البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

البقرة وكأن هذه مختصرة من تلك إلا أنّ هناك (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا) (١) (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا) وهناك (رَغَداً) (٢) وسقط هنا وهناك (وَسَنَزِيدُ) (٣) وهنا (سَنَزِيدُ) وهناك (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (٤) وهنا (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) وبينهما تغاير في بعض الألفاظ لا تناقض فيه فقوله : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) وهناك (وَإِذْ قُلْنَا) فهنا حذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى ، وهناك (ادْخُلُوا) (٥) وهنا (اسْكُنُوا) السّكنى ضرورة تتعقب الدخول فأمروا هناك بمبدأ الشيء وهنا بما تسبّب عن الدخول وهناك (فَكُلُوا) (٦) بالفاء وهنا بالواو فجاءت الواو على أحد محتملاتها من كون ما بعدها وقع بعد ما قبلها ، وقيل الدخول حالة مقتضية فحسن ذكر فاء التعقيب بعده والسكنى حالة مستمرة فحسن الأمر بالأكل معه لا عقيبه فحسنت الواو الجامعة للأمرين في الزمن الواحد وهو أحد محاملها ويزعم بعض النحويين أنه أولى بحاملها وأكثر. وقيل ثبت (رَغَداً) بعد الأمر بالدخول لأنها حالة قدوم فالأكل فيها ألذ وأتم وهم إليه أحوج بخلاف السكنى فإنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها ألذّ ولا هم أحوج. وأما التقديم والتأخير في (وَقُولُوا وَادْخُلُوا) ، فقال الزمخشريّ : سواء قدّموا الحطة على دخول الباب وأخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما انتهى ، وقوله سواء قدّموا وأخّروه تركيب غير عربي وإصلاحه سواء أقدموا أم أخروها كما قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) (٧) ويمكن أن يقال : ناسب تقديم الأمر بدخول الباب (سُجَّداً) مع تركيب (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) لأنه فعل دالّ على الخضوع والذلة و (حِطَّةٌ) قول والفعل أقوى في إظهار الخضوع من القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشيء وهو الدخول ولأنّ قبله (ادْخُلُوا) فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابها على هيئة الخضوع ولأنّ دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القرية كأنه بدل من القرية أعيد معه العامل بخلاف الأمر بالسّكنى.

وأما (سَنَزِيدُ) هنا فقال الزمخشري موعد بشيئين بالغفران والزيادة وطرح الواو لا يخلّ بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له : (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وزيادة (مِنْهُمْ) بيان وأرسلنا وأنزلنا و (يَظْلِمُونَ) ويفسقون من واد واحد ، وقرأ الحسن : حطة بالنصب على المصدر أي حطّة ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب بقولوا على حذف التقدير وقولوا قولا حطة أي ذا حطة فحذف ذا وصار حطة وصفا للمصدر المحذوف كما تقول : قلت حسنا وقلت حقّا أي قولا حسنا وقولا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٥٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٥٨.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٥٨.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٥٨.

(٥) سورة البقرة : ٢ / ٥٨.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٥٨.

(٧) سورة إبراهيم : ١٤ / ٢١.

٢٠١

حقّا ، وقرأ الكوفيون وابن كثير والحسن والأعمش (نَغْفِرْ) بالنون (لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) جمع سلامة إلا أن الحسن خفّف الهمزة وأدغم الياء فيها ، وقرأ أبو عمرو (نَغْفِرْ) بالنون لكم خطاياكم على وزن قضاياكم ، وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو تغفر بالتاء مبنيّا للمفعول (لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) جمع سلامة وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة مبنيّا للمفعول لكم خطيئتكم على التوحيد مهموزا. وقرأ ابن هرمز تغفر بتاء مفتوحة على معنى أنّ الحطّة تغفر إذ هي سبب الغفران ، قال ابن عطية : و (فَبَدَّلَ) غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر انتهى ، وهذه التفرقة ليست بشيء وقد جاء في القراءات بدل وأبدل بمعنى واحد قرىء : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) (١) و (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً) (٢) (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) (٣) بالتخفيف والتشديد والمعنى واحد وهو إذهاب الشيء والإتيان بغيره بدلا منه ثم التشديد قد جاء حيث يذهب الشيء كله قال تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٤) و (بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) (٥) ثم (بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) (٦) وعلى هذا كلام العرب نثرها ونظمها.

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). الضمير في (وَسْئَلْهُمْ) عائد على من بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود وذكر أن بعض اليهود المعارضين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا له لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبّخة لهم ومقررة كذبهم ومعلمة ما جرى على أسلافهم من الإهلاك والمسخ وكانت اليهود تكتم هذه القصة فهي مما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي فإذا أعلمهم بها من لم يقرأ كتابهم علم أنه من جهة الوحي ، وقوله (عَنِ الْقَرْيَةِ) فيه حذف أي عن أهل لقرية و (الْقَرْيَةِ) أيلة قاله ابن مسعود وأبو صالح عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة والسدّي وعكرمة وعبد الله بن كثير والثوري ، أو مدين ورواه عكرمة عن ابن عباس أو ساحل مدين ، وروي عن قتادة وقال هي مقّنى بالقاف ساكنة ، وقال ابن زيد : هي مقناة ساحل مدين ، ويقال : لها معنى بالعين مفتوحة ونون مشدّدة أو طبرية قاله الزهري أو أريحا أو بيت المقدس وهو بعيد لقوله (حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أو قرية بالشام لم تسمّ بعينها وروي عن الحسن : ومعنى حاضرة البحر بقرب البحر مبنية بشاطئه ويحتمل أن يريد معنى الحاضرة

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٨١.

