فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

مستقلا ، لكنّ ظاهره إرادة قول المشهور ، فالأولى الحكم بعدم إيمانهم على المشهور ، كما يقتضيه إطلاق معقد إجماع العلاّمة في أوّل الباب الحادي عشر ؛ لأنّ الإيمان عندهم المعرفة الحاصلة عن الدليل لا التقليد.

ثمّ قال :

السابع : المقلّد في الباطل جازما معاندا مع العلم بوجوب النظر والاصرار عليه ، فهذا أشدّ الكافرين.

الثامن : هذه الصورة من غير عناد ولا إصرار ، فهذا أيضا كافر.

ثمّ ذكر الباقي وقال : إنّ حكمها يظهر ممّا سبق (١).

أقول : مقتضى هذا القول الحكم بكفرهم ؛ لأنّهم أولى به من السابقين.

كلام الشيخ الطوسي في العدّة في وجوب النظر مع العفو

بقي الكلام في ما نسب إلى الشيخ في العدّة : من القول بوجوب النظر مستقلا مع العفو ، فلا بدّ من نقل عبارة العدّة ، فنقول :

قال في باب التقليد ـ بعد ما ذكر استمرار السيرة على التقليد في الفروع ، والكلام في عدم جواز التقليد في الاصول ؛ مستدلاّ بأنّه لا خلاف في أنّه يجب على العامّيّ معرفة الصلاة وأعدادها ـ : وإذا كان لا يتمّ ذلك إلاّ بعد معرفة الله ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة ، وجب أن لا يصحّ التقليد في ذلك.

ثمّ اعترض :

بأنّ السيرة كما جرت له على تقرير المقلّدين في الفروع كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاصول وعدم الإنكار عليهم.

__________________

(١) شرح الوافية (مخطوط) : ٤٨٢ ـ ٤٨٤.

٥٨١

فأجاب : بأنّ على بطلان التقليد في الاصول أدلّة عقليّة وشرعيّة من كتاب وسنّة وغير ذلك ، وهذا كاف في النكير.

ثمّ قال :

على أنّ المقلّد للحقّ في اصول الديانات وإن كان مخطئا في تقليده غير مؤاخذ به وأنّه معفوّ عنه ؛ وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التي قدّمناها ؛ لأنّي لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمة عليهم‌السلام قطع موالاة من يسمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند ذلك إلى حجّة من عقل أو شرع.

ثمّ اعترض على ذلك : بأنّ ذلك لا يجوز ؛ لأنّه يؤدّي إلى الإغراء بما لا يأمن أن يكون جهلا.

وأجاب : بمنع ذلك ؛ لأنّ هذا المقلّد لا يمكنه أن يعلم سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد ؛ لأنّه إنّما يمكنه معرفة ذلك إذا عرف الاصول ، وقد فرضنا أنّه مقلّد في ذلك كلّه ، فكيف يكون إسقاط العقاب مغريا؟ وإنّما يعلم ذلك غيره من العلماء الذين حصل لهم العلم بالاصول وسبروا أحوالهم ، وأنّ العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا أنكروا عليهم ، ولا يسوغ ذلك لهم إلاّ بعد العلم بسقوط العقاب عنهم ، وذلك يخرجه من باب الإغراء ، وهذا القدر كاف في هذا الباب إن شاء الله.

وأقوى ممّا ذكرنا : أنّه لا يجوز التقليد في الاصول إذا كان للمقلّد طريق إلى العلم به ، إمّا على جملة أو تفصيل ، ومن ليس له قدرة على ذلك أصلا فليس بمكلّف ، وهو بمنزلة البهائم التي ليست مكلّفة بحال (١) ، انتهى.

__________________

(١) العدّة ٢ : ٧٣١ ـ ٧٣٢.

٥٨٢

وذكر عند الاحتجاج على حجّيّة أخبار الآحاد ما هو قريب من ذلك ، قال :

وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ، فالصحيح الذي أعتقده أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه (١) ، انتهى.

المناقشة فيما أفاده الشيخ الطوسي

أقول : ظاهر كلامه قدس‌سره في الاستدلال على منع التقليد بتوقّف معرفة الصلاة وأعدادها على معرفة اصول الدين : أنّ الكلام في المقلّد الغير الجازم ، وحينئذ فلا دليل على العفو.

