البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

في المكان والثابت فيه قالوا : وانتصب (صِراطَكَ) على إسقاط على قاله الزجاج ، وشبه بقول العرب ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن وإسقاط حرف الجرّ لا ينقاس في مثل هذا لا يقال قعدت الخشبة تريد قعدت على الخشبة قالوا أو على الظرف كما قال الشّاعر فيه.

كما عسل الطريق الثعلب

وهذا أيضا تخريج فيه ضعف لأنّ (صِراطَكَ) ظرف مكان مختص وكذلك الطريق فلا يتعدّى إليه الفعل إلا بواسطة في ، وما جاء خلاف ذلك شاذّ أو ضرورة وعلى الضرورة أنشدوا :

كما عسل الطريق الثعلب

وما ذهب إليه أبو الحسين بن الطّراوة من أنّ الصراط والطريق ظرف مبهم لا مختص ردّه عليه أهل العربية ، والأولى أن يضمنّ (لَأَقْعُدَنَ) معنى ما يتعدّى بنفسه فينتصب الصّراط على أنه مفعول به والتقدير لألزمنّ بقعودي صراطك المستقيم وهذا الصّراط هو دين الإسلام وهو الموصل إلى الجنة ، ويضعف ما روي عن ابن مسعود وعون بن عبد الله أنه طريق مكة خصوصا على العقبة المعروفة بعقبة الشيطان يضلّ الناس عن الحج ومعنى قعوده أنه يعترض لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة وفي الحديث «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه نهاه عن الإسلام وقال أتترك دين آبائك فعصاه وأسلم فنهاه عن الهجرة ، وقال : تدع أهلك وبلدك فعصاه فهاجر فنهاه عن الجهاد وقال : تقتل وتترك ولدك فعصاه فجاهد فله الجنة».

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ). الظاهر أنّ إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له والجدّ في إضلاله من كل وجه يمكن ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدوّ غالبا ذكرها لا أنه يأتي من الجهات الأربع حقيقة ، وقال ابن عباس : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الآخرة أشككهم فيها وأنه لا بعث (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) الدّنيا أرغبهم فيها وزيّنها لهم وعنه أيضا وعن النخعي والحكم بن عتبة عكس هذا ، وعنه (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) الحقّ وعن (شَمائِلِهِمْ) الباطل وعنه أيضا : (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) الحسنات وعن (شَمائِلِهِمْ) السيئات ، وقال مجاهد : الأوّلان حيث ينصرون والآخران حيث لا ينصرون ، وقال أبو صالح الأوّلان الحقّ والباطل والآخران الآخرة والدنيا ، وقيل : الأولان بفسحة الأمل وبنسيان الأجل والآخران فيما تيسر وفيما تعسر ، وقيل الأولان فيما

٢١

بقي من أعمارهم فلا يطيعون وفيما مضى منها فلا يندمون على معصية والآخران فيما ملكته أيمانهم فلا ينفقونه في معروف ومن قبل فقرهم فلا يمتنعون عن محظور.

وقال أبو عبد الله الرازي حاكيا عن من سماه هو حكماء الإسلام من بين أيديهم القوة الخياليّة وهي تجمع مثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدّم من الدماغ ومن خلفهم القوة الوهميّة وهي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ وعن أيمانهم قوة الشهوة وهي موضوعة في البطن الأيمن من القلب وعن شمائلهم قوة الغضب وهي موضوعة في البطن الأيسر من القلب فهذه القوى الأربعة هي التي يتولد عنها أحوال توجب زوال السعادة الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تشعر بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع وهو وجه تحقيق انتهى ، وهو بعيد من مناحي كلام العرب والمتشرّعين قال : وعلى هذا لم يحتج إلى ذكر العلوّ والسّفل لأن هاتين الجهتين ليستا بمقرّ شيء من القوى المفسدة لمصالح السعادة الروحانية انتهى.

وقال ابن عباس : لم يقل من فوقهم لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان من تحتهم فيه توحش ، وقال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف قيل (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) بحرف الابتداء و (عَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بحرف المجاوزة ، (قلت) : المفعول فيه عدى إليه الفعل تعديته إلى المفعول به كما اختلفت حروف التعدية في ذلك اختلفت في هذا وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه وعن شماله وعلى شماله قلنا معنى على يمينه أنه يمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه ومعنى عن يمينه أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في فعال ونحوه من المفعول به قولهم رميت عن القوس وعلى القوس ومن القوس لأنّ السّهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها فكذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل انتهى ، وهو كلام لا بأس به ، وأقول إنما خصّ بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان لأنهما أغلب ما يجيء العدو منهما فينال فرصته وقدم بين الأيدي على الخلف لأنها الجهة التي تدلّ على إقدام العدوّ وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه

٢٢

والخلف من جهة غدر ومخاتلة وجهالة القرن بمن يغتاله ويتطلب غرّته وغفلته وخصّ الأيمان والشمائل الحرف الذي يدل على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّ وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك وقدمت الأيمان على الشمائل لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدوّ ، وبالأيمان البطش والدفع فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالأيمان.

وقال ابن عباس شاكرين موحدين وعنه وعن غيره مؤمنين لأنّ ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن ، وقال مقاتل شاكرين لنعمتك ، وقال الحسن : ثابتين على طاعتك ولا يشكرك إلا القليل منهم وهذه الجملة المنفية يحتمل أن تكون داخلة في خبر القسم معطوفة على جوابه ويحتمل أن تكون استئناف إخبار ليس مقسما عليه أخبر أنّ سعايته وإتيانه إيّاهم من جميع الوجوه يفعل ذلك وهو هذا الإخبار منه كان على سبيل التظني لقوله (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (١) أو على سبيل العلم قولان وسبيل العلم إما رؤيته ذلك في اللوح المحفوظ أو استفادته من قوله (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) أو من الملائكة بإخبار الله لهم أو بقولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (٣) أو بإغواء آدم وذريته أضعف منه أو يكون قوى ابن آدم تسعة عشر قوة وهي خمس حواس ظاهرة وخمس باطنة والشهوة والغضب ، وسبع سابقة وهي الجاذبة والممسكة والهاضمة والدّافعة والقاذفة والنامية والمولدة وكلها تدعو إلى عالم الجسم إلى اللذات البدنية ، والعقل قوة واحدة تدعو إلى عبادة الله وتلك في أول الخلق والعقل إذ ذاك ضعيف أقوال ستة.

