البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٨

الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَوَأَمِنَ) وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء و (مَكْرَ) مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ، قال ابن عطية : و (مَكْرَ اللهِ) هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة الله وبيت الله والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة وهذا نص في قوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (١) انتهى ، وقال عطية العوفي : (مَكْرَ اللهِ) عذابه وجزاؤه على مكرهم ، وقيل مكره استدراجه بالنعمة والصحة وأخذه على غرّة وكرّر المكر مضافا إلى الله تحقيقا لوقوع جزاء المكر بهم.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد (يَهْدِ) يبين وهذا كقوله (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٢) أي بينّا لهم طريق الهدى والفاعل بيهد يحتمل وجوها ، أحدها أن يعود على الله ويؤيد قراءة من قرأ (يَهْدِ) بالنون ، والثاني أن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم من سياق الكلام السابق أي (أَوَلَمْ يَهْدِ) ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم وعلى هذين الوجهين يكون أن لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بيهد أي أو لم يبيّن الله أو ما سبق من قصص القرى ومآل أمرهم للوارثين إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم ، والمعنى أنكم مذنبون لهم وقد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحلّ بكم ما حل بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا ، والوجه الثالث أن يكون الفاعل بيهد قوله (أَنْ لَوْ نَشاءُ) فينسبك المصدر من جواب (لَوْ) والتقدير أو لم نبين ونوضح للوارثين مآلهم وعاقبتهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم والمعنى على التقديرين إذا كانت (أَنْ) مفعولة و (أَنْ) هنا هي المخففة من الثقيلة لأن الهداية فيها معنى العلم واسمها ضمير الشأن محذوف والخبر الجملة المصدرية بلو و (نَشاءُ) في معنى شئنا لا أن لو التي هي ما كان سيقع لوقوع غيره إذا جاء بعدها المضارع صرفت معناه إلى المضي ومفعول (نَشاءُ) محذوف دلّ عليه جواب (لَوْ) والجواب (أَصَبْناهُمْ) ولم يأت باللام وإن كان الفعل مثتبا إذ حذفها جائز فيصحّ كقوله (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) (٣) والأكثر الإتيان باللام كقوله (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) (٤)

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٥٤.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١٧.

(٣) سورة الواقعة : ٥٦ / ٧٠.

(٤) سورة الواقعة : ٥٦ / ٦٥.

١٢١

(وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) (١) والذين يرثون الأرض يحلفون فيها من بعد هلاك أهلها وظاهره التسميع لمن كان في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مشركي قريش وغيرهم ، وقال ابن عباس يريد أهل مكة.

(وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن (نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) والمعنى أنّ من أوضح الله له سبل الهدى وذكر له أمثالا ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيّه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق ، وقال ابن الأنباري يجوز أن يكون معطوفا على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستعمال كما قال تعالى (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) (٢) أي إن يشأ يدل عليه قوله (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) (٣) انتهى فجعل (لَوْ) شرطية بمعنى أن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ولذلك جعل أصبنا بمعنى نصيب ومثال وقوع لو موقع أن قول الشاعر :

لا يلفك الراجيك إلّا مظهرا

خلق الكرام ولو تكون عديما

وهذا الذي قاله ابن الأنباري ردّه الزمخشري من جهة المعنى لكن بتقدير أن يكون (وَنَطْبَعُ) بمعنى طبعنا فيكون قد عطف المضارع على الماضي الذي هو جواب (لَوْ نَشاءُ) فجعله بمعنى نصيب فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب وردّه إلى المستقبل والزمخشري تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتج ردّ الزمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ ، قال الزمخشري : (فإن قلت) : هل يجوز أن يكون (وَنَطْبَعُ) بمعنى طبعنا كما كان لو نشاء بمعنى لو شئنا ويعطف على (أَصَبْناهُمْ) ، (قلت) : لا يساعد هذا المعنى لأنّ القوم كان مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لا تصفوا بها انتهى وهذا الردّ ظاهره الصحة وملخصه أنّ المعطوف على الجواب جواب سواء تأوّلنا المعطوف عليه أم المعطوف وجواب لو لم يقع بعد سواء كانت حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى إن الشرطية والإصابة لم تقع والطبع على القلوب واقع فلا تصحّ أن يعطف على الجواب فإن تأوّل (وَنَطْبَعُ) على معنى ونستمر على الطبع على قلوبهم أمكن التعاطف لأنّ الاستمرار لم يقع بعد وإن كان الطبع قد وقع.

وقال أبو عبد الله الرازي : تقرير صاحب الكشاف على أقوى الوجوه هو ضعيف لأنّ كونه مطبوعا عليه في الكفر لم يكن منافيا لصحة العطف وكان قد قرّر أن المعنى أو لم يبين

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧٦.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٠.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ١٠.

١٢٢

للذين نبقيهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها أن نهلكهم بعدهم وهو معنى قوله (أَنْ لَوْ نَشاءُ) أصبناهم أي بعقاب ذنوبهم (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي لم نهلكهم بالعذاب (نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يقبلون ولا يتّعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك وإما الطّبع على القلب لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه انتهى.

