فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

الاهتمام به في هذه الأخبار الكثيرة ، مع أنّ ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض (١). وعلى ما ذكرنا يحمل ما ورد من : «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٢).

وأمّا نفي الثواب على التصدّق مع عدم كون العمل (٣) بدلالة وليّ الله ، فلو ابقي على ظاهره دلّ على عدم الاعتبار بالعقل الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ، مع اعترافه بأنّه حجّة من حجج الملك العلاّم ، فلا بدّ من حمله على التصدّقات الغير المقبولة ، مثل التصدّق على المخالفين لأجل تديّنهم بذلك الدين الفاسد ـ كما هو الغالب في تصدّق المخالف على المخالف ، كما في تصدّقنا على فقراء الشيعة ؛ لأجل محبّتهم لأمير المؤمنين عليه‌السلام وبغضهم لأعدائه ـ ، أو على أنّ المراد حبط ثواب التصدّق ؛ من أجل عدم المعرفة لوليّ الله ، أو على غير ذلك.

وثانيا : سلّمنا مدخليّة تبليغ الحجّة في وجوب الإطاعة ، لكنّا إذا علمنا إجمالا بأنّ حكم الواقعة الفلانية لعموم الابتلاء بها قد صدر يقينا من الحجّة ـ مضافا إلى ما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة حجّة الوداع (٤) : «معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد

__________________

(١) لم ترد عبارة «مع أنّ ظاهرها ـ إلى ـ المعارض» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) كمال الدين : ٣٢٤ ، الحديث ٩ ، وعنه في البحار ٢ : ٣٠٣ ، الحديث ٤١ ، وفيه : «بالعقول الناقصة».

(٣) في غير (م) : «العمل به».

(٤) لم ترد عبارة «في خطبة حجّة الوداع» في (ظ) و (م).

٦١

نهيتكم عنه» (١) ـ ثمّ أدركنا ذلك الحكم إمّا بالعقل المستقلّ وإمّا بواسطة مقدّمة عقليّة ، نجزم من ذلك بأنّ ما استكشفناه بعقولنا صادر عن الحجّة صلوات الله عليه ، فيكون الإطاعة بواسطة الحجّة.

إلاّ أن يدّعى : أنّ الأخبار المتقدّمة وأدلّة وجوب الرجوع إلى الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين تدلّ على مدخليّة تبليغ الحجّة وبيانه في طريق الحكم ، وأنّ كلّ حكم لم يعلم من طريق السماع عنهم عليهم‌السلام ولو بالواسطة فهو غير واجب الإطاعة ، وحينئذ فلا يجدي مطابقة الحكم المدرك لما صدر عن الحجّة عليه‌السلام.

لكن قد عرفت عدم دلالة الأخبار (٢) ، ومع تسليم ظهورها فهو أيضا من باب تعارض النقل الظنّي مع العقل القطعي ؛ ولذلك لا فائدة مهمّة في هذه المسألة ؛ إذ بعد ما قطع العقل بحكم وقطع بعدم رضا الله جلّ ذكره بمخالفته ، فلا يعقل ترك العمل بذلك ما دام هذا القطع باقيا ، فكلّ ما دلّ على خلاف ذلك فمؤوّل أو مطروح.

عدم جواز الركون إلى العقل فيما يتعلّق بمناطات الأحكام

نعم ، الإنصاف أنّ الركون إلى العقل فيما يتعلّق بإدراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام ، موجب للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر ، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك ، كما يدلّ عليه الأخبار الكثيرة الواردة بمضمون : «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٣) ، و «أنّه لا شيء أبعد عن دين الله من عقول

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢.

(٢) راجع الصفحة ٦٠.

(٣) تقدّم الحديث في الصفحة السابقة.

٦٢

الناس» (١).

وأوضح من ذلك كلّه : رواية أبان بن تغلب عن الصادق عليه‌السلام : «قال : قلت : رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة ، كم فيها من الدية؟ قال : عشر من الإبل. قال : قلت : قطع إصبعين؟ قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثا؟ قال : ثلاثون. قلت : قطع أربعا؟ قال : عشرون. قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟! كان يبلغنا هذا ونحن بالعراق ، فقلنا : إنّ الذي جاء به شيطان! قال عليه‌السلام : مهلا يا أبان ، هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت (٢) إلى النصف ، يا أبان ، إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين» (٣).

