البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

(أَعَجِلْتُمْ) استفهام إنكار قال الزمخشري يقال : عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدّى تعديته ، فيقال : عجلت الأمر والمعنى (أَعَجِلْتُمْ) عن (أَمْرَ رَبِّكُمْ) وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلع آخره ، ولم أرجع إليكم فحدّثتم أنفسكم بموتي فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم ، وروي أن السامري قال لهم أحين أخرج إليهم العجل هذا إلهكم وإله موسى أن موسى لن يرجع وأنه قد مات انتهى. وقال ابن عطية : معناه أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني من قبل الوقت الذي قدّرته انتهى ، وقال يعقوب : يقال عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل استعجلته أي حملته على العجلة انتهى ، وقيل : معناه (أَعَجِلْتُمْ) ميعاد ربكم أربعين ليلة ، وقيل : (أَعَجِلْتُمْ) سخط ربكم ، وقيل : (أَعَجِلْتُمْ) بعبادة العجل ، وقيل : العجلة التقدّم بالشيء في غير وقته ، قيل : وهي مذمومة ويضعفه قوله وعجلت إليك ربّ لترضى والسرعة المبادرة بالشيء في غير وقته وهي محمودة.

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) أي (الْأَلْواحَ) التوراة وكان حاملا لها فوضعها بالأرض غضبا على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين الله وكان كما تقدم شديد الغضب وقالوا كان هارون ألين منه خلقا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل منه. وقيل : ألقاها دهشا لما دهمه من أمرهم ، وعن ابن عباس : أن موسى عليه‌السلام لما ألقاها تكسرت فرفع أكثرها الذي فيه تفصيل كل شيء وبقي الذي في نسخته الهدى والرحمة وهو الذي أخذ بعد ذلك ، وروي أنها رفع ستة أسباعها وبقي سبع قاله جماعة من المفسرين ، وقال أبو الفرج بن الجوزيّ لا يصحّ أنه رماها رمي كاسر انتهى ، والظاهر أنه ألقاها من يديه لأنهما كانتا مشغولتين بها وأراد إمساك أخيه وجرّه ولا يتأتى ذلك إلا بفراغ يديه لجرّه وفي قوله (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ) دليل على أنها لم تتكسر ودليل على أنه لم يرفع منها شيء والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جاره إليه ، وقيل : بشعر رأسه ، وقيل : بذوائبه ولحيته ، وقيل : بلحيته ، وقيل : بأذنه ، وقيل : لم يأخذ حقيقة وإنما كان ذلك إشارة فخشي هارون أن يتوّهم الناظر إليهما أنه لغضب فلذلك نهاه ورغب إليه والظهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يزجرهم ويكفهم عن ذلك ويدل على هذا الظاهر قوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) وقوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي

١٨١

إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (١) ، قال الزمخشري : أي بشعر رأسه يجره إليه بذوائبه وذلك لشدة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزّه وذهب بفطنته وظنّا بأخيه أنه فرط في الكفّ ، وقيل : ذلك الأخذ والجر كان ليسر إليه أنه نزل عليه الألواح في مناجاته وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل فنهاه هارون لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله وقيل : ضمه ليعلم ما لديه فكره ذلك هارون لئلا يظنوا إهانته وبيّن له أخوه أنهم استضعفوه ، وقيل : كان ذلك على سبيل الإكرام لا على سبيل الإهانة كما تفعل العرب من قبض الرجل على لحية أخيه.

(قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأمّ كما قال :

يا ابن أمي ويا شقيق نفسي

وقال آخر :

يا ابن أمي فدتك نفسي ومالي.

وأيضا فكانت أمهما مؤمنة قالوا : وكان أبوه مقطوعا عن القرابة بالكفر كما قال تعالى لنوح عليه‌السلام : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٢) وأيضا لما كان حقها أعظم لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته والشفقة عليه ذكره بحقها ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحفص : (ابْنَ أُمَ) بفتح الميم ، فقال الكوفيون : أصله يا ابن أماه فحذفت الألف تخفيفا كما حذفت في يا غلام وأصله يا غلاما وسقطت هاء السكت لأنه درج فعلى هذا الاسم معرب إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه ابن ، وقال سيبويه : هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد كخمسة عشر ونحوه فعلى قوله ليس مضافا إليه ابن والحركة حركة بناء ، وقرأ باقي السبعة بكسر الميم فقياس قول الكوفيّين أنه معرب وحذفت ياء المتكلم واجتزئ بالكسرة عنها كما اجتزءوا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم ، وقال سيبويه هو مبنيّ أضيف إلى ياء المتكلم كما قالوا يا أحد عشر أقبلوا وحذفت الياء واجتزءوا بالكسرة عنها كما اجتزءوا في (يا قَوْمِ) (٣) ولو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء لأنّ الاسم ليس بمنادى ولكنه مضاف إليه المنادى فلا يجوز حذف الياء منه ، وقرىء بإثبات ياء الإضافة

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٩٤.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٦.

(٣) سورة هود : ١١ / ٨٩.

١٨٢

وأجود اللغات الاجتزاء بالكسرة عن ياء الإضافة ثم قلب الياء ألفا والكسرة قبلها فتحة ثم حذف التاء وفتح الميم ثم إثبات التاء مفتوحة أو ساكنة وهذه اللغات جائزة في ابنة أمي وفي ابن عمي وابنة عمي وقرىء يا ابن أمي بإثبات الياء وابن إمّ بكسر الهمزة والميم ومعمول القول المنادى والجملة بعده المقصود بها تخفيف ما أدرك موسى من الغضب والاستعذار له بأنه لم يقصّر في كفهّم من الوعظ والإنذار وما بلغته طاقته ولكنهم استضعفوه فلم يلتفتوا إلى وعظه بل قاربوا أن يقتلوه ودلّ هذا على أنه بالغ في الإنكار عليهم حتى همّوا بقتله ومعنى (اسْتَضْعَفُونِي) وجدوني فهي بمعنى الفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه أي اعتقدوني ضعيفا ، وتقدّم ذلك في قوله (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) (١) ولما أبدى له ما كان منهم من الاستضعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله فقال (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) أي لا تسرّهم بما تفعل بي فأكون ملوما منهم ومنك ، وقال الشاعر :