والعطف في (وَنَطْبَعُ) بالواو يمنع ما ذكره لأن جعل المعنى على أنه إما الإهلاك وإما الطبع وظاهر العطف بالواو وينبو عن الدلالة على هذا المعنى فإن جعلت الواو بمعنى أو أمكن ذلك وكذلك ينبو عن قوله إن لم نهلكهم بالعذاب ونطبع على قلوبهم العطف بالواو وأورد أبو عبد الله الرازي من أقوال المفسّرين ما يدلّ على أنّ كونه مطبوعا عليه في الكفر لا ينافي صحة العطف فقال أبو علي ويعني به والله أعلم الجبائي الطّبع سمته في القلب من نكتة سوداء أن صاحبها لا يفلح وقال الأصم : أي يلزمهم ما هم عليه فلا يتوبون إلا عند المعاينة فلا تقبل توبتهم ، وقال أبو مسلم : الطبع الخذلان إنه يخذل الكافر فيرى الآية فلا يؤمن بها ويختار ما اعتاد وألف وهذه الأقوال لا يمكن معها العطف إلا على تأويل أن تكون الواو بمعنى أو.

وأجاز الزمخشري في عطف (وَنَطْبَعُ) وجهين آخرين أحدهما ضعيف والآخر خطأ ، قال الزمخشري : (فإن قلت) : بم يتعلق قوله تعالى (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ)؟ (قلت) : فيه أوجه أو يكون معطوفا على ما دلّ عليه معنى أو لم يهد لهم كأنه قيل يغفلون عن الهداية (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أو على (يَرِثُونَ الْأَرْضَ) انتهى فقوله إنه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد صحّ أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام وقد قاله الزمخشري وغيره ، وقوله أنه معطوف علي (يَرِثُونَ) خطأ لأنه إذا كان معطوفا على (يَرِثُونَ) كان صلة للذين لأنّ المعطوف على الصلة صلة ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) سواء قدرنا (أَنْ لَوْ نَشاءُ) في موضع الفاعل ليهد أو في موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشيء من صلة الذين وهو لا يجوز ومعنى قوله (أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) بعقاب ذنوبهم أو يضمن (أَصَبْناهُمْ) معنى أهلكناهم فهو من مجاز الإضمار أو التضمين ونفي السماع والمعنى نفي القبول والاتعاظ المترتب على وجود السماع جعل انتفاء فائدته انتفاء له.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (الْقُرى) هي بلاد قوم

١٢٣

نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الرّبط بين هذه وبين قوله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) و (نَقُصُ) يحتمل إبقاؤه على حاله من الاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك (مِنْ أَنْبائِها) ونحن نقصّ عليك أيضا منها مفرقا في السّور ويجوز أن يكون عبر بالمضارع عن الماضي أي (تِلْكَ الْقُرى) قصصنا والأنباء هنا أخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم ، و (تِلْكَ) مبتدأ و (الْقُرى) خبر و (نَقُصُ) جملة حالية نحو قوله (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) (١) وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لمهلكها ، كما قيل في قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ) (٢) وفي قوله عليه‌السلام «أولئك الملأ من قريش» وكقول أمية.

تلك المكارم لا قعبان من لبن

ولما كان الخبر مقيّدا بالحال أفاد كالتقييد بالصفة في قولك هو الرجل الكريم وأجازوا أن يكون (نَقُصُ) خبرا بعد خبر وأن يكون خبرا و (الْقُرى) صفة ومعنى (مِنْ) التبعيض فدلّ على أنّ لها أنباء أخر لم تقصّ عليه وإنما قصّ ما فيه عظة وازدجار وادكار بما جرى على من خالف الرّسل ليتّعظ بذلك السامع من هذه الأمة.

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) قال أبيّ بن كعب ليؤمنوا اليوم بما كذبوا من قبل يوم الميثاق ، وقال ابن عباس ما كانوا ليخالفوا علم الله فيهم ، وقال يمان بن رئاب بما كذبوا أسلافهم من الأمم الخالية لقوله (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٣) فالفعل في (لِيُؤْمِنُوا) لقوم وفي (بِما كَذَّبُوا) لقوم آخرين وقيل (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) بالمعجزات التي اقترحوها (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) بعد المعجزات (بِما كَذَّبُوا) به قبلها كما قال (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (٤) ، وقال الكرماني : (مِنْ قَبْلُ) يعود على الرسل تقديره من قبل مجيء الرسل لم يسلب عنهم اسم الكفر والتكذيب بل بقوا كافرين مكذبين كما كانوا قبل الرسل ، قال الزمخشري : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله قبل مجيء الرسل أو مما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حتى جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن مالوا مصرّين لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات وقال ابن عطية : يحتمل أربعة وجوه من التأويل.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٥٢.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢.

(٣) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٢.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ١٠٢.

١٢٤

أحدها : أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذّبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصّرامة عليه ويؤيد هذا التأويل قوله (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) (١) ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سببا لأن يمنعوا الإيمان بعد.

والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر بل كفر كلهم ومشى بعضهم على سنن بعض في الكفر أشار إلى هذا القول النقاش ، فكان الضمير في قوله (كانُوا) يختص بالآخرين والضمير في قوله (كَذَّبُوا) يختص بالقدماء منهم.

والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردّوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة ليؤمنوا بما قد كذبوا به في حال حياتهم ودعا الرسول لهم قاله مجاهد وقرّبه بقوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٢) وهذه أيضا صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر بل هي غاية في ذلك.

والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى بأنهم مكذبون به فحمل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرّسل وذكر هذا القول المفسرون وقربوه بأن الله تعالى حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق وهو قول أبيّ بن كعب انتهى كلام ابن عطية.