(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) الجمهور على أنّ الضمير عائد على الجنة والخلاف فيه كالخلاف في (فَاهْبِطْ مِنْها) وهذه ثلاث أوامر أمر بالهبوط مطلقا ، وأمر بالخروج مخبرا أنه ذو صغار ، وأمر بالخروج مقيدا بالذمّ والطرد ، وقال قتادة : (مَذْؤُماً) لعينا ، وقال الكلبي : ملوما ، وقال مجاهد : منفّيا ، وقيل : ممقوتا و (مَدْحُوراً) مبعدا من رحمة الله أو من الخير أو من الجنة أو من التوفيق أو من خواصّ المؤمنين أقوال متقاربة ، وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش : مذوما بضم الذال من غير همز فتحتمل هذه القراءة وجهين أحدهما ، وهو الأظهر ، أن تكون من ذأم المهموز سهل الهمزة وحذفها وألقى حركتها على الذّال والثاني أن يكون من ذام غير المهموز يذيم كباع يبيع فأبدل الواو بياء كما قالوا في مكيل مكول ،

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٠.

(٢) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

٢٣

وانتصب (مَدْحُوراً) على أنه حال ثانية على من جوّز ذلك أو حال من الضمير في (مَذْؤُماً) أو صفة لقوله (مَذْؤُماً).

(لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) قرأ الجمهور (لَمَنْ) بفتح اللام الابتداء ومن موصولة و (لَأَمْلَأَنَ) جواب قسم محذوف بعد من تبعك وذلك القسم المحذوف وجوابه في موضع خبر من الموصولة ، وقرأ الجحدري وعصمة عن أبي بكر عن عاصم (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) بكسر اللام واختلفوا في تخريجها ، فقال ابن عطية : المعنى لأجل من تبعك منهم (لَأَمْلَأَنَ) انتهى ، فظاهر هذا التقدير أنّ اللام تتعلق بلأملأن ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبله ، وقال الزمخشري بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) على أنّ (لَأَمْلَأَنَ) في محل الابتداء و (لَمَنْ تَبِعَكَ) خبره انتهى فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنّ قوله (لَأَمْلَأَنَ) جملة هي جواب قسم محذوف فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة ومن حيث كونها جوابا للقسم يمتنع أيضا لأنها إذ ذاك من هذه الحيثية لا موضع لها من الإعراب ومن حيث كونها مبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع داخلا عليها عامل غير داخل وذلك لا يتصور ، وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي : اللام متعلقة من الذأم والدّحر ومعناه أخرج بهاتين الصفتين لأجل أتباعك ذكر ذلك في كتاب اللوامح في شواذ القراءات ومعنى (مِنْكُمْ) منك وممن تبعك فغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وإخوتك أكرمكم.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ). أي وقلنا يا آدم وتقدّم تفسير هذه الآية في البقرة. إلا أن هنا فكلا من حيث شئتما وفي البقرة (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) (١) ، قالوا : وجاءت على أحد محاملها وهو أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغدا هنا على سبيل الاختصار وأثبت هناك لأنّ تلك مدنية وهذه مكية فوفّي المعنى هناك باللفظ.

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي فعل الوسوسة لأجلهما وأما قوله (فَوَسْوَسَ) إليه فمعناه ألقى الوسوسة إليه ، قال الحسن : وصلت وسوسته

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٥.

٢٤

لهما في الجنة وهو في الأرض بالقوة التي خلقها الله له ، قال ابن عطية : وهذا قول ضعيف يردّه لفظ القرآن ، وقيل : كان في السماء وكانا يخرجان إليه ، وقيل : من باب الجنة وهما بها ، وقيل : كان يدخل إليهما في فم الحية ، وقال الكرماني : ألهمهما ، وقال ابن القشيري : أورد عليهما الخواطر المزيّنة وهذان القولان يخالفان ظاهر القرآن لأن ظاهره يدلّ على قول ومحاورة وقسم والظاهر أنّ اللام لام كي قصد إبداء سوآتهما وتنحطّ مرتبتهما بذلك ويسوؤهما بكشف ما ينبغي ستره ولا يجتنبان نهي الله فيكون هو وهما سواء في المخالفة هو أمر بالسجود فأبى ، وهما نهيا فلم ينتهيا ، وقال قوم : إنها لام الصيرورة لأنه لم يكن له علم بهذه العقوبة المخصوصة فيقصدها ، قال الزمخشري : وفيه دليل على أنّ كشف العورة من عظائم الأمور وأنه لم يزل مستهجنا في الطّباع مستقبحا في العقول انتهى ، وهو على مذهبه الاعتزالي في أنّ العقل يقبح ويحسن ، والظاهر أنه يراد مدلول سوءاتهما نفسهما وهما الفرج والدّبر قيل : وكانا لا يريانهما قبل أكل الشجرة فلما أكلا بدتا لهما ، وقيل : لم يكن كل واحد يرى سوأة صاحبه ، وقال قتادة كنى بسوءاتهما عن جميع بدنهما وذكر السوأة لأنها أقبح ما يظهر من بني آدم.

وقرأ الجمهور (وُورِيَ) ، وقرأ عبد الله أوري بإبدال الواو همزة وهو بدل جائز ، وقرأ ابن وثاب ما وري بواو مضمومة من غير واو بعدها على وزن كسي ، وقرأ مجاهد والحسن من سوّتهما بالإفراد وتسهيل الهمزة بإبدالها واوا وإدغام الواو فيها ، وقرأ الحسن أيضا وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصّاح من سوّاتهما بتسهيل الهمزة وتشديد الواو ، وقرىء من سواتهما بواو واحدة وحذف الهمزة ووجهه أنه حذفها وألقى حركتها على الواو فمن قرأ بالجمع فهو من وضع الجمع موضع التثنية كراهة اجتماع مثلين ومن قرأ بالإفراد فمن وضعه موضع التثنية ويحتمل أن يكون الجمع على أصل وضعه باعتبار أنّ كل عورة هي الدّبر والفرج وذلك أربعة : فهي جمع وإلا أن تكونا ملكين استثناء مفرّغ من المفعول من أجله أي ما نهاكما ربّكما لشيء إلا كراهة أن تكونا ملكين ويقدره الكوفيّون إلا أن تكونا وإضمار الاسم وهو كراهة أحسن من إضمار الحرف وهو لا ، وقال الزمخشري : وفيه دليل على أنّ الملائكة بالمنظر الأعلى وأن البشريّة تلمح مرتبتها انتهى. وقال ابن فورك : لا حجة في هذه الآية على أنّ الملائكة أفضل من البشر لأنه يحتمل أن يريد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في طعام انتهى ، وقرأ ابن عباس والحسن بن علي والضحّاك ويحيى بن كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير ملكين بكسر اللام ، ويدلّ لهذه القراءة

٢٥

(هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١) ومن الخالدين من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.

(وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) لم يكتف إبليس بالوسوسة وهو الإلقاء في خفية سرّا ولا بالقول حتى أقسم على أنه ناصح لهما والمقاسمة مفاعلة تقتضي المشاركة في الفعل فتقسم لصاحبك ويقسم لك تقول قاسمت فلانا خالفته وتقاسما تحالفا وأما هنا فمعنى وقاسمهما أقسم لهما لأنّ اليمين لم يشاركاه فيها. وهو كقول الشاعر :

وقاسمهما بالله جهدا لأنتم

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها

وفاعل قد يأتي بمعنى أفعل نحو باعدت الشيء وأبعدته ، وقال ابن عطية وقاسمهما أي حلف لهما وهي مفاعلة إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين كالقسم وتقريره وإن كان بادي الرأي يعني أنها من واحد ، وقال الزمخشري : كأنه قال لهما أقسم لكما أني لمن الناصحين وقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين ، فجعل ذلك مقاسمة بينهم أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها أو أخرج قسم إبليس على وزن المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم انتهى ، وقرىء وقاسمهما بالله و (لَكُما) متعلّق بمحذوف تقديره ناصح لكما أو أعني أو بالناصحين على أنّ أل موصولة وتسومح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غير هما أو على أنّ أل لتعريف الجنس لا موصولة أوجه مقولة.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) أي استنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغروره أي بخداعه إياهما وإظهار النّصح وإبطان الغش وإطماعهما أن يكونا ملكين أو خالدين وبإقسامه أنه ناصح لهما جعل من يغتّر بالكلام حتى يصدق فيقع في مصيبة بالذي يدلي من علو إلى أسفل بحبل ضعيف فينقطع به فيهلك ، وقال الأزهري : لهذه الكلمة أصلان أحد هما أنّ الرجل يدلي دلوه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء ، وضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فيقال : دلّاه أي أطمعه الثاني جرأهما على أكل الشجرة والأصل فيه دللهما من الدّال والدّلالة وهما الجراءة انتهى ، فأبدل من المضاعف الأخير حرف علة ، كما قالوا : تظنيت وأصله تظننت ومن كلام بعض العلماء : خدع الشيطان آدم فانخدع ونحن من خدعنا بالله عزوجل انخدعنا له وروي نحوه عن قتادة وعن ابن عمر.

(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي وجدا طعمها آكلين منها كما قال تعالى (فَأَكَلا مِنْها) (٢) وتطايرت عنهما ملابس الجنة فظهرت لهما عوراتهما وتقدّم أنهما كانا قبل ذلك

__________________

(١ ـ ٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢٠.

٢٦

لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر ، وقال ابن عباس وقتادة وابن جبير : كان عليهما ظفر كاس فلما أكلا تبلس عنهما فبدت سوآتهما وبقي منه على الأصابع قدر ما يتذكران به المخالفة فيجددان النّدم ، وقال وهب بن منبه : كان عليهما نور يستر عورة كلّ واحد منهما فانقشع بالأكل ذلك النور وقيل كان عليهما نور فنقص وتجسّد منه شيء في أظفار اليدين والرجلين تذكرة لهما ليستغفروا في كلّ وقت وأبناؤهما بعد هما كما جرى لأويس القرني حين أذهب الله عنه البرص إلا لمعة أبقاها ليتذكر نعمه فيشكر. وقال قوم : لم يقصد بالسوأة العورة والمعنى انكشف لهما معايشهما وما يسؤوهما وهذا القول ينبو عنه دلالة اللفظ ويخالف قول الجمهور ، وقيل : أكلت حواء أوّل فلم يصبها شيء ثم آدم فكان البدو.

(وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي جعلا يلصقان ورقة على ورقة ويلصقانهما بعد ما كانت كساهما حلل الجنة ظلا يستتران بالورق كما قيل :

لله درّهم من فتية بكروا

مثل الملوك وراحوا كالمساكين

والأولى أن يعود الضمير في (عَلَيْهِما) على عورتيهما كأنه قيل (يَخْصِفانِ) على سوآتهما من ورق الجنة ، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمع يراد به اثنان ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرر في علم العربية أنه لا يتعدى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى المضمر المتصل المنصوب لفظا أو محلّا في غير باب ظنّ وفقد وعلم ووجد لا يجوز زيد ضربه ولا ضربه زيد ولا زيد مر به زيد فلو جعلنا الضمير في (عَلَيْهِما) عائدا على آدم وحواء للزم من ذلك تعدّي يخصف إلى الضمير المنصوب محلا وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في يخصفان فإن أخذ ذلك على حذف مضاف مراد جاز ذلك وتقديره يخصفان على بدنيهما ، قال ابن عباس : الورق الذي خصفا منه ورق الزيتون ، وقيل : ورق شجر التين ، وقيل : ورق الموز ولم يثبت تعيينها لا في القرآن ولا في حديث صحيح ، وقرأ أبو السّمال (وَطَفِقا) بفتح الفاء ، وقرأ الزهري (يَخْصِفانِ) من أخصف فيحتمل أن يكون أفعل بمعنى فعل ويحتمل أن تكون الهمزة للتعدية من خصف أن يخصفات أنفسهما ، وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وابن وثاب (يَخْصِفانِ) بفتح الياء وكسر الخاء والصاد وشدّها ، وقرأ الحسن فيما روى عنه محبوب كذلك إلا أنه فتح الخاء ، ورويت عن ابن بريدة وعن يعقوب ، وقرىء (يَخْصِفانِ) بالتشديد من خصف على وزن فعل ، وقرأ عبد الله بن يزيد (يَخْصِفانِ) بضمّ الياء والخاء وتشديد الصاد وكسرها وتقرير هذه القراءات في علم العربية.