والموت دون شماتة الأعداء

وقرأ ابن محيصن (تُشْمِتْ) بفتح التاء وكسر الميم ونصب (الْأَعْداءَ) ومجاهد كذلك إلا أنه فتح الميم وشمت متعدّية كأشمت وخرّج أبو الفتح قراءة مجاهد على أن تكون لازمة والمعنى فلا تشمت أنت يا ربّ وجاز هذا ، كما قال الله يستهزىء بهم ونحو ذلك ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلا نصب به الأعداء كقراءة الجماعة انتهى ، وهذا خروج عن الظاهر وتكلّف في الإعراب وقد روي تعدّى شمت لغة فلا يتكلّف أنها لازمة مع نصب الأعداء وأيضا قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٢) إنما ذلك على سبيل المقابلة لقولهم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (٣) فقال : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وكقوله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) (٤) ولا يجوز ذلك ابتداء من غير مقابلة وعن مجاهد (فَلا تُشْمِتْ) بفتح التاء والميم ورفع (الْأَعْداءَ) ، وعن حميد بن قيس كذلك إلا أنه كسر الميم جعلاه فعلا لازما فارتفع به الأعداء فظاهره أنه نهى الأعداء عن الشماتة به وهو من باب لا أرينك هنا والمراد نهيه أخاه أي لا تحلّ بي مكروها فيشمتوا بي وبدأ أوّلا بسؤال أخيه أن لا يشمت به الأعداء لأنّ ما يوجب الشماتة هو فعل مكروه ظاهر لهم فيشمتوا به فبدأ بالأوكد ثم سأله أن لا يجعله ولا يعتقده واحدا من الظالمين إذ جعله معهم واعتقاده من جملتهم هو فعل قلبي وليس ظاهرا لبني إسرائيل أو يكون المعنى (وَلا تَجْعَلْنِي) في موجدتك عليّ قرينا لهم مصاحبا لهم ..

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٧٥ وغيرها.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٥.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٤.

(٤) سورة الأنفال : ٨ / ٣٠.

١٨٣

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله قالوا واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل قالوا : ويمكن أن يكون الاستغفار مما لا يعلمه والله أعلم ، وقال الزمخشري لما اعتذر إليه أخوه وذكر شماتة الأعداء ، (قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا يتمّ لهم شماتتهم واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ولأخيه أن عسى فرّط في حين الخلافة وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ولا تزال متضمنة لهما في الدنيا والآخرة انتهى ، وقوله ولأخيه أن عسى فرط إن كانت أن بفتح الهمزة فتكون المخففة من الثقيلة ويقرب معناه ، وإن كانت بكسر الهمزة فتكون للشرط ولا يصح إذ ذاك دخولها على عسى لأنّ أدوات الشرط لا تدخل على الفعل الجامد.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ). الظاهر أنه من كلام الله تعالى إخبارا عما ينال عباد العجل ومخاطبة لموسى بما ينالهم. وقيل : هو من بقية كلام موسى إلى قوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وأصدقه الله تعالى بقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) والأول الظاهر لقوله (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) في نسق واحد مع الكلام قبله والمعنى اتخذوه إلها لقوله (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا : هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) ، قيل : والغضب في الآخرة والذلّة في الدنيا وهم فرقة من اليهود أشربوا حبّ العجل فلم يتوبوا ، وقيل : هم من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات ، وقال أبو العالية وتبعه الزمخشري : هو ما أمروا به من قتل أنفسهم ، وقال الزمخشري والذلّة خروجهم من ديارهم لأن ذلّ الغربة مثل مضروب انتهى ، وينبغي أن يقول استمرار انقطاعهم عن ديارهم لأنّ خروجهم كان سبق على عبادة العجل ، وقال عطية العوفيّ : هو في قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير لأنهم تولوا متخذي العجل ، وقيل : ما نال أولادهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السبي والجلاء والجزية وغيرها ، وجمع هذين القولين الزمخشري فقال : هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريضة والنضير من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء ومن الذلة بضرب الجزية انتهى ، والغضب إن أخذ بمعنى الإرادة فهو صفة ذات أو بمعنى العقوبة فهو صفة فعل والظاهر أن قوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلق بقوله (سَيَنالُهُمْ) ، وكذلك أي مثل ذلك النيل من الغضب والذلّة نجزي من افترى الكذب على الله وأي افتراء أعظم من قولهم (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) و (الْمُفْتَرِينَ) عامّ في كل مفتر ،

١٨٤

وقال أبو قلابة ومالك وسفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل واستدلّوا على ذلك بالآية.

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ السَّيِّئاتِ) هي الكفر والمعاصي غيره (ثُمَّ تابُوا) أي رجعوا إلى الله (مِنْ بَعْدِها) أي من بعد عمل السيئات (وَآمَنُوا) داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه أو تكون الواو حالية أي وقد آمنوا أنّ ربك من بعدها أي من بعد عمل السيئات هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون الضمير في (مِنْ بَعْدِها) عائدا على التوبة أي (إِنَّ رَبَّكَ) من بعد توبتهم فيعود على المصدر المفهوم من قوله (ثُمَّ تابُوا) وهذا عندي أولى لأنك إذا جعلت الضمير عائدا على (السَّيِّئاتِ) ، احتجت إلى حذف مضاف وحذف معطوف إذ يصير التقدير من بعد عمل السيئات والتوبة منها وخبر (الَّذِينَ) قوله (إِنَّ رَبَّكَ) وما بعده والرابط محذوف أي (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لهم. قال الزمخشري : (لَغَفُورٌ) لستور عليهم محاء لما كان منهم (رَحِيمٌ) منعم عليهم بالجنة وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم عظم جنايتهم أوّلا ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أنّ الذنوب وإن جلت وإن عظمت فإن عفوه تعالى وكرمه أعظم وأجلّ ولكن لا بد من حفظ الشريطة وهي وجوب التوبة والإنابة وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة لا يلتفت إليها حازم انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال.

