البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

العدد فعلى هذا لا يكون الحال (أَرْبَعِينَ) بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله وأربعين ليلة نصب على الحال وقال ابن عطية أيضا ويصح أن يكون (أَرْبَعِينَ) ظرفا من حيث هي عدد أزمنة ، وقيل (أَرْبَعِينَ) مفعول به بتمّ لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز محول من الفاعل وأصله فتم أربعون ميقات ربه أي كملت ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح ، وقيل : فائدتها إزالة توهم العشر من الثلاثين لأنه يحتمل إتمامها بعشر من الثلاثين ، وقيل : إزالة توهم أن تكون عشر ساعات أي أتممناها بعشر ساعات.

(وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) وقرىء شاذا (هارُونَ) بالضم على النداء أي يا هارون أمره حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها أن يكون خليفته في قومه وأن يصلح في نفسه أو ما يجب أن يصلح من أمر قومه ونهاه أن يتبع سبيل من أفسد وفي النهي دليل على وجود المفسدين ولذلك نهاه عن اتباع سبيلهم وأمره إياه بالصلاح ونهيه عن اتباع سبيل المفسدين هو على سبيل التأكيد لا لتوهّم أنه يقع منه خلاف الإصلاح واتباع تلك السبيل لأن منصب النبوّة منزّه عن ذلك ومعنى (اخْلُفْنِي) استبد بالأمر وذلك في حياته إذ راح إلى مناجاة ربه وليس المعنى أنك تكون خليفتي بعد موتي ألا ترى أن هارون عليه‌السلام مات قبل موسى عليهما‌السلام ، وليس في قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ «أنت مني كهارون من موسى» دليل على أنه خليفته بعد موته إذ لم يكن هارون خليفة بعد موت موسى وإنما استخلف الرسول عليّا على أهل بيته إذ سافر الرسول عليه‌السلام في بعض مغازيه كما استخلف ابن أم مكتوم على المدينة فلم يكن في ذلك دليل على أنه يكون خليفة بعد موت الرسول.

(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) أي للوقت الذي ضربه له أي لتمام الأربعين كما تقول أتيته لعشر خلون من الشهر ومعنى اللام الاختصاص والجمهور على أنه وحده خصّ بالتكليم إذ جاء للميقات ، وقال القاضي : سمع هو والسبعون كلام الله ، قال ابن عطية : خلق له إدراكا سمع به الكلام القائم بالذات القديمة الذي هو صفة ذات ، وقال ابن عباس وابن جبير : أدنى الله تعالى موسى حتى سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ وقال الزمخشري : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظا في اللوح وروي أن موسى كان يسمع الكلام في كل جهة ، وعن ابن عباس كلمه أربعين ليلة وكتب له الألواح ، وقيل : إنما

١٦١

كلمه في أول الأربعين انتهى ، وقال وهب كلمه في ألف مقام وعلى أثر كل مقام يرى نور على وجهه ثلاثة أيام ولم يقرب النساء مذ كلّمه الله وقد أوردوا هنا الخلاف الذي في كلام الله وهو مذكور ودلائل المختلفين مذكور في كتب أصول الدين (وَكَلَّمَهُ) معطوف على (جاءَ) ، وقيل حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) للمعنى الذي عدل إلى قوله (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) و (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ).

(قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). قال السدّي وأبو بكر الهذلي : لما كلمه وخصّه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوّف إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه. قال الزجاج : شوّقه الكلام فعيل صبره فحمله على سؤال الرؤية ، وقال الرّبيع : لم يعهد إليه في الرؤية فظن أن السؤال في هذا الوقت جائز ، وقال السدّي : غار الشيطان في الأرض فخرج بين يديه فقال إنما يكلمك شيطان فسأل الرؤية ولو لم تجز الرؤية ما سألها؟ قال ابن عطية : ورؤية الله عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلا لأنه من حيث هو موجود تصحّ رؤيته وقررت الشريعة رؤية الله في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه‌السلام لم يسأل محالا وإنما سأل جائزا وقوله (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) (١) الآية ليس بجواب من سأل محالا وقد قال تعالى لنوح عليه‌السلام : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٢) فلو سأل موسى محالا لكان في الجواب زجر ما وتيئيس ، وقال الكرماني وغيره : في الكلام محذوف تقديره لن تراني في الدنيا ، وقيل لن تقدر أن تراني ، وقيل لن تراني بسؤالك ، وقيل لن تراني ولكن ستراني حين أتجلى للجبل.

قال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف طلب موسى عليه‌السلام ذلك وهو من أعلم الناس بالله وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وبتعاليه عن الصفة التي هي إدراك ببعض الحواس وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة ومنع المجيرة إحالته في العقول غير لازم لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم وكيف يكون طالبه وقد قال حين أخذتهم الرّجفة الذين قالوا (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (٣) (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) إلى قوله (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) (٤) فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلّالا ، (قلت) : ما كان طلبه الرؤية إلا ليسكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلّالا وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجة وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٦.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٥٣.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٣.

١٦٢

ونبّههم على الحق فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا لا بدّ ولن نؤمن لك حتى نراه فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله لن تراني ليتيقنوا وينزاح عنهم ما كان داخلهم من الشبهة فلذلك قال (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (فإن قلت) : فهلا قال أرهم ينظرون إليك (قلت) : لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى وهم يسمعون فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه مع نبوته واختصاصه وزلفته عند الله وقيل له لن يكون ذلك كان غيره أولى بالإنكار ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو يخاطب راجعا إليهم وقوله (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة على مقترحهم وحكاية لقولهم وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظورا إليه مقابلا بحاسة النظر فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المسلمين ، وثاني مفعولي (أَرِنِي) محذوف أي أرني نفسك اجعلني متمكنا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك انتهى.

(قالَ لَنْ تَرانِي). قال ابن عطية نصّ على منعه الرؤية في الدنيا ولن تنفي المستقبل فلو بقينا على هذا النفي بمجرّده لتضمن أنّ موسى لا يراه أبدا ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة فموسى عليه‌السلام أحرى برؤيته ، قال الزمخشري : (فإن قلت) : ما معنى (لَنْ) ، (قلت) : تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غدا فإذا أكدت نفيها قلت لن أفعل غدا والمعنى أن فعله ينافي حالي كقوله (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) (١) وقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢) نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان (فإن قلت) : كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ لقوله (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، (قلت) : لما قال (أَرِنِي) بمعنى اجعلني متمكنا من الرؤية التي هي الإدراك علم أنّ الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه فقيل لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ.