٢٧

(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) لما كان وقت الهناء شرّف بالتصريح باسمه في النداء فقيل ويا آدم اسكن وحين كان وقت العتاب أخبر أنه ناداه ولم يصرّح باسمه والظاهر أنه تعالى كلمهما بلا واسطة ويدلّ على أن الله كلم آدم ما في تاريخ ابن أبي خيثمة أنه عليه‌السلام سئل عن آدم فقال : نبيّ مكلم ، وقال الجمهور : إنّ النداء كان بواسطة الوحي ويؤيده أنّ موسى عليه‌السلام هو الذي خصّ من بين العالم بالكلام وفي حديث الشفاعة أنهم يقولون له أنت الذي خصّك الله بكلامه وقد يقال : إنه خصه بكلامه وهو في الأرض وأما آدم فكان ذلك له في الجنة وقد تقدّم لنا في قوله منهم من كلم الله إنّ منهم محمدا كلّمه الله ليلة الإسراء ولم يكلمه في الأرض فيكون موسى مختصّا بكلامه في الأرض ، وقيل : النداء لآدم على الحقيقة ولم يرو قط أنّ الله كلم حواء والنداء هو دعاء الشّخص باسمه العلم أو بنوعه أو بوصفه ولم يصرّح هنا بشيء من ذلك والجملة معمولة لقول محذوف أي قائلا : ألم أنهكما وهو استفهام معناه العتاب على ما صدر منهما والتنبيه على موضع الغفلة في قوله (تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) و (لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) إشارة لطيفة حيث كان مباحا له الأكل قارا ساكنا أشير إلى الشجرة باللفظ الدّال على القرب والتمكّن من الأشجار فقيل : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) وحيث كان تعاطى مخالفة النهي وقرب إخراجه من الجنة واضطراب حاله فيها وفرّ على وجهه فيها قيل : ألم أنهكما عن تلكما فأشير إلى الشجرة باللفظ الدّال على البعد والإنذار بالخروج منها (وَأَقُلْ لَكُما) إشارة إلى قوله تعالى : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١) وهذا هو العهد الذي نسيه آدم على مذهب من يحمل النسيان على بابه. قال ابن عباس بين العداوة حيث أبى السّجود وقال (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) روي أنه تعالى قال لآدم : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال بلى وعزّتك ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف كاذبا قال فو عزّتي لأهبطنّك إلى الأرض ثم لا تنال إلا كدّا فاهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذر وعجن وخبز ، وقرأ أبيّ ألم تنهيا عن تلكما الشجرة وقيل لكما.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) قال الزمخشري وسمّيا ذنبهما وإن كان صغيرا مغفورا ظلما وقالا (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات ، وقال ابن عطية اعتراف من

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١١٧.

٢٨

آدم وحوّاء عليهما‌السلام وطلب للتوبة والسّتر والتغمد بالرّحمة فطلب آدم هذا وطلب إبليس النظرة ولم يطلب التوبة فوكل إلى رأيه ، قال الضحاك : هذه الآية هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه ، وقيل : سعد آدم بخمسة أشياء اعترف بالمخالفة وندم عليها ، ولام نفسه وسارع إلى التوبة ولم يقنط من الرحمة ، وشقي إبليس بخمسة أشياء لم يقرّ بالذنب ، ولم يندم ، ولم يسلم نفسه بل أضاف إلى ربّه الغواية ، وقنط من الرحمة ، و (لَنَكُونَنَ) جواب قسم محذوف قبل (إِنْ) كقوله (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) (١) التقدير والله إن لم يغفر لنا وأكثر ما تأتي إنّ هذه ولام التوطئة قبلها كقوله (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) (٢) ثم قال : لنغرينّك بهم.

(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) تقدّم تفسير هذا في البقرة.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ). هذا كالتفسير لقوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣) أي بالحياة إلى حين الموت ولذلك جاء قال بغير واو العطف إذ الأكثر في لسان العرب إذا لم تكن الجملة تفسيرية أو كالتفسيرية أن تعطف علي الجملة قبلها فتقول قال فلان كذا ، وقال كذا وتقول زيد قائم وعمرو قاعد ويقل في كلامهم قال فلان كذا قال كذا وكذلك يقل زيد قائم عمرو قاعد وهنا جاء (قالَ اهْبِطُوا) الآية (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) لما كانت كالتفسير لما قبلها وتمم هنا المقصود بالتنبيه علي البعث والنشور بقوله (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب وهذا كقوله (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٤). وقرأ الأخوان وابن ذكوان (تُخْرَجُونَ) مبنيا للفاعل هنا وفي الجاثية والزخرف وأوّل الروم وعن ابن ذكوان في أوّل الروم خلاف ، وقرأ باقي السّبعة مبنيا للمفعول.

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة آدم وفيها ستر السوءات وجعل له في الأرض مستقرّا ومتاعا ذكر ما امتنّ به على بنيه وما أنعم به عليهم من اللّباس الذي يواري السوءات والرّياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما خولهم ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية والثلاث بعدها فيمن كان من العرب يتعرى في طوافه بالبيت وذكر النقاش أنها كانت عادة ثقيف وخزاعة وبني عامر بن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٧٣.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٣٦.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ٥٥.