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ). سكوت غضبه كان والله أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بني إسرائيل عن عبادة العجل ووعد الله إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته. قال يونس بن حبيب : تقول العرب سال الوادي ثم سكت ، وقال الزجاج : مصدر (سَكَتَ) الغضب سكت ومصدر سكت الرجل سكوت وهذا يقتضي أنه فعل على حدّه وليس من سكوت الناس ، وقيل هو من باب القلب أي ولمّا سكت موسى عن الغضب نحو أدخلت في فيّ الحجر ، وأدخلت القلنسوة في رأسي انتهى ، ولا ينبغي هذا لأنه من القلب وهو لم يقع إلّا في قليل من الكلام والصحيح أنه لا ينقاس ، وقال الزمخشري وهذا مثل كأنّ الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك وترك الإغراء ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك ولأنه من قبيل شعب البلاغة ، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة ولما سكن عن موسى الغضب لا تجد

١٨٥

النفس عندها شيئا من تلك الهزة وطرفا من تلك الروعة ، وقرىء أسكت رباعيّا مبنيّا للمفعول ، وكذا هو في مصحف حفصة والمنوي عند الله أو أخوه باعتذاره إليه أو تنصله أي أسكت الله أو هارون ، وفي مصحف عبد الله ولما صبر ، وفي مصحف أبي ولما انشق والمعنى ولما طفى غضبه أخذ ألواح التوراة التي كان ألقاها من يده ، روي عن ابن عباس أنه ألقاها فتكسرت فصام أربعين يوما فردّت إليه في لوحين ولم يفقد منها شيئا وفي نسختها أي فيما نسخ من الألواح المكسرة أو فيما نسخ فيها أو فيما بقي منها بعد المرفوع وهو سبعها والأظهر أنّ المعنى وفيما نقل وحوّل منها واللام في (لِرَبِّهِمْ) تقوية لوصول الفعل إلى مفعوله المتقدم ، وقال الكوفيّون : هي زائدة ، وقال الأخفش : هي لام المفعول له أي لأجل ربهم (يَرْهَبُونَ) لا رياء ولا سمعة ، وقال المبرد : هي متعلقة بمصدر المعنى الذين هم رهبتهم لربهم وهذا على طريقة البصريين لا يتمشّى لأنّ فيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو لا يجوز عندهم إلا في الشعر وأيضا فهذا التقدير يخرج الكلام عن الفصاحة.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦))

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا). (اخْتارَ) افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء (وَاخْتارَ) من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بوساطة حرف الجر وهي مقصورة على السماع وهي اختار واستغفر وأمر وكنّى ودعا وزوج وصدق ، ثم يحذف حرف الجر ويتعدّى إليه الفعل فيقول اخترت زيدا من الرجال واخترت زيدا الرجال. قال الشاعر :

اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم

واعتل من كان يرجى عنده السّول

أي اخترتك من الناس و (سَبْعِينَ) هو المفعول الأوّل ، و (قَوْمَهُ) هو المفعول الثاني

١٨٦

وتقدير من قومه ومن أعرب (قَوْمَهُ) مفعولا أوّل و (سَبْعِينَ) بدلا منه بدل بعض من كلّ وحذف الضمير أي (سَبْعِينَ رَجُلاً) منهم احتاج إلى تقدير مفعول ثان وهو المختار منه فإعرابه فيه بعد وتكلف حذف في رابط البدل وفي المختار منه واختلفوا في هذا الميقات أهو ميقات المناجاة ونزول التوراة أو غيره ، فقال نوف البكالي ورواه أبو صالح عن ابن عباس : وهو الأوّل بيّن فيه بعض ما جرى من أحواله وأنه اختار من كل سبط ستة رجال فكانوا اثنين وسبعين ، فقال ليتخلف اثنان فإنما أمرت بسبعين فتشاحوا ، فقال : من قعد فله أجر من حضر فقعد كالب بن يوقنا ويوشع بن نون واستصحب السبعين بعد أن أمرهم أن يصوموا ويتطهّروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقام للقوم : ادنوا فدنوا حتى إذا دخلا في الغمام وقعوا سجّدا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم فقالوا : (يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (١).

قال الزمخشري : فقال (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢) يريد أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته ، فأجيب : بلن تراني ورجف الجبل بهم وصعقوا انتهى ، وقيل : هو ميقات آخر غير ميقات المناجاة ونزول التوراة ، فقال وهب بن منبه : قال بنو إسرائيل لموسى إن طائفة تزعم أنّ الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى الله تعالى إليه أن يختار من قومه سبعين من خيارهم ثم ارتق بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ، ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة ، وقال السدّي : هو ميقات وقته الله تعالى لموسى يلقاه في ناس من بني إسرائيل ليعتذروا إليه من عبادة العجل ، وقال ابن عباس فيما روى عنه عليّ بن طلحة هو ميقات وقته الله لموسى وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعوا ربهم فدعوا فقالوا يا الله أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا ولا أحدا بعدنا فكره الله ذلك فأخذتهم الرّجفة ، وعن علي رضي‌الله‌عنه فيما روى ابن أبي شيبة أن موسى وهارون وابناه شبّر وشبير انطلقوا حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فقام عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى إلى قومه فقالوا : أنت قتلته وحسدتنا على خلقه ولينه ، فقال : كيف أقتله ومعي ابناه ، قال : فاختاروا من شئتم فاختير سبعون فانتهوا إليه فقالوا من قتلك يا هارون قال

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٥٥.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

١٨٧

ما قتلني أحد ولكنّ الله توفاني ، قالوا : يا موسى ما نعصي بعد فأخذتهم الرّجفة فجعلوا يتردّون يمينا وشمالا انتهى ، ولفظ (لِمِيقاتِنا) في هذا القول الذي روي عن عليّ لأنه يقتضي أنه كان عن توقيت من الله تعالى ، وقال ابن السائب : كان موسى لا يأتي ربه إلا بإذن منه والذي يظهر أن هذا الميقات غير ميقات موسى الذي قيل فيه : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) لظاهر تغاير القصتين وما جرى فيهما إذ في تلك أن موسى كلمه الله وسأله الرؤية وأحاله في الرؤية على تجليه للجبل وثبوته فلم يثبت وصار دكّا وصعق موسى وفي هذه اختير السبعون لميقات الله وأخذتهم الرّجفة ولم تأخذ موسى ، وللفصل الكثير الذي بين أجزاء الكلام لو كانت قصة واحدة.