(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) قال مجاهد وغيره : ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ فإن استقرّ وأطاق الصبر لهيبتي فسيمكنك أنت رؤيتي ، قال ابن عطية : فعلى هذا إنما جعل الله له الجبل مثالا ، وقالت فرقة : إنما المعنى

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٣.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

١٦٣

سأبتدىء لك على الجبل فإن استقرّ لعظمتي فسوف تراني انتهى ، وتعليق الرؤية على تقدير الاستقرار مؤذن بعدمها إن لم يستقر ونبّه بذلك على أنّ الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقرّ وهذا تسكين لقلب موسى وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع.

وقال الزمخشري : (فإن قلت) : كيف اتصل الاستدراك في قوله تعالى (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) بما قبله ، (قلت) : تصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك بنظر آخر وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلب الرؤية لأجلهم كيف أفعل به وكيف أجعله دكّا بسبب طلبك للرؤية لتستعظم ما أقدمت عيه بما أريك من عظيم أثره كأنه عز وعلا حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله تعالى (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (١) (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) كما كان مستقرا ثابتا ذاهبا في جهانه (فَسَوْفَ تَرانِي) تعريض لوجود الرؤية لوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حتى يدكّه دكّا ويسوّيه بالأرض وهذا كلام مدمج بعضه في بعض وأورد على أسلوب عجيب ونظم بديع ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك ثم كيف ثنّى بالوعيد بالرّجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية أعني قوله (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) انتهى وهو على طريقة المعتزلة في نفي رؤية الله تعالى ، ولهم في ذلك أقاويل أربعة : أحدها : ما رووا عن الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة وهو عارف بعدله وبربه وبتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفا على السماع ورد ذلك وبأنه يلزم أن تكون معرفته بالله أقل درجة من معرفة أرذال المعتزلة وذلك باطل بالإجماع ، الثاني : قال الجبائي وابنه أبو هاشم : سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا مكثرين للمسألة عنها لا لنفسه فلما منع ظهر أن لا سبيل إليها وردّ بأنه لو كان كذلك لقال أرهم ينظروا إليك ولقيل لن تروني وأيضا لو كان محالا لمنعهم عنه كما منعهم عن جعل الآلهة لهم بقوله (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٢) ، وقال الكعبي سأله الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته كما تقول في معرفة أهل الآخرة ، وردّ ذلك بأنه يقتضي حذف مضاف وسياق الكلام يأبى ذلك فقد أراه من الآيات ما لا غاية بعدها كالعصا وغيرها ، وقال الأصمّ المقصود أن يذكر من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع الرؤية حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وأل في (الْجَبَلِ) للعهد وهو أعظم

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٩٠.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٨.

١٦٤

جبل بمدين يقال له ارريين قال ابن عباس تطاولت الجبال للتجلي وتواضع ارريين فتجلّى له.

قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ

١٦٥

وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)

التجلي الظهور. الدّك مصدر دككت الشيء فتته وسحقته مصدر في معنى المفعول والدّك والدقّ بمعنى واحد وقال ابن عزيز دكا مستويا مع الأرض. الخرور السقوط. أفاق ثاب إليه حسّه وعقله. اللوح معروف وهو يعد للكتابة وغيرها وأصله اللمع تلمع وتلوح فيه الأشياء المكتوبة. الحلي معروف وهو ما يتزين به النساء من فضة وذهب وجوهر وغير ذلك من الحجر النفيس. الخوار صوت البقر. الأسف الحزن يقال أسف يأسف. الجرّ الجذب. الإشمات السرور بما ينال الشخص من المكروه. السكوت والسكات الصمت.

(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) ترتب على التجلي أمران أحدهما تفتت الجبل وتفرّق أجزائه ، والثاني خرور موسى مغشيا عليه. قاله ابن زيد وجماعة المفسرين ، وقال السدّي ميتا ويبعده لفظه أفاق والتجلّي بمعنى الظّهور الجسماني مستحيل على الله تعالى ، قال ابن عباس وقوم لما وقع نوره عليه تدكدك ، وقال المبرد : المعنى ظهر للجبل من ملكوت الله ما تدكدك به ، وقيل ظهر جزء من العرش للجبل فتصرّع من هيبته ، وقيل : ظهر أمره تعالى ، وقيل : (تَجَلَّى) لأهل الجبل يريد موسى والسبعين الذين معه ، وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر الثور ، وقال عبد الله بن سلام : وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط ، وقال الزمخشري : فلما ظهر له اقتداره وتصدّى له أمره وإرادته انتهى ، وقال المتأولون المتكلمون كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره : إن الله خلق للجبل حياة وحسّا وإدراكا يرى به ثم تجلى له أي ظهر وبدا فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، والظاهر نسبة التجلي إليه تعالى على ما يليق به من غير انتقال ولا وصف يدلّ على الجسمية ، قال ابن عباس صار ترابا. وقال مقاتل قطعا متفرقة ، وقيل صار ستة أجبل ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، وثلاثة بمكة ثور وثبير وحراء ، رواه أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل ذهب أعلاه وبقي أسفله ، وقيل صار غبارا تذروه الرياح ، وقال

١٦٦

سفيان : روى أنه انساح في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين ، قال ابن الكلبي : فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة ، وقال الجمهور (دَكًّا) أي مدكوكا أو ذا دك وقرأ حمزة والكسائي دكاء على وزن حمراء والدكاء الناقة التي لا سنام لها والمعنى جعله أرضا دكاء تشبيها بالناقة الدكاء ، وقال الربيع بن خيثم : ابسط يدك دكاء أي مدّها مستوية ، وقال الزمخشري والدكاء اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة انتهى ، وهذا يناسب قول من قال إنه لم يذهب بجملته وإنما ذهب أعلاه وبقي أكثره ، وقرأ يحيى بن وثاب (دَكًّا) أي قطعا جمع دكاء نحو غز جمع غزاء ، وانتصب على أنه مفعول ثان لجعله ويضعف قول الأخفش إن نصبه من باب قعدت جلوسا و (صَعِقاً) حال مقارنة ، ويقال صعقة فصعق وهو من الأفعال التي تعدّت بالحركة نحو شتر الله عينه فشترت ، والظاهر أن موسى والجبل لم يطيقا رؤية الله تعالى حين تجلى فلذلك اندكّ الجبل وصعق موسى عليه‌السلام ، وحكى عياض بن موسى عن القاضي أبي بكر بن الطيّب : أن موسى اليه السلام رأى الله فلذلك خرّ صعقا وأن الجبل رأى ربه فلذلك صار دكّا بإدراك كلفة الله له وذكر وأبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلم موسى مرتين ورآه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين وذكر المفسرون من رؤيته ملائكة السموات السبع وحملة العرش وهيئاتهم وإعدادهم ما الله أعلم بصحته.

(فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ). أي من مسألة الرؤية في الدنيا قاله مجاهد أو من سؤالها قبل الاستئذان أو عن صغائري حكاه الكرماني ، أو قال ذاك على سبيل الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه عند ظهور الآيات على ما جرت به عادة المؤمن عند رؤية العظائم وليست توبة عن شيء معين أشار إليه ابن عطية ، وقال الزمخشري (قالَ سُبْحانَكَ) أنزّهك عن ما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها (تُبْتُ إِلَيْكَ) من طلب الرؤية ، (فإن قلت) : فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب ، (قلت) : عن إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكّا وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر وكيف سبّح ربه ملتجئا إليه وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال (أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام. بالمتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرّنك تستّرهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم :

١٦٧

لجماعة سموا هواهم سنة

وجماعة حمر لعمري مؤكفه

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا

شنع الورى فتستّروا بالبلكفه

وهو تفسير على طريقة المعتزلة وسبّ لأهل السنة والجماعة على عادته وقد نظم بعض علماء السنة على وزن هذين البيتين وبحرهما أنشدنا الأستاذ العلامة أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير بغرناطة إجازة إن لم يكن سماعا ونقلته من خطّه ، قال أنشدنا القاضي الأديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر من نظمه :

شبهت جهلا صدر أمة أحمد

وذوي البصائر بالحمير المؤكفه

وزعمت أن قد شبّهوا معبودهم

وتخوّفوا فتستروا بالبلكفه

ورميتهم عن نبعة سويتها

رمي الوليد غدا يمزق مصحفه

وجب الخسار عليك فانظر منصفا

في آية الأعراف فهي المنصفه

أترى الكليم أتى بجهل ما أتى

وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه

وبآية الأعراف ويك خذلتم

فوقفتم دون المراقي المزلفه

لو صحّ في الإسلام عقدك لم تقل

بالمذهب المهجور من نفي الصفة

إن الوجوه إليه ناظرة بذا

جاء الكتاب فقلتم هذا السّفه

فالنقي مختص بدار بعدها

لك لا أبا لك موعدا لن تخلفه

وأنشدنا قاضي القضاة أبو القاسم عبد الرحمن ابن قاضي القضاة أبي محمد بن عبد الوهاب بن خلف العلامي بالقاهرة لنفسه :

قالوا يريد ولا يكون مراده

عدلوا ولكن عن طريق المعرفة

(وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس ومجاهد : من مؤمني بني إسرائيل ، وقيل : من أهل زمانه إن كان الكفر قد طبق الآفاق ، وقال أبو العالية بأنك لا ترى في الدنيا ، وقال الزمخشري : بأنك لست بمرئيّ ولا مدرك بشيء من الحواس ، وقال أيضا بعظمتك وجلالك وأن شيئا لا يقوم لبطشك وبأسك انتهى ، وتفسيره الأول على طريقة المعتزلة وقد ذكر متكلمو أهل السنة دلائل على رؤية الله تعالى سمعية وعقلية يوقف عليها وعلى حجج الخصوم في كتب أصول الدين.

(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ

١٦٨

الشَّاكِرِينَ) لما طلب موسى عليه‌السلام الرؤية ومنعها عدّد عليه تعالى وجوه نعمه العظيمة عليه وأمره أن يشتغل بشكرها وهذه تسلية منه تعالى له والاصطفاء تقدّم شرحه (وَعَلَى النَّاسِ) لفظ عام ومعناه الخصوص أي على أهل زمانك أو يبقى على عمومه ويعني في مجموع الدّرجتين الرسالة والكلام قاله ابن عطية وينبغي أن يحمل ذلك على وقوع الكلام في الأرض إذ ثبت أن آدم نبي مكلم وتؤوّل على أن ذلك في الجنة ورسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظهر من حديث الإسراء أنه كلمه الله تعالى ويدلّ قوله (وَبِكَلامِي) على أنه سمع الكلام من الله لا من غيره لأن الملائكة تنزل على الرسل بكلام الله وقدّم (بِرِسالاتِي) وعلي (وَبِكَلامِي) لأن الرسالة أسبق في الزمان أو لأنه انتقل من شريف إلى أشرف ، وقرأ الحرميان برسالتي على الإفراد وهو مراد به المصدر أي بإرسالي أو يكون على حذف مضاف أي بتبليغ رسالتي لأن مدلول الرسالة غير مدلول المصدر ، وقرأ باقي السبعة بالجمع لأنّ الذي أرسل به ضروب وأنواع ، وقرأ الجمهور (وَبِكَلامِي) فاحتمل أن يكون مصدرا أي وبتكليمي أو يكون على حذف مضاف أي وبسماع كلامي ، وقرأ أبو رجاء برسالتي وبكلمي جمع كلمة أي وبسماع كلمي ، وقرأ الأعمش برسالاتي وتكلمي ، وحكى عنه المهدوي وتكليمي على وزن تفعيلي وأمره تعالى أن يأخذ ما آتاه من النبوّة لأنّ في الأمر بالأخذ مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال والمعنى خذ ما آتيتك باجتهاد في تبليغه وجدّ في النفع به (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على ما آتيناك وفي ذلك إشارة إلى القنع والرضا بما أعطاه الله والشكر عليه.