وما ذكره : من عدم قطع العلماء والأئمّة موالاتهم مع المقلّدين ـ بعد تسليمه والغضّ عن إمكان كون ذلك من باب الحمل على الجزم بعقائدهم ؛ لعدم العلم بأحوالهم ـ لا يدلّ على العفو ، وإنّما يدلّ على كفاية التقليد.

وإمساك النكير عليهم في ترك النظر والاستدلال إذا لم يدلّ على عدم وجوبه عليهم ـ لما اعترف به قبل ذلك من كفاية النكير المستفاد من الأدلّة الواضحة على بطلان التقليد في الاصول ـ لم يدلّ على العفو عن هذا الواجب المستفاد من الأدلّة ، فلا دليل على العفو عن هذا الواجب المعلوم وجوبه.

والتحقيق : أنّ إمساك النكير لو ثبت ولم يحتمل كونه لحمل أمرهم على الصحّة وعلمهم بالاصول ، دليل على عدم الوجوب ؛ لأنّ وجود الأدلّة لا يكفي في إمساك النكير من باب الأمر بالمعروف والنهي عن

__________________

(١) العدّة ١ : ١٣٢.

٥٨٣

المنكر وإن كفى فيه من حيث الإرشاد والدلالة على الحكم الشرعيّ ، لكنّ الكلام في ثبوت التقرير وعدم احتمال كونه لاحتمال العلم في حقّ المقلّدين.

رأي المصنّف في المسألة

فالإنصاف : أنّ المقلّد الغير الجازم المتفطّن لوجوب النظر عليه فاسق مؤاخذ على تركه للمعرفة الجزميّة بعقائده ، بل قد عرفت احتمال كفره ؛ لعموم أدلّة كفر الشاكّ.

وأمّا الغير المتفطّن لوجوب النظر لغفلته أو العاجز عن تحصيل الجزم فهو معذور في الآخرة. وفي جريان حكم الكفر احتمال تقدّم.

وأمّا الجازم فلا يجب عليه النظر والاستدلال وإن علم من عمومات (١) الآيات والأخبار وجوب النظر والاستدلال ؛ لأنّ وجوب ذلك توصّليّ لأجل حصول المعرفة ، فإذا حصلت سقط وجوب تحصيلها بالنظر ، اللهمّ إلاّ أن يفهم هذا الشخص منها كون النظر والاستدلال واجبا تعبّديّا مستقلا أو شرطا شرعيّا للإيمان ، لكنّ الظاهر خلاف ذلك ؛ فإنّ الظاهر كون ذلك من المقدّمات العقليّة.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «عموم».

٥٨٤

الأمر السادس (١)

بناء على عدم حجيّة الظنّ فهل له آثار أخر غير الحجيّة؟

إذا بنينا على عدم حجّيّة ظنّ أو على عدم حجّيّة الظنّ المطلق ، فهل يترتّب عليه آثار أخر غير الحجّيّة بالاستقلال ، مثل كونه جابرا لضعف سند أو قصور دلالة ، أو كونه موهنا لحجّة اخرى ، أو كونه مرجّحا لأحد المتعارضين على الآخر؟

ومجمل القول في ذلك : أنّه كما يكون الأصل في الظنّ عدم الحجّيّة ، كذلك الأصل فيه عدم ترتّب الآثار المذكورة : من الجبر ، والوهن ، والترجيح.

وأمّا تفصيل الكلام في ذلك فيقع في مقامات ثلاثة :

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «السابع».

٥٨٥

المقام الأوّل : الجبر بالظنّ الغير المعتبر

هل يكون الظنّ غير المعتبر جابراً

فنقول : عدم اعتباره : إمّا أن يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص كالقياس ونحوه ، وإمّا من جهة دخوله تحت عموم أصالة حرمة العمل بالظنّ.

أمّا الأوّل ، فلا ينبغي التأمّل في عدم كونه مفيدا للجبر ؛ لعموم ما دلّ على عدم جواز الاعتناء به واستعماله في الدين.

