فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

وفيه نظر ، يظهر للمتتبّع لعمل العلماء في الرجال ؛ فإنّه يحصل القطع بعدم بنائهم فيها على العمل بكلّ أمارة.

نعم ، لو كان الخبر المظنون الصدور ـ مطلقا أو بالظنّ الاطمئناني ـ من الظنون الخاصّة لقيام الأخبار أو الإجماع عليه ، لزم القائل به العمل بمطلق الظنّ أو الاطمئناني (١) منه في الرجال ، كالعامل (٢) بالظنّ المطلق في الأحكام.

حجيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة

أدلّة القائلين بعدم الحجّية :

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا : أنّ الظنّ في المسائل الاصوليّة العمليّة حجّة بالنسبة إلى ما يتولّد منه ، من الظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ أو الظاهريّ (٣) ، وربما منع منه غير واحد من مشايخنا رضوان الله عليهم (٤) ، وما استند إليه أو يصحّ الاستناد إليه للمنع أمران :

١ ـ أصالة الحرمة العمل بالظنّ

أحدهما : أصالة الحرمة وعدم شمول دليل الانسداد ؛ لأنّ دليل الانسداد : إمّا أن يجري في خصوص المسائل الاصوليّة كما يجري في خصوص الفروع ، وإمّا أن يقرّر دليل الانسداد بالنسبة إلى جميع الأحكام الشرعيّة ، فيثبت حجّية الظنّ في الجميع ويندرج فيها المسائل الاصوليّة ، وإمّا أن يجري في خصوص المسائل الفرعيّة ، فيثبت به اعتبار الظنّ في خصوص الفروع ، لكنّ الظنّ بالمسألة الاصوليّة يستلزم الظنّ

__________________

(١) في (ر) و (ه) : «الاطمئنان».

(٢) في (ر) ، (ص) ، (ه) ونسخة بدل (ت) : «كالقائل».

(٣) لم ترد في (ظ) و (م) : «الواقعيّ أو الظاهريّ».

(٤) مثل شريف العلماء والسيّد المجاهد كما تقدّم ، راجع الصفحة ٤٣٨.

٥٤١

بالمسألة الفرعيّة التي تبتني عليها.

وهذه الوجوه بين ما لا يصحّ وما لا يجدي.

أمّا الأوّل ، فهو غير صحيح ؛ لأنّ المسائل الاصوليّة التي ينسدّ فيها باب العلم ليست في أنفسها من الكثرة بحيث يلزم من إجراء الاصول فيها محذور كان يلزم من إجراء الاصول في المسائل الفرعيّة التي انسدّ فيها باب العلم ؛ لأنّ ما كان من المسائل الاصوليّة يبحث فيها عن كون شيء حجّة ـ كمسألة حجّيّة الشهرة ونقل الإجماع وأخبار الآحاد ـ أو عن كونه مرجّحا ، فقد انفتح فيها باب العلم وعلم الحجّة منها من غير الحجّة والمرجّح منها من غيره ؛ بإثبات حجّية الظنّ في المسائل الفرعيّة ؛ إذ بإثبات ذلك المطلب حصل الدلالة العقليّة على أنّ ما كان من الأمارات داخلا (١) في نتيجة دليل الانسداد فهو حجّة.

وقس على ذلك معرفة المرجّح ؛ فإنّا قد علمنا بدليل الانسداد أنّ كلاّ من المتعارضين إذا (٢) اعتضد بما يوجب قوّته على غيره من جهة من الجهات ، فهو راجح على صاحبه مقدّم عليه في العمل.

وما كان منها يبحث فيها عن الموضوعات الاستنباطيّة ـ وهي ألفاظ الكتاب والسنّة من حيث استنباط الأحكام عنهما ، كمسائل الأمر والنهي ، وأخواتهما من المطلق والمقيّد ، والعامّ والخاصّ ، والمجمل والمبيّن ، إلى غير ذلك ـ فقد علم حجّيّة الظنّ فيها من حيث استلزام الظنّ بها

__________________

(١) في غير (ظ) : «داخلة».