(٢) سورة التحريم : ٦ / ٥.

(٣) سورة القلم : ٦٨ / ٣٢.

(٤) سورة الفرقان : ٢٥ / ٧٠.

(٥) سورة سبأ : ٣٤ / ١٦.

(٦) سورة الأعراف : ٧ / ٩٥.

٢٠٢

على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر فالتقدير (حاضِرَةَ) قرى (الْبَحْرِ) أي يحضر أهل قرى البحر إليها لبيعهم وشرائهم وحاجتهم (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) أي يجاوزون أمر الله في العمل يوم السبت وقد تقدم منه تعالى النهي عن العمل فيه والاشتغال بصيد أو غيره إلا أنه في هذه النازلة كان عصيانهم ، وقرىء (يَعْدُونَ) من الإعداد وكانوا يعدّون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك (يَعْدُونَ) بفتح العين وتشديد الدال وأصله يعتدون فأدغمت التاء في الدال كقراءة من قرأ (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) (١) (إِذْ) ظرف والعامل فيه. قال الحوفي : (إِذْ) متعلقة بسلهم انتهى ، ولا يتصور لأن (إِذْ) ظرف لما مضى وسلهم مستقبل ولو كان ظرفا مستقبلا لم يصحّ المعنى لأن العادين وهم أهل القرية مفقودون فلا يمكن سؤالهم والمسئول عن أهل القرية العادين.

وقال الزمخشري : (إِذْ يَعْدُونَ) بدل (عَنِ الْقَرْيَةِ) والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل وسلهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال انتهى ، وهذا لا يجوز لأن (إِذْ) من الظروف التي لا تتصرف ولا يدخل عليها حرف جر وجعلها بدلا يجوز دخول عن عليها لأن البدل هو على نيّة تكرار العامل ولو أدخلت عن عليها لم يجز وإنما تصرف فيها بأن أضيف إليها بعض الظروف الزمانية نحو يوم إذ كان كذا وأما قول من ذهب إلى أنها يتصرّف فيها بأن تكون مفعولة باذكر فهو قول من عجز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفا ، وقال أبو البقاء (عَنِ الْقَرْيَةِ) : أي عن خبر القرية وهذا المحذوف هو الناصب للظرف الذي هو (إِذْ يَعْدُونَ) وقيل هو ظرف للحاضرة وجوّز ذلك أنها كانت موجودة في ذلك الوقت ثم خربت انتهى ، والظاهر أن قوله (فِي السَّبْتِ) و (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) المراد به اليوم ومعنى اعتدوا فيه أي بعصيانهم وخلافهم كما قدمنا ، وقال الزمخشري : السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد فمعناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله تعالى يوم سبتهم يوم تعظيمهم ويدل عليه قوله (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) و (إِذْ تَأْتِيهِمْ) العامل في (إِذْ يَعْدُونَ) أي إذ عدوا في السبت إذ أتتهم لأنّ إذ ظرف لما مضى يصرف المضارع للمضي. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل انتهى ، يعني بدلا من (الْقَرْيَةِ) بعد بدل (إِذْ يَعْدُونَ) وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز وأضاف (السَّبْتِ) إليهم لأنهم مخصوصون بأحكام فيه.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٤.

٢٠٣

وقرأ عمر بن عبد العزيز : (حِيتانُهُمْ) يوم أسباتهم ، قال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح وقد ذكر هذه القراءة عن عمر بن عبد العزيز : وهو مصدر من أسبت الرجل إذا دخل في السبت ، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف (لا يَسْبِتُونَ) بضمّ كسرة الباء في قراءة الجمهور ، وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف (لا يَسْبِتُونَ) بضم ياء المضارعة من أسبت دخل في السبت ، قال الزمخشري : وعن الحسن (لا يَسْبِتُونَ) بضم الياء على البناء للمفعول أي لا يدار عليهم السبت ولا يؤمرون بأن يسبتوا والعامل في (يَوْمَ) قوله (لا تَأْتِيهِمْ) وفيه دليل على أنّ ما بعد لا للنفي يعمل فيما قبلها وفيه ثلاثة مذاهب الجواز مطلقا والمنع مطلقا والتفصيل بين أن يكون لا جواب قسم فيمتنع أو غير ذلك فيجوز وهو الصحيح كذلك أي مثل ذلك البلاء بأمر الحوت نبلوهم أي بلوناهم وامتحناهم ، وقيل (كَذلِكَ) متعلق بما قبله أي (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ) أي (لا تَأْتِيهِمْ) إتيانا مثل ذلك الإتيان وهو أن تأتي شرّعا ظاهرة كثيرة بل يأتي ما أتى منها وهو قليل فعلى القول الأول في كذلك ينتفي إتيان الحوت مطلقا ، كما روي في القصص أنه كان يغيب بجملته وعلى القول الثاني كان يغيب أكثره ولا يبقى منه إلّا القليل الذي يتعب بصيده قاله قتادة : وهذا الإتيان من الحوت قد يكون بإرسال من الله كإرسال السّحاب أو بوحي إلهام كما أوحى إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعر الله الدّواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما جاء وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقا من الساعة ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعورا بالسلامة ومعنى (شُرَّعاً) مقبلة إليهم مصطفّة ، كما تقول أشرعت الرّمح نحوه أي أقبلت به إليه ، وقال الزمخشري : (شُرَّعاً) ظاهرة على وجه الماء ، وعن الحسن : تشرّع على أبوابهم كأنها الكباش السّمن يقال : شرع علينا فلان إذا دنا منه وأشرف علينا وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا ، وقال رواة القصص : يقرب حتى يمكن أخذه باليد فساءهم ذلك وتطرّقوا إلى المعصية بأن حفروا حفرا يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجرا فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطريق ، وقال ابن رومان : كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت وفي الطرف الآخر من الخيط وتد مضروب وتركه كذلك إلى أن يأخذه في الأحد ثم تطرق الناس حين رأوا من يصنع هذا لا يبتلي حتى كثر صيد الحوت ومشى به في الأسواق وأعلن الفسقة بصيده وقالوا ذهبت حرمة السبت.