الكلام في جبر قصور السند

وأمّا الثاني ، فالأصل فيه وإن كان ذلك ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه إذا كان المجبور محتاجا إليه من جهة إفادته للظنّ بالصدور (١) ـ كالخبر إذا قلنا بكونه حجّة بالخصوص بوصف (٢) كونه مظنون الصدور ، فأفاد تلك الأمارة الغير المعتبرة الظنّ بصدور ذلك الخبر ـ انجبر قصور سنده به.

إلاّ أن يدّعى : أنّ الظاهر اشتراط حجّيّة ذلك الخبر بإفادته للظنّ بالصدور ، لا مجرّد كونه مظنون الصدور ولو حصل الظنّ بصدوره من غير سنده.

الكلام في جبر قصور الدلالة

وبالجملة : فالمتّبع هو ما يفهم من دليل حجّيّة المجبور : ومن هنا لا ينبغي التأمّل في عدم انجبار قصور الدلالة بالظنّ المطلق ؛ لأنّ المعتبر في باب الدلالات هو ظهور الألفاظ نوعا في مدلولاتها ، لا مجرّد الظنّ بمطابقة مدلولاتها (٣) للواقع ولو من الخارج.

__________________

(١) كذا في مصحّحة (ت) ، ولم ترد «بالصدور» في (ه) ، وفي غيرهما : «بمضمونه».

(٢) في غير (ت) و (ه) : «لوصف».

(٣) في غير (ص) : «مدلولها».

٥٨٦

فالكلام إن كان ظاهرا في معنى بنفسه أو بالقرائن الداخلة فهو ، وإلاّ ـ بأن كان مجملا أو كان دلالته في الأصل ضعيفة كدلالة الكلام بمفهومه الوصفيّ ـ فلا يجدي الظنّ بمراد الشارع من أمارة خارجيّة غير معتبرة بالفرض ؛ إذ التعويل حينئذ على ذلك الظنّ من غير مدخليّة للكلام.

بل ربما لا تكون تلك الأمارة موجبة للظنّ بمراد الشارع من هذا الكلام ، غايته إفادة الظنّ بالحكم الفرعيّ ، ولا ملازمة بينه وبين الظنّ بإرادته من اللفظ ، فقد لا يريده بذلك اللفظ. نعم ، قد يعلم من الخارج كون المراد هو الحكم الواقعيّ ، فالظنّ به يستلزم الظنّ بالمراد ، لكن هذا من باب الاتّفاق.

وممّا ذكرنا يظهر (١) : أنّ (٢) ما اشتهر ـ من أنّ ضعف الدلالة منجبر بعمل الأصحاب ـ غير معلوم المستند ، بل وكذلك دعوى انجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب لم يعلم لها بيّنة.

والفرق : أنّ فهم الأصحاب وتمسّكهم به كاشف ظنّي عن قرينة على المراد ، بخلاف عمل الأصحاب ؛ فإنّ غايته الكشف عن الحكم الواقعيّ الذي قد عرفت أنّه لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللفظ ، كما عرفت.

الكلام فيما اشتهر : من كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر

بقي الكلام في مستند المشهور ، في كون الشهرة في الفتوى جابرة لضعف سند الخبر :

__________________

(١) في (ت) و (ه) : «ظهر».

(٢) في (ظ) ، (م) ونسخة بدل كلّ من (ت) و (ص) بدل «أنّ» : «ضعف».

٥٨٧

فإنّه إن كان من جهة إفادتها الظنّ بصدق الخبر ، ففيه ـ مع أنّه قد لا يوجب الظنّ بصدور ذلك الخبر ، نعم يوجب الظنّ بصدور حكم عن الشارع مطابق لمضمون الخبر ـ : أنّ جلّهم لا يقولون بحجّيّة الخبر المظنون الصدور مطلقا ؛ فإنّ المحكيّ عن المشهور اعتبار الإيمان في الراوي (١) ، مع أنّه لا يرتاب في إفادة الموثّق للظنّ.

فإن قيل : إنّ ذلك لخروج خبر غير الإماميّ بالدليل الخاصّ ، مثل منطوق آية النبأ (٢) ، ومثل قوله عليه‌السلام : «لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا» (٣).