والذي يظهر أنّ الضمير في (كانُوا) وفي (لِيُؤْمِنُوا) عائد على أهل القرى وأن الباء في (بِما) ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئا وفي الإتيان بلام الجحود في (لِيُؤْمِنُوا) مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ من تسلّط النفي على الفعل بغير لام وما في (بِما كَذَّبُوا) موصولة والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوّز أن تكون مصدرية ، قال الكرماني : وجاء هنا (بِما كَذَّبُوا) فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا) وقوله (وَلكِنْ كَذَّبُوا) وفي يونس أبرزه فقال (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) لما كان قد

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠١.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٢٨.

١٢٥

أبرز في فكذبوه فنجيناه ثم كذّبوا بآياتنا (١) فوافق الختم في كل منهما بما يناسب ما قبله انتهى ، ملخصا.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى حين انتفت عنهم قابلية الإيمان وتساوى أمرهم في الكفر قبل المعجزات وبعدها (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) ممن أتى بعدهم ، قال الكرماني تقدم ذكر الله بالصريح وبالكناية فجمع بينهما فقال (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وختم بالصريح فقال (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ) ، وفي يونس بني على ما قبله بنون العظمة في قوله (فَنَجَّيْناهُ) و (جَعَلْناهُمْ ثُمَّ بَعَثْنا) فناسب الطبع بالنون.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي لأكثر الناس أو أهل القرى أو الأمم الماضية احتمالات ثلاثة قاله التبريزي والعهد هنا هو الذي عوهدوا عليه في صلب آدم قاله أبيّ وابن عباس أو الإيمان قاله ابن مسعود ويدلّ عليه إلا من اتخذ عند الله عهدا وهو لا إله إلا الله فالمعنى من إيفاء بعهد أو التزام عهد ، وقيل العهد هو وضع الأدلة على صحة التوحيد والنبوة إذ ذلك عهد في رقاب العقلاء كالعقود فعبر عن صرف عقولهم إلى النظر في ذلك بانتفاء وجدان العهد و (مِنْ) في (مِنْ عَهْدٍ) زائدة تدلّ على الاستغراق لجنس العهد.

(وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ إِنْ) هنا هي المخففة من الثقيلة ووجد بمعنى علم ومفعول (وَجَدْنا) الأولى (لِأَكْثَرِهِمْ) ومفعول الثانية (لَفاسِقِينَ) واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية وتقدّم الكلام على ذلك في قوله (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) (٢) ودعوى بعض الكوفيين أنّ إن في نحو هذا التركيب هي النافية واللام بمعنى إلا ، وقال الزمخشري : وإنّ الشأن والحديث وجدنا انتهى ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكان الزمخشري يزعم أنّ إن إذا خففت كان محذوفا منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاء لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء وقد تقدّم لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) لما قصّ الله تعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبق منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تكذيبا وتعنتا واقتراحا وجهلا وكان قد بقي من اتباعه عالم وهم اليهود فقصّ الله علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجر عن أن

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٧٣ ، ٧٤.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.

١٢٦

نتشبه بهم ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ بين موسى وشعيب عليها‌السلام مصاهرة كما حكى الله في كتابه ونسب لكونهما من نسل إبراهيم ولما استفتح قصة نوح ب (أَرْسَلْنا) بنون العظمة اتبع ذلك قصة موسى فقال : (ثُمَّ بَعَثْنا) والضمير في (مِنْ بَعْدِهِمْ) عائد على الرسل من قوله (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أو للأمم السابقة والآيات الحجج التي آتاه الله على قومه أو الآيات التسع أو التوراة أقوال وتعدية (فَظَلَمُوا) بالباء إما على سبيل التضمين بمعنى كفروا بها ألا ترى إلى قوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) وإما أن تكون الباء سببية أي ظلموا أنفسهم بسببها أو الناس حيث صدوهم عن الإيمان أو الرسول فقالوا سحر وتمويه أقوال ، وقال الأصم : ظلموا تلك النعم التي آتاهم الله بأن استعانوا بها على معصية الله تعالى فانظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين جعلهم مثالا توعد به كفرة عصر الرسول عليه‌السلام.

(وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) هذه محاورة من موسى عليه‌السلام لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعى به وأحبّها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له فرعون كنمرود في يونان ، وقيصر في الروم ، وكسرى في فارس ، والنجاشي في الحبشة وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علما شخصيّا بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الرّبوبية فاتحه موسى بقوله : (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق ولما كان قوله (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أردفها بما يدلّ على صحتها وهو قوله (قَدْ جِئْتُكُمْ) ولما قرر رسالته فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله (فَأَرْسِلْ) ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شيء مما ذكره موسى إلا أنه طلب المعجزة ودلّ ذلك على موافقته لموسى وأنّ الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها بل قال : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) ويأتي الكلام على هذا الطلب من فرعون للمعجزة ، وقرأ نافع (عَلى أَنْ لا أَقُولَ) بتشديد الياء جعل (عَلى) داخلة على ياء المتكلم ومعنى (حَقِيقٌ) جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفة لرسول أو خبر بعد خبر و (أَنْ لا أَقُولَ) الأحسن فيه أن يكون فاعلا بحقيق كأنه قيل يحقّ علي كذا ويجب ويجوز أن يكون (أَنْ لا أَقُولَ) مبتدأ و (حَقِيقٌ) خبره ، وقال قوم : تمّ الكلام عند قوله (حَقِيقٌ) و (عَلى أَنْ لا أَقُولَ) مبتدأ وخبره ، وقرأ باقي السبعة على بجرّها (أَنْ لا أَقُولَ) أي

__________________

(١) سورة لقمان : ٣١ / ١٣.