٢٠٤

عمر وزيد بن علي ، وقرأ جرية بن عائد ونصر بن عاصم في رواية بأس على وزن ضرب فعلا ماضيا وعن الأعمش ومالك بن دينار بأس أصله بأس فسكن الهمزة جعله فعلا لا يتصرف ، وقرأت فرقة بيس بفتح الباء والياء والسّين وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة بئس بكسر الباء والهمز همزا خفيفا ولم يبيّن هل الهمزة مكسورة أو ساكنة ، وقرأت فرقة بأس بفتح الباء وسكون الألف. وقرأ خارجة عن نافع وطلحة بيس على وزن كيل لفظا وكان أصله فيعل مهموزا إلا أنه خفّف الهمزة بإبدالها ياء وأدغم ثم حذف كميت ، وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه بأس على وزن جبل وأبو عبد الرحمن بن مصرف بئس على وزن كبد وحذر ، وقال أبو عبد الله بن قيس الرقيات :

ليتني ألقى رقية في

خلوة من غير ما بئس

وقرأ ابن عباس وأبو بكر عن عاصم والأعمش بيأس على وزن ضيغم وقال امرؤ القيس بن عابس الكندي :

كلاهما كان رئيسا بيأسا

يضرب في يوم الهياج القونسا

وقرأ عيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه بيئس على وزن صيقل اسم امرأة بكسر الهمزة وبكسر القاف وهما شاذّان لأنه بناء مختصّ بالمعتل كسيد وميت ، وقرأ نصر بن عاصم في رواية بيس على وزن ميت وخرج على أنه من البؤس ولا أصل له في الهمز وخرج أيضا على أنه خفّف الهمزة بإبدالها ياء ثم أدغمت وعنه أيضا بئس بقلب الياء همزة وإدغامها في الهمزة ورويت هذه عن الأعمش ، وقرأت فرقة بأس بفتح الثلاثة والهمزة مشدّدة ، وقرأ باقي السبعة ونافع وفي رواية أبي قرة وعاصم في رواية حفص وأبو عبد الرحمن ومجاهد والأعرج والأعمش في رواية وأهل الحجاز (بَئِيسٍ) على وزن رئيس وخرج على أنه وصف على وزن فعيل للمبالغة من بائس على وزن فاعل وهي قراءة أبي رجاء عن علي أو على أنه مصدر وصف به كالنكير والقدير ، وقال أبو الإصبع العدواني :

حنقا عليّ ولا أرى

لي منهما شرا بئيسا

وقرأ أهل مكّة كذلك إلا أنهم كسروا الباء وهي لغة تميم في فعيل حلقي العين يكسرون أوله وسواء كان اسما أم صفة ، وقرأ الحسن والأعمش فيما زعم عصمة بئيس على وزن طريم وحزيم فهذه اثنتان وعشرون قراءة وضبطها بالتلخيص أنها قرئت ثلاثية اللفظ ورباعيته فالثلاثي اسما بئس وبيس وبيس وبأس وبأس وبيس وفعلا بيس وبئس وبئس وبأس.

٢٠٥

وبأس وبئس والرباعية اسما بيأس وبيئس وبيئس وبيس وبييس وبييس وبئيس وبائس وفعلا باءس.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). أي استعصوا والعتوّ الاستعصاء والتأبيّ في الشّيء وباقي الآية تقدم تفسيره في البقرة ، والظاهر أن العذاب والمسخ والهلاك إنما وقع بالمعتدين في السبت والأمة القائلة (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) هم من فريق النّاهين الناجين وإنما سألوا إخوانهم عن علة وعظهم وهو لا يجدي فيهم شيئا البتة إذ الله ملهكهم أو معذّبهم فيصير الوعظ إذ ذاك كالعبث كوعظ المكاسين فإنهم يسخرون بمن يعظهم وكثير ما يؤدي إلى تنكيل الواعظ وعلى قول من زعم أن الأمة القائلة (لِمَ تَعِظُونَ) هم العصاة قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء أي تزعمون أن الله مهلكهم أو معذبهم تكون هذه الأمة من الهالكين الممسوخين والظاهر من قوله (فَلَمَّا عَتَوْا) أنهم أولا أخذوا بالعذاب حين نسوا ما ذكروا به ثم لما عتوا مسخوا ، وقيل : (فَلَمَّا عَتَوْا) تكرير لقوله : (فَلَمَّا نَسُوا) والعذاب البئيس هو المسخ.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ). لما ذكر تعالى قبح فعالهم واستعصاءهم أخبر تعالى أنه حكم عليهم بالذّل والصغار إلى يوم القيامة (تَأَذَّنَ) أعلم من الأذان وهو الإعلام قاله الحسن وابن قتيبة واختاره الزجاج وأبو علي ، وقال عطاء : (تَأَذَّنَ) حتم ، وقال قطرب : وعد ، وقال أبو عبيدة : أخبر وهو راجع لمعنى أعلم ، وقال مجاهد : أمر وعنه قال : وقيل أقسم وروي عن الزجاج ، قال الزمخشري (تَأَذَّنَ) عزم (رَبُّكَ) وهو تفعل من الإيذان وهو الإعلام لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه ويؤذنها بفعله وأجري مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله (لَيَبْعَثَنَ) والمعنى وإذا حتم ربك وكتب على نفسه ، وقال ابن عطية : بنية (تَأَذَّنَ) هي التي تقتضي التكسّب من أذن أي علم ومكن فإذا كان مسندا إلى غير الله لحقّه معنى التكسب الذي يلحق المحدثين وإلى الله كان بمعنى علم صفة لا مكتسبة بل قائمة بالذات فالمعنى وإذا علم الله (لَيَبْعَثَنَ) ويقتضي قوة الكلام أن ذلك العلم منه مقترن بإنفاذ وإمضاء كما تقول في أمر قد عزمت عليه غاية العزم على الله لأبعثن كذا نحا إليه أبو علي الفارسي ، وقال الطبري وغيره تأذّن معناه أعلم وهو قلق من جهة التصريف إذ نسبه (تَأَذَّنَ) إلى الفاعل غير نسبة أعلم وبين ذلك فرق من التعدي وغيره انتهى وفيه بعض اختصار.