(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ). سبب الرجفة مختلف فيه وهو مرتب على تفسير الميقات فهل الرّجفة عقوبة على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل أو عقوبة على سؤالهم الرؤية أو عقوبة لتشططهم في الدعاء المذكور أو سببه سماع كلام هارون وهو ميت أقوال. وقال السدّي : عقوبة على عبادة هؤلاء السبعين باختيارهم العجل وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله وأخذ الرّجفة يحتمل أن نشأ عنه الموت ويحتمل أن نشأ عنه الغشي وهما قولان ، وقال السدّي قال موسى : كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم فماذا أقول وكيف يأمنونني على أحد فأحياهم الله ، وقيل أخذتهم الرّعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنتقض ظهورهم وخاف موسى الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف عنهم ، قال الزمخشري : وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية كما يقال النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبّة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا انتهى. فمعنى قوله (مِنْ قَبْلُ) سؤال الرّؤية وهذا بناء من الزمخشري على أنّ هذا الميقات هو ميقات المناجاة وطلب الرؤية وقد ذكرنا أنّ الأظهر خلافه ، وقال ابن عطية لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعّب إن لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخفّ عليّ وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة عليّ مؤذ لي انتهى ، ومفعول (شِئْتَ) محذوف تقديره لو شئت إهلاكنا وجواب (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ) وأتى دون لام وهو فصيح لكنه باللام أكثر كما قال (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ) (١) (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ) (٢) ، ولا يحفظ جاء بغير

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٧٧.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٨٣.

١٨٨

لام في القرآن إلا هذا وقوله (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) (١) و (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) (٢) والمحذوف في (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الاختيار وأخذ الرّجفة وذلك زمان إغضائهم على عبادة العجل أو عبادتهم هم إياه وقوله (وَإِيَّايَ) أي وقت قتلي القبطي فأنت قد سترت وغفرت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل قال أكثره ابن عطية وعطف (وَإِيَّايَ) على الضمير المنصوب في (أَهْلَكْتَهُمْ) وعطف الضمير مما يوجب فصله وبدأ بضميرهم لأنّهم الذين (أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) فماتوا أو أغمي عليهم ولم يمت هو ولا أغمي عليه ولم يكتف بقوله (أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) حتى أشرك نفسه فيهم وإن كان لم يشركهم في مقتضى الإهلاك تسليما منه لمشيئة الله تعالى وقدرته وأنه لو شاء إهلاك العاصي والطائع لم يمنعه من ذلك مانع.

(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) قيل : هذا استفهام على سبيل الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف وتذلّل والضمير المنصوب في (أَتُهْلِكُنا) له وللسبعين و (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) فيه الخلاف مرتّبا على سبب أخذ الرّجفة من طلب الرؤية أو عبادة العجل أو قولهم قتلت هارون أو تشططهم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل ، وقيل : الضمير في (أَتُهْلِكُنا) له ولبني إسرائيل و (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) أي بالتفرّق والكفر والعصيان يكون هلاكهم ، وقال الزمخشري يعني نفسه وإياهم لأنه إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء وهم طلبوها سفها وجهلا والذي يظهر لي أنه استفهام استعلام اتبع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٣) وقوله عليه‌السلام ، وقد قيل له : أنهلك وفينا الصالحون قال : «نعم إذا كثر الخبث». وكما ورد أن قوما يخسف بهم قيل : وفيهم الصالحون فقيل : يبعثون على نيّاتهم أو كلاما هذا معناه وروي عن عليّ أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم.

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) أي إن فتنتهم (إِلَّا فِتْنَتُكَ) والضمير في (هِيَ) يفسره سياق الكلام أي أنت هو الذي فتنتهم قالت فرقة لما أعلمه الله أنّ السبعين عبدوا العجل تعجب وقال (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ، وقيل لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال : يا ربّ ومن أخاره قال : أنا قال : موسى فأنت أضللتهم (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يشير به إلى قولهم (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) إذ كانت فتنة

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٠.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٠.

(٣) سورة الأنفال : ٨ / ٢٥.

١٨٩

من الله أوجبت الرّجفة وفي هذه الآية ردّ على المعتزلة ، وقال الزمخشري أي محنتك وبلاؤك حين كلمتني وسمعت كلامك فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتى افتتنوا وضلوا تضلّ بها الجاهلين غير الثابتين في معرفتك وتهدي العالمين الثابتين بالقول الثابت ، وجعل ذلك إضلالا من الله تعالى وهدى منه لأنّ محنته إنما كانت سببا لأن ضلّوا واهتدوا فكأنه أضلّهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفيهم الإضلال عن الله تعالى.

(أَنْتَ وَلِيُّنا) القائم بأمرنا (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ). سأل الغفران له ولهم والرحمة لما كان قد اندرج قومه في قوله (أَنْتَ وَلِيُّنا) وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم وكان قومه أصحاب ذنوب أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) ولما كان هو وأخوه هارون عليه‌السلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد الرحمة بل قال : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين ، ألا ترى إلى قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وكان تعالى خير الغافرين لأنّ غيره يتجاوز عن الذنب طلبا للثناء أو الثواب أو دفعا للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد والباري سبحانه وتعالى منزّه عن أن يكون غفرانه لشيء من ذلك.