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قيل : إنّ موسى عليه‌السلام صعق يوم الجمعة يوم عرفة وأفاق فيه وأعطي التوراة يوم النحر وظاهر قوله (وَكَتَبْنا) نسبة الكتابة إليه. فقيل كتب بيده وأهل السماء يسمعون صرير القلم في اللوح ، وقيل : أظهرها وخلقها في الألواح ، وقيل : أمر القلم أن يخطّ لموسى في الألواح ، وقيل : كتبها جبريل عليه‌السلام بالقلم الذي كتبه به الذكر واستمد من نهر النّور ففي هذين القولين أسند ذلك إلى نفسه إسناد تشريف إذ ذاك صادر عن أمره ، وقيل : معنى (كَتَبْنا) فرضنا كقوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (١) والضمير في (لَهُ) عائد على موسى و (الْأَلْواحِ) جمع قلة وأل فيها لتعريف الماهيّة فإن كان هو الذي قطعها وشققها فتكون أل فيها للعهد ، وقال ابن عطية : عوض من الضمير الذي يقدر وصلة بين الألواح وموسى عليه‌السلام تقديره في ألواحه وهذا كقوله تعالى (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٢) أي مأواه انتهى وكون أل عوضا من الضمير ليس

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٣.

(٢) سورة النازعات : ٧٩ / ٤١.

١٦٩

مذهب البصريين ولا يتعين أن يكون عوضا من الضمير وليس ذلك كقوله (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) لأنّ الجملة خبر عن من فاحتاجت الجملة إلى رابط ، فقال الكوفيون : أل عوض من الضمير كأنه قيل مأواه ، وقال البصريون : الرابط محذوف أي هي المأوى له وظاهر الألواح الجمع ، فقيل كانت سبعة وروي ذلك عن ابن عباس ، وقيل ثمانية ذكره الكرماني ، وقيل : تسعة قاله مقاتل : وقيل : عشرة قاله وهب بن منبه ، وقيل اثنان وروي عن ابن عباس أيضا واختاره الفرّاء ، وهذا ضعيف لأنّ الدلالة بالجمع على اثنين قياسا له شرط مذكور في النحو هو مفقود هنا ، وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيرا يقرأ الجزء منها في سنة ولم يقرأها سوى أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى ، وقد اختلفوا من أي شيء هي فعن ابن عباس وأبي العالية زبرجد ، وعن ابن جبير من ياقوت أحمر ، وعن ابن عباس أيضا ومجاهد من زمرد أخضر ، وعن أبي العالية أيضا من برد ، وعن مقاتل من زمرد وياقوت ، وعن الحسن من خشب طولها عشرة أذرع ، وعن وهب من صخرة صماء أمر بقطعها ولانت له فقطعها بيده وشققها بأصابعه ، وقيل : من نور حكاه الكرماني ، والمعنى من كل شيء محتاج إليه في شرعيتهم.

(مَوْعِظَةً) للازدجار والاعتبار (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والاخبار والمغيبات ، وقال ابن جبير ومجاهد : لكل شيء مما أمروا به ونهوا عنه ، وقال السدّي الحلال والحرام ، وقال مقاتل كان مكتوبا في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئا ولا تقطعوا السبل ولا تحلفوا باسمي كاذبين فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين والظاهر أن مفعول (كَتَبْنا) أي كتبنا فيها (مَوْعِظَةً مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) قاله الحوفي قال نصب (مَوْعِظَةً) بكتبنا (وَتَفْصِيلاً) عطف على (مَوْعِظَةً لِكُلِّ شَيْءٍ) متعلق بتفصيلا انتهى ، وقال الزمخشري : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) في محل النصب مفعول (وَكَتَبْنا) و (مَوْعِظَةً) ، (وَتَفْصِيلاً) بدل منه والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام انتهى ، ويحتمل عندي وجه ثالث وهو أن يكون مفعول (كَتَبْنا) موضع المجرور كما تقول أكلت من الرّغيف ، و (مِنْ) للتبعيض أي كتبنا له أشياء من كل شيء وانتصب (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً) على المفعول من أجله أي كتبنا له تلك الأشياء للاتعاظ والتفصيل لأحكامهم.

(فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي فقلنا خذها

١٧٠

عطفا على (كَتَبْنا) ويجوز أن يكون (فَخُذْها) بدلا من قوله (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) ، والضمير في (فَخُذْها) عائد على ما على معنى ما لا على لفظها وأما إذا كان على إضمار فقلنا فيكون عائدا على (الْأَلْواحِ) أي الألواح أو على (كُلِّ شَيْءٍ) لأنه في معنى الأشياء أو على التوراة أو على الرسالات وهذه احتمالات مقوّلة أظهرها الأول ، ومعنى (بِقُوَّةٍ) قال ابن عباس بجدّ واجتهاد فعل أولي العزم ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس : بطاعة ، وقال جويبر : بشكر ، وقال ابن عيسى : بعزيمة وقوة قلب لأنه إذا أخذها بضعف النية أدّاه إلى الفتور ، وهذا القول راجع لقول ابن عباس : أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه وقوله (بِأَحْسَنِها) ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل وحسنها المباح ، وقيل : أحسنها الناسخ وحسنها المنسوخ ولا يتصور أن يكون المنسوخ حسنا إلا باعتبار ما كان عليه قبل النسخ أما بعد النسخ فلا يوصف بأنه حسن لأنه ليس مشروعا ، وقيل الأحسن المأمور به دون المنهي عنه ، قال الزمخشري : على قوله الصيف أحرّ من الشتاء انتهى ، وذلك على تخيّل أن في الشتاء حرّا ويمكن الاشتراك فيهما في الحسن بالنسبة إلى الملاذ وشهوات النفس فيكون المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه ويكون المنهي عنه حسنا باعتبار الملاذ والشهوة فيكون بينهما قدر مشترك في الحسن وإن اختلف متعلقه ، وقيل أحسنها هو أشبه ما تحتمله الكلمة من المعاني إذا كان لها احتمالات فتحمل على أولاها بالحق وأقربها إليه ، وقيل أحسن هنا ليست أفعل التفضيل بل المعنى بحسنها كما قال :