٢٠٦

وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين جرّبوا الوعظ فيهم فلم يروه يجدي والظاهر أن القائل غير المقول لهم (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) فيكون ثلاث فرق اعتدوا وفرقة وعظت ونهت وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعتد وهذه الطائفة غير القائلة للواعظة (لِمَ تَعِظُونَ) ، وروي أنهم كانوا فرقتين فرقة عصت وفرقة نهت ووعظت وأن جماعة من العاصية قالت للواعظة على سبيل الاستهزاء (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) قد علمتم أنتم أنّ (اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أو معذبهم. قال ابن عطية : والقول الأوّل أصوب ويؤيده الضمائر في قوله (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فهذه المخاطبة تقتضي مخاطبا انتهى ويعني أنه لو كانت العاصية هي القائلة لقالت الواعظة (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ). أو بالخطاب معذرة إلى ربكم ولعلكم يتقون ومعنى (مُهْلِكُهُمْ) مخترمهم ومطهّر الأرض منهم أو معذبهم عذابا شديدا لتماديهم في العصيان ويحتمل أن يكون العذاب في الدنيا ويحتمل

٢٠٧

أن يكون في الآخرة وإن كانوا ثلاث فرق فالقائلة : إنما قالت ذلك حيث علموا أن الوعظ لا ينفع فيهم لكثرة تكرره عليهم وعدم قبولهم له ويحتمل أن يكونا فرقتين عاصية وطائعة وأنّ الطائعة قال بعضهم لبعض لما رأوا أنّ العاصية لا يجدي فيها الوعظ ولا يؤثر شيئا : (لِمَ تَعِظُونَ) وقرأ الجمهور (مَعْذِرَةً) بالرفع أي موعظتنا إقامة عذر إلى الله ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط ولطمعنا في أن يتقوا المعاصي ، وقرأ زيد بن علي وعاصم في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف (مَعْذِرَةً) بالنصب أي وعظناهم معذرة ، قال سيبويه : لو قال رجل لرجل معذرة إلى الله وإليك من كذا لنصب انتهى ، ويختار هنا سيبويه الرفع قال لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا ولكنهم قيل : لهم (لِمَ تَعِظُونَ) قالوا : موعظتنا معذرة ، وقال أبو البقاء : من نصب فعلى المفعول له أي وعظنا للمعذرة ، وقيل : هو مصدر أي نعتذر معذرة وقالهما الزمخشري.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الضمير في (نَسُوا) للمنهيين أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون وجعل الترك نسيانا مبالغة إذ أقوى أحوال الترك أن ينسى المتروك وما موصولة بمعنى الذي. قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه ويحتمل أن يراد به ما كان في الذكر انتهى ، ولا يظهر لي هذان الاحتمالان والسوء عام في المعاصي وبحسب القصص يختص هنا بصيد الحوت و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم العاصون نبّه على العلة في أخذهم وهي الظلم. قال مجاهد : (بَئِيسٍ) شديد موجع ، وقال الأخفش : مهلك ، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهما بيس على وزن جيد ، وابن عامر كذلك إلا أنه همز كبئر ووجهتا على أنه فعل سمّي به كما جاء «أنهاكم عن قيل وقال» ويحتمل أن يكون وضع وصفا على وزن فعل كحلف فلا يكون أصله فعلا ، وخرّجه الكسائي على وجه آخر وهو أنّ الأصل بيئس فخفف الهمزة فالتفت ياءان فحذفت إحداهما وكسر أوله كما يقال رغيف وشهيد ، وخرّجه غيره على أن يكون على وزن فعل فكسر أوله اتباعا ثم حذفت الكسرة كما قالوا فخذ ثم خففوا الهمزة وقرأ الحسن (بَئِيسٍ) بهمز وبغير همز عن نافع وأبي بكر مثله إلا أنه بغير همز عن نافع كما تقول بيس الرجل ، وضعفها أبو حاتم وقال : لا وجه لها قال لأنه لا يقال مررت برجل بيس حتى يقال بيس الرجل أو بيس رجلا ، قال النحاس : هذا مردود من كلام أبي حاتم حكى النحويون إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت يريدون ونعمت الخصلة والتقدير بيس العذاب ، وقرىء بئس على وزن شهد حكاها يعقوب القارئ وعزاها أبو الفضل الرازي إلى عيسى بن