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ). أي وأثبت لنا عاقبة وحياة طيبة أو عملا صالحا يستعقب ثناء حسنا في الدنيا وفي الآخرة الجنة والرؤية والثواب على حسنة الدنيا والأجود حمل الحسنة على ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها و (إِنَّا هُدْنا) تعليل لطلب الغفران والحسنة وكتب الحسنة أي تبنا إليك قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبو العالية وقتادة والضحاك والسدّي : من هاد يهود ، وقال ابن بحر : تقرّبنا بالتوبة ، وقيل : ملنا. ومنه قول الشاعر :

قد علمت سلمى وجاراتها

أني من الله لها هد

أي مائل ، وقرأ زيد بن علي وأبو وجزة (هُدْنا) بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك أي حرّكنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك فيكون الضمير فاعلا ويحتمل أن يكون مفعولا لم يسمّ فاعله أي حركنا إليك وأملنا والضم في (هُدْنا) يحتملهما وتضمنت هذه الجمل كونه تعالى هو ربهم ووليهم وأنهم تائبون عبيد له خاضعون فناسب عزّ الرّبوبية أن يستعطف للعبيد التائبين الخاضعين بسؤال المغفرة والرّحمة والكتب.

١٩٠

(قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ). الظاهر أنه استئناف إخبار عن عذابه ورحمته ويندرج في قوله : (أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أصحاب الرّجفة ، وقيل العذاب هنا هو الرّجفة و (مَنْ أَشاءُ) أصحابها والمعنى أنه لا اعتراض عليه أي من أشاء عذابه ، وقيل : (مَنْ أَشاءُ) أن لا أعفو عنه ، وقيل : (مَنْ أَشاءُ) من خلقي كما أصبت به قومك ، وقيل : من أشاء من الكفار ، وقيل المشيئة راجعة إلى التعجيل والإمهال لا إلى الترك والإهمال ، وقال الزمخشري : ممن أشاء من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة ، وقال ابن عباس أصيب من أشاء على الذنب اليسير ، وقال أيضا (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) من ذنوب المؤمنين ، وقال أبو روق هي التعاطف بين الخلائق ، وقال ابن زيد : هي التوبة على العموم ، وقال الحسن :

هي في الدنيا بالرزق عامة وفي الآخرة بالمؤمنين خاصة ، وقال الزمخشري : وأما رحمتي فمن حالها وصفتها أنها واسعة كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي انتهى ، وهو بسط قول الحسن : هي في الدنيا بالرزق عامة ، وقرأ زيد بن علي والحسن وطاوس وعمرو بن فائد من أساء من الإساءة ، وقال أبو عمرو الدّاني : لا تصحّ هذه القراءة عن الحسن وطاوس وعمرو بن فائد رجل سوء ، وقرأ بها سفيان بن عيينة مرّة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع وللمعتزلة تعلّق بهذه القراءة من جهة إنفاذ الوعيد ومن جهة خلق المرء أفعاله وإن أساء لا فعل فيه لله تعالى والانفصال عن هذا كالانفصال عن سائر الظواهر.

(فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي أقضيها وأقدّرها والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور ويحتمل عندي أن يعود على حسنة في قوله (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) أي فسأكتب الحسنة وقاله ابن عباس ونوف البكالي وقتادة وابن جريح والمعنى متقارب لما سمع إبليس (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) تطاول لها إبليس فلما سمع (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) يبس ، وبقيت اليهود والنصارى فلما تمادت الصفة تبين أنّ المراد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويئس النصارى واليهود من الآية ، وقال أهل التفسير : عرض الله هذه الخلال على قوم موسى فلم يتحملوها ولما انطلق وفد بني إسرائيل إلى الميقات قيل لهم خطت لكم الأرض مسجدا وطهورا إلا عند مرحاض أو قبر أو حمام وجعلت السّكينة في قلوبهم فقالوا : لا نستطيع فاجعل السكينة في التابوت والصلاة في

١٩١

الكنيسة ولا نقرأ التوراة إلا عن نظر ولا نصلي إلا في الكنيسة فقال الله تعالى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه‌السلام قال : يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد ، قال نوف فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ومعنى (يَتَّقُونَ) قال ابن عباس وفرقة : الشّرك ، وقالت فرقة : المعاصي فمن قال الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ويردّ عليه من الآية شرط الإعمال بقوله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ، ومن قال : المعاصي ولا بدّ خرج إلى قول المعتزلة ، قال ابن عطية : والصواب أن تكون اللفظة عامة ولكن لا نقول لا بدّ اتقاء المعاصي بل نقول مواقع المعاصي في المشيئة ومعنى (يَتَّقُونَ) يجعلون بينهم وبين المتقي حجابا ووقاية ، فذكر تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها انتهى.

(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الظاهر أنها زكاة المال وبه قال ابن عباس وروي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم ، وقال الحسن : تزكية الأعمال بالإخلاص انتهى ، ولما كانت التكاليف ترجع إلى قسمين تروك وأفعال والأفعال قسمان راجعة إلى المال وراجعة إلى نفس الإنسان وهذان قسمان علم وعمل فالعلم المعرفة والعمل إقرار باللسان ، وعمل بالأركان فأشار بالاتقاء إلى التروك وبالفعل الراجح إلى المال بالزكاة وأشار إلى ما بقي بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) وهذه شبيهة بقوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (١) الآية وفهم المفسرون من قوله الذين يتقون إلى آخر الأوصاف أنّ المتصفين بذلك هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن يكون من باب التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون قوله (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لمن فعل ذلك قبل الرسول ويكون قوله (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) من فعل ذلك بعد البعثة وفسّر الآيات هنا بأنها القرآن وهو الكتاب المعجز.

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣.

١٩٢

أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)

التعزير قال يونس بن حبيب التعزير هو الثناء والمدح. الانبجاس العرق. قال أبو عمرو بن العلاء : انبجست عرقت وانفجرت سالت ، وقال الواحدي الانبجاس الانفجار يقال : بجس وانبجس ، الحوت معروف يجمع في القلة على أحوات وفي الكثرة على حيتان وهو قياس مطّرد في فعل واوي العين نحو عود وأعواد وعيدان.