(٢) لم ترد «إذا» في (ظ) و (م).

٥٤٢

الظنّ بالحكم الفرعي (١) الواقعي ؛ لما عرفت : من أنّ مقتضى دليل الانسداد في الفروع حجّية الظنّ الحاصل بها من الأمارة ابتداء ، والظنّ المتولّد من أمارة موجودة في مسألة لفظيّة.

ويلحق بهما (٢) : بعض المسائل العقليّة ، مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ وامتناع اجتماع الأمر والنهي والأمر مع العلم بانتفاء شرطه (٣) ، ونحو ذلك ممّا يستلزم الظنّ به الظنّ بالحكم الفرعي ، فإنّه يكتفى في حجّية الظنّ فيها بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ، ولا يحتاج إلى إجرائه في الاصول.

وبالجملة : فبعض المسائل الاصوليّة صارت معلومة بدليل الانسداد ، وبعضها صارت حجّية الظنّ فيها معلومة بدليل الانسداد في الفروع ، فالباقي (٤) منها ـ الذي يحتاج (٥) إثبات حجّيّة الظنّ فيها إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص الاصول ـ ليس في الكثرة بحيث يلزم من العمل بالاصول وطرح الظنّ الموجود فيها محذور وإن كانت في أنفسها كثيرة ، مثل المسائل الباحثة عن حجّية بعض الأمارات ، كخبر الواحد ونقل الإجماع لا بشرط الظنّ الشخصي ، وكالمسائل الباحثة عن شروط أخبار

__________________

(١) في (ص) بدل «الفرعي» : «الشرعي» ، وفي (ت) ونسخة بدل (ص) : «الفرعي الكلّي».

(٢) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (ه) : «بها».

(٣) كذا في (ت) و (ل) ، وفي غيرهما : «الشرط».

(٤) في (ر) : «والباقي».

(٥) في غير (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «في».

٥٤٣

الآحاد على مذهب من يراها ظنونا خاصّة ، والباحثة عن بعض المرجّحات التعبّديّة ، ونحو ذلك ؛ فإنّ هذه المسائل لا تصير معلومة بإجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع. لكنّ هذه المسائل بل (١) وأضعافها ليست في الكثرة بحيث لو رجع مع حصول الظنّ بأحد طرفي المسألة إلى الاصول وطرح ذلك الظنّ لزم محذور كان يلزم في الفروع.

وأمّا الثاني ، وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشرعيّة ـ فرعيّة كانت أو أصليّة ـ فهو غير مجد ؛ لأنّ النتيجة وهو العمل بالظنّ لا يثبت عمومه من حيث موارد الظنّ إلاّ بالإجماع المركّب أو الترجيح بلا مرجّح ، بأن يقال : إنّ العمل بالظنّ في الطهارات دون الديات ـ مثلا ـ ترجيح بلا مرجّح ومخالف للإجماع ، وهذان الوجهان مفقودان في التعميم والتسوية بين المسائل الفرعيّة والمسائل الاصوليّة.

أمّا فقد الإجماع فواضح ؛ لأنّ المشهور ـ كما قيل ـ على عدم اعتبار الظنّ في الاصول.

وأمّا وجود المرجّح ؛ فلأنّ الاهتمام بالمطالب الاصوليّة أكثر ؛ لابتناء الفروع عليها ، وكلّما كانت المسألة مهمّة كان الاهتمام فيها أكثر ، والتحفّظ عن الخطأ فيها آكد ؛ ولذا يعبّرون في مقام المنع عن ذلك بقولهم : إنّ إثبات مثل هذا الأصل بهذا مشكل ، أو (٢) إنّه إثبات أصل بخبر ، ونحو ذلك.

__________________

(١) لم ترد «بل» في (ظ) و (م).

(٢) في (ص) : «وأنّه».