٢٠٨

وقال أبو سليمان الدمشقي أعلم أنبياء بني إسرائيل (لَيَبْعَثَنَ) ليرسلن وليسلطن لقوله (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) (١) والضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على اليهود قاله الجمهور أو (عَلَيْهِمْ) وعلى النصارى قاله مجاهد ، وقيل : نسل الممسوخين والذين بقوا منهم وقيل : يهود خيبر وقريظة والنضير وعلى هذا ترتب الخلاف في من (يَسُومُهُمْ) ، فقيل : بختنصر ومن أذلهم بعده إلى يوم القيامة ، وقيل المجوس كانت اليهود تؤدي الجزية إليهم إلى أن بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر ، وقيل : العرب كانوا يجبون الخراج من اليهود قاله ابن جبير ، و. قال السّدّي بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم ، وقال ابن عباس المبعوث عليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ولم يجب الخراج نبي قط إلا موسى جباه ثلاث عشرة سنة ثم أمسك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (سُوءَ الْعَذابِ) الجزية أو الجزية والمسكنة وكلاهما عن ابن عباس أو القتال حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقيل : الإخراج والإبعاد عن الوطن وذلك على قول من قال إن الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على أهل خيبر وقريظة والنضير وهذه الآية تدلّ على أن لا دولة لليهود ولا عزّ وأن الذلّ والصغار فيهم لا يفارقهم ولما كان خبرا في زمان الرسول عليه‌السلام وشاهدنا الأمر كذلك كان خبرا عن مغيب صدقا فكان معجزا وأما ما جاء في أتباع الدّجال أنهم هم اليهود فتسمية بما كانوا عليه إذ هم في ذلك الوقت دانوا بإلهية الدجال فلا تعارض بين هذا الخبر إن صح والآية ، وفي كتاب ابن عطية : ولقد حدثت أن طائفة من الروم أملقت في صقعها فباعت اليهود المجاورة لهم وتملكوهم.

(إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ). إخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم.

(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح.

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ). أي فرقا متباينين في أقطار الأرض فقل أرض لا يكون منهم فيها شرذمة وهذا حالهم في كل مكان تحت الصغار والذلّة سواء كان أهل تلك الأرض مسلمين أم كفارا و (أُمَماً) حال ، وقال الحوفي مفعول ثان وتقدم قوله هذا في قطعناهم (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) و (الصَّالِحُونَ) من آمن منهم بعيسى ومحمد عليهما‌السلام أو من آمن بالمدينة ومنهم منحطون عن الصالحين وهم الكفرة وذلك إشارة إلى الصلاح أي ومنهم قوم دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقدير من حذف مضاف أو يكون ذلك المعنى به أولئك فكأنه قال (ومنهم

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٥.

٢٠٩

قوم) دون أولئك ، وقد ذكر النحويون أنّ اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون (ذلِكَ) بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم والصالحون و (دُونَ ذلِكَ) ألفاظ محتملة فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك يراد به الكفار وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان كان (دُونَ ذلِكَ) في مؤمنين لم يبلغوا رتبة الصلاح الذي لأولئك ، والظاهر الاحتمال الأول لقوله (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إذ ظاهر قوله (وَبَلَوْناهُمْ) أنهم القوم الذين هم دون أولئك وهو من ثبت على اليهودية وخرج من الإيمان ودون ذلك ظرف أصله للمكان قم يستعمل للانحطاط في المرتبة ، وقال ابن عطية : فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد بها الكفرة انتهى ، فإن أراد أنّ (دُونَ) ترادف غيرا فهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيرا فصحيح و (دُونَ) ظرف في موضع رفع نعت لمنعوت محذوف ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامة نحو هذا ومنه قولهم منا ظعن ومنا أقام.

(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ). أي بالصحة والرخاء والسعة و (السَّيِّئاتِ) مقابلاتها. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا). أي حدث من بعد المذكورين (فَخَلَفَ) ، قال الزجاج : يقال للقرن الذي يجيء بعد القرن خلف ، وقال الفراء : الخلف القرن والخلف من استخلفه ، وقال ثعلب : الناس كلهم يقولون خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح. ومنه قول الشاعر :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

والمثل : سكت ألفا ونطق خلفا أي سكت طويلا ثم تكلّم بكلام فاسد ، وعن الفرّاء : الخلف يذهب به إلى الذمّ والخلف خلف صالح. وقال الشاعر :

خلفت خلفا ولم تدع خلفا

كنت بهم كان لا بك التلفا

وقد يكون في الرّدي خلف وعليه قوله :

ألا ذلك الخلف الأعور وفي الصالح خلف وعلى هذا بيت حسان :

لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع

٢١٠

(وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب والذي عليه هوى المجبر هو مذهب اليهود بعينه كما ترى.

وقال مالك بن دينار رحمه‌الله : يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به قالوا : سيغفر لنا لن نشرك بالله شيئا كل أمرهم على الطمع خيارهم فيه المداهنة فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله تعالى وتلا الآية انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة وقوله : (إِلَّا الْحَقَ) دليل على أنهم كانوا يقولون الباطل على تناولهم عرض الدنيا (وَدَرَسُوا) معطوف على قوله (أَلَمْ يُؤْخَذْ) وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع وهو أنهم كرّروا على ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله وهذا العطف على التقرير لأنّ معناه قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه كقوله (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) (١) وليثبت معناه قد ربّيناك ولبثت ، وقال الطبري وغيره : هو معطوف على قوله (وَرِثُوا الْكِتابَ) وفيه بعد ، وقيل هو على إضمار قد أي وقد (دَرَسُوا ما فِيهِ) وكونه معطوفا على التقرير هو الظاهر لأن فيه معنى إقامة الحجة عليهم في أخذ ميثاق الكتاب بكونهم حفظوا لفظه وكرّروه وما نسوه وفهموا معناه وهم مع ذلك لا يقولون إلا الباطل ، وقرأ الجحدري أن لا تقولوا بتاء الخطاب ، وقرأ علي والسلمي : وادّارسوا وأصله وتدارسوا كقوله (فَادَّارَأْتُمْ) (٢) أي تدارأتم وقد مر تقريره في العربية ، وهذه القراءة توضح أن معنى (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأنّ تأويل من تأوّل (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أن معناه ومحوه بترك العمل والفهم له من قولهم درست بالريح الآثار إذا محتها فيه بعد ولو كان كما قيل لقيل ربع مدروس وخط مدروس ، وإنما قالوا : ربع دارس وخط دارس بمعنى داثر.