وهي وإن كانت ظاهرة في توبيخ أبان على ردّ الرواية الظنّية ـ التي سمعها في العراق ـ بمجرّد استقلال عقله بخلافه ، أو على تعجّبه ممّا حكم به الإمام عليه‌السلام ؛ من جهة مخالفته لمقتضى القياس (٤) ، إلاّ أنّ مرجع الكلّ إلى التوبيخ على مراجعة العقل في استنباط الأحكام ، فهو توبيخ على المقدّمات المفضية إلى مخالفة الواقع.

__________________

(١) لم نعثر على هذا المضمون في المجاميع الحديثية ، نعم ورد في الوسائل ما يقرب منه ، انظر الوسائل ١٨ : ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ و ٧٣.

(٢) كذا في المصادر الحديثية ، وفي النسخ : «بلغ الثلث رجع».

(٣) الوسائل ١٩ : ٢٦٨ ، الباب ٤٤ من أبواب ديات الأعضاء ، الحديث الأوّل.

(٤) في (ظ) و (م) بدل «لمقتضى القياس» : «للقياس».

٦٣

وقد أشرنا هنا وفي أوّل المسألة (١) إلى : عدم جواز الخوض لاستكشاف الأحكام الدينيّة ، في المطالب العقليّة ، والاستعانة بها في تحصيل مناط الحكم والانتقال منه إليه على طريق اللّم ؛ لأنّ انس الذهن بها يوجب عدم حصول الوثوق بما يصل إليه من الأحكام التوقيفيّة ، فقد يصير منشأ لطرح الأمارات النقليّة الظنّية ؛ لعدم حصول الظنّ له منها بالحكم.

ترك الخوض في المطالب العقليّة فيما يتعلّق باصول الدين

وأوجب من ذلك : ترك الخوض في المطالب العقليّة النظريّة لإدراك ما يتعلّق باصول الدين ؛ فإنّه تعريض للهلاك الدائم والعذاب الخالد ، وقد اشير إلى ذلك عند النهي عن الخوض في مسألة القضاء والقدر ، وعند نهي بعض أصحابهم صلوات الله عليهم عن المجادلة في المسائل الكلاميّة (٢).

لكنّ (٣) الظاهر من بعض تلك الأخبار : أنّ الوجه في النهي عن الأخير عدم الاطمئنان بمهارة الشخص المنهيّ في المجادلة ، فيصير مفحما عند المخالفين ، ويوجب ذلك وهن المطالب الحقّة في نظر أهل الخلاف (٤).

__________________

(١) انظر الصفحة ٥١.

(٢) انظر التوحيد ؛ للشيخ الصدوق : ٣٦٥ ، الباب ٦٠ (باب القضاء والقدر والفتنة) ، الحديث ٣ ، والصفحة : ٤٥٤ ، الباب ٦٧ (باب النهي عن الكلام والجدال والمراء في الله عزّ وجلّ) ، وانظر البحار ٥ : ١١٠ ، الحديث ٣٥ ، و ٣ : ٢٥٧ ، باب النهي عن التفكّر في ذات الله والخوض في مسائل التوحيد.

(٣) في (ت) و (ه) : «ولكنّ».

(٤) انظر البحار ٢ : ١٢٥ ، الحديث ٢.

٦٤

الثالث

المشهور عدم اعتبار قطع القطّاع

قد اشتهر في ألسنة المعاصرين : أنّ قطع القطّاع لا اعتبار به.

ولعلّ الأصل في ذلك ما صرّح به كاشف الغطاء قدس‌سره ـ بعد الحكم بأنّ كثير الشكّ لا اعتبار بشكّه ـ قال :

كلام كاشف الغطاء في المسألة

وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو (١) في ظنّه ، فيلغو اعتبارهما في حقّه (٢) ، انتهى.

مناقشة ما أفاده كاشف الغطاء

أقول : أمّا عدم اعتبار ظنّ من خرج عن العادة في ظنّه ؛ فلأنّ أدلّة اعتبار الظنّ ـ في مقام يعتبر فيه ـ مختصّة بالظنّ الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول الظنّ منها لمتعارف الناس لو وجدت تلك الأسباب عندهم على النحو الذي وجد عند هذا الشخص ، فالحاصل من غيرها يساوي الشكّ في الحكم.