٥٤٤

وأمّا الثالث ، وهو اختصاص مقدّمات الانسداد ونتيجتها بالمسائل الفرعيّة ، إلاّ أنّ الظنّ بالمسألة الفرعيّة قد يتولّد من الظنّ بالمسألة (١) الاصوليّة ، فالمسألة الاصوليّة بمنزلة المسائل اللغويّة يعتبر الظنّ فيها ؛ من حيث كونه منشأ للظنّ بالحكم الفرعيّ ، ففيه :

أنّ الظنّ بالمسألة الاصوليّة : إن كان منشأ للظنّ بالحكم الفرعي الواقعي ـ كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة ، والمسائل العقليّة مثل وجوب المقدّمة وامتناع اجتماع الأمر والنهي ـ فقد اعترفنا بحجّية الظنّ فيها.

وأمّا ما لا يتعلّق بذلك وتكون باحثة عن أحوال الدليل من حيث الاعتبار في نفسه أو عند المعارضة ـ وهي التي منعنا عن حجّية الظنّ فيها ـ فليس يتولّد من الظنّ فيها الظنّ بالحكم الفرعي الواقعي ، وإنّما ينشأ منه الظنّ بالحكم الفرعي الظاهري ، وهو ممّا لم يقتض انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة العمل بالظنّ فيه ؛ فإنّ انسداد باب العلم في حكم العصير العنبيّ إنّما يقتضي العمل بالظنّ في ذلك الحكم المنسدّ ، لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته.

بل أمثال هذه الأحكام الثابتة للموضوعات لا من حيث هي ، بل من حيث قيام الأمارة الغير المفيدة للظنّ الفعليّ عليها : إن ثبت انسداد باب العلم فيها على وجه يلزم المحذور من الرجوع فيها إلى الاصول عمل فيها بالظنّ ، وإلاّ (٢) فانسداد باب العلم في الأحكام الواقعيّة وعدم

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «في المسألة».

(٢) في (ظ) زيادة : «فلا».

٥٤٥

إمكان العمل فيها بالاصول لا يقتضي العمل بالظنّ في هذه الأحكام ؛ لأنّها لا تغني عن الواقع المنسدّ فيه العلم.

هذا غاية توضيح ما قرّره استاذنا الشريف قدس‌سره اللطيف (١) ، في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجّيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة.

٢ ـ ما اشتهر : من عدم حجيّة الظنّ في مسائل اصول الفقه

الثاني من دليلي المنع : هو أنّ الشهرة المحقّقة والإجماع المنقول على عدم حجّيّة الظنّ في مسائل اصول الفقه ، وهي مسألة اصوليّة ، فلو كان الظنّ فيها حجّة وجب الأخذ بالشهرة ونقل الإجماع في هذه المسألة.

والجواب :

الجواب عن الدليل الأوّل

أمّا عن الوجه الأوّل : فبأنّ دليل الانسداد وارد على أصالة حرمة العمل بالظنّ ، والمختار في الاستدلال به في المقام (٢) هو الوجه الثالث ، وهو إجراؤه في الأحكام الفرعيّة ، والظنّ في المسائل الاصوليّة مستلزم للظنّ في المسألة الفرعيّة.

وما ذكر : من كون اللازم منه هو الظنّ بالحكم الفرعيّ الظاهريّ صحيح ، إلاّ أنّ ما ذكر ـ من أنّ انسداد باب العلم في الأحكام الواقعيّة وبقاء التكليف بها وعدم جواز الرجوع فيها إلى الاصول ، لا يقتضي إلاّ اعتبار الظنّ بالحكم الفرعيّ الواقعيّ ـ ممنوع ، بل المقدّمات المذكورة كما عرفت غير مرّة ، إنّما تقتضي اعتبار الظنّ بسقوط تلك الأحكام

__________________

(١) انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٢٦٦.

(٢) في (ت) ، (ل) و (ه) : «للمقام».

٥٤٦

الواقعيّة وفراغ الذمّة منها.