(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ). أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة ومعنى (يَتَّقُونَ) محارم الله تعالى وقرأ أبو عمرو وأهل مكة يعقلون بالياء جريا على الغيبة في الضمائر السابقة ، وقرأ الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم أو على طريق خطاب هذه الأمة كأنه قيل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) حال هؤلاء وما هم عليه من سوء العمل ويتعجبون من تجارتهم على ذلك.

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ). الظاهر

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٧٢.

٢١١

أنّ الكتاب هو السابق ذكره في (وَرِثُوا الْكِتابَ) فيجيء الخلاف فيه كالخلاف في ذلك وهو مبني على المراد في قوله (خَلْفٌ وَرِثُوا) ، وقيل : الكتاب هنا للجنس أي الكتب الإلهية والتمسّك بالكتاب يستلزم إقامة الصلاة لكنها أفردت بالذكر تعظيما لشأنها لأنها عماد الدين بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ، وقرأ عمر وأبو العالية وأبو بكر عن عاصم (يُمَسِّكُونَ) من أمسك والجمهور (يُمَسِّكُونَ) مشدّدا من مسك وهما لغتان جمع لغتان جمع بينهما كعب بن زهير فقال :

فما تمسّك بالعهد الذي زعمت

إلا كما يمسك الماء الغرابيل

وأمسك متعدّ قال : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) (١) فالمفعول هنا محذوف أي يمسكون أعمالهم أي يضبطونها والباء على هذا تحتمل الحالية والآلة ومسك مشدد بمعنى تمسّك والباء معها للآلة وفعل تأتّى بمعنى تفعل نصّ عليه التصريفيون ، وقرأ عبد الله والأعمش : استمسكوا وفي حرف أبي تمسكوا بالكتاب والظاهر أن قوله (وَالَّذِينَ) استئناف إخبار لما ذكر حال من لم يتمسك بالكتاب ذكر حال من استمسك به فيكون والذين على هذا مرفوعا بالابتداء وخبره الجملة بعده كقوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٢) إذا جعلنا الرابط هو في من أحسن عملا وهو العموم كذلك هذا يكون الرابط هو العموم في (الْمُصْلِحِينَ) ، وقال الحوفي وأبو البقاء : الرابط محذوف تقديره أجر المصلحين اعتراض والتقدير مأجورون أو نأجرهم انتهى ، ولا ضرورة إلى ادعاء الحذف وأجاز أبو البقاء أن يكون الرّابط هو (الْمُصْلِحِينَ) وضعه موضع المضمر أي لا نضيع أجرهم انتهى ، وهذا على مذهب الأخفش حيث أجاز الرابط بالظاهر إذا كان هو المبتدأ فأجاز زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو وكنية زيد كأنه قال : زيد قام أي هو وأجاز الزمخشري أن يكون (وَالَّذِينَ) في موضع جرّ عطفا على (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ولم يذكر ابن عطية غيره والاستئناف هو الظاهر كما قلنا.

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ

__________________

(١) سورة الحجّ : ٢٢ / ٦٥.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٣٠.

٢١٢

إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)

النّتق الجذب بشدة وفسّره بعضهم بغايته وهو القلع وتقول العرب نتقت الزبدة من قم

٢١٣

القربة والناتق الرّحم التي تقلع الولد من الرجل. وقال النابغة :

لم يحرموا حسن الفداء وأمّهم

طفحت عليك بناتق مذكار

وفي الحديث «عليكم بزواج الأبكار فإنهن انتق أرحاما وأطيب أفواها وأرضى باليسير». الانسلاخ : التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء ومنه انسلخت الحية من جلدها. الكلب حيوان معروف ويجمع في القلة على أكلب وفي الكثرة على كلاب وشذوا في هذا الجمع فجمعوه بالألف والتاء فقالوا كلابات ، وتقدّمت هذه المادة في (مُكَلِّبِينَ) (١) وكرّرناها لزيادة فائدة ، لهث الكلب يلهث بفتح الهاءين ماضيا ومضارعا والمصدر لهثا ولهثا بالضم أخرج لسانه وهي حالة له في التعب والراحة والعطش والريّ بخلاف غيره من الحيوان فإنه لا يلهث إلا من إعياء وعطش ، لحد وألحد لغتان قيل بمعنى واحد هو العدول عن الحقّ والإدخال فيه ما ليس منه قاله ابن السكيت ، وقال غيره : العدول عن الاستقامة والرّباعي أشهر في الاستعمال من الثلاثي وقال الشاعر :

ليس الأمير بالشحيح الملحد

ومنه لحد القبر وهو الميل إلى أحد شقيه ومن كلامهم ما فعل الواحد قالوا : لحده اللاحد ، وقيل ألحد بمعنى مال وانحرف ولحد بمعنى ركن وانضوى قاله الكسائي ، متن متانة اشتدّ وقوي ، أيان ظرف زمان مبني لا يتصرف وأكثر استعماله في الاستفهام ويليه الاسم مرفوعا بالابتداء والفعل المضارع لا الماضي بخلاف متى فإنهما يليانه قال تعالى : (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢) و (أَيَّانَ مُرْساها) (٣) قال الشاعر :

أيان تقضي حاجتي أيانا

أما ترى لفعلها إبانا

وتستعمل في الجزاء فتجزم المضارعين وذلك قليل فيها ولم يحفظ سيبويه لكن حفظه غيره وأنشدوا قول الشاعر :

إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة

فأيّان ما تعدل بها الريح تنزل

وقال غيره :

أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا

لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٤.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٦٥ ، وسورة النحل : ١٦ / ٢١.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٧.