قلنا : إن كان ما خرج بحكم الآية والرواية مختصّا بما لا يفيد الظنّ فلا يشمل الموثّق ، وإن كان عامّا لما ظنّ بصدوره كان خبر غير الإماميّ المنجبر بالشهرة والموثّق متساويين في الدخول تحت الدليل المخرج. ومثل الموثّق خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب والخبر المعتضد بالأولويّة والاستقراء وسائر الأمارات الظنّية ، مع أنّ المشهور لا يقولون بذلك.

وإن كان لقيام دليل خاصّ عليه ، ففيه : المنع من وجود هذا الدليل (٤).

__________________

(١) حكاه في المعالم : ٢٠٠ ، وغاية المأمول (مخطوط) : الورقة ١١٠ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٣٦٢.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٠٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

(٤) لم ترد عبارة «وإن كان لقيام ـ إلى ـ الدليل» في (ظ) و (م).

٥٨٨

وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة والمنجبر بغيرها من الأمارات وبين الخبر الموثّق المفيد لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر ، في غاية الإشكال ، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى تلك الرواية. وإليه أشار شيخنا في موضع من المسالك بأنّ جبر الضعف بالشهرة ضعيف مجبور بالشهرة (١).

وربما يدّعى كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة ؛ حيث ادّعي الإجماع على حجّيّته (٢) ، ولم يثبت.

وأشكل من ذلك : دعوى دلالة منطوق آية النبأ عليه ؛ بناء على أنّ التبيّن يعمّ الظنّي (٣) الحاصل من ذهاب المشهور إلى مضمون الخبر.

وهو بعيد ؛ إذ لو اريد مطلق الظنّ فلا يخفى بعده ؛ لأنّ المنهيّ عنه ليس إلاّ خبر الفاسق المفيد للظنّ ؛ إذ لا يعمل أحد بالخبر المشكوك صدقه. وإن اريد البالغ حدّ الاطمئنان فله وجه ، غير أنّه يقتضي دخول سائر الظنون الجابرة إذا بلغت ـ ولو بضميمة المجبور ـ حدّ الاطمئنان ولا يختصّ بالشهرة. فالآية تدلّ على حجّيّة الخبر المفيد للوثوق والاطمئنان ، ولا بعد فيه ، وقد مرّ في أدلّة حجّية الأخبار ما يؤيّده أو يدلّ عليه ، من حكايات الإجماع والأخبار.

وأبعد من الكلّ : دعوى استفادة حجّيته ممّا دلّ من الأخبار

__________________

(١) المسالك ٦ : ١٥٦.

(٢) ادّعاه الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٤٨٧ ، وكذا كاشف الغطاء في كشف الغطاء : ٣٨.

(٣) في (ت) : «الظنّ».

٥٨٩

ـ كمقبولة ابن حنظلة (١) والمرفوعة إلى زرارة (٢) ـ على الأمر بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين ؛ فإنّ ترجيحه على غيره في مقام التعارض يوجب حجّيته في مقام عدم المعارض (٣) بالإجماع والأولويّة.

وتوضيح فساد ذلك : أنّ الظاهر من الروايتين شهرة الخبر من حيث الرواية ؛ كما يدلّ عليه قول السائل فيما بعد ذلك : «إنّهما معا مشهوران» ، مع أنّ ذكر الشهرة من المرجّحات يدلّ على كون الخبرين في أنفسهما معتبرين مع قطع النظر عن الشهرة.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٢) المستدرك ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢.

(٣) في (ت) و (ظ) بدل «مقام عدم المعارض» : «غير مقام التعارض».

٥٩٠

المقام الثاني : في كون الظنّ الغير المعتبر موهنا

هل يكون ظنّ غير المعتبر موهناً

والكلام هنا أيضا يقع : تارة فيما علم بعدم اعتباره ، واخرى فيما لم يثبت اعتباره.

الكلام في الظنّ الذي علم عدم اعتباره

وتفصيل الكلام في الأوّل : أنّ المقابل له إن كان من الأمور المعتبرة لأجل إفادته الظنّ النوعيّ ـ أي لكون نوعه لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ ، وإن لم يكن مفيدا له في المقام الخاصّ ـ فلا إشكال في عدم وهنه بمقابلة ما علم عدم اعتباره ، كالقياس في مقابل الخبر الصحيح بناء على كونه من الظنون الخاصّة على هذا الوجه. ومن هذا القبيل : القياس في مقابلة الظواهر اللفظيّة ، فإنّه لا عبرة به أصلا بناء على كون اعتبارها من باب الظنّ النوعيّ.