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). هذا من بقية خطابه تعالى لموسى

١٩٣

عليه‌السلام وفيه تبشير له ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر لصفاته وإعلام له أيضا أنه ينزل كتابا يسمى الإنجيل ومعنى الاتباع الاقتداء فيما جاء به اعتقادا وقولا وفعلا وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأنّ الرسالة في بني آدم أعظم شرفا من النبوة أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي والملك أعم فبدىء به والأميّ الذي هو على صفة أمة العرب إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ قاله الزجاج ، وكونه أمّيا من جملة المعجز ، وقيل : نسبة إلى أم القرى وهي مكة ، وروي عن يعقوب وغيره أنه قرأ (الْأُمِّيَ) بفتح الهمزة وخرج على أنه من تغيير النسب والأصل الضّم كما قيل في النسب إلى أميّة أموي بالفتح أو على أنه نسب إلى المصدر من أم ومعناه المقصود أي لأنّ هذا النبي مقصد للناس وموضع أم ، وقال أبو الفضل الرازي : وذلك مكة فهو منسوب إليه لكنها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع ومعنى (يَجِدُونَهُ) أي يجدون وصفه ونعته ، قال التبريزي : (فِي التَّوْراةِ) أي سأقيم له نبيّا من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ويقول لهم كلما أوصيته وفيها وأما النبي فقد باركت عليه جدّا جدّا وسأدخره لأمة عظيمة وفي (الْإِنْجِيلِ) يعطيكم الفارقليط آخر يعطيكم معلم الدهر كله ، وقال المسيح : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ويمدحني ويشهد لي ويحتمل أن يكون (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) إلى آخره متعلقا بيجدونه فيكون في موضع الحال على سبيل التجوّز فيكون حالا مقدرة ويحتمل أن يكون من وصف النبي كأنه قيل : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وكذا وكذا ، وقال أبو عليّ (يَأْمُرُهُمْ) : تفسير لما كتب من ذكره كقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (١) ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في (يَجِدُونَهُ) لأن الضمير للذكر والاسم والاسم والذكر لا يأمران ، قال ابن عباس وعطاء : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ، وقال مقاتل : الإيمان ، وقيل : الحق ، وقال الزجاج : كل ما عرف بالشّرع والمنكر ، قال ابن عباس : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ، وقال مقاتل : الشّرك ، وقيل : الباطل ، وقيل : الفساد ومبادئ الأخلاق ، وقيل : القول في صفات الله بغير علم والكفر بما أنزل وقطع الرحم والعقوق.

(وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) تقدّم ذكر الخلاف في (الطَّيِّباتِ) في قوله (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) (٢) أهي الحلال أو المستلذّ وكلاهما قيل هنا ، وقال الزمخشريّ : ما حرّم عليهم من

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٩.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٥١.

١٩٤

الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها أو ما طاب في الشريعة واللحم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت انتهى ، وقيل : ما كانت العرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام واستبعد أبو عبد الله الرازي قول من قال : إنها المحلّلات لتقديره ويحلّ لهم المحللات قال وهذا محض التكذيب ، ولخروج الكلام عن الفائدة لأنا لا ندري ما أحلّ لنا وكم هو قال : بل الواجب أن يراد المستطابة بحسب الطبع لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحلّ فدلت الاية على أن كل ما تستطيعه النفس ويستلذه الطبع حلال إلا ما خرج بدليل منفصل.

(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) قيل : المحرمات ، وقيل : ما تستخبثه العرب كالعقرب والحية والحشرات ، وقيل : الدم والميتة ولحم الخنزير ، وعن ابن عباس ما في سورة المائدة إلى قوله (ذلِكُمْ فِسْقٌ) (١).

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ). قرأ طلحة ويذهب عنهم (إِصْرَهُمْ) وتقدم تفسير الإصر في آخر سورة البقرة ، وفسره هنا قتادة وابن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم بالثقل ، وقرأ ابن عامر : آصارهم جمع إصر ، وقرىء إصرهم بفتح الهمزة وبضمها فمن جمع فباعتبار متعلّقات الإصر إذ هي كثيرة ومن وحد فلأنه اسم جنس ، (وَالْأَغْلالَ) مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتما من القاتل عمدا كان أو خطأ وترك الاشتغال يوم السبت وتحريم العروق في اللحم وعن عطاء : أنّ بني إسرائيل كانوا إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، وروي أن موسى عليه‌السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه وهذا المثل كما قالوا جعلت هذا طوقا في عنقك وقالوا طوقها طوق الحمامة ، وقال الهذلي :

وليس كهذا الدار يا أمّ مالك

ولكن أحاطب بالرّقاب السلاسل

فصار الفتى كالكهل ليس بقابل

سوى العدل شيئا واستراح العواذل

وليس ثمّ سلاسل وإنما أراد أنّ الإسلام ألزمه أمورا لم يكن ملتزما لها قبل ذلك كما

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٣.