٢١٤

وقال ابن السّكيت : يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء واحده وجمعه سواء ، وقال الشاعر :

إنا وحدنا خلفا بئس الخلف

عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف

انتهى. وقد جمع في الردي بين اللغتين في هذا البيت ، وقال النضر بن شميل : التحريك والإسكان معا في القرآن الردي وأما الصالح فبالتحريك لا غير وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفرّاء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح والخلف أما مصدر خلف ولذلك لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنث وإن ثني وجمع وأنّث ما قبله وإما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب قاله ابن الأنباري ، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد ، قال ابن عباس وابن زيد : هنا هم اليهود ، قال الزمخشري : وهم الذين كانوا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَرِثُوا الْكِتابَ) التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها ، وقال الطبري هم أبناء اليهود وعن مجاهد أنهم النصارى وعنه أنهم هؤلاء الأمة ، وقرأ الحسن :

(وَرِثُوا) بضم الواو وتشديد الراء وعلى الأقوال يتخرّج (الْكِتابَ) أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن و (عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) هو ما يأخذونه من الرّشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ولا يثبت وفي قوله : عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقير له وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدّمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما قال تعالى : (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (١) و (الْأَدْنى) من الدنو وهو القرب لأن ذلك قريب منقض زائل ، قال الزمخشري : وإما من دنو الحال وسقوطها وقلّتها ، ويقولون (سَيُغْفَرُ لَنا) قطع على الله بغفران معاصيهم أي لا يؤاخذنا الله بذلك والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعلموا بما فيه وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرة وهم مصرون على ارتكابها ، و (لَنا) في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله ، وقيل ضمير مصدر يأخذون أي (سَيُغْفَرُ) هو أي الأخذ (لَنا).

(وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ). الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بانهماكهم في المعاصي وإن أمكنهم الرّشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية ، ودائما فهم مصرّون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله والعرض بفتح الراء متاع الدنيا قاله أبو عبيدة ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر يأخذ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٧٩.

٢١٥

منها البرّ والفاجر ، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رؤوس الأموال وقيم المتلفات ، قال السدّي : كانوا يعيرون القاضي فإذا ولّى المعير ارتشى ، وقيل كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى. وقال الشاعر :

إذا ما صبّ في القنديل زيت

تحوّلت القضية للمقندل

وقال آخر :

لم يفتح الناس أبوابا ولا عرفوا

أجدى وأنجح في الحاجات من طبق

إذا تعمم بالمنديل في طبق

لم يخش نبوة بواب ولا غلق

ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لتسلكنّ سنن من قبلكم» ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتييها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق ، وقال الزمخشري : الواو للحال يعني في (وَإِنْ يَأْتِهِمْ) أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين وغفران الذنوب لا يصحّ إلا بالتوبة والمصرّ لا غفران له انتهى ، وجمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال والظاهر ما قدّمناه ولا يردّ عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالا لأنّ ذلك جائز.

(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ). هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق أنهم لا يكذبون على الله. قال ابن زيد : كان يأتيهم المحقّ برشوة فيخرجون له كتاب الله ويحكمون له به فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) ، وقال بعضهم : هو قولهم (سَيُغْفَرُ لَنا) ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيره و (أَنْ لا يَقُولُوا) في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب ، وقال الزمخشري : هو عطف بيان لميثاق الكتاب ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب وفيه إنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليس بحق عليه وإن فسّر (مِيثاقُ الْكِتابِ) بما تقدم ذكره كان (أَنْ لا يَقُولُوا) مفعولا له ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون مفسّرة ولا يقولوا نهيا ، كأنه قيل ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق ، وقال أيضا : قبل ذلك (مِيثاقُ الْكِتابِ) يعني قوله في التوراة من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة

٢١٦

وكسر فتحة همزتها لغة سليم وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيّان في الأصل كان أيّ أوان فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداها فصارت على ما رأيت انتهى ، وزعم أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي ومعناه أي وقت وأي فعل من أويت إليه لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه وامتنع أن يكون فعالا وفعالا من أين لأن أيّان ظرف زمان وأين ظرف مكان فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ولأن أيان استفهام كما أن أيا كذلك والأصل عدم التركيب وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا ، رسا يرسو ثبت. الحفي المستقصي للشيء المحتفل به المعتني ، وفلان حفي بي بارّ معتن. وقال الشاعر :

فلما التقينا بين السيف بيننا

لسائلة عنا حفيّ سؤالها

وقال آخر :