فإذا فرضنا مثلا : أنّا ظننّا بحكم العصير لا واقعا ، بل من حيث قام عليه ما لا يفيد الظنّ الفعليّ بالحكم الواقعيّ ، فهذا الظنّ يكفي في الظنّ بسقوط الحكم الواقعيّ للعصير.

بل لو فرضنا : أنّه لم يحصل ظنّ بحكم واقعيّ أصلا ، وإنّما حصل الظنّ بحجّية امور لا تفيد الظنّ ، فإنّ العمل بها يظنّ معه سقوط الأحكام الواقعيّة عنّا ؛ لما تقدّم (١) : من أنّه لا فرق في سقوط الواقع بين الإتيان بالواقع علما أو ظنّا ، وبين الإتيان ببدله كذلك ، فالظنّ بالإتيان بالبدل كالظنّ بإتيان الواقع ، وهذا واضح.

الجواب عن الدليل الثاني

وأمّا الجواب عن الثاني :

أوّلا : فبمنع الشهرة والإجماع ؛ نظرا إلى أنّ المسألة من المستحدثات ، فدعوى الإجماع فيها مساوقة لدعوى الشهرة.

وثانيا : لو سلّمنا الشهرة ، لكنّه لأجل بناء المشهور على الظنون الخاصّة كأخبار الآحاد والإجماع المنقول ، وحيث إنّ المتّبع فيها الأدلّة الخاصّة ، وكانت أدلّتها كالإجماع والسيرة على حجّية أخبار الآحاد مختصّة بالمسائل الفرعيّة ، بقيت المسائل الاصوليّة تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ، ولم يعلم بل ولم يظنّ من مذهبهم الفرق بين الفروع والاصول ، بناء على مقدّمات الانسداد واقتضاء العقل كفاية الخروج الظنّي عن عهدة التكاليف الواقعيّة.

وثالثا : سلّمنا قيام الشهرة والإجماع المنقول على عدم الحجّية على

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٣٧.

٥٤٧

تقدير الانسداد ، لكنّ المسألة ـ أعني كون مقتضى الانسداد هو العمل بالظنّ مطلقا (١) في الفروع (٢) دون الاصول ـ عقليّة (٣) ، والشهرة ونقل الإجماع إنّما يفيدان الظنّ في المسائل التوقيفيّة دون العقليّة.

ورابعا : أنّ حصول الظنّ بعدم الحجّية مع تسليم دلالة دليل الانسداد على الحجّية لا يجتمعان ، فتسليم دليل الانسداد يمنع من حصول الظنّ.

وخامسا : سلّمنا (٤) حصول الظنّ ، لكنّ غاية الأمر دخول المسألة فيما تقدّم ، من قيام الظنّ على عدم حجّية ظنّ (٥) ، وقد عرفت أنّ المرجع فيه إلى متابعة الظنّ الأقوى ، فراجع (٦).

__________________

(١) لم ترد «مطلقا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) في (ه) ونسخة بدل (ص) : «أو في خصوص الفروع».

(٣) لم ترد «عقليّة» في (ظ) و (ل).

(٤) لم ترد عبارة «أنّ حصول الظنّ ـ إلى ـ سلّمنا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) في (ر) و (ص) : «الظنّ».

(٦) راجع الصفحة ٥٣٦.

٥٤٨

الأمر الرابع (١)

أنّ الثابت بمقدّمات دليل الانسداد هو الاكتفاء بالظنّ في الخروج عن عهدة الأحكام المنسدّ فيها باب العلم ، بمعنى أنّ المظنون إذا خالف حكم الله الواقعيّ لم يعاقب (٢) بل يثاب عليه ، فالظنّ بالامتثال إنّما يكفي في مقام تعيين الحكم الشرعي الممتثل.

عدم كفاية الظنّ بالامتثال في مقام التطبيق

وأمّا في مقام تطبيق العمل الخارجي على ذلك المعيّن ، فلا دليل على الاكتفاء فيه بالظنّ ، مثلا : إذا شككنا في وجوب الجمعة أو الظهر جاز لنا تعيين الواجب الواقعي بالظنّ ، فلو ظننّا وجوب الجمعة فلا نعاقب على تقدير وجوب الظهر واقعا ، لكن لا يلزم من ذلك

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «الأمر الخامس».