ولو كان من باب التعبّد فالأمر أوضح.

نعم ، لو كان حجّيته ـ سواء كان من باب الظنّ النوعي أو كان من باب التعبّد ـ مقيّدة بصورة عدم الظنّ على خلافه ، كان للتوقّف مجال.

ولعلّه الوجه فيما حكاه لي بعض المعاصرين ، عن شيخه : أنّه ذكر له مشافهة : أنّه يتوقّف في الظواهر المعارضة بمطلق الظنّ على الخلاف حتّى القياس وأشباهه.

لكنّ هذا القول ـ أعني تقييد حجّيّة الظواهر بصورة عدم الظنّ على خلافها ـ بعيد في الغاية.

وبالجملة : فيكفي في المطلب ما دلّ على عدم جواز الاعتناء

٥٩١

بالقياس (١) ، مضافا إلى استمرار سيرة الأصحاب على ذلك.

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ مقتضى النهي عن القياس ـ معلّلا بما حاصله غلبة مخالفته للواقع ـ يقتضي أن لا يترتّب شرعا على القياس أثر ، لا من حيث تأثيره في الكشف ولا من حيث قدحه فيما هو كاشف بالذات ، فحكمه حكم عدمه ، فكأنّ مضمونه مشكوك لا مظنون ، بل مقتضى ظاهر التعليل أنّه كالموهوم ؛ فكما أنّه لا ينجبر به ضعيف لا يضعّف به قويّ.

ويؤيّد ما ذكرنا : الرواية المتقدّمة عن أبان (٢) الدالّة على ردع الإمام له في ردّ الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بمجرّد مخالفته للقياس ، فراجع (٣).

وهذا حسن ، لكن الأحسن منه : تخصيص ذلك بما كان اعتباره من قبل الشارع كما لو دلّ الشرع على حجّيّة الخبر ما لم يكن الظنّ على خلافه ؛ فإنّ نفي الأثر شرعا من الظنّ القياسي يوجب بقاء اعتبار تلك الأمارة على حاله.

وأمّا ما كان اعتباره من باب بناء العرف وكان مرجع حجّيته شرعا إلى تقرير ذلك البناء كظواهر الألفاظ ، فإنّ وجود القياس إن كان يمنع عن بنائهم فلا يرتفع ذلك بما ورد من قصور القياس عن الدلالة على الواقع ، فتأثير الظنّ بالخلاف في القدح في حجّية الظواهر

__________________

(١) انظر الوسائل ١٨ : ٢٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٢) تقدّمت في الصفحة ٦٣.

(٣) لم ترد عبارة «ويؤيّد ـ إلى ـ فراجع» في (ظ) و (م).

٥٩٢

ليس مثل تأثيره في القدح في حجّية الخبر المظنون الخلاف في كونه مجعولا شرعيّا يرتفع بحكم الشارع بنفي الأثر عن القياس ؛ لأنّ المنفيّ في حكم الشارع من آثار الشيء الموجود حسّا هي الآثار المجعولة دون غيرها.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ العرف بعد تبيّن حال القياس لهم من قبل الشارع لا يعبئون به في مقام استنباط أحكام الشارع من خطاباته ، فيكون النهي عن القياس ردعا لبنائهم على تعطيل الظواهر لأجل مخالفتها للقياس.

وممّا ذكرنا يعلم حال القياس في مقابل الدليل الثابت حجّيته بشرط الظنّ ، كما لو جعلنا الحجّة من الأخبار المظنون الصدور منها أو الموثوق به منها ؛ فإنّ في وهنهما (١) بالقياس الوجهين :

من حيث رفعه للقيد المأخوذ في حجّيتهما (٢) على وجه الشرطيّة ، فمرجعه إلى فقدان شرط وجدانيّ ـ أعني وصف الظنّ ـ بسبب القياس. ونفي الآثار الشرعيّة للظنّ القياسي لا يجدي ؛ لأنّ الأثر المذكور أعني رفع الظنّ ليس من الامور المجعولة.

