أعط شيئا مرضيّا. وقيل متعلق المنفي الرّعب ومتعلق المنبت الحصيات أي وما (رَمَيْتَ) الرعب في قلوبهم إذ (رَمَيْتَ) الحصيات ، وقال الزمخشري يعني أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم فأثبت الرّمي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن صورة الرمي وجدت منه ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله فكان الله تعالى هو فاعل الرمي حقيقة وكأنها لم توجد من الرسول أصلا انتهى ، وهو راجع لمعنى القولين أولا وتقدّم خلاف الفرّاء في (لكِنَ) وما بعدها عند قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) و (لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً). قال السدي ينصرهم وينعم عليهم يقال أبلاه إذا أنعم عليه وبلاه إذا امتحنه والبلاء يستعمل للخير والشر ووصفه بحسن يدل على النصر والعزة ، قال الزمخشري : وليعطيهم عطاء جميلا كما قال ، فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو. انتهى ، والبلاء الحسن قيل بالنصر والغنيمة ، وقيل بالشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلا منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ومعاذ وعمر وابنا عفراء أنه قال : لو لا أن المفسرين اتفقوا على حمل البلاء هنا على النعمة لكان يحتمل المحنة للتكليف بما بعده من الجهاد حتى يقال إنّ الذي فعله تعالى يوم بدر كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات انتهى. وسياق الكلام ينفي أن يراد بالبلاء المحنة لأنه قال : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) ، فعل ذلك أي قتل الكفار ورميهم ونسبة ذلك إلى الله وكان ذلك سبب هزيمتهم والنصر عليهم وجعلهم نهبة للمؤمنين وهذا ليس محنة بل منحة إن الله سميع عليم لما كانوا قد أقبلوا على المفاخر بقتل من قتلوا وأسر من أسروا وكان ربما قد لا يخلص العمل من بعض المقاتلين إما لقتال حميّة وإما لدفع عن نفس أو ما ختمت بهاتين الصفتين فقيل (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لكلامكم وما تفخرون به (عَلِيمٌ) بما انطوت عليه الضمائر ومن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) قال : (ذلِكُمْ) إشارة إلى البلاء الحسن

٢٩٦

ومحله الرفع (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ) معطوف على (وَلِيُبْلِيَ) يعني أنّ الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين انتهى ، وقال ابن عطية (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم وموضع ذلك من الإعراب رفع قال سيبويه : التقدير الأمر (ذلِكُمْ) ، وقال بعض النحويين يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلك (وَأَنَ) معطوف على (ذلِكُمْ) ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ مقدّر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا انتهى ، وقال الحوفي (ذلِكُمْ) رفع بالابتداء والخبر محذوف والتقدير ذلكم الأمر ويجوز أن يكون ذلكم الخبر والأمر الابتداء ويجوز أن يكون في موضع نصب تقديره فعلنا ذلكم والإشارة إلى القتل أو إلى إبلاء المؤمنين بلاء حسنا وفي فتح (أَنَ) وجهان النصب والرفع عطفا على (ذلِكُمْ) على حسب التقديرين أو على إضمار فعل تقديره واعلموا (أَنَّ اللهَ مُوهِنُ) انتهى ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو (مُوهِنُ) من وهن والتعدية بالتضعيف فيما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل نحو ضعفت ووهنت وبابه أن يعدى بالهمزة نحو أذهلته وأوهنته وألحمته ، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن محيصن من أوهن وأضافه حفص.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) تقدّم ذكر المؤمنين والكافرين وسبق الخطاب للمؤمنين بقوله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) وبقوله (ذلِكُمْ) فحمله قوم على أنه خطاب للمؤمنين ويؤيده قوله (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إذ لا يليق هذا الخطاب إلا بالمؤمنين على إرادة النصر بالاستفتاح وأنّ حمله على البيان والحكم ناسب أن يكون خطابا للكفار والمؤمنين فإذا كان خطابا للمؤمنين فالمعنى أن تستنصروا فقد جاءكم النصر (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن مثل ما فعلتموه في الغنائم والأسرى قبل الإذن (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم كما قال (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) (١) الآية ثم أعلمهم أنّ الفئة وهي الجماعة لا تغني وإن كثرت إلا بنصر الله ومعونته ثم آنسهم بإخباره أنه تعالى مع المؤمنين.