وأمّا قطع من خرج قطعه عن العادة : فإن اريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها ـ كقبول شهادته

__________________

(١) في (ت) والمصدر : «وفي».

(٢) كشف الغطاء : ٦٤.

٦٥

وفتواه ونحو ذلك ـ فهو حقّ ؛ لأنّ أدلّة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشمل هذا قطعا ، لكن ظاهر كلام من ذكره في سياق كثير الشكّ إرادة غير هذا القسم.

وإن اريد (١) عدم اعتباره في مقامات يعتبر القطع فيها من حيث الكاشفيّة والطريقيّة إلى الواقع :

فإن اريد بذلك أنّه حين قطعه كالشاكّ ، فلا شكّ في أنّ أحكام الشاكّ وغير العالم لا تجري في حقّه ؛ وكيف يحكم على القاطع بالتكليف بالرجوع إلى ما دلّ على عدم الوجوب عند عدم العلم ، والقاطع بأنّه صلّى ثلاثا بالبناء على أنّه صلّى أربعا ، ونحو ذلك.

وإن اريد بذلك وجوب ردعه عن قطعه وتنزيله (٢) إلى الشكّ ، أو تنبيهه على مرضه ليرتدع بنفسه ، ولو بأن يقال له : إنّ الله سبحانه لا يريد منك الواقع ـ لو فرض عدم تفطّنه لقطعه بأنّ الله يريد الواقع منه ومن كلّ أحد ـ فهو حقّ ، لكنّه يدخل في باب الإرشاد ، ولا يختصّ بالقطّاع ، بل بكلّ من قطع بما يقطع بخطئه فيه من الأحكام الشرعيّة والموضوعات الخارجيّة المتعلّقة بحفظ النفوس والأعراض ، بل الأموال في الجملة ، وأمّا في ما عدا ذلك ممّا يتعلّق بحقوق الله سبحانه ، فلا دليل على وجوب الردع في القطّاع ، كما لا دليل عليه في غيره.

ولو بني على وجوب ذلك في حقوق الله سبحانه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ كما هو ظاهر بعض النصوص والفتاوى ـ

__________________

(١) في (ر) زيادة : «به».

(٢) في (ت) و (ه) : «بتنزيله» ، وفي (ل) : «وتنزّله».

٦٦

لم يفرّق أيضا بين القطّاع وغيره.

وإن اريد بذلك أنّه بعد انكشاف الواقع لا يجزي ما أتى به على طبق قطعه ، فهو أيضا حقّ في الجملة ؛ لأنّ المكلّف إن كان تكليفه حين العمل مجرّد الواقع من دون مدخليّة للاعتقاد ، فالمأتيّ به المخالف للواقع لا يجزي عن الواقع ، سواء القطّاع وغيره. وإن كان للاعتقاد مدخل فيه ـ كما في أمر الشارع بالصلاة إلى ما يعتقد كونها قبلة ـ فإنّ قضيّة هذا كفاية القطع المتعارف ، لا قطع القطّاع ، فيجب عليه الإعادة وإن لم تجب على غيره.

توجيه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع

ثمّ إنّ بعض المعاصرين (١) وجّه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع ـ بعد تقييده بما إذا علم القطّاع أو احتمل أن يكون حجيّة قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا ـ : بأنّه يشترط في حجّية القطع عدم منع الشارع عنه وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع ، إلاّ أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجّية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع.

مناقشة التوجيه المذكور

وأنت خبير بأنّه يكفي في فساد ذلك عدم تصوّر القطع بشيء وعدم ترتيب آثار ذلك الشيء عليه مع فرض كون الآثار آثارا له.

والعجب أنّ المعاصر مثّل لذلك بما إذا قال المولى لعبده : لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك ، أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة أو المراسلة (٢). وفساده يظهر ممّا سبق من أوّل المسألة إلى هنا.

__________________

(١) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٤٣.

(٢) كذا في (م) ، وفي غيرها : «والمراسلة».