ومن أنّ أصل اشتراط الظنّ من الشارع ، فإذا علمنا من الشارع أنّ الخبر المزاحم بالظنّ القياسي لا ينقص أصلا ـ من حيث الإيصال إلى الواقع وعدمه ـ من (٣) الخبر السليم عن مزاحمته ، وأنّ وجود القياس

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ص) : «وهنها».

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) : «حجّيتها».

(٣) في (ظ) و (م) : «عن».

٥٩٣

وعدمه في نظره سيّان ، فلا إشكال في الحكم بكون الخبرين المذكورين عنده على حدّ سواء.

ومن هنا يمكن جريان التفصيل السابق : بأنّه إن كان الدليل المذكور المقيّد اعتباره بالظنّ ممّا دلّ الشرع على اعتباره ، لم يزاحمه القياس الذي دلّ الشرع على كونه كالعدم من جميع الجهات التي لها مدخل في الوصول إلى دين الله ، وإن كان ممّا دلّ على اعتباره العقل الحاكم بتعيين الأخذ بالراجح عند انسداد باب العلم والطرق الشرعيّة ، فلا وجه لاعتباره مع مزاحمة القياس الرافع لما هو مناط حجّيته أعني الظنّ ؛ فانّ غاية الأمر صيرورة مورد اجتماع تلك الأمارة والقياس مشكوكا ، فلا يحكم العقل فيه بشيء.

إلاّ أن يدّعي المدّعي : أنّ العقل بعد تبيّن حال القياس لا يسقط عنده الأمارة المزاحمة به عن القوّة التي تكون لها على تقدير عدم المزاحم ، وإن كان لا يعبّر عن تلك القوّة حينئذ بالظنّ وعن مقابلها بالوهم.

والحاصل : أنّ العقلاء إذا وجدوا في شهرة خاصّة أو إجماع منقول مقدارا من القوّة والقرب إلى الواقع ، والتجئوا إلى العمل على طبقهما مع فقد العلم ، وعلموا من (١) حال القياس ببيان الشارع أنّه (٢) لا عبرة بما يفيده من الظنّ ولا يرضى الشارع بدخله في دين الله ، لم يفرّقوا بين كون الشهرة والإجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أم لا ، لأنّه

__________________

(١) لم ترد «من» في (ه).

(٢) في (ظ) و (م) : «أنّ القياس» ، وفي (ص) و (ه) : «وأنّه».

٥٩٤

لا ينقصهما عمّا هما عليه من القوّة والمزيّة المسمّاة بالظنّ الشأنيّ والنوعيّ والطبعيّ.

وممّا ذكرنا : صحّ للقائلين بمطلق الظنّ لأجل الانسداد (١) إلاّ ما خرج ، أن يقولوا بحجّيّة الظنّ الشأنيّ ، بمعنى أنّ الظنّ الشخصيّ إذا ارتفع عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب الأمارات الخارجة عنه لم يقدح ذلك في حجّيّتها ، بل يجب القول بذلك على رأي (٢) بعضهم (٣) ممّن يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة مسألة ؛ لأنّه إذا فرض في مسألة وجود أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة ، فافهم.

هذا كلّه ، مع استمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في مورد من الموارد الفقهيّة وعدم الاعتناء به في الكتب الاصوليّة ، فلو كان له أثر شرعيّ ولو في الوهن لوجب التعرّض لأحكامه (٤) في الاصول ، والبحث والتفتيش عن وجوده في كلّ مورد من موارد الفروع ؛ لأنّ الفحص عن الموهن كالفحص عن المعارض واجب ، وقد تركه أصحابنا في الاصول والفروع ، بل تركوا روايات من اعتنى به منهم وإن كان من المؤسّسين لتقرير الاصول وتحرير الفروع ، كالإسكافيّ الذي نسب إليه أن بناء تدوين اصول الفقه من الإماميّة منه ومن العمّانيّ يعني ابن أبي عقيل قدس‌سرهما (٥) ، وفي كلام آخر : أنّ تحرير الفتاوى في الكتب المستقلّة

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «لأصل الانسداد».

(٢) لم ترد «رأي» في (ظ) و (م).

(٣) هو المحقّق القمّي ، كما تقدّم في الصفحة ٤٦٤.

(٤) في (ت) و (ه) : «لحاله».

(٥) انظر الوافية : ٢٥٢ ، ورجال السيّد بحر العلوم ٢ : ٢٢٠.