هذا ، ولكن من المحتمل أن يكون ما صدر عن الشيخ الأعظم قدس‌سره هو : «الأمر الخامس» ؛ وذلك لأنّه قدس‌سره تعرّض للبحث عن الظنّ في المسائل الاصوليّة العمليّة في ذيل الأمر الثالث ، من غير أن يعدّه أمرا مستقلا ، فلعلّه عدّه ـ في نفسه ـ أمرا رابعا ، وكتب هنا : «الأمر الخامس».

(٢) في (ر) زيادة : «عليه».

٥٤٩

حجّية الظنّ في مقام العمل على طبق ذلك الظنّ ، فإذا ظننّا بعد مضيّ مقدار من الوقت بأنّا قد أتينا بالجمعة في هذا اليوم ، لكن احتمل نسيانها ، فلا يكفي الظنّ بالامتثال من هذه الجهة ، بمعنى أنّه إذا لم نأت بها في الواقع ونسيناها قام الظنّ بالإتيان مقام العلم به ، بل يجب بحكم الأصل وجوب الاتيان بها. وكذلك لو ظننّا بدخول الوقت وأتينا بالجمعة فلا يقتصر على هذا الظنّ بمعنى عدم العقاب على تقدير مخالفة الظنّ للواقع بإتيان الجمعة قبل الزوال.

وبالجملة : إذا ظنّ المكلّف بالامتثال وبراءة ذمّته وسقوط الواقع ، فهذا الظنّ : إن كان مستندا إلى الظنّ في تعيين الحكم الشرعيّ كان المكلّف فيه معذورا مأجورا على تقدير المخالفة للواقع ، وإن كان مستندا إلى الظنّ بكون الواقع في الخارج منه منطبقا على الحكم الشرعيّ فليس معذورا ، بل يعاقب على ترك الواقع أو ترك الرجوع إلى القواعد الظاهريّة التي هي المعوّل لغير العالم.

عدم حجيّة الظنّ في الامور الخارجيّة

وممّا ذكرنا تبيّن : أنّ الظنّ بالامور الخارجيّة عند فقد العلم بانطباقها على المفاهيم الكلّية التي تعلّق بها الأحكام الشرعيّة لا دليل على اعتباره ، وأنّ دليل الانسداد إنّما يعذر الجاهل فيما انسد فيه باب العلم لفقد الأدلّة المنصوبة من الشارع أو إجمال (١) ما وجد منها ، ولا يعذر الجاهل بالامتثال من غير هذه الجهة ؛ فإنّ المعذور فيه هو الظنّ بأنّ قبلة العراق (٢) ما بين المشرق والمغرب ، أمّا الظنّ بوقوع

__________________

(١) في غير (ص) : «وإجمال».

(٢) في (ت) و (ص) زيادة : «هو».

٥٥٠

الصلاة إليه فلا يعذر فيه.

فظهر : اندفاع توهّم أنّه إذا بني على الامتثال الظنّي للأحكام الواقعيّة فلا يجدي إحراز العلم بانطباق الخارج على المفهوم ؛ لأنّ الامتثال يرجع بالأخرة إلى الامتثال الظنّي ؛ حيث إنّ الظانّ بكون القبلة ما بين المشرق والمغرب امتثاله للتكاليف الواقعيّة ظنّي ، علم بما بين المشرق والمغرب أو ظنّ.

وحاصله (١) : أنّ حجّية الظنّ في تعيين الحكم بمعنى معذوريّة الشخص مع المخالفة لا تستلزم حجّيته في الانطباق بمعنى معذوريّته لو لم يكن الخارج منطبقا على ذلك الذي عيّن ؛ وإلاّ لكان الإذن في العمل بالظنّ في بعض شروط الصلاة أو أجزائها يوجب جوازه في سائرها ، وهو بديهيّ البطلان.