١٢٧

(حَقِيقٌ) على قول الحق ، فقال قوم : ضمن (حَقِيقٌ) معنى حريص ، وقال أبو الحسن والفرّاء والفارسي : على بمعنى الباء كما أنّ الباء بمعنى على في قوله (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) (١) أي على كل صراط فكأنه قيل : (حَقِيقٌ) بأن لا أقول كما تقول فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به ويشهد لهذا التوجيه قراءة أبيّ بأن لا أقول وضع مكان على الباء ، قال الأخفش : وليس ذلك بالمطرد لو قلت ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز ، وقال الزمخشري : وفي المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه ، أحدها : أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقوله :

وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح انتهى هذا الوجه وأصحابنا يخصّون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القراءة عنه ، وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع ، قال الزمخشري : والثاني أن ما لزمك لزمته فلما كان قول الحق حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحقّ أي لازما له ، قال الزمخشري : والثالث أن يضمن (حَقِيقٌ) معنى حريص تضمين هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب انتهى يعني بالكتاب كتاب سيبويه والبيت :

إذا تغنى الحمام الورق هيجني

ولو تسليت عنها أم عمار

قال الزمخشري : والرابع وهو الأوجه وإلا دخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه‌السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روى أنّ عدوّ الله فرعون قال لما قال (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) كذبت فيقول أنا حقيق على قول الحقّ أي واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به انتهى ولا يتّضح هذا الوجه إلا إن عنى أنه يكون (عَلى أَنْ لا أَقُولَ) صفة كما تقول أنا على قول الحقّ أي طريقي وعادتي قول الحق ، وقال ابن مقسم (حَقِيقٌ) من نعت الرسول أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق (عَلى) برسول ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله (حَقِيقٌ) انتهى. وكلامه فيه تناقض في الظاهر لأنه قدّر أولا العامل في (عَلى) أرسلت ، وقال آخر : إنهم غفلوا عن تعليق (عَلى) برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريين لأنّ رسولا قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز وأما التقدير

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٨٦.

١٢٨

الأوّل وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ وتناول كلام ابن مقسم أخيرا في قوله عن تعليق على برسول أي بما دلّ عليه رسول ، وقرأ عبد الله والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبيّ وعلى الاحتمالين يكون التعلّق بحقيق.

ولما ذكر أنه رسول من عند الله وأنه لا يقول على الله إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدلّ على صدق رسالته والخطاب في (جِئْتُكُمْ) لفرعون وملائه الحاضرين معه ومعنى (بِبَيِّنَةٍ) بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره والبينة قيل : التسع الآيات المذكورة في قوله (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) ، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاء بدليل ما بعده من قوله (فَأَلْقى عَصاهُ) الآية ، وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله (مِنْ رَبِّكُمْ) تعريض أن فرعون ليس ربّا لهم بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده (فَأَرْسِلْ) أي فخل والإرسال ضد الإمساك (مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف عليه‌السلام لما توفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدّون إليه الجزاء فاستنقذهم الله بموسى عليه‌السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده قال تعالى (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١) وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى ، وقال تعالى حكاية عن فرعون (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (٢) فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان خلافا لمن قال إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى.

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لما عرض موسى عليه‌السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى فرعون منه خرق العادة الدالّ على الصدق وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتجويزه ذلك ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرّر في ذهن فرعون أن موسى لا يقدر على الإتيان ببينة والمعنى إن كنت جئت بآية من ربك فاحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك.

__________________

(١) سورة النازعات : ٧٩ / ١٨.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٤٧.

١٢٩

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعبانا وانقلاب خشبة لحما ودما قائما به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعبانا من التهويل ما لا يحصل في غيره وضربه بها الحجر فينفجر عيونا وضربه بها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة.

قال ابن عباس والسدّي : صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعا ، وقيل : أربعون ذكره مكي عن فرقد واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعا أشياء لم تتعرّض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ومعنى (مُبِينٌ) ظاهر لا تخييل فيه بل هو ثعبان حقيقة ، قال ابن عطية (فَإِذا) ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبرا عن جثة والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبرا عن جثة ليست في هذا المكان خبرا عن جثة بل خبر هي قوله (ثُعْبانٌ) ولو قلت (فَإِذا هِيَ) لم يكن كلاما وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبرا عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرّياشي ونسب أيضا إلى سيبويه ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم.

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي جذب (يَدَهُ) قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ) (١) ، وقيل من كمّه و (لِلنَّاظِرِينَ) أي للنظار وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيبا خارجا عن العادة يجتمع الناس إليه كما يجتمع النظّار للعجائب ، قال مجاهد : (بَيْضاءُ) كاللبن أو أشدّ بياضا ، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفاعة كالشمس ثم يردّها فترجع إلى لون موسى وكان آدم عليه‌السلام شديد الأدمة ، وقال ابن عباس صارت نورا ساطعا يضيء له ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم ، وقال الكلبي : بلغنا أن

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ١٢.