٢٩

صعصعة وبني مدلج والحارث وعامر ابني عبد مناة نسائهم ورجالهم وأنزلنا قيل على حقيقته من الانحطاط من علو إلى سفل فأنزل مع آدم وحواء شيئا من اللباس مثالا لغيره ثم توسع بنو هما في الصّنعة استنباطا من ذلك المثال أو أنزل من السماء أصل كل شيء عند إهباطهما أو أنزل معه الحديد فاتخذ منه آلات الصنائع أو أنزل الملك فعلم آدم النسج أربعة أقوال ، وقيل : الإنزال مجاز من إطلاق السّبب على مسببه فأنزل المطر وهو سبب ما يتهيأ منه اللباس أو بمعنى خلق كقوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (١) أو بمعنى الهم ، وقال الزمخشري جعل ما في الأرض منزلا من السماء لأنه قضى ثم وكتب ومنه (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ، وقال ابن عطية : أنزلنا يحتمل أن يريد بالتدريج أي لما أنزل المطر فكان عنه جميع ما يلبس قال عن اللباس (أَنْزَلْنا) وهذا نحو قول الشاعر يصف مطرا :

أقبل في المسلمين من سحابة

أسنمة الآبال في ربابه

أي بالمال ويحتمل أن يريد خلقنا فجاءت العبارة بأنزلنا كقوله (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٢) وقوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) وأيضا فخلق الله وأفعاله إنما هي من علو في القدرة والمنزلة انتهى واللباس يعم جميع ما يلبس ويستر والرّيش عبارة عن سعة الرزق ورفاهية العيش ووجود اللبس والتمتع وأكثر أهل اللغة على أنّ الريش ما يستر من لباس أو معيشة ، وقال قوم : الإناث ، وقال ابن عباس والسدّي ومجاهد : المال ، وقال ابن زيد : الجمال ، وقال الزمخشري : لباس الزينة استعير من ريش الطائر لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوءاتكم ولباسا يزيّنكم لأنّ الزينة غرض صحيح كما قال تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) و (لَكُمْ فِيها جَمالٌ) (٣) انتهي.

وعطف الريش على (لِباساً) يقتضي المغايرة وأنه قسيم للباس لا قسم منه ، وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن حبيش وعاصم في رواية وأبو عمرو في رواية ورياشا ، فقيل : هما مصدران بمعنى واحد راشه الله يريشه ريشا ورياشا أنعم عليه ، وقال الزمخشري : جمع ريش كشعب وشعاب ، وقال الزّجاج : هما اللباس ، وقال الفرّاء : هما ما يستر من ثياب ومال كما يقال لبس ولباس ، وقال معبد الجهني : الرياش المعاش ، وقال ابن الأعرابي : الريش الأكل والشرب والرياش المال المستفاد ، وقيل : الريش ما بطن والرياش ما ظهر.

__________________

(١) سورة سورة الزمر : ٣٩ / ٦.

(٢) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٥.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٦.

٣٠

وقرأ الصاحبان والكسائي : (وَلِباسُ التَّقْوى) بالنصب عطفا على المنصوب قبله ، وقرأ باقي السّبعة بالرفع ، فقيل هو على إضمار مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى قاله الزّجاج و (ذلِكَ خَيْرٌ) على هذا مبتدأ وخبر وأجاز أبو البقاء أن يكون (وَلِباسُ) مبتدأ وخبره محذوف تقديره ولباس التّقوى ساتر عوارتكم ، وهذا ليس بشيء والظاهر أنه مبتدأ ثان و (خَيْرٌ) خبره والجملة خبر عن (وَلِباسُ التَّقْوى) والرابط اسم الإشارة وهو أحد الروابط الخمس المتفق عليها في ربط الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ إذا لم يكن إياه ، وقيل : ذلك بدل من لباس ، وقيل : عطف بيان ، وقيل : صفة وخبر (وَلِباسُ) هو (خَيْرٌ) ، وقال الحوفي : وأنا أرى أن لا يكون ذلك نعتا للباس التقوى لأنّ الأسماء المبهمة أعرف مما فيه الألف واللام وما أضيف إلى الألف واللام وسبيل النعت أن يكون مساويا للمنعوت أو أقلّ منه تعريفا فإن كان قد تقدّم قول أحد به فهو سهو وأجاز الحوفي أن يكون ذلك فصلا لا موضع له من الإعراب ويكون (خَيْرٌ) خبرا لقوله (وَلِباسُ التَّقْوى) فجعل اسم الإشارة فصلا كالمضمر ولا أعلم أحدا قال بهذا وأما قوله فإن كان قد تقدّم قول أحد به فهو سهو فقد ذكره ابن عطية وقال : هو أنبل الأقوال ذكره أبو علي في الحجة انتهى ؛ وأجازه أيضا أبو البقاء وما ذكره الحوفي هو الصواب على أشهر الأقوال في ترتيب المعارف ، وقرأ عبد الله وأبيّ ولباس التقوى خير بإسقاط ذلك فهو مبتدأ وخبر والظاهر حمله على اللباس حقيقة ، فقال ابن زيد هو ستر العورة وهذا فيه تكرار لأنه قد قال (لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) ، وقال زيد بن علي : الدّرع والمغفر والساعدان لأنه يتقى بها في الحرب. وقيل : الصّوف ولبس الخشن ، وروي اخشوشنوا وكلوا الطعام الخشن ، وقيل ما يقي من الحرّ والبرد ، وقال عثمان بن عطاء : لباس المتقين في الآخرة ، وقيل لباس التقوى مجاز ، وقال ابن عباس : العمل الصالح ، وقال أيضا : العفة ، وقال عثمان بن عفّان وابن عباس أيضا : السّمت الحسن في الوجه ، وقال معبد الجهني : الحياء ، وقال الحسن : الورع والسّمت الحسن ، وقال عروة بن الزبير : خشية الله ، وقال ابن جريج : الإيمان ، وقيل ما يظهر من السكينة والإخبات ، وقال يحيى بن يحيى : الخشوع والأحسن أن يجعل عاما فكلّ ما يحصل به الاتقاء المشروع فهو من لباس التقوى والإشارة بقوله ذلك من آيات الله إلى ما تقدّم من إنزال اللباس والرّياش ولباس التقوى والمعنى من آيات الله الدالّة على فضله ورحمته على عباده ، وقيل : من موجب آيات الله ، وقيل : الإشارة إلى (لِباسُ التَّقْوى) أي هو في العبر

٣١

آية أي علامة وأمارة من الله أنه قد رضي عنه ورحمه لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما). أي لا يستهوينّكم ويغلب عليكم وهو نهي للشيطان والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه والطواعية لأمره كما قالوا لا أرينك هنا ومعناه النهي عن الإقامة بحيث يراه ، وكما في موضع نصب أي فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم ويجوز أن يكون المعنى لا يخرجنّكم عن الدين بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم ، وقرأ يحيى وإبراهيم : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ) بضمّ الياء من أفتن ، وقرأ زيد بن علي : لا يفتنكم بغير نون توكيد والظاهر أنّ لباسهما هو الذي كان عليهما في الجنة ، وقال مجاهد هو لباس التقوى و (سَوْآتِهِما) هو ما يسوءهما من المعصية وينزع حال من الضمير في (أَخْرَجَ) أو من (أَبَوَيْكُمْ) لأنّ الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين فلو كان بدل ينزع نازعا تعين الأول لأنه إذ ذاك لو جوز الثاني لكان وصفا جرى على غير من هو له فكان يجب إبراز الضمير وذلك على مذهب البصريين وينزع حكاية أمر قد وقع لأنّ نزع اللباس عنهما كان قبل الإخراج ونسب النزع إلى الشيطان لما كان متسببا فيه.