فعلم : أنّ قياس الظنّ بالامور الخارجيّة على المسائل الاصوليّة واللغويّة ، واستلزامه الظنّ بالامتثال قياس مع الفارق ؛ لأنّ جميع هذه يرجع إلى شيء واحد هو الظنّ بتعيين الحكم.

ثمّ من المعلوم عدم جريان دليل الانسداد في نفس الامور الخارجيّة ؛ لأنّها غير منوطة بأدلّة وأمارات مضبوطة حتّى يدّعى طروّ الانسداد فيها في هذا الزمان فيجري دليل الانسداد في أنفسها ؛ لأنّ مرجعها ليس إلى الشرع ولا إلى مرجع آخر منضبط.

حجّية الظنّ في بعض الامور الخارجيّة كالضرر والنسب وشبههما

نعم ، قد يوجد في الامور الخارجيّة ما لا يبعد إجراء نظير دليل الانسداد فيه ، كما في موضوع الضرر الذي انيط به أحكام كثيرة من

__________________

(١) في (ت) ، (ل) و (ه) : «والحاصل».

٥٥١

جواز التيمّم والافطار وغيرهما ، فيقال : إنّ باب العلم بالضرر منسدّ غالبا ؛ إذ لا يعلم غالبا إلاّ بعد تحقّقه ، وإجراء (١) أصالة عدمه في تلك الموارد يوجب المحذور ، وهو الوقوع في الضرر غالبا ، فتعيّن إناطة الحكم فيه بالظنّ.

هذا إذا انيط الحكم بنفس الضرر ، وأمّا إذا انيط بموضوع الخوف فلا حاجة إلى ذلك ، بل يشمل حينئذ الشكّ أيضا.

ويمكن أن يجري مثل ذلك في مثل العدالة والنسب وشبههما من الموضوعات التي يلزم من إجراء الاصول فيها مع عدم العلم الوقوع في مخالفة الواقع كثيرا ، فافهم.

__________________

(١) كذا في (ل) و (ه) ، وفي غيرهما : «فإجراء».

٥٥٢

الأمر الخامس (١)

هل يعتر الظنّ في اُصول الدين

في اعتبار الظنّ في اصول الدين

الأقوال في المسألة

والأقوال المستفادة من تتبّع كلمات العلماء في هذه المسألة ، من حيث وجوب مطلق المعرفة ، أو الحاصلة عن خصوص النظر ، وكفاية الظنّ مطلقا ، أو في الجملة ، ستّة.

القول الأوّل

الأوّل : اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال ، وهو المعروف عن الأكثر (٢) ، وادّعى عليه العلاّمة ـ في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح ـ إجماع العلماء كافّة (٣). وربما يحكى دعوى الإجماع عن العضديّ (٤) ، لكنّ الموجود منه في مسألة عدم جواز التقليد في العقليّات

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «السادس» ، وقد تقدّم توجيهه في الصفحة ٥٤٩.

(٢) كالشيخ الطوسي في العدّة ٢ : ٧٣٠ ـ ٧٣١ ، والمحقّق في المعارج : ١٩٩ ، والعلاّمة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٤٨ ، والشهيد الأوّل في الألفيّة : ٣٨ ، والشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ٢١ ، وانظر مناهج الأحكام : ٢٩٤ ، والفصول : ٤١٦ ، والمعالم : ٢٤٣.

(٣) الباب الحادي عشر : ٣ ـ ٤.

(٤) حكاه عنه الفاضل النراقي في المناهج : ٢٩٣ ، والمحقّق القمي في القوانين ٢ : ١٧٤.

٥٥٣

من اصول الدين : دعوى إجماع الامّة على وجوب معرفة الله (١).

القول الثاني

الثاني : اعتبار العلم ولو من التقليد ، وهو المصرّح به في كلام بعض (٢) والمحكيّ عن آخرين (٣).