٦٧
٦٨

الرابع

الكلام في اعتبار العلم الإجمالي ، وفيه مقامان

أنّ المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم بالتفصيل في الاعتبار ، أم لا؟

والكلام فيه يقع :

تارة في اعتباره من حيث إثبات التكليف به ، وأنّ الحكم المعلوم بالإجمال هل هو كالمعلوم بالتفصيل في التنجّز على المكلّف ، أم هو كالمجهول رأسا؟

واخرى في أنّه بعد ما ثبت التكليف بالعلم التفصيلي أو الإجمالي المعتبر ، فهل يكتفى في امتثاله بالموافقة الإجمالية ولو مع تيسّر العلم التفصيلي ، أم لا يكتفى به إلاّ مع تعذّر العلم التفصيلي ، فلا يجوز إكرام شخصين أحدهما زيد مع التمكّن من معرفة زيد بالتفصيل ، ولا فعل الصلاتين في ثوبين مشتبهين مع إمكان الصلاة في ثوب طاهر؟

والكلام (١) من الجهة الاولى يقع من جهتين ؛ لأنّ اعتبار العلم الإجمالي له مرتبتان :

الاولى : حرمة المخالفة القطعيّة.

__________________

(١) في (ص) و (ه) زيادة : «فيه».

٦٩

والثانية : وجوب الموافقة القطعيّة.

والمتكفّل للتكلّم في المرتبة الثانية هي مسألة البراءة والاشتغال عند الشكّ في المكلّف به ، فالمقصود في المقام الأوّل التكلّم في المرتبة الاولى.

٧٠

[المقام الثاني] : (١)

هل يكفي العلم الإجمالي في الامتثال

ولنقدّم الكلام في المقام الثاني (٢) ، وهو كفاية العلم الإجمالي في الامتثال ، فنقول :

الامتثال الإجمالي في العبادات

مقتضى القاعدة : جواز الاقتصار في الامتثال بالعلم (٣) الإجمالي بإتيان المكلّف به ؛ أمّا فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ففي غاية الوضوح ، وأمّا فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة ، فالظاهر أيضا تحقّق الإطاعة إذا قصد الإتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به.

ودعوى : أنّ العلم بكون المأتيّ به مقرّبا معتبر حين الإتيان به ولا يكفي العلم بعده بإتيانه ، ممنوعة ؛ إذ لا شاهد لها بعد تحقّق الإطاعة بغير ذلك أيضا.

فيجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم التفصيلي بأداء العبادات العمل بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيلي.

لكن الظاهر ـ كما هو المحكيّ عن بعض (٤) ـ : ثبوت الاتّفاق على

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) وسيأتي البحث في المقام الأوّل في الصفحة ٧٧.

(٣) في (ه) : «على العلم».

(٤) هو صاحب الحدائق ، كما سيشير إليه المصنّف ١ في مبحث الاشتغال ٢ : ٤٠٩ ـ ٤١٠ ، انظر الحدائق ٥ : ٤٠١.

٧١

لو توقّف الاحتياط على تكرار العبادة

عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة ، بل ظاهر المحكيّ عن الحلّي (١) ـ في مسألة الصلاة في الثوبين ـ : عدم جواز التكرار للاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي ، وإن كان ما ذكره من التعميم (٢) ممنوعا ، وحينئذ (٣) فلا يجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم بالماء المطلق ، أو بجهة القبلة ، أو في ثوب طاهر ، أن يتوضّأ وضوءين يقطع بوقوع أحدهما بالماء المطلق ، أو يصلّي إلى جهتين يقطع بكون أحدهما القبلة ، أو في ثوبين يقطع بطهارة أحدهما.

لكنّ الظاهر من صاحب المدارك قدس‌سره : التأمّل ـ بل ترجيح الجواز ـ في المسألة الأخيرة (٤) ، ولعلّه متأمّل في الكلّ ؛ إذ لا خصوصيّة للمسألة الأخيرة.

لو لم يتوقّف الاحتياط على التكرار

وأمّا إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار ـ كما إذا أتى بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءا ـ فالظاهر عدم ثبوت اتّفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيلي ، لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك ، بل ظاهر كلام السيّد الرضيّ رحمه‌الله ـ في مسألة الجاهل بوجوب القصر ـ وظاهر تقرير أخيه السيّد المرتضى (٥) رحمه‌الله له : ثبوت الإجماع

__________________

(١) انظر السرائر ١ : ١٨٥.