وقال الأكثرون هي خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم وذلك أنه حين أرادوا أن ينفروا تعلّقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكّنا للعاني إن كان محمد على حقّ فانصره وإن كنا على حقّ فانصرنا ، وروي أنهم قالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، وروي أن أبا جهل قال صبيحة يوم بدر :

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٦٨.

٢٩٧

اللهم أينا كان أهجر وأقطع للرحم فاحنه اليوم أي فأهلكه ، وروي عنه دعاء شبه هذا ، وقال الحسن ومجاهد وغيرهما : كان هذا القول من قريش وقت خروجهم لنصرة العير ، وقال النضر بن الحارث : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (١) الآية وهو ممن قتل يوم بدر ، وعلى هذا القول يكون معنى قوله (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) ولكنه كان للمسلمين عليكم ، وقيل معناه : (فَقَدْ جاءَكُمُ) ما بان لكم به الأمر واستقرّ به الحكم وانكشف لكم الحقّ به ، ويكون الاستفتاح على هذا بمعنى الحكم والقضاء وإن انتهوا عن الكفر وإن تعودوا إلى هذا القول وقتال محمد بعد (نَعُدْ) إلى نصر المؤمنين وخذلانكم ، وقالت فرقة : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) خطاب للمؤمنين وإن تنتهوا خطاب للكافرين أي وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) لمحاربته (نَعُدْ) لنصرته عليكم ، وقال الكرماني : (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن أمر الأنفال وفداء الأسرى ببدر (وَإِنْ تَعُودُوا) إلى معصية الله (نَعُدْ) إلى الإنكار وقرىء : ولن يغني بالياء لأنّ التأنيث مجاز وحسنه الفصل ، وقرأ الصاحبان وحفص : (وَأَنَّ اللهَ) بفتح الهمزة وباقي السبعة بكسرها وابن مسعود والله مع المؤمنين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) لما تقدّم قوله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) وكان الضمير ظاهره العود على المؤمنين ناداهم وحرّكهم إلى طاعة الله ورسوله والظاهر أنه نداء وخطاب للمؤمنين الخلّص حثّهم بالأمر على طاعة الله ورسوله ولما كانت الآية قبلها مسوقة في أمر الجهاد. قيل معنى أطيعوه فيما يدعوكم إليه من الجهاد ، وقيل في امتثال الأمر والنهي وأفردهم بالأمر رفعا لأقدارهم وإن كان غيرهم مأمورا بطاعة الله ورسوله وهذا قول الجمهور ، وأما من قال إنّ قوله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) خطاب للكفار فيرى أن هذه الآية نزلت بسبب اختلافهم في النفل ومجادلتهم في الحق وتفاخرهم بقتل الكفار والنكاية فيهم وأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب للمنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم وهذا لا يناسب لأنّ وصفهم بالإيمان وهو التصديق وليس المنافقون من التصديق في شيء وأبعد من ذهب إلى أنه نداء وخطاب لبني إسرائيل لأنه أيضا يكون أجنبيا من الآيات وأصل (وَلا تَوَلَّوْا) ولا تتولوا ، وتقدّم الخلاف في حرف التاء في نحو هذا أهي حرف المضارعة أم تاء تفعل والضمير في (عَنْهُ) قال الزمخشري لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّ المعنى وأطيعوا

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

٢٩٨

رسول الله كقوله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١) ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد من يطع الرسول فقد أطاع الله فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة (وَلا تَوَلَّوْا) عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه أو ولا تتولوا عن رسول الله ولا تخالفوه (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي تصدّقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة انتهى ، وإنما عاد على الرسول لأنّ التولي إنما يصح في حقّ الرسول بأن يعرضوا عنه وهذا على أن يكون التولي حقيقة وإذا عاد على الأمر كان مجازا ، وقيل هو عائد على الطاعة ، وقيل هو عائد على الله ، وقال الكرماني ما معناه إنه لما لم يطلق لفظ التثنية على الله وحده لم يجمع بينه تعالى وبين غيره في ضميرها بخلاف الجمع فإنه أطلق على لفظة تعظيما فجمع بينه وبين غيره في ضميره ولهذا نظائر في القرآن منها (إِذا دَعاكُمْ) ومنها (أَنْ يُرْضُوهُ) ففي الحديث ذمّ من جمع في التثنية بينهما في الضمير وتعليمه أن يقول : ومن عصى الله ورسوله

(وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) جملة حالية أي لا يناسب سماعكم التولي ولا يجامعه وفي متعلقه أقوال : أحدها وعظ الله لكم ، الثاني : الأمر والنهي ، الثالث : التعبير بالسماع عن العقل والفهم ، الرابع : التعبير عن التصديق وهو الإيمان.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) نهي عن أن يكونوا كالذين ادّعوا السماع والمشبّه بهم اليهود أو المنافقون أو المشركون أو الذين (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) ، أو بنو عبد الدار بن قصيّ ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة أو النضر بن الحارث ومن تابعه ستة أقوال ، ولما لم يجد سماعهم ولا أثر فيهم نفى عنهم السّماع لانتفاء ثمرته إذ ثمرة سماع الوحي تصديقه والإيمان به والمعنى أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوة فإذا صدر منكم تولّ عن الطاعة كان تصديقكم كلا تصديق فأشبه سماعكم سماع من لا يصدق ، وجاءت الجملة النافية على غير لفظ المثبتة إذ لم تأت وهم ما سمعوا لأنّ لفظ المضي لا يدلّ على استمرار الحال ولا ديمومته بخلاف نفي المضارع فكما يدل إثباته على الدّيمومه في قولهم هو يعطي ويمنع كذلك يجيء نفيه وجاء حرف النفي (لا) لأنها أوسع في نفي المضارع من ما وأدلّ على انتفاء السماع في المستقبل أي هم ممن لا يقبل أن يسمع.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ٦٢.

٢٩٩

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) لما أخبر تعالى أنّ هؤلاء المشبّه بهم (لا يَسْمَعُونَ) أخبر أنّ شرّ الحيوان الذي يدبّ (الصُّمُ) أو أن شرّ البهائم فجمع بين هؤلاء وبين جمع الدواب وأخبر أنهم شرّ الحيوان مطلقا ومعنى (الصُّمُ) عن ما يلقى إليهم من القرآن البكم عن الإقرار بالإيمان وما فيه نجاتهم ثم جاء بانتفاء الوصف المنتج لهم الصمم والبكم الناشئين عنه وهو العقل وكان الابتداء بالصمم لأنه ناشىء عنه البكم إذ يلزم أن يكون كلّ أصم خلقة أبكم لأنّ الكلام إنما يتلقنه ويتعلمه من كان سالم حاسة السمع وهذا مطابق لقوله تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١) إلا أنه زاد في هذا وصف العمى وكلّ هذه الأوصاف كناية عن انتفاء قبولهم للإيمان وإعراضهم عما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظاهر هذه الأخبار العموم ، وقيل : نزلت في طائفة من بني عبد الدار كانوا يقولون : نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعا ببدر وكانوا أصحاب اللواء ، وقال ابن جريج هم المنافقون ، وقال الحسن : هم أهل الكتاب.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) قال ابن عطية : أخبر تعالى بأنّ عدم سماعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمّهم (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) والمراد لأسمعهم إسماع تفهم وهدى ثم ابتدأ عزوجل الخبر عنهم بما هو عليه من ختمه عليهم بالكفر فقال : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) أي ولو فهمهم (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) بالقضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبيّن لهم من الهدى ، وقال الزمخشري : ولو علم الله في هؤلاء الصمّ البكم خيرا أي انتفاعا باللطف لأسمعهم اللطف بهم حتى سمعوا سماع المصدقين ثم قال (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا) يعني ولو لطف بهم لما نفعهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه أي ولو لطف بهم فصدّقوا لارتدّوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا ، وقال الزجاج : (لَأَسْمَعَهُمْ) جواب كلما سألوا ، وحكى ابن الجوزي : (لَأَسْمَعَهُمْ) كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم لأنهم طلبوا إحياء قصيّ بن كلاب وغيره ليشهدوا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أبو عبد الله الرازي : التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده وتقدير الكلام لو حصل فيهم خير (لَأَسْمَعَهُمْ) الله الحجج والمواعظ سماع تعليم مفهم (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) إذ علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها وتولوا وهم معرضون ، وقال أيضا :

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧١.

٣٠٠