القول الثالث

الثالث : كفاية الظنّ مطلقا ، وهو المحكيّ عن جماعة ، منهم المحقّق الطوسيّ في بعض الرسائل المنسوبة إليه (٤) وحكي نسبته إليه في فصوله (٥) ولم أجده فيه ، وعن المحقّق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك وظاهر شيخنا البهائي والعلاّمة المجلسي والمحدّث الكاشاني وغيرهم (٦) قدّس الله أسرارهم (٧).

القول ارابع

الرابع : كفاية الظنّ المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد ، حكي عن شيخنا البهائيّ قدس‌سره في بعض تعليقاته على شرح المختصر : أنّه نسبه إلى بعض (٨).

__________________

(١) شرح مختصر الاصول : ٤٨٠.

(٢) كالسيّد الصدر في شرح الوافية (مخطوط) : ٤٨٠.

(٣) حكاه الشهيد الثاني عن جماعة من المحقّقين منّا ومن الجمهور ، انظر المقاصد العليّة : ٢٦ ، وراجع القوانين ٢ : ١٧٣ ، ومناهج الأحكام : ٢٩٤.

(٤) لم نعثر عليه.

(٥) الفصول النصيريّة ، فارسيّ في اصول الدين.

(٦) لم ترد «وغيرهم» في (ر) و (ص).

(٧) حكاه عن أكثرهم المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ١٨٠ ، والفاضل النراقي في المناهج : ٢٩٣ ، وانظر مجمع الفائدة للمحقّق الأردبيلي ٢ : ١٨٣ ، والزبدة للشيخ البهائي : ١٢٤.

(٨) حاشية الشيخ البهائي على شرح مختصر ابن الحاجب (مخطوط) ، لا يوجد لدينا.

٥٥٤

القول اخامس

الخامس : كفاية الظنّ المستفاد من أخبار الآحاد ، وهو الظاهر ممّا حكاه العلاّمة قدس‌سره في النهاية عن الأخباريّين : من أنّهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد (١) ، وحكاه الشيخ في عدّته في مسألة حجّيّة أخبار الآحاد عن بعض غفلة أصحاب الحديث (٢).

والظاهر : أنّ مراده حملة الأحاديث ، الجامدون على ظواهرها ، المعرضون عمّا عداها من البراهين العقليّة المعارضة لتلك الظواهر.

القول السادس

السادس : كفاية الجزم بل الظنّ من التقليد ، مع كون النظر واجبا مستقلا لكنّه معفوّ عنه ، كما يظهر من عدّة الشيخ قدس‌سره في مسألة حجّيّة أخبار الآحاد وفي أواخر العدّة (٣).

ثمّ إنّ محلّ الكلام في كلمات هؤلاء الأعلام غير منقّح ، فالأولى ذكر الجهات التي يمكن أن يتكلم فيها ، وتعقيب كلّ واحدة منها بما يقتضيه النظر من حكمها ، فنقول ـ مستعينا بالله ـ :

مسائل اصول الدين على قسمين

إنّ مسائل اصول الدين ، وهي التي لا يطلب فيها أوّلا وبالذات إلاّ الاعتقاد باطنا والتديّن ظاهرا وإن ترتّب على وجوب ذلك بعض الآثار العمليّة ، على قسمين :

أحدهما : ما يجب على المكلّف الاعتقاد والتديّن به غير مشروط بحصول العلم كالمعارف ، فيكون تحصيل العلم من مقدّمات الواجب

__________________

(١) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦.

(٢) العدّة ١ : ١٣١.

(٣) العدّة ١ : ١٣٢ ، و ٢ : ٧٣١.

٥٥٥

المطلق ، فيجب.

١ ـ ما يجب الاعتقاد به إذا حصل العلم به

الثاني : ما يجب الاعتقاد والتديّن به إذا اتّفق حصول العلم به ، كبعض تفاصيل المعارف.