(٢) «من التعميم» من (ر) و (ص).

(٣) لم ترد عبارة «وإن كان ـ إلى ـ حينئذ» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) المدارك ٢ : ٣٥٦.

(٥) لم نقف عليه ، وحكاه الشهيدان في الذكرى (الطبعة الحجريّة) : ٢٠٩ ، وروض الجنان : ٣٩٨ عن السيّد المرتضى ، نعم يوجد نظير هذا في أجوبة المسائل الرسيّة الثانية للسيّد المرتضى ، انظر رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٧٢

على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها.

هذا كلّه في تقديم العلم التفصيلي على الإجمالي.

هل يقدّم الظنّ التفصيلي المعتبر على العلم الإجمالي؟

وهل يلحق بالعلم التفصيلي الظنّ التفصيلي المعتبر ، فيقدّم على العلم الإجمالي ، أم لا؟

لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بدليل الانسداد

التحقيق أن يقال : إنّ الظنّ المذكور إن كان ممّا لم يثبت اعتباره إلاّ من جهة دليل الانسداد ـ المعروف بين المتأخّرين لإثبات حجّية الظنّ المطلق ـ فلا إشكال في جواز ترك تحصيله والأخذ بالاحتياط إذا لم يتوقّف على التكرار.

والعجب ممّن (١) يعمل بالأمارات من باب الظنّ المطلق ، ثمّ يذهب إلى عدم صحّة عبادة تارك طريق الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط ، ولعلّ الشبهة من جهة اعتبار قصد الوجه.

ولإبطال هذه الشبهة ، وإثبات صحّة عبادة المحتاط محلّ آخر (٢).

وأمّا لو توقّف الاحتياط على التكرار ، ففي جواز الأخذ به وترك تحصيل الظنّ بتعيين المكلّف به أو عدم الجواز ، وجهان :

من أنّ العمل بالظنّ المطلق لم يثبت إلاّ جوازه وعدم وجوب تقديم الاحتياط عليه ، أمّا تقديمه على الاحتياط فلم يدلّ عليه دليل. ومن أنّ الظاهر أنّ تكرار العبادة احتياطا في الشبهة الحكميّة مع ثبوت الطريق إلى الحكم الشرعي ـ ولو كان هو الظنّ المطلق ـ خلاف السيرة المستمرّة بين العلماء ، مع أنّ جواز العمل بالظنّ إجماعيّ ، فيكفي

__________________

(١) هو المحقّق القمي ، انظر القوانين ١ : ٤٤٠ ، و ٢ : ١٤٤.

(٢) الكلام في ذلك موكول إلى الفقه ، انظر كتاب الطهارة للمؤلف ٢ : ٣٥.

٧٣

في عدم جواز الاحتياط بالتكرار احتمال عدم جوازه واعتبار الاعتقاد التفصيلي في الامتثال.

والحاصل : أنّ الأمر دائر بين تحصيل الاعتقاد التفصيلي ولو كان ظنّا ، وبين تحصيل العلم بتحقّق الإطاعة ولو إجمالا ، فمع قطع النظر عن الدليل الخارجي يكون الثاني مقدّما على الأوّل في مقام الإطاعة ؛ بحكم العقل والعقلاء ، لكن بعد العلم بجواز الأوّل والشكّ في جواز الثاني في الشرعيّات ـ من جهة منع جماعة من الأصحاب عن ذلك وإطلاقهم اعتبار نيّة الوجه (١) ـ فالأحوط ترك ذلك وإن لم يكن واجبا ؛ لأنّ نيّة الوجه لو قلنا باعتباره (٢) فلا نسلّمه إلاّ مع العلم بالوجه أو الظنّ الخاصّ ، لا الظنّ المطلق الذي لم يثبت القائل به جوازه إلاّ بعدم وجوب الاحتياط ، لا بعدم جوازه ، فكيف يعقل تقديمه على الاحتياط؟

لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بالخصوص

وأمّا لو كان الظنّ ممّا ثبت اعتباره بالخصوص ، فالظاهر أنّ تقديمه على الاحتياط إذا لم يتوقّف على التكرار مبنيّ على اعتبار قصد الوجه ، وحيث قد رجّحنا في مقامه (٣) عدم اعتبار نيّة الوجه ؛ فالأقوى جواز ترك تحصيل الظنّ والأخذ بالاحتياط. ومن هنا يترجّح القول بصحّة عبادة المقلّد إذا أخذ بالاحتياط وترك التقليد ، إلاّ أنّه خلاف