١٩٥

قال الإيمان قيد الفتك ، وقال ابن زيد : الأغلال يريد في قوله (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) (١) فمن آمن زالت عنه الدعوة وتغليلها.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (وَعَزَّرُوهُ) أثنوا عليه ومدحوه. قال الزمخشري : منعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ ، وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى بالتخفيف ، وقرأ جعفر بن محمد وعزّزوه بزايين و (النُّورَ) القرآن قاله قتادة ، وقال ابن عطية : هو كناية عن جملة الشريعة. وقيل مع بمعنى عليه أي الذي أنزل عليه. وقيل هو على حذف مضاف أي أنزل مع نبوته لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به وعلى هذين القولين يكون العامل في الظرف (أُنْزِلَ) ويجوز عندي أن كون معه ظرفا في موضع الحال فالعامل فيه محذوف تقديره أنزل كائنا معه وهي حال مقدّرة كقوله مررت برجل معه صقر صائدا به غدا فحالة الإنزال لم يكن معه لكنه صار معه بعد كما أنّ الصيد لم يكن وقت المرور ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يعلّق باتبعوا أي (وَاتَّبَعُوا) القرآن المنزل مع اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعمل بسنته وبما أمر به أي واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه وفي قوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) إلى آخره إشارة إلى من آمن من أعيان بني إسرائيل بالرسول كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ). لما ذكر تعالى لموسى عليه‌السلام صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبر أن من أدركه وآمن به أفلح أمر تعالى نبيه بإشهار دعوته ورسالته إلى الناس كافة والدعاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكلماته واتباعه ودعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامّة للإنس والجنّ قاله الحسن ، وتقتضيه الأحاديث و (الَّذِي) في موضع نصب على المدح أو رفع وأجاز الزمخشري أن يكون مجرورا صفة لله قال وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله (إِلَيْكُمْ) ، وقال أبو البقاء : ويبعد أن يكون صفة لله أو بدلا منه لما فيه من الفصل بينهما بإليكم وبالحال وإليكم متعلّق برسول وجميعا حال من ضمير (إِلَيْكُمْ) وهذا الوصف يقتضي الإذعان والانقياد لمن أرسله إذ له الملك فهو المتصرف بما يريد وفي حصر الإلهية له نفي الشركة لأن من كان له ملك هذا العالم لا يمكن أن يشركه أحد فهو المختص بالإلهية وذكر الإحياء والإماتة إذ هما وصفان لا يقدر عليهما إلا الله وهما إشارة إلى الإيجاد لكلّ شيء يريده الإعدام والأحسن

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

١٩٦

أن تكون هذه جملا مستقلة من حيث الإعراب وإن كانت متعلقا بعضها ببعض من حيث المعنى. وقال الزمخشري : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بدل من الصلة التي هي (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وكذلك (يُحيِي وَيُمِيتُ) وفي (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيان للجملة قبلها لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة وفي (يُحيِي وَيُمِيتُ) بيان لاختصاصه بالإلهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره انتهى ، وإبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه ، وقال الحوفي : (يُحيِي وَيُمِيتُ) في موضع الخبر لأن (لا إِلهَ) في موضع رفع بالابتداء و (إِلَّا هُوَ) بدل على الموضع قال : والجملة أيضا في موضع الحال من اسم الله تعالى انتهى ، يعني من ضمير اسم الله وهذا إعراب متكلف.

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). لما ذكر أنه رسول الله أمرهم بالإيمان بالله وبه وعدل عن ضمير المتكلم إلى الظاهر وهو الالتفات لما في ذلك من البلاغة بأنه هو النبي السابق ذكره في قوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) وأنه هو المأمور باتباعه الموجود بالأوصاف السابقة والظاهر أن كلماته هي الكتب الإلهية التي أنزلت على من تقدمه وعليه ولما كان الإيمان بالله هو الأصل يتفرع عنه الإيمان بالرسول والنبي بدأ به ثم أتبعه بالإيمان بالرسول ثم أتبع ذلك بالإشارة إلى المعجز الدّال على نبوّته وهو كونه أمّيّا وظهر عنه من المعجزات في ذاته ما ظهر من القرآن الجامع لعلوم الأوّلين والآخرين مع نشأته في بلد عار من أهل العلم لم يقرأ كتابا ولم يخطّ ولم يصحب عالما ولا غاب عن مكة غيبة تقتضي تعلما. وقيل : و (كَلِماتِهِ) المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله لما كانت أمورا خارقة غريبة كما سمّي عيسى عليه‌السلام لما كان حدوثه أمرا غريبا خارقا كلمة ، وقرأ مجاهد وعيسى : وكلمة وحد وأراد به الجمع نحو أصدق كلمة قالتها العرب قول لبيد وقد يقولون للقصيدة كلمة وكلمة فلان ، وقال مجاهد والسدّي : المراد بكلماته وكلمته أي بعيسى لقوله : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) (١) ، وقيل : كلمة كن التي تكوّن بها عيسى وسائر الموجودات ، وقرأ الأعمش : الذي يؤمن بالله وآياته بدل كلماته ولما أمروا بالإيمان بالله ورسوله وذلك هو الاعتقاد أمروا بالاتباع له فيما جاء به وهو لفظ يدخل تحته جميع التزامات الشريعة وعلق رجاء الهداية باتباعه.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٠.

١٩٧

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) لما أمر بالإيمان بالله ورسوله وأمر باتباعه ذكر أنّ (مِنْ قَوْمِ مُوسى) من وفق للهداية وعدل ولم يجر ولم تكن له هداية إلا باتباع شريعة موسى قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وباتباع شريعة رسول الله بعد مبعثه فهذا إخبار عن من كان من قوم موسى بهذه الأوصاف فكان المعنى أنهم كلهم لم يكونوا ضلّالا بل كان منهم مهتدون ، قال السائب : هو قوم من أهل الكتاب آمنوا بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه وقال قوم : هم أمة من بني إسرائيل تمسكوا بشرع موسى قبل نسخه ولم يبدّلوا ولم يقتلوا الأنبياء ، وقال الزمخشري هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل لما ذكر الذين تزلزلوا منهم ذكر أمة مؤمنين تائبين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ولا يجورون أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمن به من أعقابهم انتهى ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد به الجماعة التي آمنت بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم ويحتمل أن يريد به وصف المؤمنين التائبين من بني إسرائيل ومن اهتدى واتقى وعدل انتهى ، وما روي عن ابن عباس والسدي وابن جريج أنهم قوم اغتربوا من بني إسرائيل ودخلوا سربا مشوا فيه سنة ونصفا تحت الأرض حتى خرجوا وراء الصين فهم هناك يقيمون الشرع في حكايات طويلة ذكرها الزمخشري وصاحب التحرير والتحبير يوقف عليها هناك لعله لا يصح وفي قوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) إشارة إلى التقليل وأنّ معظمهم لا يهدي بالحق ولا يعدل به وهم إلى الآن ، كذلك دخل في الإسلام من النصارى عالم لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وأما اليهود فقليل من آمن منهم.