سؤال حفي عن أخيه كأنه

بذكرته وسنان أو متواسن

والإحفاء الاستقصاء ومنه إحفاء الشارب والحافي أي حفيت قدميه للاستقصاء في السّير والحفاوة البر واللطف.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي جذبنا الجبل بشدة و (فَوْقَهُمْ) حال مقدرة والعامل فيها محذوف تقديره كائنا فوقهم إذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية لكنه صار فوقهم ، وقال الحوفي وأبو البقاء : (فَوْقَهُمْ) ظرف لنتقنا ولا يمكن ذلك إلا إن ضمن (نَتَقْنَا) معنى فعل يمكن أن يعمل في (فَوْقَهُمْ) أي رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) (١) والجملة من قوله (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) في موضع الحال والمعنى كأنه عليهم ظلّة والظلّة ما أضلل من سقيفة أو سحاب وينبغي أن يحمل التشبيه على أنه بظلة مخصوصة لأنه إذا كان كلّ ما أظل يسمى ظلة فالجبل فوقهم صار ظلة وإذا صار ظلّة فكيف يشبه بظلة فالمعنى والله أعلم كأنه حالة ارتفاعه عليهم ظلة من الغمام وهي الظلة التي ليست تحتها عمد بل إمساكها بالقدرة الإلهية وإن كانت أجراما بخلاف الظلّة الأرضية فإنها لا تكون إلا على عمد فلما دانت هذه الظلمة الأرضية فوقهم بلا عمد شبهت بظلة الغمام التي ليست بلا عمد ، وقيل : اعتاد البشر هذه الأجرام الأرضية ظللا إذ

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٤.

٢١٧

كانت على عمد فلما كان الجبل مرتفعا على غير عمد قيل : (كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) أي كأنه على عمد وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذا أشرف (وَظَنُّوا) هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين ، وقال المفسّرون : معناه أيقنوا ، وقال الزمخشري : علموا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرّجاء إلا أن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة ، فإنه يكون بمعنى الإتقان ، وتقدّم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (١) في البقرة فأغنى عن إعادته وقد كرره المفسرون هنا الزمخشري وابن عطية وغيرهما وذكر الزمخشري هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر موسى عليه‌السلام الألواح وفيها كتاب الله تعالى لم يبق شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديّا يقرأ التوراة إلّا اهتز وأنغض لها رأسه انتهى. وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم في المكتب إذا قرؤوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرّك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدّب المكتب وقال له لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). قرأ الأعمش (وَاذْكُرُوا) بالتشديد من الاذكار ، وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقرىء وتذكروا بالتشديد بمعنى وتذكّروا وتقدّم تفسير هذه الجمل في البقرة.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) روي في الحديث من طرق أخذ من ظهر آدم ذرّيته وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره فأقروا بذلك والتزموه واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في التأويل وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمخشري قال من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) وقررهم وقال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وكأنهم (قالُوا بَلى) أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك وباب التمثيل واسع في كلام

__________________

(١) البقرة : ٢ / ٦٣.

٢١٨

الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي كلام العرب ونظيره قول الله عزوجل (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١). (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٢). وقول الشاعر :

إذا قالت الانساع للبطن الحقي

تقول له ريح الصّبا قرقار

ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى وأن تقولوا مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لأنّ نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم ، (فإن قلت) : بنو آدم وذرياتهم من هم ، قلت : عنى ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (٣) وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت عليها هي والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها وذلك على قوله (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) (٤) و (إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) انتهى كلام الزمخشري وهو بسط كلام من تقدمه ، قال ابن عطية : قال قوم الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا وأخذ بمعنى أوجد وأن الاشهادين عند بلوغ المكلّف وهو قد أعطى الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ونحالها الزجاج وهو معنى تحتمله الألفاظ انتهى ، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ومفعول (أَخَذَ ذُرِّيَّتَهُمْ) قاله الحوفي ويحتمل في قراءة الجميع أن يكون مفعول (أَخَذَ) محذوفا لفهم المعنى و (ذُرِّيَّتَهُمْ) بدل من ضمير (ظُهُورِهِمْ) كما أنّ (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من قوله (بَنِي آدَمَ) والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٥) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) (٦)

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٤٠.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١١.

(٣) سورة التوبة : ٩ / ٣٠.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٦٣.

(٥) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٧.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٨٣.

٢١٩

وتقدير الكلام : وإذ أخذ ربك من ظهور ذرّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله وإفراده بالعبادة واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر وهذا من تمثيل المعنى بالجزم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) بما نصب لهم من الأدلة قائلا (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، وقرأ العربيان ونافع : ذرياتهم بالجمع وتقدّم إعرابه ، وقرأ باقي السبعة ذرّيتهم مفردا بفتح التاء ويتعيّن أن يكون مفعولا بأخذ وهو على حذف مضاف أي ميثاق ذرياتهم وإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم لأنّ بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك وإنما حدث الإشراك في ذريتهم.

(شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ). أي قال الله شهدنا عليكم أو قال الله والملائكة قاله السدّي ، أو قالت الملائكة أو شهد بعضهم على بعض أقوال ومعنى (عَنْ هذا) عن هذا الميثاق والإقرار بالربوبيّة.

(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ). المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان إحداهما : كنا غافلين والأخرى : كنا أتباعا لأسلافنا فكيف نهلك والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلّنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج ، وقرأ أبو عمرو إن يقولوا بالياء على الغيبة وباقي السبعة بالتاء على الخطاب.

(أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ). هذا من تمام القول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا والمعنى أنه تعالى أزال عنهم الاحتجاج بتركيب العقول فيهم وتذكيرهم ببعثة الرسل إليهم فقطع بذلك أعذارهم. (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي مثل هذا التفصيل الذي فصّلنا فيه الآيات السابقة (نُفَصِّلُ الْآياتِ) اللاحقة فالكل على نمط واحد في التفصيل والتوضيح لأدلة التوحيد وبراهينه. (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته بذلك التفصيل والتوضيح وقرأت فرقة يفصل بالياء أي يفصل هو أي الله تعالى.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي (وَاتْلُ) على من كان حاضرا من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به ، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أطلعوا

٢٢٠