__________________

(١) كالسيّد ابن زهرة في الغنية : ٥٣ ، والحلّي في السرائر ١ : ٩٨ ، والمحقّق في الشرائع ١ : ٢٠ و ٧٨ ، والعلاّمة في نهاية الإحكام ١ : ٢٩ و ٤٤٧ ، والتذكرة ١ : ١٤٠ ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد ١ : ٢٠١ وغيرهم.

(٢) كذا في النسخ.

(٣) راجع كتاب الصلاة ١ : ٢٦٨ ـ ٢٧٠ ، وكتاب الطهارة ٢ : ٣٩ ـ ٤٥.

٧٤

الاحتياط ؛ من جهة وجود القول بالمنع من جماعة (١).

وإن توقّف الاحتياط على التكرار فالظاهر ـ أيضا ـ جواز التكرار ، بل أولويّته على الأخذ بالظنّ الخاصّ ؛ لما تقدّم (٢) : من أنّ تحصيل الواقع بطريق العلم ولو إجمالا أولى من تحصيل الاعتقاد الظنّي به ولو كان تفصيلا. وأدلّة الظنون الخاصّة إنّما دلّت على كفايتها عن الواقع ، لا تعيّن (٣) العمل بها في مقام الامتثال.

إلاّ أنّ شبهة اعتبار نيّة الوجه ـ كما هو قول جماعة ، بل المشهور بين المتأخّرين (٤) ـ جعل (٥) الاحتياط في خلاف ذلك ، مضافا إلى ما عرفت من مخالفة التكرار للسيرة المستمرّة.

مع إمكان أن يقال : إنّه إذا شكّ ـ بعد القطع بكون داعي الأمر هو التعبّد بالمأمور به ، لا حصوله بأيّ وجه اتّفق ـ في أنّ الداعي هو التعبّد بإيجاده ولو في ضمن أمرين أو أزيد ، أو التعبّد بخصوصه متميّزا عن غيره ، فالأصل عدم سقوط الغرض الداعي إلاّ بالثاني ، وهذا ليس تقييدا في دليل تلك العبادة حتّى يدفع بإطلاقه ، كما لا يخفى.

وحينئذ : فلا ينبغي ، بل لا يجوز ترك الاحتياط ـ في جميع موارد

__________________

(١) منهم : الشهيد الأوّل في الألفيّة والنفليّة : ٣٩ ، والشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ٣٢ ، وروض الجنان : ٢٤٨.

(٢) في الصفحة السابقة.

(٣) كذا في (ر) و (م) ، وفي غيرهما : «تعيين».

(٤) تقدّمت الإشارة إليهم في الصفحة السابقة ، الهامش (١).

(٥) الأنسب : «جعلت» ؛ لأنّ الضمير يعود إلى «شبهة».

٧٥

إرادة التكرار ـ بتحصيل الواقع أوّلا بظنّه المعتبر ، من التقليد أو الاجتهاد بإعمال الظنون الخاصّة أو المطلقة ، وإتيان الواجب مع نيّة الوجه ، ثمّ الإتيان بالمحتمل الآخر بقصد القربة من جهة الاحتياط.

وتوهّم : أنّ هذا قد يخالف الاحتياط ؛ من جهة احتمال كون الواجب ما أتى به بقصد القربة ، فيكون قد أخلّ فيه بنيّة الوجوب.

مدفوع : بأنّ هذا المقدار من المخالفة للاحتياط ممّا لا بدّ منه ؛ إذ لو أتى به بنيّة الوجوب كان فاسدا قطعا ؛ لعدم وجوبه ظاهرا على المكلّف بعد فرض الإتيان بما وجب عليه في ظنّه المعتبر.

وإن شئت قلت : إنّ نيّة الوجه ساقطة فيما يؤتى به من باب الاحتياط إجماعا حتّى من القائلين باعتبار نيّة الوجه ؛ لأنّ لازم قولهم باعتبار نيّة الوجه في مقام الاحتياط عدم مشروعيّة الاحتياط وكونه لغوا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك عدا السيّد أبي المكارم في ظاهر كلامه في الغنية في ردّ الاستدلال على كون الأمر للوجوب : ب : أنّه أحوط (١) ، وسيأتي ذكره (٢) عند الكلام على الاحتياط في طيّ مقدّمات دليل الانسداد (٣).