١٣٠

موسى عليه‌السلام قال يا فرعون ما هذه بيدي قال : هي عصا فألقاها موسى فإذا هي ثعبان ، وروي أن فرعون رأى يد موسى فقال لفرعون ما هذه فقال : يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعها شعاع الشمس وما أعجب أمر هذين الخارقين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء ، والآخر في غير نفسه وهي العصا وجمع بذينك تبدّل الذرات وتبدل الاعراض فكانا دالين على جواز الأمرين وإنهما كلاهما ممكن الوقوع ، قال أبو محمد بن عطية : هاتان الآيتان عرضهما موسى عليه‌السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما وخرق العادة بهما وتحدّى الناس إلى الدين بهما فإذا جعلنا التحدّي الدّعاء إلى الدين مطلقا فبهما تحدى وإذا جعلنا التحدّي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأنّ المعارضة والمعجز فيها وقعا ويقال : التحدّي هو الدعاء إلى الإتيان بمثل المعجزة فهذه نحو ثالث وعليه يكون تحدّي موسى بالآيتين جميعا لأنّ الظاهر من أمره أنه عرضهما معا وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهما انتهى ، وهو كلام فيه تثبيج.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) وفي الشعراء (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (١) والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصّة ثم تبلغه الخاصة العامة والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم (أَرْجِهْ) وكان السحر إذ ذاك في أعلى المراتب فلما رأوا انقلاب العصا ثعبانا والأدماء بيضاء وأنكروا النبوة ودافعوه عنها قصدوا ذمه بوصفه بالسحر وحطّ قدره إذ لم يمكنهم في ظهور ما ظهر على يده نسبة شيء إليه غير السحر وبالغوا في وصفه بأن قالوا : (عَلِيمٍ) أي بالغ الغاية في علم السّحر وخدعه وخيالاته وفنونه وأكثر استعمال لفظ هذا إذا كان من كلام الكفار في التنقص والاستغراب كما قال (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) (٢) ، (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٣) ، إن هذا إلا أساطير الأولين (٤) (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٥) (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٦) (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (٧) يعدلون عن لفظ اسم ذلك الشيء إلى لفظ الإشارة وأكّدوا نسبة السحر إليه بدخول إن واللام.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٣٤.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٦.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٤١.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٢٥.

(٥) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٢٤.

(٦) سورة طه : ٢٠ / ٦٣.

(٧) سورة الأنفال : ٨ / ٣٢.

١٣١

من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية. قال البغوي : هي الفرما يعلمونهم السحر كما يعلمون الصبيان في المكتب فعلموهم سحرا كثيرا وواعد فرعون موسى موعدا ثم دعاهم وسألهم فقال : ماذا صنعتم قالوا علمناهم من السحر ما لا يقاومهم به أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لنا به ، وقرأ الأخوان بكل سحّار هنا وفي يونس والباقون (لَساحِرٌ) وفي الشعراء أجمعوا على سحار وتناسب سحار (عَلِيمٌ) لكونهما من ألفاظ المبالغة ولما كان قد تقدّم (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (١) ناسب هنا أن يقابل بقوله (بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ).

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) في الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره فأرسل حاشرين وجمعوا السحرة وأمرهم بالمجيء واضطراب الناقلون للأخبار في عددهم اضطرابا متناقضا يعجب العاقل من تسطيره في الكتب فمن قائل تسعمائة ألف ساحر وقائل سبعين ساحرا فما بينهما من الأعداد المعينة المتناقضة (وَجاءَ) قالوا : بغير حرف عطف لأنه على تقدير جواب سائل سأل ما قالوه إذ جاء قالوا (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) أي جعلا ، وقال الحوفي و (قالُوا) في موضع الحال من السحرة والعامل (جاءَ) ، وقرأ الحرميان وحفص (إِنَ) على وجه الخبر واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ولا يريدون مطلق الأجر بل المعنى لأجرا عظيما ولهذا قال الزمخشري : والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلا وإن له لغنما يقصدون الكثرة وجوّز أبو علي أن تكون (إِنَ) استفهاما حذفت منه الهمزة كقراءة الباقين الذين أثبتوها وهم الأخوان وابن عامر وأبو بكر وأبو عمرو فمنهم من حققهما ومنهم من سهل الثانية ومنهم من أدخل بينهما ألفا والخلاف في كتب القراءات وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه وعلى من لا يعلم مثل علمه و (نَحْنُ) إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف ، وقال الحوفي في جوابه ما تقدم.

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي نعم إن لكم لأجرا (وَإِنَّكُمْ) فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد (نَعَمْ) التي هي نائبة عنها والمعنى لمن المقربين مني أي لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا من المقربين فتحوزون إلى الأجر الكرامة والرّفعة والجاه والمنزلة والمثاب إنما يتهنى ويغتبط به إذا حاز

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٠٩.

١٣٢

إلى ذلك الإكرام ، وفي مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه دليل على شدّة اضطراره لهم وإنهم كانوا عالمين بأنه عاجز ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى عليه‌السلام.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ). قال الزمخشري تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع انتهى. وقال القرطبي تأدّبوا مع موسى عليه‌السلام بقولهم (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) فكان ذلك سبب إيمانهم والذي يظهر أنّ تخييرهم إياه ليس من باب الأدب بل ذلك من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى كما قال الفرّاء لسيبويه حين جمع الرشيد بين سيبويه والكسائي أتسأل فأجيب أم أبتدىء وتجيب فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه والملاءة بما عنده وعدم الاكتراث بمناظرته والوثوق بأنه هو الغالب ، قال الزمخشري : وقولهم (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل انتهى ، وأجازوا في (أَنْ تُلْقِيَ) وفي (أَنْ نَكُونَ) النصب أي اختر وافعل إما إلقاءك وإما إلقاءنا والمعنى فيه البداءة والدّفع أي إما إلقاؤك مبدوء به وإما إلقاؤنا فيكون مبتدأ أو إما أمرك الإلقاء أي البداءة به أو إما أمرنا الإلقاء فيكون خبر مبتدأ محذوف ودخلت أن لأنه لا يكون الفعل وحده مفعولا ولا مبتدأ بخلاف قوله (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (١) فالفعل بعد (إِمَّا) هنا خبر ثان لقوله (وَآخَرُونَ) أو صفة فليس من مواضع أن ومفعول (تُلْقِيَ) محذوف أي إما أن تلقي عصاك وكذلك مفعول (الْمُلْقِينَ) أي الملقين العصى والحبال.