(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) أي إنّ الشيطان وهو إبليس يبصركم هو وجنوده ونوعه وذريته من الجهة التي لا تبصرونه منها وهم أجسام لطيفة معلوم من هذه الشريعة وجودهم ، كما أنّ الملائكة أيضا معلوم وجودهم من هذه الشريعة ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جدّا لا نراها نحن ألا ترى أنّ الهواء جسم لطيف لا ندركه نحن وقد قام البرهان العقلي القاطع على وجوده وقد صحّ تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة حين جعل يحفظ تمرّ الصدقة والعفريت الذي رآه الرسول وقال فيه : «لو لا دعوة أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد» ، وكحديث خالد بن الوليد حين سير لكسر ذي الخلصة ، وكحديث سواد بن قارب مع رئية من الجنّ إلا أنّ رؤيتهم في الصور نادرة كما أنّ الملائكة تبدو في صور كحديث جبريل وحديث الملك الذي أتى الأعمى والأقرع والأبرص وهذا أمر قد استفاض في الشريعة فلا يمكن ردّه أعني تصورهم في بعض الأحيان في الصّور الكثيفة ، وقال الزمخشري : وفيه دليل بيّن على أنّ الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس وأنّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم وأنّ زعم من يدّعي رؤيتهم زور ومخرفة انتهى ، ولا دليل في الآية على ما ذكر لأنه تعالى أثبت أنهم يروننا من جهة لا نراهم نحن فيها وهي الجهة التي يكونون فيها

٣٢

على أصل خلقتهم من الأجسام اللطيفة ولو أراد نفي رؤيتنا على العموم لم يتقيّد بهذه الحيثية وكان يكون التركيب أنه يراكم هو وقبيله وأنتم لا ترونهم وأيضا فلو فرضنا أنّ في الآية دلالة لكان من العام المخصوص بالحديث النبوي المستفيض فيكونون مرئيين في بعض الصور لبعض الناس في بعض الأحيان وفي كتب التحرير أنكر جماعة من الحكماء تكرّر الجن والشياطين وتصوّرهم على أي جهة شاؤوا وقوله (إِنَّهُ يَراكُمْ) تعليل للنهي وتحذير من فتنته فإنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون وفي الحديث أنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم إشارة إلى أنه لا يفارقه وأنه يرصد غفلاته فيتسلط عليه والظاهر أن الضمير في (إِنَّهُ) عائد على الشيطان ، وقال الزمخشري : والضمير في (إِنَّهُ) ضمير الشأن والحديث انتهى ، ولا ضرورة تدعو إلى هذا (وَقَبِيلُهُ) معطوف على الضمير المستكن في (يَراكُمْ) ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أو معطوفا على موضع اسم إن على مذهب من يجيز ذلك ، وقرأ اليزيدي (وَقَبِيلُهُ) بنصب اللام عطفا على اسم إنّ إن كان الضمير يعود على الشيطان (وَقَبِيلُهُ) مفعول معه أي مع قبيله ، وقرىء شاذا من حيث لا ترونه بإفراد الضمير فيحتمل أن يكون عائدا على الشيطان (وَقَبِيلُهُ) إجراء له مجرى اسم الإشارة فيكون كقوله :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

أي كان ذلك ويحتمل أن يكون عاد الضمير على الشيطان وحده لكونه رأسهم وكبيرهم وهم له تبع وهو المفرد بالنّهي أولا.

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي صيّرنا الشياطين ناصريهم وعاضديهم في الباطل ، وقال الزجاج : سلطناهم عليهم يزيدن في غيّهم فيتابعونهم على ذلك فصاروا أولياءهم ، وقيل : جعلناهم قرناء لهم ، وحكى الزهراوي أنّ جعل هنا بمعنى وصف وهي نزغة اعتزالية ، وقال الزمخشري : خلّينا بينهم وبينهم لم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي وهذا تحذير آخر أبلغ من الأوّل ، انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.

وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨)

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) أي إذا فعلوا ما تفاحش

٣٣

من الذنوب اعتذروا والتقدير وطلبوا بحجة على ارتكابها قالوا : آباؤنا كانوا يفعلونها فنحن نقتدي بهم والله أمرنا بها ، كانوا يقولون لو كره الله منّا ما نفعله لنقلنا عنه والإخبار الأوّل يتضمّن التقليد لآبائهم والتقليد باطل إذ ليس طريقا للعلم ، والإخبار الثاني افتراء على الله تعالى ، قال ابن عطية والفاحشة وإن كان اللفظ عاما هي كشف العورة في الطواف ، فقد روي عن الزهري أنه قال : في ذلك نزلت هذه الآيات ، وقاله ابن عباس ومجاهد انتهى ، وبه قال زيد بن أسلم والسّدي ، وقال الحسن وعطاء والزجاج : الفاحشة هنا الشرك ، وقيل : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وقيل : الكبائر والظاهر من قوله (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) أنه إخبار مستأنف عن هؤلاء الكفار بما كانوا يقولون إذا ارتكبوا الفواحش ، وقال ابن عطية : وإذا فعلوا وما بعده داخل في صلة (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ليقع التوبيخ بصفة قوم قد جعلوا أمثالا للمؤمنين إذا شبّه فعلهم فعل الممثل بهم ، وقال الزمخشري : وعن الحسن أنّ الله تعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله تعالى وتصديقه قول الله عزوجل (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) ، انتهت حكايته عن الحسن ولعلها لا تصحّ عن الحسن وانظر إلى دسيسة الزمخشري في قوله وهم قدرية فإنّ أهل السنة يجعلون المعتزلة هم القدرية فعكس هو عليهم وجعلهم هم القدرية حتى إن ما جاء من الذّم للقدرية يكون لهم وهذه النسبة من حيث العربية هي أليق بمن أثبت القدر لا بمن نفاه ، وقول أهل السنة في المعتزلة أنهم قدرية معناه أنهم ينفون القدر ويزعمون أنّ الأمر آنف وذلك شبيه بما يقول بعضهم في داود الظاهري أنه القياسي ومعناه نافي القياس.

(قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي بفعل الفحشاء وإنما لم يرد التقليد لظهور بطلانه لكلّ أحد للزومه الأخذ بالمتناقضات وأبطل تعالى دعواهم أنّ الله أمر بها إذ مدرك ذلك إنما هو الوحي على لسان الرسل والأنبياء ولم يقع ذلك ، وقال الزمخشري : لأن فعل القبيح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف فكيف يأمر بفعله.

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إنكار لإضافتهم القبيح إليه وشهادة على أنّ مبني أمرهم على الجهل المفرط انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة ، وقال ابن عطية : وبّخهم على كذبهم ووقفهم على ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هي دعوى واختلاق.

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا

٣٤

الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها

٣٥

خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)

٣٦

بدأ الشيء أنشأه واخترعه ، الجمل الحيوان المعروف وجمعه جمال وأجمل ولا يسمّى جملا حتى يبلغ أربع سنين والجمل حبل السفينة ولغاته تأتي في المركبات. سمّ الخياط ثقبه وتضم سين سم وتفتح وتكسر ، وكل ثقب في أنف أو أذن أو غير ذلك ، فالعرب تسميه سما والخياط المخيط وهما آلتان كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع. الغل الحقد والإحنة الخفية في النفس وجمعها غلال ومنه الغلول أخذ في خفاء. نعم حرف يكون تصديقا لإثبات محض أو لما تضمّنه استفهام وكسر عينها لغة لقريش وإبدال عينها بالحاء لغة ووقوعها جوابا بعد نفي يراد به التقرير نادر. الأعراف جمع عرف وهو المرتفع من الأرض. قال الشاعر :

كل كناز لحمه يناف

كالجبل الموفي على الأعراف

وقال الشماخ :

فظلت بأعراف تعادي كأنها

رماح نحاها وجهة الرمح راكز

ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما. الستة رتبة من العدد معروفة وأصلها سدسة فأبدلوا من السين تاء ولزم الإبدال ثم أدغموا الدّال في التاء بعد إبدال الدّال بالتاء ولزم الإدغام وتصغيره سديس وسديسة. الحثّ الإعجال حثثت فلانا فأحثثت قاله الليث وقال : فهو حثيث ومحثوث.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ). قال ابن عباس القسط هنا لا إله إلا الله لأن أسباب الخير كلها تنشأ عنها ، وقال عطاء والسدّي : العدل وما يظهر في القول كونه حسنا صوابا ، وقيل الصدق والحق. (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). وأقيموا معطوف على ما ينحل إليه المصدر الذي هو القسط أي بأن أقسطوا وأقيموا وكما ينحل المصدر لأن والفعل الماضي نحو عجبت من قيام زيد وخرج أي من أنّ قام وخرج وأن والمضارع نحو :

للبس عباءة وتقرّ عيني

أي لأن ألبس عباءة وتقر عيني كذلك ينحل لأن وفعل الأمر ألا ترى أنّ أن توصل بفعل الأمر نحو كتبت إليه بأن قم كما توصل بالماضي والمضارع بخلاف ما المصدرية فإنها لا توصل بفعل الأمر وبخلاف كي إذا لم تكن حرفا وكانت مصدرية فإنها توصل بالمضارع فقط ولما أشكل هذا التخريج جعل الزمخشري (وَأَقِيمُوا) على تقدير وقل فقال : وقل أقيموا فيحتمل قوله وقل أقيموا أن يكون (أَقِيمُوا) معمولا لهذا الفعل الملفوظ به ،

٣٧

ويحتمل أن يكون قوله (وَأَقِيمُوا) معطوفا على (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) فيكون معمولا لقل الملفوظ بها أولا وقدّرها ليبيّن أنها معطوفة عليها وعلى ما خرّجناه نحن يكون في خبر معمول أمر ، وقيل : (وَأَقِيمُوا) معطوف على أمر محذوف تقديره فأقبلوا وأقيموا ، وقال ابن عباس والضحّاك واختاره ابن قتيبة : المعنى إذا حضرت الصلاة فصلوا في كل مسجد ولا يقل أحدكم أصلي في مسجدي ، وقال مجاهد والسدّي وابن زيد : معناه توجّهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، وقال الرّبيع : اجعلوا سجودكم خالصا لله دون غيره ، وقيل : معناه اقصدوا المسجد في وقت كلّ صلاة أمرا بالجماعة ذكره الماوردي ، وقيل : معناه إذا كان في جواركم مسجد فأقيموا الجماعة فيه ولا تتجاوزوا إلى غيره ذكره التبريزي ، وقيل هو أمر بإحضار النيّة لله في كل صلاة والقصد نحوه كما تقول (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) (١) الآية قاله الربيع أيضا ، وقيل معناه إباحة الصّلاة في كل موضع من الأرض أي حيثما كنتم فهو مسجد لكم يلزمكم عنده الصّلاة وإقامة وجوهكم فيه لله وفي الحديث : «جعلت لي الأرض مسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث كان». وقال الزمخشري : أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليه غير عادلين إلى غيرها عند كل مسجد في وقت كل سجود وفي كل مكان سجود وهو الصلاة وادعوه مخلصين له الدين. قيل : الدعاء على بابه أمر به مقرونا بالإخلاص لأنّ دعاء من لا يخلص الدين لله لا يجاب ، وقيل : معناه اعبدوا ، وقيل : قولوا لا إله إلا الله.

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ). قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة هو إعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت ولم يذكر الزمخشري غير هذا القول. قال : كما أنشأكم ابتداء يعيدكم احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة انتهى ، وهذا قول الزّجاج قال : كما أحياكم في الدّنيا يحييكم في الآخرة وليس بعثكم بأشد من ابتداء إنشائكم وهذا احتجاج عليهم في إنكارهم البعث انتهى.