بيتا دعائمه أعز وأطول

أي عزيزة طويلة قاله قطرب وابن الأنباري فعلى هذا أمروا بأن يأخذوا بحسنها وهو ما يترتب عليه الثواب دون المناهي التي يترتب على فعلها العقاب ، وقيل أحسن هنا صلة والمعنى يأخذوا بها وهذا ضعيف لأنّ الأسماء لا تزاد وانجزم (يَأْخُذُوا) على جواب الأمر وينبغي تأويل (وَأْمُرْ قَوْمَكَ) لأنه لا يلزم من أمر قومه بأخذ أحسنها أن (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) فلا ينتظم منه شرط وجزاء و (بِأَحْسَنِها) متعلّق بيأخذوا وذلك على إعمال الثاني لأن (بِأَحْسَنِها) مقتضى لقوله (وَأْمُرْ) ولقوله (يَأْخُذُوا) ، ويحتمل أن كون قوله (يَأْخُذُوا) مجزوما على إضمار لام الأمر أي ليأخذوا لأنّ معنى (وَأْمُرْ قَوْمَكَ) قل لقومك وذلك على مذهب الكسائي ومفعول (يَأْخُذُوا) محذوف لفهم المعنى أي (يَأْخُذُوا) أنفسهم (بِأَحْسَنِها) ويحتمل أن تكون الباء زائدة أي يأخذوا أحسنها كقوله لا يقرأن بالسور ، والوجه

١٧١

الأوّل أحسن وانظر إلى اختلاف متعلق الأمرين أمر موسى بأخذ جميعها ، فقيل : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) وأكّد الأخذ بقوله (بِقُوَّةٍ) وأمروا هم أن (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) ولم يؤكد ليعلم أن رتبة النبوة أشقّ في التكليف من رتبة التابع ولذلك فرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيام الليل وغير ذلك من التكاليف المختصة به والإراءة هنا من رؤية العين ولذلك تعدّت إلى اثنين و (دارَ الْفاسِقِينَ) مصر قاله عليّ وقتادة ومقاتل وعطية العوفي والفاسقون فرعون وقومه.

قال الزمخشري كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكّل بكم مثل نكالهم انتهى ، وقيل المعنى : سأريكم مصارع الكفار وذلك أنه لما أغرق فرعون وقومه أوحى إلى البحر أن اقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم مصارع الفاسقين ، وقال الكلبي : ما مرّوا عليه إذا سافروا من مصارع عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا ، وقال قتادة أيضا الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد والحسن : (دارَ الْفاسِقِينَ) جهنم والمراد الكفرة بموسى وغيره ، وقال ابن زيد : (سَأُرِيكُمْ) من رؤية القلب أي سأعلمكم سير الأولين وما حلّ بهم من النكال ، وقيل (دارَ الْفاسِقِينَ) أي ما دار إليه أمرهم وهذا لا يدرك إلا بالأخبار التي يحدّث عنها العلم وهذا قريب من قول ابن زيد ، وقال ابن عطية : ولو كان من رؤية القلب لتعدّى بالهمزة إلى ثلاثة ولو قال قائل المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدّر أي مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال إنها جهنم قيل له : لا يجوز حذف هذا المفعول ولا الاقتصار دونه لأنها داخلة على الابتداء والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى انتهى ، وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائز فيجوز في جواب هل أعلمت زيدا عمرا منطلقا أعلمت زيدا عمرا ويحذف منطلقا لدلالة الكلام السابق عليه وأما تعليله لأنها داخلة على الابتداء والخبر لا يدل على المنع لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصارا والثاني والثالث في بام أعلم يجوز حذف كل واحد منهما اختصارا وفي قوله لأنها أي (سَأُرِيكُمْ) داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز ويعني أنها قبل النقل بالهمزة فكانت داخلة على المبتدا والخبر ، وقرأ الحسن : (سَأُرِيكُمْ) بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجّهت هذه القراءة بوجهين ، أحدهما : ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطّلها فنشأ عنها الواو قال : ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه انتهى ، فيكون كقوله أدنو فانظر رأى فانظر ، وهذا التوجيه ضعيف لأن الإشباع بابه ضرورة الشعر ، والثاني : ما ذكره الزمخشري قال وقرأ الحسن

١٧٢

(سَأُرِيكُمْ) وهي لغة فاشية بالحجاز يقال : أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريت الزند كأن المعنى بينه لي وأثره لأستبينه انتهى ، وهي أيضا في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا ، وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورثكم ، قال الزمخشري وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) (١).

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) لما ذكر (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) ذكر ما يفعل بهم تعالى من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلى وصف ليس لهم ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقّوا به اسم الفسق ، قال ابن جبير سأصرفهم عن الاعتبار والاستدلال بالدلائل والآيات على هذه المعجزات وبدائع المخلوقات ، وقال قتادة : سأصدّهم عن الإعراض والطّعن والتحريف والتبديل والتغيير فالآيات القرآن فإنه مختص بصونه عن ذلك ، وقال سفيان بن عيينة سأمنعهم من تدبرها ونظرها النظر الصحيح المؤدّي إلى الحقّ ، وقال الزجاج : أجعل جزاءهم الإضلال عن الاهتداء باياتي والآيات على هذا التوراة والإنجيل أو الكتب المنزلة ، وقيل سأصرفهم عن دفع الانتقام أي إذا أصابتهم عقوبة لم يدفعها عنهم فالآيات على هذا ما حلّ بهم من المثلات التي صاروا بها مثلة وعبرة وعلى هذه الأقوال يكون (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) عام أي كل من قام به هذا الوصف ، وقيل : هذا من تمام خطاب موسى ، والآيات هي التسع التي أعطيها والمتكبرون هم فرعون وقومه صرف الله قلوبهم عن الاعتبار بها بما انهمكوا فيه من لذّات الدنيا وأخذ الزمخشري بعض أقوال المفسرين فقال (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) بالطبع على قلوب المتكبّرين وخذلانهم فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها غفلة وانهماكا فيما يشغلهم عنها من شهواتهم وفيه إنذار المخاطبين من عاقبة والذين يصرفون عن الآيات لتكبّرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم انتهى ، و (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) عن الإيمان قال ابن عطيّة : هم الكفرة والمعنى في هذه الآية سأجعل الصّرف عن الآيات عقوبة المتكبّرين على تكبّرهم انتهى ، وقيل هم الذين يحتقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم ، وفي الحديث الصحيح إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ويتعلق بغير الحق بيتكبرون أي بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم وقد يكون التكبّر بالحقّ كتكبّر المحقّ

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٧.