(قالَ أَلْقُوا) أعطاهم موسى عليه‌السلام التقدّم وثوقا بالحق وعلما أنه تعالى يبطله كما حكى الله عنه (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ). (٢) قال الزمخشري : وقد سوّغ لهم موسى عليه‌السلام ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبدا انتهى والمعنى ألقوا حبالكم وعصيكم والظاهر أنه أمر بالإلقاء. وقيل هو تهديد أي فسترون ما حل بكم من الافتضاح.

(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (٣)

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٠٦.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٨١.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٦٦.

١٣٣

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهم من أرضهم وخلوّ مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا إلى الإخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ غرّق الله فرعون وآله وأخلى منازلهم منهم ونبّهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لقتل الأنفس كما قال (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (١) وأراد به إحراجهم إما بكونه يحكم فيكم بإرسال خدمكم وعمار أرضكم معه حيث يسير فيفضي ذلك إلى خراب دياركم وأما بكونهم خافوا منه أن يقاتلهم بمن يجتمع إليه من بني إسرائيل ويغلب على ملكهم قال النقاش كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجا كالجزية فرأوا أنّ ملكهم يذهب بزوال ذلك وجاء في سورة الشعراء (بِسِحْرِهِ) (٢) وهنا حذفت لأنّ الآية الأولى هنا بنيت على الاختصار فناسبت الحذف ولأن لفظ ساحر يدل على السحر و (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من قول فرعون أو من قول الملأ إمّا لفرعون وأصحابه وإما له وحده كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع وهو من الأمر ، وقال ابن عباس : معناه تشيرون به ، قال الزمخشري : من أمرته فأمرني بكذا أي شاورته فأشار عليك برأي ، وقرأ الجمهور (تَأْمُرُونَ) بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافع بكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاما وتكون مفعولا ثانيا لتأمرون على سبيل التوسّع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفا لفهم المعنى أي أيّ شيء تأمرونني وأصله بأي شيء ويجوز أن تكون ما استفهاما مبتدأ وذا بمعنى الذي خبر عنه و (تَأْمُرُونَ) صلة ذا ويكون قد حذف منه مفعولي (تَأْمُرُونَ) الأوّل وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني به وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر فقال وفي (تَأْمُرُونَ) ضمير عائد على الذي تقديره تأمرون به انتهى ، وهذا ليس بجيّد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجرورا بحرف الجر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجرّ ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحد المتعلق به الحرفان لفظا ومعنى ويتّحد معنى الحرف أيضا لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحروف ثم حذف بعد الاتساع.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٦.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٣٥.

١٣٤

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي قال من حضر مناظرة موسى من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه قيل : ولم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافا ولذلك أشاروا عليه بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة وقرىء بالهمز وبغير همز فقيل هما بمعنى واحد ، وقيل المعنى احبسه ، وقيل (أَرْجِهْ) بغير همز أطمعه جعله من رجوت أدخل عليه همزة الفعل أي أطمعه (وَأَخاهُ) ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظنّ أنهما صدقا ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة وقد تبيّن من غير آية أنهما ذهبا معا وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقا له في دعواه ومؤازرا أشاروا بإرجائهما ، وقرأ ابن كثير وهشام أرجئهو بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو ، وأبو عمرو كذلك إلا أنه لم يصل ، وروي هذا عن هشام وعن يحيى عن أبي بكر ، وقرأ ورش والكسائي أرجهي بغير همز وبكسر الهاء ووصلها بياء ، وقرأ عاصم وحمزة بغير همز وسكنا الهاء وقرأ قالون بغير همز ومختلس كسرة الهاء ، وقرأ ابن ذكوان في رواية كقراءة ورش والكسائي وفي المشهور عنه أرجئه بالهمز وكسر الهاء من غير صلة ، وقد قيل عنه أنه يصلها بياء ، قال ابن عطية وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها ، قال الفارسي : وهذا غلط انتهى ، ونسبة ابن عطية هذه القراءة لابن عامر ليس بجيّد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام فكان ينبغي أن يقيد فيقول وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وقال بعضهم : قال أبو علي ضمّ الهاء مع الهمز لا يجوز غيره قال : ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط وقال ابن مجاهد بعده وهذا لا يجوز لأنّ الهاء لا تكسر إلا إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، وقال الحوفي : ومن القراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد ، وقال أبو البقاء : ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأنّ الهمز حرف صحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر ، ووجهه أنه أتبع الهاء كسرة الجيم والحاجز غير حصين ويخرج أيضا على توهّم إبدال الهمز ياء أو على أن الهمز لما كان كثيرا ما يبدل بحرف العلة أجري مجرى حرف العلة في كسر ما بعده وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة ، وأنها لا تجوز قول فاسد لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية وليست الهمزة كغيرها من الحروف الصحيحة لأنها قابلة للتغيير بالإبدال والحرف بالنقل وغيره فلا وجه لإنكار هذه القراءة.

(وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ الْمَدائِنِ) مدائن مصر وقراها والحاشرون ، قال ابن عباس هم أصحاب الشرط ، وقال محمد بن إسحاق لما رأى فرعون من آيات الله عزوجل ما رأى قال : لن نغالب موسى إلا بمن هو منه فاتخذ غلمانا

١٣٥

وفي قوله (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) دلالة على أنّ السحر لا يقلب عينا وإنما هو من باب التخيل (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي أرهبوهم واستفعل هنا بمعنى افعل كأبل واستبل والرّهبة الخوف والفزع ، وقال الزمخشري : (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم استدعوا رهبتهم انتهى ، وقال ابن عطية (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) بمعنى وأرهبوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرّهبة من الناس انتهى ولا يظهر ما قالا لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب والظاهر هنا حصول الرّهبة فلذلك قلنا إن استفعل فيه موافق افعل وصرّح أبو البقاء بأنّ معنى (اسْتَرْهَبُوهُمْ) طلبوا منهم الرّهبة ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي روي أنهم جاؤوا بحبال من أدم وأخشاب مجوفة مملوءة زيبقا وأوقدوا في الوادي نارا فحميت بالنار من تحت وبالشمس من فوق فتحركت وركب بعضها بعضا وهذا من باب الشعبذة والدك وروي غير هذا من حيلهم وفي الكلام حذف تقديره قال ألقوا فألقوا فلما ألقوا والفاء عاطفة على هذا المحذوف ، وقال الحوفي الفاء جواب الأمر انتهى ، وهو لا يعقل ما قال ونقول وصف بعظيم لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصي والحبال حيات وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف. ولما كانت الرّهبة ناشئة عن رؤية الأعين تأخرت الجملة الدالة عليها.

لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ

١٣٦

مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩)

لقف الشيء لقفا ولقفانا أخذه بسرعة فأكله أو ابتلعه ورجل ثقف لقف سريع الأخذ ولقيف ثقيف بين الثقافة واللقافة ولقم ولهم ولقف بمعنى ومنه التقفته وتلقفته تلقيفا. مهما اسم خلافا للسهيلي إذ زعم أنها قد تأتي حرفا وهي أداة شرط وندر الاستفهام بها في قوله :

مهما لي الليلة مهماليه

أودى بنعلي وسرباليه

وزعم بعضهم أنها إذا كانت اسم شرط قد تأتي ظرف زمان وفي بساطتها وتركيبها من ماما أو من مه ما خلاف ذكر في النحو وينبغي أن يحمل قول الشاعر :

أماويّ مه من يستمع في صديقه

أقاويل هذا الناس ماويّ يندم

١٣٧

على أنه لا تركيب فيها بل مه بمعنى اكفف ومن هي اسم الشرط ، الجراد معروف واحده جرادة بالتاء للذكر والأنثى ويميز بينهما الوصف وذكر التصريفيون أنه مشتقّ من الجراد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدا. القمل قال أبو عبيدة : هو الحمنان واحده حمنانة وهو ضرب من القردان وستأتي أقوال المفسرين فيه. الضفدع هو الحيوان المعروف وتكسر داله وتفتح وهو مؤنث وشذّ جمعهم له بالألف والتاء قالوا : ضفدعات. النكث النقض. اليم البحر. قال ذو الرمة :

داوية ودجى ليل كأنهما

يم تراطن في حافاته الروم

وتقدّمت هذه المادة في فتيمموا إلا أن ابن قتيبة قال : اليم البحر بالسّريانية. وقيل بالعبرانية. التدمير الإهلاك وإخراب البناء. التتبير الإهلاك ومنه التبر لتهالك الناس عليه. وقال ابن عطية والكرماني : التتبير الإهلاك وسوء العقبى وأصله الكسر ومنه تبر الذهب لأنه كساره.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ). الظاهر أنه وحي إعلام كما روي أن جبريل عليه‌السلام أتاه وقال له إنّ الحق يأمرك أن تلقي عصاك وكونه وحي إعلام فيه تثبيت للجأش وتبشير بالنصر ، وقال قوم : هو وحي إلهام ألقى ذلك في روعه وأن يحتمل أن تكون المفسّرة وأن تكون الناصبة أي بأن ألق ، وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) وتكون الجملة الفجائية إخبارا بما ترتب على الإلقاء ولا يكون موحى بها في الذكر ومن يذهب إلى أنّ الفاء في نحو خرجت فإذا الأسد زائدة يحتمل على قوله أن تكون هذه الجملة موحى بها في الذكر إلا أنه يقدر المحذوف بعدها أي فألقاها فلقفته ، وقرأ حفص (تَلْقَفُ) بسكون اللام من لقف ، وقرأ باقي السبعة (تَلْقَفُ) مضارع لقف حذفت إحدى تاءيه إذ الأصل تتلقف ، وقرأ البزي بإدغام تاء المضارعة في التاء في الأصل ، وقرأ ابن جبير تلقم بالميم أي تبلع كاللقمة و (ما) موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه قالوا أو مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمفعول بالمصدر. روي أن موسى عليه‌السلام لما كان يوم الجمع خرج متوكئا على عصاه ويده في يد أخيه وقد صفّ له السحرة في عدد عظيم فلما ألقوا واسترهبوا أوحى الله إليه فألقى فإذا هي ثعبان عظيم حتى كان كالجبل ، وقيل : طال حتى جاز النيل ، وقيل : طال حتى جاز بذنبه بحر القلزم ، وقيل كان الجمع بإسكندرية وطال حتى جاز مدينة

١٣٨

البحيرة ، وروي أنهم جعلوا يرقون وحبالهم وعصيهم تعظم وعصا موسى تعظم حتى سدّت الأفق وابتلعت الكل ورجعت بعد عصا وأعدم الله العصيّ والحبال ومدّ موسى يده في الثعبان فعاد عصا كما كان فعلم السحرة حينئذ أن ذلك ليس من عند البشر فخروا سجّدا مؤمنين بالله ورسوله ، قال الزمخشري : أعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة وقالت السّحرة لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا.