__________________

(١) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٤٦٣.

(٢) انظر الصفحة ٤١٦ ـ ٤١٨.

(٣) لم ترد عبارة «عدا السيّد ـ إلى ـ الانسداد» في (ل) ، ولم نعثر على كلام للسيّد في الموضع الذي أشار إليه المصنّف ، ويؤيّده ما قاله في أوثق الوسائل : «لا يذهب عليك : أنّه لم يتعرّض المصنّف ; عند الكلام على الاحتياط في مقدّمات دليل الانسداد ، للكلام على عدم مشروعيّة الاحتياط ولا لكلام السيّد ، مع إطنابه الكلام ثمّة في وجوب الاحتياط ومنعه» أوثق الوسائل : ٤٤.

٧٦

[المقام الأوّل](١)

هل تحرم المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي؟

أمّا (٢) المقام الأوّل وهو كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف ، واعتباره كالتفصيلي ، فقد عرفت (٣) : أنّ الكلام في اعتباره بمعنى وجوب الموافقة القطعيّة وعدم كفاية الموافقة الاحتماليّة راجع إلى مسألة البراءة والاحتياط ، والمقصود هنا بيان اعتباره في الجملة الذي أقلّ مرتبته (٤) حرمة المخالفة (٥) القطعيّة ، فنقول :

صور العلم الإجمالي

إنّ للعلم الإجمالي صورا كثيرة ؛ لأنّ الإجمال الطارئ :

إمّا من جهة متعلّق الحكم مع تبيّن نفس الحكم تفصيلا ، كما لو شككنا أنّ حكم الوجوب في يوم الجمعة يتعلّق (٦) بالظهر أو الجمعة ، وحكم الحرمة يتعلّق بهذا الموضوع الخارجي من المشتبهين أو بذاك.

وإمّا من جهة نفس الحكم مع تبيّن موضوعه ، كما لو شكّ في أنّ هذا الموضوع المعلوم الكلّي أو الجزئي يتعلّق به الوجوب أو الحرمة.

وإمّا من جهة الحكم والمتعلّق جميعا ، مثل أن نعلم أنّ حكما من

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ظ) و (م) : «وأمّا».

(٣) راجع الصفحة ٧٠.

(٤) كذا في (م) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرهما : «مراتبه».

(٥) في (ظ) و (م) : «مخالفته».

(٦) في (ت) ، (ل) و (ه) : «متعلّق».

٧٧

الوجوب والتحريم تعلّق بأحد هذين الموضوعين.

ثمّ (١) الاشتباه في كلّ من الثلاثة :

إمّا من جهة الاشتباه في الخطاب الصادر عن الشارع ، كما في مثال الظهر والجمعة.

وإمّا من جهة اشتباه مصاديق متعلّق ذلك الخطاب ، كما في المثال الثاني.

والاشتباه في هذا القسم : إمّا في المكلّف به كما في الشبهة المحصورة ، وإمّا في المكلّف.

وطرفا الشبهة في المكلّف : إمّا أن يكونا احتمالين في مخاطب واحد كما في الخنثى ، وإمّا أن يكونا احتمالين في مخاطبين ، كما في واجدي المني في الثوب المشترك.

العلم الإجمالي الطريقي والموضوعي

ولا بدّ قبل التعرّض لبيان حكم الأقسام من التعرّض لأمرين : الأوّل (٢) : أنّك قد عرفت في أوّل مسألة اعتبار العلم (٣) : أنّ اعتباره قد يكون من باب محض الكشف والطريقيّة ، وقد يكون من باب الموضوعية بجعل الشارع.

والكلام هنا في الأوّل ؛ إذ اعتبار العلم الإجمالي وعدمه في الثاني تابع لدلالة ما دلّ على جعله موضوعا ، فإن دلّ على كون العلم التفصيلي داخلا في الموضوع ـ كما لو فرضنا أنّ الشارع لم يحكم بوجوب

__________________

(١) في (ص) : «ثمّ إنّ».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «أحدهما».