١٧٣

على المبطل لقوله تعالى : (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (١) ويجوز أن يكون في موضع الحال فيتعلق بمحذوف أي ملتبسين بغير الحقّ والمعنى غير مستحقّين لأنّ التكبر بالحق لله وحده لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) وصفهم هذا الوصف الذّميم وهو التكبّر عن الإيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها اية فيؤمنوا بها وهذا ختم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا. وقرأ مالك بن دينار : وإن (يَرَوْا) بضم الياء.

(وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً). أراهم الله السبيلين فرأوهما فآثروا الغيّ على الرشد كقوله (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٢). وقرأ الأخوان الرشد وباقي السبعة (الرُّشْدِ) ، وعن ابن عامر في رواية اتباع الشين ضمة الراء وأبو عبد الرحمن الرّشاد وهي مصادر كالسقم والسقم والسقام ، وقال أبو عمرو بن العلاء : (الرُّشْدِ) الصّلاح في النظر وبفتحهما الدين ، وقرأ ابن أبي عبلة لا يتخذوها ويتخذوها على تأنيث السبيل والسبيل تذكر وتؤنث ، قال تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) (٣) ولما نفى عنهم الإيمان وهو من أفعال القلب استعار للرّشد والغي سبيلين فذكر أنهم تاركو سبيل الرشد سالكو سبيل الغي وناسب تقديم جملة الشرط المتضمنة سبيل الرشد على مقابلتها لأنها قبلها.

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) فذكر موجب الإيمان وهو الآيات وترتّب نقيضه عليه وأتبع ذلك بموجب الرشد وترتب نقيضه عليه ثم جاءت الجملة بعدها مصرّحة بسلوكهم سبيل الغي ومؤكدة لمفهوم الجملة الشرطية قبلها لأنه يلزم من ترك سبيل الرّشد سلوك سبيل الغي لأنهما إما هدى أو ضلال فهما نقيضان إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ). أي ذلك الصرف عن الآيات هو سبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتها والمعنى أنهم استمرّ كذبهم وصار لهم ذلك ديدنا حتى صارت تلك الآيات لا تخطر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيان لها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئا منها والظاهر أنّ الصرف سببه التكذيب والغفلة من جميعهم ويحتمل أن الصرف سببه التكذيب ويكون قوله : (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) استئناف إخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الآيات وتدبرها

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٥٤.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١٧.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٨.

١٧٤

فأورثتهم الغفلة التكذيب بها والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذّبوا وجوّزوا أن يكون منصوبا فقدّره ابن عطية فعلنا ذلك ، وقدّره الزمخشري صرفهم الله ذلك الصّرف بعينه وفي قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) إشعار بأنّ الصرف سببه هذا التكبّر وفي قوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا) إعلام بأن ذلك الصّرف سببه التكذيب والجمع بينهما أن التكبر سبب أول نشأ عنه التكذيب فنسبة الصّرف إلى السبب الأول وإلى ما تسبب عنه.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ذكر تعالى ما يؤول إليه في الآخرة أمر المكذبين فذكر أنه يحبط أعمالهم أي لا يعبأ بها وأصل الحبط أن يكون فيما تقدم صلاحه فاستعمل الحبوط هنا إذا كانت أعمالهم في معتقداتهم جارية على طريق صالح فكان الحبط فيها بحسب معتقداتهم إذ المكذّب بالآيات قد يكون له عمل فيه إحسان للناس وصفح وعفو عمن جنى عليه وكلّ ذلك لا يجازى عليه في الآخرة فشمل حبط الأعمال من له عمل برّ ومن عمله من أوّل مرة فاسد ونبّه بلقاء الآخرة على محلّ افتضاحهم وجزائهم وتهديدا لهم ووعيدا بها وأنها كائنة لا محالة وإضافة (لِقاءِ) إلى (الْآخِرَةِ) إضافة المصدر إلى المفعول أي ولقائهم الآخرة. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها ومن إضافة المصدر إلى الظرف بمعنى ولقاء ما وعد الله تعالى في الآخرة انتهى. ولا يجيز جلّة النحويين الإضافة إلى الظرف لأنّ الظرف هو على تقدير في والإضافة عندهم إنما هي على تقدير اللام أو تقدير من على ما بين في علم النحو فإنّ اتسع في العامل جاز أن ينصب الظرف نصب المفعول به وجاز إذ ذاك أن يضاف مصدره إلى ذلك الظرف المتسع في عامله وأجاز بعض النحويين أن تكون الإضافة على تقدير في كما يفهمه ظاهر كلام الزمخشري ، وهو مذهب مردود في علم النحو. و (هَلْ يُجْزَوْنَ) استفهام بمعنى التقرير أي يستوجبون بسوء فعلهم العقوبة ، قال ابن عطية : والظاهر أنه استفهام بمعنى النفي ولذلك دخلت (إِلَّا) والاستفهام الذي هو بمعنى التقرير هو موجب من حيث المعنى فيبعد دخول إلا ولعله لا يجوز.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ). إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلها معبودا فصح نسبته إلى القوم وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ولذلك

١٧٥

(قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) (١) ، وقيل إنما عبده قوم منهم لا جميعهم لقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) (٢) وإن كان بمعنى العمل كقوله (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) (٣) أي عملت وصنعت فالمتخذ إنما هو السامري واسمه موسى بن ظفر من قرية تسمى سامرة ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازا كما قالوا بنو تميم قتلوا فلانا وإنما قتله واحد منهم ولكونهم راضين بذلك ومعنى (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد مضيه للمناجاة و (مِنْ حُلِيِّهِمْ) متعلق باتخذ وبها يتعلق من بعده وإن كانا حرفي جرّ بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأنّ من الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض وأجاز أبو البقاء أن يكون (مِنْ حُلِيِّهِمْ) في موضع الحال فيتعلق بمحذوف لأنه لو تأخر لكان صفة أي (عِجْلاً) كائنا (مِنْ حُلِيِّهِمْ).