(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال ابن عباس والحسن ظهر واستبان ، وقال أرباب المعاني الوقوع ظهور الشيء بوجوده نازلا إلى مستقره ، قال القاضي : (فَوَقَعَ الْحَقُ) يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصحّ فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعا ومع ثبوت الحقّ بطلت وزالت تلك الأعيان التي أتوا بها وهي الحبال والعصي ، قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير فوقع في قلوبهم أي فأثر فيها من قولهم فأس وقيع أي مجرد انتهى ، و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعم سحر السحرة وسعي فرعون وشيعته.

(فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي غلب جميعهم في مكان اجتماعهم أو ذلك الوقت (وَانْقَلَبُوا) أذلّاء وذلك أنّ الانقلاب إن كان قبل إيمان السحرة فهم شركاؤهم في ضمير (انْقَلَبُوا) وإن كان بعد الإيمان فليسوا داخلين في الضمير ولا لحقّهم صغار يصفهم الله به لأنهم آمنوا واستشهدوا وهذا إذا كان الانقلاب حقيقة أما إذا لوحظ فيه معنى الصيرورة فالضمير في (وَانْقَلَبُوا) شامل للسحرة وغيرهم ولذلك فسّره الزمخشري بقوله وصاروا أذلّاء مبهوتين.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) لما كان الضمير قبل مشتركا جرد المؤمنون وأفردوا بالذكر والمعنى خرّوا سجدا كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم ، وقيل : لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا وسجودهم كان لله تعالى لما رأوا من قدرة الله تعالى فتيقنوا نبوّة موسى عليه‌السلام واستعظموا هذا النوع من قدرة الله تعالى ، وقيل : ألقاهم الله سجدا سبب لهم من الهدى ما وقعوا به ساجدين ، وقيل سجدوا موافقة لموسى وهارون فإنهما سجدا لله شكرا على وقوع الحقّ فوافقوهما إذ عرفوا الحقّ فكأنما ألقياهم ، قال قتادة : كانوا أول النهار كفارا سحرة وفي آخره شهداء بررة ، وقال الحسن : تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا وهؤلاء كفار نشؤوا في الكفر بذلوا أنفسهم لله تعالى.

١٣٩

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في (ساجِدِينَ) أو من السحرة وعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود لله شكرا على المعرفة والإيمان والقول المنبئ عن التصديق الذي محله القلوب ولما كان السجود أعظم القرب إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به متلبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليه إذ الدخول في الإيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقا لقول موسى إني رسول من ربّ العالمين ولما كان قد يوهم هذا اللفظ غير الله تعالى كقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصّوا بالبدل على أن ربّ العالمين (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة ، وقيل : بل قاله رؤساؤهم وسمى بن إسحاق منهم الرؤساء فقال هم سابور وعازور وخطخط ومصفى وحكاه ابن ماكولا أيضا ، وقال مقاتل : أكبرهم شمعون وبدأوا بموسى قبل هارون وإن كان أكبر سنا من موسى قيل بثلاث سنين لأنّ موسى هو الذي ناظر فرعون وظهرت المعجزتان في يده وعصاه ولأن قوله (وَهارُونَ) فاصلة وجاء في طه (بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (١) لأنّ موسى فيها فاصلة ويحتمل وقوع كل منهما مرتّبا من طائفة وطائفة فنسب فعل بعض إلى المجموع في سورة وبعض إلى المجموع في شورة أخرى ، قال المتكلمون : وفي الآية دلالة على فضيلة العلم لأنهم لما كانوا كاملين في علم السحر علموا أنّ ما جاء به موسى حقّ خارج عن جنس السحر ولو لا العلم لتوهّموا أنه سحر وأنه أسحر منهم.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) قرأ حفص (آمَنْتُمْ) على الخبر في كل القرآن أي فعلتم هذا الفعل الشنيع وبخهم بذلك وقرعهم ، وقرأ العربين ونافع والبزي بهمزة استفهام ومدة بعدها مطولة في تقدير ألفين إلا ورشا فإنه يسهل الثانية ولم يدخل أحد ألفا بين المحققة والملينة وكذلك في طه والشعراء ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر فيهن بالاستفهام وحققا الهمزة وبعدها ألف وقرأ قنبل هنا بإبدال همزة الاستفهام واوا الضمة نون فرعون وتحقيق الهمزة بعدها أو تسهيلها أو إبدالها أو إسكانها أربعة أوجه وقرأ في طه مثل حفص وفي الشعراء مثل البزي هذا الاستفهام معناه الإنكار والاستبعاد والضمير في (بِهِ) عائد على الله تعالى لقولهم (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقيل يحتمل أن يعود على موسى وفي طه والشعراء يعود في قوله له على موسى لقوله (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) (٢) ، وقيل آمنت به

__________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٧٠.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٧١ والشعراء : ٢٦ / ٤٩.

١٤٠