(٣) راجع الصفحة ٣٠.

٧٨

الاجتناب إلاّ عمّا علم تفصيلا نجاسته ـ فلا إشكال في عدم اعتبار العلم الإجمالي بالنجاسة.

إذا تولّد من العلم الإجمالي علم تفصيلي بالحكم الشرعي

الثاني : أنّه إذا تولد من العلم الإجمالي العلم التفصيلي بالحكم الشرعي في مورد ، وجب اتّباعه وحرمت مخالفته ؛ لما تقدّم : من اعتبار العلم التفصيلي من غير تقييد بحصوله من منشأ خاصّ ، فلا فرق بين من علم تفصيلا ببطلان صلاته بالحدث ، أو بواحد مردّد بين الحدث والاستدبار ، أو بين ترك ركن وفعل مبطل ، أو بين فقد شرط من شرائط صلاة نفسه وفقد شرط من شرائط صلاة إمامه ـ بناء على اعتبار وجود شرائط الإمام في علم المأموم ـ ، إلى غير ذلك.

عدم الفرق بين هذا العلم التفصيلي وغيره من العلوم التفصيليّة

وبالجملة : فلا فرق بين هذا العلم التفصيلي وبين غيره من العلوم التفصيليّة.

إلاّ أنّه قد وقع (١) في الشرع موارد توهم خلاف ذلك :

الموارد التي توهم خلاف ذلك

منها : ما حكم به بعض (٢) فيما إذا اختلفت الامّة على قولين ولم يكن مع أحدهما دليل : من أنّه يطرح القولان ويرجع إلى مقتضى الأصل ؛ فإنّ إطلاقه يشمل ما لو علمنا بمخالفة مقتضى الأصل للحكم الواقعي المعلوم وجوده بين القولين ، بل ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله القائل

__________________

(١) في (ت) ومصحّحة (ه) : «ورد».

(٢) لم نقف على من حكم بذلك ، نعم حكاه الشيخ في العدّة ٢ : ٦٣٦ ، والمحقّق في المعارج : ١٣٣ ، وتبعهما صاحبا المعالم والقوانين في المعالم : ١٧٩ ، والقوانين ١ : ٣٨٣ ، وقال المحقّق النراقي : إنّه الظاهر في بادئ النظر ، انظر مناهج الأحكام : ٢٠٤.

٧٩

بالتخيير (١) : هو التخيير الواقعي المعلوم تفصيلا مخالفته لحكم الله الواقعي في الواقعة.

ومنها : حكم بعض (٢) بجواز ارتكاب كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة دفعة أو تدريجا ؛ فإنّه قد يؤدّي إلى العلم التفصيلي بالحرمة أو النجاسة ، كما لو اشترى بالمشتبهين بالميتة جارية ؛ فإنّا نعلم تفصيلا بطلان البيع في تمام الجارية ؛ لكون بعض ثمنها ميتة ، فنعلم تفصيلا بحرمة وطئها ، مع أنّ القائل بجواز الارتكاب لم يظهر من كلامه إخراج هذه الصورة.

ومنها : حكم بعض (٣) بصحّة ائتمام أحد واجدي المني في الثوب المشترك بينهما بالآخر ، مع أنّ المأموم يعلم تفصيلا ببطلان صلاته من جهة حدثه أو حدث إمامه.

ومنها : حكم الحاكم بتنصيف العين التي تداعاها رجلان ، بحيث يعلم صدق أحدهما وكذب الآخر ؛ فإنّ لازم ذلك جواز شراء ثالث للنصفين من كلّ منهما ، مع أنّه يعلم تفصيلا عدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي.

__________________

(١) العدّة ٢ : ٦٣٧.

(٢) هو العلاّمة المجلسي في أربعينه (الصفحة ٥٨٢) ، على ما في القوانين ٢ : ٢٧ ، وسيجيء في مبحث الاشتغال (٢ : ٢٢٥) نسبة ذلك إلى صاحب المدارك ، انظر المدارك ١ : ١٠٨.

(٣) وهو العلاّمة في التذكرة ١ : ٢٢٤ ، ونهاية الإحكام ١ : ١٠١ ، والتحرير ١ : ١٢ ، والسيّد العاملي في المدارك ١ : ٢٧٠.

٨٠