وقرأ الأخوان (مِنْ حُلِيِّهِمْ) بكسر الحاء اتباعا لحركة اللام كما قالوا : عصي ، وهي قراءة أصحاب عبد الله ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش ، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بضم الحاء وهو جمع حلي نحو ثدي وثدي ووزنه فعول اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبلها لتصحّ الياء ، وقرأ يعقوب (مِنْ حُلِيِّهِمْ) بفتح الحاء وسكون اللام وهو مفرد يراد به الجنس أو اسم جنس مفرده حلية كتمر وتمرة ، وإضافة الحلي إليهم إما لكونهم ملكوه من ما كان على قوم فرعون حين غرقوا ولفظهم البحر فكان كالغنيمة ولذلك أمر هارون بجمعه حتى ينظر موسى إذا رجع في أمره أو ملكوه إذ كان من أموالهم التي اغتصبها القبط بالجزية التي كانوا وضعوها عليهم فتحيل بنو إسرائيل عل استرجاعها إليهم بالعارية وإما لكونهم لم يملكوه لكن تصرفت أيديهم فيه بالعارية فصحت الإضافة إليهم لأنها تكون بأدنى ملابسة.

روى يحيى بن سلام عن الحسن : أنهم استعاروا الحلي من القبط لعرس ، وقيل : ليوم زينة ولما هلك فرعون وقومه بقي الحلي معهم وكان حراما عليهم وأخذ بنو إسرائيل في بيعه وتمحيقه ، فقال السامريّ لهارون : إنه عارية وليس لنا فأمر هارون مناديا بردّ العارية ليرى فيها موسى رأيه إذا جاء فجمعه وأودعه هارون عند السامري وكان صائغا فصاغ لهم صورة عجل من الحلي ، وقيل : منعهم من ردّ العارية خوفهم أن يطلع القبط على سراهم إذ كان تعالى أمر موسى أن يسري بهم ، والعجل ولد البقرة القريب الولادة ومعنى (جَسَداً) جثة جمادا ، وقيل : بدنا بلا رأس ذهبا مصمتا ، وقيل : صنعه مجوفا ، قال الزمخشري :

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٥١٧.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٩.

(٣) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤١.

١٧٦

(جَسَداً) بدنا ذا لحم ودم كسائر الأجساد ، قال الحسن : إنّ السامريّ قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه‌السلام يوم قطع البحر فقذفه في في العجل فكان عجلا له خوار انتهى. وهذا ضعيف أعني كونه لحما ودما لأنّ الآثار وردت بأن موسى برده بالمبارد وألقاه في البحر ولا يبرد اللحم بل كان يقتل ويقطع ، وقال ابن الأنباري : ذكر الجسد دلالة على عدم الروح فيه انتهى ، وظاهر قوله (لَهُ خُوارٌ) يدلّ على أنه فيه روح لأنه لا يخور إلا ما فيه روح ، وقيل : لما صنعه أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهبّ الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر صوت يشبه الخوار ، وقيل : جعل تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به فيسمع صوت من جوفه كالخوار ، وقال الكرماني : جعل في بطن العجل بيتا يفتح ويغلق فإذا أراد أن يخور أدخله غلاما يخور بعلامة بينهما إذا أراد ، وقيل : يحتمل أن يكون الله أخاره ليفتن بني إسرائيل وخواره ، قيل : مرة واحدة ولم يثن رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وقيل : مرارا فإذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا رؤوسهم ، وقاله ابن عباس وأكثر المفسرين ، وقرأ علي وأبو السّمال وفرقة جؤار : بالجيم والهمز من جأر إذا صاح بشدّة صوت وانتصب (جَسَداً) ، قال الزمخشري على البدل ، وقال الحوفي على النعت وأجازهما أبو البقاء وأن يكون عطف بيان وإنما قال : (جَسَداً) لأنه يمكن أن يتخذ مخطوطا أو مرقوما في حائط أو حجر أو غير ذلك كالتماثيل المصوّرة بالرقم والخط والدّهان والنقش فبين تعالى أنه ذو جسد.

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) ، إن كان اتخذ معناه عمل وصنع فلا بدّ من تقدير محذوف يترتب عليه هذا الإنكار وهو فعبدوه وجعلوه إلها لهم وإن كان المحذوف إلها أي اتخذوا (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) إلها فلا يحتاج إلى حذف جملة ، وهذا استفهام إنكار حيث عبدوا جمادا أو حيوانا عاجزا عليه آثار الصّنعة لا يمكن أن يتكلم ولا يهدي وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة استحال أن يكون إلها وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمّى الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي والظاهر أن يروا بمعنى يعلموا وسلب تعالى عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأنّ انتفاء التكليم يستلزم انتفاء العلم وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء لقدرة وانتفاء هذين الوصفين وهما العلم والقدرة يستلزمان باقي الأوصاف فلذلك حضّ هذان الوصفان بانتفائهما.

(اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) أي أقدموا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع وكانوا واضعين الشيء في غير موضعه أي من شأنهم الظلم فليسوا مبتكرين وضع الشيء في غير

١٧٧

موضعه وليس عبادة العجل بأول ما أحدثوه من المناكر ، قال ابن عطية ويحتمل أن تكون الواو واو الحال انتهى يعني في (وَكانُوا) والوجه الأول أبلغ في الذمّ وهو الإخبار عن وصفهم بالظلم وأنّ شأنهم ذلك فلا يتقيد ظلمهم بهذه الفعلة الفاضحة.

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). ذكر بعض النحويين أن قول العرب سقط في يده فعل لا يتصرف فلا يستعمل منه مضارع ولا اسم فاعل ولا مفعول وكان أصله متصرّفا تقول سقط الشيء إذا وقع من علو فهو في الأصل متصرّف لازم ، وقال الجرجاني : سقط في يده مما دثر استعماله مثل ما دثر استعمال قوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) (١) قال ابن عطية : وفي هذا الكلام ضعف والسّقاط في كلام العرب كثرة الخطأ والندم عليه ومنه قول ابن أبي كاهل :