٥٩٥

منهما أيضا ، جزاهما الله وجميع من سبقهما ولحقهما خير الجزاء.

ثمّ إنّك تقدر بملاحظة ما ذكرنا في التفصّي عن إشكال خروج القياس عن عموم دليل الانسداد من الوجوه ، على التكلّم فيما سطّرنا هاهنا نقضا وإبراما.

الكلام في الظنّ الذي لم يثبت اعتباره

هذا (١) تمام الكلام في وهن الأمارة المعتبرة بالظنّ المنهيّ عنه بالخصوص ، كالقياس وشبهه.

وأمّا الظنّ الذي لم يثبت إلغاؤه إلاّ من جهة بقائه تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فلا إشكال في وهنه لما كان من الأمارات اعتبارها مشروطا بعدم الظنّ بالخلاف ، فضلا عمّا كان اعتباره مشروطا بإفادة الظنّ ، والسرّ فيه انتفاء الشرط.

وتوهّم : جريان ما ذكرنا في القياس هنا ؛ من جهة أنّ النهي يدلّ على عدم كونه مؤثّرا أصلا ، فوجوده كعدمه من جميع الجهات ، مدفوع.

كما أنّه لا إشكال في عدم الوهنيّة (٢) إذا (٣) كان اعتبارها من باب الظنّ النوعيّ (٤).

__________________

(١) لم ترد عبارة «من الطائفة ـ من الصفحة ٥٨٢ ، السطر ٦ ، إلى ـ هذا» في (ل).

(٢) في (ه) : «عدم وهنه».

(٣) في (ت) ، (ص) و (ه) : «لما».

(٤) في (ص) زيادة : «المطلق» ، ولم ترد عبارة «كما أنّه ـ إلى ـ النوعيّ» في (ظ) ، (ل) و (م).

٥٩٦

المقام الثالث : في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر

هل يكون الظنّ غير المعتبر مرجحاً

وقد عرفت (١) أنّه على قسمين : أحدهما ما ورد النهي عنه بالخصوص كالقياس وشبهه (٢) ، والآخر ما لم يعتبر لأجل عدم الدليل وبقائه تحت أصالة الحرمة.

الكلام في الظنّ الذي ورد النهي عنه بالخصوص

أمّا الأوّل ، فالظاهر من أصحابنا عدم الترجيح به (٣) ، نعم يظهر من المعارج وجود القول به بين أصحابنا ؛ حيث قال في باب القياس :

كلام المحقّق في الترجيح بالقياس

ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر على معارضه ؛ ويمكن أن يحتجّ لذلك بأنّ الحقّ في أحد الخبرين فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلا بدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا ؛ لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.

لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين على الآخر ؛ وهذا لأنّ فائدة كونه

__________________

(١) راجع الصفحة ٥٨٦.

(٢) لم ترد في (ظ) و (م) : «كالقياس وشبهه».

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «كالقياس وشبهه».

٥٩٧

مرجّحا كونه دافعا (١) للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به ، لا بذلك القياس. وفيه نظر (٢) ، انتهى.

الحقّ عدم الترجيح

ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين قدس‌سره (٣) بعض الميل ، والحقّ خلافه ؛ لأنّ رفع (٤) الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ؛ فإنّه لو لا القياس كان العمل به جائزا ، والمقصود تحريم العمل به لأجل القياس (٥) ، وأيّ عمل أعظم من هذا؟

والفرق بين المرجّح والدليل ليس إلاّ أنّ الدليل مقتض لتعيّن العمل به والمرجّح رافع (٦) للمزاحم عنه ، فلكلّ منهما مدخل في العلّة التامّة لتعيّن العمل به ، فإذا كان استعمال القياس محظورا وأنّه لا يعبأ به في الشرعيّات كان وجوده كعدمه غير مؤثّر.

مع أنّ مقتضى الاستناد في الترجيح به إلى إفادته للظنّ كونه من قبيل الجزء لمقتضي تعيّن العمل ، لا من قبيل دفع المزاحم ، فيشترك مع الدليل المنضمّ إليه في الاقتضاء.

هذا كلّه على مذهب غير القائلين بمطلق الظنّ ، وأمّا على مذهبهم

__________________

(١) كذا في (م) ، وفي غيرها : «رافعا».