(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) أي وقطعنا قوم موسى ومعناه فرّقناهم وميّزناهم وفي ذلك رجوع أمر كل سبط إلى رئيسه ليخفّ أمرهم على موسى ولئلا يتحاسدوا فيقع الهرج ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عينا لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء ولهذا جعل لكلّ سبط نقيبا ليرجع بأمرهم إليه وتقدّم تفسير الأسباط ، وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم بتخفيف الطاء وابن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان (عَشْرَةَ) بكسر الشين ، وعنهم الفتح أيضا وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالكسر وهي لغة تميم والجمهور بالإسكان وهي لغة الحجاز و (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) حال وأجاز أبو البقاء أن يكون قطعنا بمعنى صيرنا وأن ينتصب (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) على أنه مفعول ثان لقطعناهم ولم يعد النحويون قطعنا في باب ظننت وجزم به الحوفي فقال (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) مفعول لقطعناهم أي جعلنا (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) وتمييز

١٩٨

اثنتي عشرة محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة و (أَسْباطاً) بدل من (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) وأمما. قال أبو البقاء نعت لأسباطا أو بدل بعد بدل ولا يجوز أن يكون (أَسْباطاً) تمييزا لأنه جمع وتمييز هذا النوع لا يكون إلا مفردا وذهب الزمخشري إلى أن (أَسْباطاً) تمييز قال : (فإن قلت) : مميز ما بعد العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعا وهلا قيل : اثنتي عشر سبطا ، (قلت) : لو قيل ذلك لم يكن تحقيقا لأنّ المراد وقطعناهم (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) قبيلة وكلّ قبيلة أسباط لا سبط فوضع (أَسْباطاً) موضع قبيلة ونظيره.

بين رماحي مالك ونهشل ، و (أُمَماً) بدل من (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) بمعنى (وَقَطَّعْناهُمُ أُمَماً) لأنّ كل أسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى لا تكاد تأتلف انتهى ، وما ذهب إليه من أن كل قبيلة أسباط خلاف ما ذكر الناس ذكروا أنّ الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وقالوا : الأسباط جمع سبط وهم الفرق والأسباط من ولد إسحاق بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل ويكون على زعمه قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) (١) معناه القبيلة وقوله ونظيره :

بين رماحي مالك ونهشل

ليس نظيره لأنّ هذا من تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في الضرورة وكأنه يشير إلى أنه لو لم يلحظ في الجمع كونه أريد به نوع من الرماح لم يصحّ تثنيته كذلك هنا لحظ هنا الأسباط وإن كان جمعا معنى القبيلة فميز به كما يميز بالمفرد ، وقال الحوفي : يجوز أن يكون على الحذف والتقدير (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) فرقة ويكون (أَسْباطاً) نعتا لفرقة ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه و (أُمَماً) نعت لأسباط وأنث العدد وهو واقع على الأسباط وهو مذكر لأنه بمعنى الفرقة أو الأمة كما قال : ثلاثة أنفس يعني رجالا وعشر أبطن بالنظر إلى القبيلة انتهى ونظير وصف التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى. قول الشاعر :

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كحافته الغراب الأسحم

ولم يقل سوداء. وقيل : جعل كل واحدة من (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) كما تقول لزيد دراهم ولفلان دراهم ولعمر دراهم فهذه عشرون دراهم ، وقيل : التقدير (وَقَطَّعْناهُمُ) فرقا (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) فلا يحتاج إلى تمييز ، وقال البغوي : في الكلام تأخير وتقديم تقديره

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

١٩٩

وقطعناهم أسباطا أمما اثنتي عشرة وهذه كلها تقادير متكلّفة والأجرى على قواعد العرب القول الذي بدأنا به.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). تقدم تفسير ننظير هذه الجمل في البقرة وانبجست : إن كان معناه ما قال أبو عمرو بن العلاء فقيل : كان نظير على كلّ موضع من الحجر فضربه موسى مثل ثدي المرأة فيعرق أولا ثم يسيل وإن كان مرادفا لا نفجرت فلا فرق ، وقال الزمخشري : هنا الأناس اسم جمع غير تكسير نحو رخاء وثناء وثؤام وأخوات لها ويجوز أن يقال : إنّ الأصل الكسر والتكسير والضمة بدل من الكسر كما أبدلت في نحو سكارى وغيارى من الفتحة انتهى ولا يجوز ما قال لوجهين ، أحدهما : أنه لم ينطلق بإناس بكسر الهمزة فيكون جمع تكسير حتى تكون الضمة بدلا من الكسرة بخلاف سكارى وغيارى فإنّ القياس فيه فعالى بفتح فاء الكلمة وهو مسموع فيهما ، (والثاني) : أنّ سكارى وغيارى وعجالى وما ورد من نحوها ليست الضمة فيه بدلا من الفتحة بل نصّ سيبويه في كتابه على أنه جمع تكسير أصل كما أن فعالى جمع تكسير أصل وإن كان لا ينقاس الضمّ كما ينقاس الفتح ، قال سيبويه في حدّ تكسير الصفات : وقد يكسرون بعض هذا على فعالى ، وذلك قول بعضهم سكارى وعجالى ، وقال سيبويه في الأبنية أيضا : ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسمانى ولبادى ولا يكون وصفا إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وكسالى وسمانى فهذان نصّان من سيبويه على أنه جمع تكسير وإذا كان جمع تكسير أصلا لم يسغ أن يدّعي أن أصله فعالى وأنه أبدلت الحركة فيه وذهب المبرّد إلى أنه اسم جامع أعني فعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير فالزمخشري لم يذهب إلى ما ذهب إليه سيبويه ولا إلى ما ذهب إليه المبرد لأنه عند المبرّد اسم جمع فالضمة في فائه أصل ليست بدلا من الفتحة بل أحدث قولا ثالثا. وقرأ عيسى الهمداني من طيبات ما رزقتكم موحّدا للضمير.

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) تقدّمت هذه القصة وتفسيرها في

٢٠٠