كيف يرجون سقاطي بعد ما

بقع الرأس مشيب وصلع

وحكي عن أبي مروان بن سراج أحد أئمة اللغة بالأندلس أنه كان يقول : قول العرب سقط في يده مما أعياني معناه ، وقال أبو عبيدة : يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه سقط في يده ، وقال الزجاج : معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم ، كما يقال حصل في أيديهم مكروه وإن كان محالا أن يكون في اليد تشبيها لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين ، وقال ابن عطيّة : العرب تقول لمن كان ساعيا لوجه أو طالبا غاية فعرض له ما صده عن وجهه ووقفه موقف العجز وتيقن أنه عاجز سقط في يد فلان وقد يعرض له الندم وقد لا يعرض ، قال : والوجه الذي يصل بين هذه الألفاظ وبين المعنى الذي ذكرناه هو أن السعي أو الصّرف أو الدفاع سقط في يد المشار إليه فصار في يده لا يجاوزها ولا يكون له في الخارج أثر ، وقال الزمخشري لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل لأنّ من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعضّ يده غمّا فتصير يده مسقوطا فيها لأنّ فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى (فِي أَيْدِيهِمْ) وهو من باب الكناية انتهى ، والصواب وسقط مسند إلى ما (فِي أَيْدِيهِمْ) وحكى الواحدي عن بعضهم أنه مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغذوات شبه الثلج يقال : منه سقطت الأرض كما يقال : من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابنا الثلج ومعنى سقط في يده والسّقيط والسقط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى ومن وقع في يده السّقيط لم يحصل منه على شيء فصار مثلا لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من بغيته على طائل وكانت الندامة آخر أمره ، وقيل : من عادة النادم أن

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١١.

١٧٨

يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده معتمدا عليها ويصبر على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه كأن اليد مسقوط فيها ومعنى (فِي) على أي سقط على يده ومعنى (فِي أَيْدِيهِمْ) أي على أيديهم كقوله (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (١) انتهى. وكان متعلق سقط قوله في أيديهم لأنّ اليد هي الآلة التي يؤخذ بها ويضبط و (سُقِطَ) مبني للمفعول والذي أوقع موضع الفاعل هو الجار والمجرور كما تقول : جلس في الدار وضحك من زيد ، وقيل : (سُقِطَ) تتضمن مفعولا وهو هاهنا المصدر الذي هو الإسقاط كما يقال : ذهب يزيد انتهى ، وصوابه وهو هنا ضمير المصدر الذي هو السقوط لأنّ سقط ليس مصدر الإسقاط وليس نفس المصدر هو المفعول الذي لم يسمّ فاعله بل هو ضميره وقرأت فرقة منهم ابن السميقع (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) مبنيا للفاعل.

قال الزمخشري أي وقع الغضّ فيها ، وقال الزجاج : سقط الندم في أيديهم ، قال ابن عطية : ويحتمل أنّ الخسران والخيبة سقط في أيديهم ، وقرأ ابن أبي عبلة : أسقط في أيديهم رباعيّا مبنيا للمفعول ورأوا أي علموا (أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا).

قال القاضي : يجب أن يكون المؤخّر مقدّما لأنّ الندم والتحسر إنما يقعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلوا وسقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير بل يمكن تقدّم النّدم على تبين الضلال لأنّ الإنسان إذا شكّ في العمل الذي أقدم عليه أهو صواب أو خطأ حصل له الندم ثم بعد يتكامل النظر والفكر فيعلم أن ذلك خطأ ، (قالُوا : لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) انقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه وهذا كما قال : آدم وحواء (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا) (٢) ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير الله إلها أعظم الذنوب بدؤوا بالرحمة التي وسعت كل شيء ومن نتاجها غفران الذنب وأما في قصة آدم فإنه جرت محاورة بينه تعالى وبينهما وعتاب على ما صدر منهما من أكل ثمر الشجرة بعد نهيه إياهما عن قربانها فضلا عن أكل ثمرها فبادرا إلى الغفران وأتبعاه بالرحمة إذ غفران ما وقع العتاب عليه أكد ما يطلب أولا.

وقرأ الأخوان والشعبي وابن وثاب والجحدري وابن مصرف والأعمش وأيوب بالخطاب في ترحّمنا وتغفر ونداء ربنا ، وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم : (يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا) بالياء فيهما ورفع (رَبُّنا) وفي

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٧١.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢٣.

١٧٩

مصحف أبيّ قالوا : ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا ، بتقديم المنادى وهو ربّنا ويحتمل أن يكون القولان صدرا منهم جميعهم على التعاقب أو هذا من طائفة وهذا من طائفة فمن غلب عليه الخوف وقوي على المواجهة خاطب مستقيلا من ذنبه العظيم ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحيي من الخطاب فأسند الفعل إلى الغائب وفي قولهم : (رَبُّنا) استعطاف حسن إذ الربّ هو المالك الناظر في أمر عبيده والمصلح منهم ما فسد.

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي رجع من المناجاة يروى أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال هذه أصوات قوم لاهين فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخله الغضب والأسف وألقى الألواح. وقال الطبري أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب ويدلّ على هذا القول قوله (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (١) الآية و (غَضْبانَ) من صفات المبالغة والغضب غليان القلب بسبب حصول ما يؤلم وذكروا أنه عليه‌السلام كان من أسرع الناس غضبا وكان سريع الفيئة ، قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول كان إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته و (أَسِفاً) من أسف فهو أسف كما تقول فرق فهو فرق يدلّ على ثبوت الوصف ولو ذهب به مذهب الزمان لكان على فاعل فيقال : آسف والآسف الحزين قاله ابن عباس والحسن والسدي أو الجزع قاله مجاهد أو المتلهف أو الشديد الغضب قاله الزمخشري وابن عطية قال : وأكثر ما يكون بمعنى الحزين أو المغضب قاله ابن قتيبة أو النادم قاله القتبي أيضا ، أو متقاربان قاله الواحدي قال : فإذا أتاك ما تكره ممن دونك غضبت أو ممن فوقك حزنت فأغضبه عبادتهم العجل وأحزنه فتنة الله إياهم وكان قد أخبره بذلك بقوله (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) وتقدّم الكلام على (بِئْسَما) في أوائل البقرة والخطاب إما للسامري وعباد العجل أي (بِئْسَما) قمتم مقامي حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى وأما لوجوه بني إسرائيل هارون والمؤمنين حيث لم يكفوا من عبد غير الله و (خَلَفْتُمُونِي) يدلّ على البعدية في الزمان والمعنى هنا من بعد ما رأيتم مني توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن ما طمحت إليه أبصارهم من عبادة البقر ومن حق الخلف أن يسير سيرة المستخلف ولا يخالفه ويقال خلفه بخير أو شرّ إذا فعله عن ترك من بعده.

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٨٥.

١٨٠