(٢) المعارج : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٣) هو السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٧١٦.

(٤) في (ر) ، (ص) و (م) : «دفع».

(٥) في (ظ) و (م) بدل «لأجل القياس» : «بالقياس».

(٦) كذا في (ت) ، (ر) و (ه) ، وفي (ص) ، (ظ) و (م) : «دافع».

٥٩٨

فيكون القياس تمام المقتضي بناء على كون الحجّة عندهم الظنّ الفعليّ ؛ لأنّ الخبر (١) المنضمّ إليه ليس له مدخل في حصول الظنّ الفعليّ بمضمونه. نعم ، قد يكون الظنّ مستندا إليهما فيصير من قبيل جزء المقتضي ، فتأمّل (٢).

ويؤيّد ما ذكرنا ، بل يدلّ عليه : استمرار سيرة أصحابنا الإماميّة رضوان الله عليهم في الاستنباط على هجره وترك الاعتناء بما حصل لهم من الظنّ القياسيّ أحيانا ، فضلا عن أن يتوقّفوا في التخيير بين الخبرين المتعارضين (٣) مع عدم مرجّح آخر أو الترجيح بمرجّح موجود ، إلى أن يبحثوا عن القياس ؛ كيف ولو كان كذلك لاحتاجوا إلى عنوان مباحث القياس والبحث عنه بما يقتضي البحث عنها على تقدير الحجّيّة.

الكلام في الظنّ غير المعتبر لأجل عدم الدليل في مقامات :

وأمّا القسم الآخر ، وهو الظنّ الغير المعتبر لأجل بقائه تحت أصالة حرمة العمل.

فالكلام في الترجيح به يقع في مقامات :

الأوّل : الترجيح به في الدلالة ، بأن يقع التعارض بين ظهوري الدليلين كما في العامّين من وجه وأشباهه. وهذا لا اختصاص له بالدليل الظنّي السند ، بل يجري في الكتاب والسنّة المتواترة.

الثاني : الترجيح به في وجه الصدور ، بأن نفرض الخبرين

__________________

(١) في (ر) و (ه) : «الجزء».

(٢) لم ترد «فتأمّل» في (ت) و (ه).

(٣) لم ترد «المتعارضين» في (ر) ، (ظ) و (م).

٥٩٩

صادرين وظاهري الدلالة ، وانحصر التحيّر في تعيين ما صدر لبيان الحكم وتمييزه عمّا صدر على وجه التقيّة أو غيرها من الحكم المقتضية لبيان خلاف الواقع. وهذا يجري في مقطوعي الصدور ومظنوني الصدور مع بقاء الظنّ بالصدور في كلّ منهما.

الثالث : الترجيح به من حيث الصدور ، بأن صار بالمرجّح أحدهما مظنون الصدور.

أمّا المقام الأوّل ، فتفصيل القول فيه :

الترجيح به في الدلالة

أنّه إن قلنا بأنّ مطلق الظنّ على خلاف الظواهر يسقطها عن الاعتبار ـ لاشتراط حجّيتها بعدم الظنّ على الخلاف ـ فلا إشكال في وجوب الأخذ بمقتضى ذلك الظنّ المرجّح ، لكن يخرج حينئذ عن كونه مرجّحا ، بل يصير سببا لسقوط الظهور المقابل له عن الحجّية ، لا لدفع مزاحمته للظهور المنضمّ إليه ، فيصير ما وافقه حجّة سليمة عن الدليل المعارض ؛ إذ لو لم يكن في مقابل ذلك المعارض إلاّ هذا الظنّ لأسقطه عن الاعتبار ، نظير الشهرة في أحد الخبرين الموجبة لدخول الآخر في الشواذّ التي لا اعتبار بها ، بل امرنا بتركها (١) ولو لم يكن في مقابلها خبر معتبر.

وأولى من هذا : إذا قلنا باشتراط حجّية الظواهر بحصول الظنّ منها أو من غيرها على طبقها. لكنّ هذا القول سخيف جدّا ، والأوّل أيضا بعيد ، كما حقّق في مسألة حجّيّة الظواهر (٢)

__________________

(١) لم ترد «بل امرنا بتركها» في (ظ) و (م).

(٢) راجع الصفحة ١٧٠.

٦٠٠