وقال ابن عباس أيضا وجابر بن عبد الله وأبو العالية ومحمد بن كعب وابن جبير والسدّي ومجاهد أيضا والفرّاء ، وروي معناه عن الرّسول أنه إعلام بأنّ من كتب عليه أنه من أهل الشقاوة والكفر في الدّنيا هم أهل ذلك في الآخرة وكذلك من كتب له السعادة والإيمان في الدنيا هم أهل ذلك في الآخرة لا يتبدّل شيء مما أحكمه ودبّره تعالى ويؤيد هذا المعنى

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٧٩.

٣٨

قراءة أبيّ (تَعُودُونَ) فريقين (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) وعلى هذا المعنى يكون الوقف على (تَعُودُونَ) غير حسن لأنّ (فَرِيقاً) نصب على الحال وفريقا عطف عليه والجملة من (هَدى) ومن (حَقَ) في موضع الصفة لما قبله وقد حذف الضمير من جملة الصفة أي هداهم ، وجوّز أبو البقاء أن يكون (فَرِيقاً) مفعول (هَدى وَفَرِيقاً) مفعول أضل مضمرة والجملتان الفعليتان حال ، وهدى على إضمار قد أي تعودون قد هدى فريقا وأضلّ فريقا ، وعلى المعنى الأوّل يحسن الوقف على (تَعُودُونَ) ويكون (فَرِيقاً) مفعولا بهدى ويكون (وَفَرِيقاً) منصوبا بإضمار فعل يفسّره قوله (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) ، وقال الزمخشري : (فَرِيقاً هَدى) وهم الذين أسلموا أي وفّقهم للإيمان (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي كلمة الضلالة وعلم الله تعالى أنهم يضلون ولا يهتدون وانتصاب قوله تعالى (وَفَرِيقاً) بفعل يفسره ما بعده كأنه قيل وخذل فريقا حقّ عليهم الضلالة انتهى ؛ وهي تقادير على مذهب الاعتزال ، وقيل المعنى تعودون لا ناصر لكم ولا معين لقوله (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) (١) ، وقال الحسن : كما بدأكم من التراب يعيدكم إلى التراب ، وقيل : معناه كما خلقكم عراة تبعثون عراة ومعنى (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي حقّ عليهم من الله أو حقّ عليهم عقوبة الضّلالة هكذا قدّره بعضهم ، وجاء إسناد الهدى إلى الله ولم يجىء مقابله وفريقا أضلّ لأنّ المساق مساق من نهي عن أن يفتنه الشيطان وإخبار أنّ الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وأنّ الله لا يأمر بالفحشاء وأمر بالقسط وإقامة الصلاة فناسب هذا المساق أن لا يسند إليه تعالى الضّلال ، وإن كان تعالى هو الهادي وفاعل الضلالة فكذلك عدل إلى قوله (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ).

(إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي إنّ الفريق الضالّ (اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) أنصارا وأعوانا يتولونهم وينتصرون بهم كقول بعضهم أعل هبل أعل هبل والظاهر أن المراد حقيقة الشياطين فهم يعينونهم على كفرهم والضالّون يتولونهم بانقيادهم إلى وسوستهم ، وقيل : الشياطين أحبارهم وكبراؤهم ، قال الطبري : وهذه الآية دليل على خطأ قول من زعم أنّ الله تعالى لا يعذّب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلّا أن يأتيها على علم منه بموضع الصّواب انتهى ، ووجه الدلالة قوله (وَيَحْسَبُونَ) والمحسبة الظنّ لا العلم ، وقرأ العباس بن الفضل وسهل بن شعيب وعيسى بن عمر (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا) بفتح الهمزة وهو تعليل لحقّ الضلالة عليهم والكسر

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٤.

٣٩

يحتمل التعليل من حيث المعنى ، وقال الزمخشري : أي تولّوهم بالطاعة فيما أمروهم به وهذا دليل على أنّ علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله تعالى انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم دسما ولا ينالون من الطعام إلّا قوتا تعظيما لحجهم فنزلت ، وقيل : كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ، وقيل : تفاؤلا ليتعرّوا من الذنوب كما تعروا من الثياب. والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يتجمل به من ثياب وغيرها كقوله (وَازَّيَّنَتْ) (١) أي بالنبات والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة قاله مجاهد والسدّي والزجاج ، وقال طاوس الشملة من الزّينة ، وقال مجاهد : ما وارى عورتك ولو عباءة فهو زينة. وقيل ما يستر العورة في الطّواف ، وفي صحيح مسلم عن عروة أنّ العرب كانت تطوف عراة إلا الخمس وهم قريش إلّا أن تعطيهم الخمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء وفي غير مسلم : من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوبا طاف عريانا أو في ثيابه وألقاها بعد فلا يمسّها أحد ويسمّى اللقاء. وقال بعضهم :

كفى حزنا كرى عليه كأنه

لقي بين أيدي الطائفين حريم

وكانت المرأة تنشد وهي تطوف عريانة :

اليوم يبدو بعضه أو كله

وما بدا منه فلا أحلّه

فلما بعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل عليه (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أذّن مؤذّن الرسول ألا لا يحجّ البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وكان النداء بمكة سنة تسع ، وقال عطاء وأبو روق : تسريح اللحى وتنويرها بالمشط والترجيل ، وقيل : التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد ذكره الماوردي ، وقيل : رفع اليدين في تكبيرة الإحرام والرّكوع والرفع منه ، وقيل إقامة الصلاة في الجماعة بالمساجد وكان ذلك زينة لهم لما في الصلاة من حسن الهيئة ومشابهة صفوف الملائكة ولما فيها من إظهار الإلفة وإقامة شعائر الدين ، وقيل : ليس النّعال في الصلاة وفيه حديث عن أبي هريرة ، وقال ابن عطيّة : وما أحسبه يصحّ ، وقال أيضا : الزّينة هنا الثّياب الساترة ويدخل فيها ما كان من الطيّب للجمعة والسّواك وبدل الثياب وكل ما أوجد استحسانه في الشّريعة ولم يقصد به الخيلاء. و (عِنْدَ كُلِّ

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٢٤.

٤٠