أمّا الثاني (١) ، فحيث كان المفروض عدم وجوب تحصيل (٢) المعرفة العلميّة (٣) كان الأقوى القول بعدم وجوب العمل فيه بالظنّ لو فرض حصوله ، ووجوب التوقّف فيه ؛ للأخبار الكثيرة الناهية عن القول بغير علم والآمرة بالتوقّف (٤) ، وأنّه : «إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به ، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها. وأهوى بيده إلى فيه» (٥).

ولا فرق في ذلك بين أن تكون الأمارة الواردة في تلك المسألة خبرا صحيحا أو غيره.

كلام الشهيد الثاني قدس‌سره

قال شيخنا الشهيد الثاني في المقاصد العليّة ـ بعد ذكر أنّ المعرفة بتفاصيل البرزخ والمعاد غير لازم ـ : وأمّا ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك من طريق الآحاد فلا يجب التصديق به مطلقا وإن كان طريقه صحيحا ؛ لأنّ خبر الواحد ظنّيّ ، وقد اختلف في جواز العمل به في الأحكام

__________________

(١) سيأتي البحث في القسم الأوّل في الصفحة ٥٦٩.

(٢) في (ظ) و (ل) بدل «عدم وجوب تحصيل» : «عدم حصول».

(٣) لم ترد «العلميّة» في (ظ) و (م) ، وفي (ت) و (ه) زيادة : «فيه».

(٤) راجع الوسائل ١٨ : ١١١ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، في وجوب التوقّف والاحتياط.

(٥) الوسائل ١٨ : ٢٣ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣.

٥٥٦

الشرعيّة الظنّية ، فكيف بالأحكام الاعتقاديّة العلميّة (١) ، انتهى.

وظاهر الشيخ في العدّة : أنّ عدم جواز التعويل في اصول الدين على أخبار الآحاد اتّفاقيّ إلاّ عن بعض غفلة أصحاب الحديث (٢). وظاهر المحكيّ في السرائر عن السيّد المرتضى عدم الخلاف فيه أصلا (٣)(٤). وهو مقتضى كلام كلّ من قال بعدم اعتبار أخبار الآحاد في اصول الفقه.

لو حصل الظنّ من الخبر

لكن يمكن أن يقال : إنّه إذا حصل الظنّ من الخبر :

فإن أرادوا بعدم وجوب التصديق بمقتضى الخبر عدم تصديقه علما أو ظنّا ، فعدم حصول الأوّل كحصول الثاني قهريّ لا يتّصف بالوجوب وعدمه.

وإن أرادوا (٥) التديّن به الذي ذكرنا وجوبه في الاعتقاديّات وعدم الاكتفاء فيها بمجرّد الاعتقاد ـ كما يظهر من بعض الأخبار الدالّة على أنّ فرض اللسان القول والتعبير عمّا عقد عليه القلب وأقرّ به ؛ مستشهدا على ذلك بقوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ...) إلى آخر الآية (٦) ـ فلا مانع من وجوبه في مورد خبر الواحد ، بناء على أنّ

__________________

(١) المقاصد العليّة : ٢٥.

(٢) العدّة ١ : ١٣١.

(٣) السرائر ١ : ٥٠ ، وانظر رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢١١.

(٤) لم ترد عبارة «وظاهر المحكي ـ إلى ـ أصلا» في (م).

(٥) في (ر) زيادة : «عدم».

(٦) الوسائل ١١ : ١٢٩ ، الباب ٢ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٧ ، والآية من سورة البقرة : ١٣٦.

٥٥٧

هذا نوع عمل بالخبر ؛ فإنّ ما دلّ على وجوب تصديق العادل لا يأبى الشمول لمثل ذلك.

نعم ، لو كان العمل بالخبر لا لأجل الدليل الخاصّ على وجوب العمل به ، بل من جهة الحاجة إليه ـ لثبوت التكليف وانسداد باب العلم ـ لم يكن وجه للعمل به في مورد لم يثبت التكليف فيه بالواقع كما هو المفروض ، أو يقال : إنّ عمدة أدلّة حجّيّة أخبار الآحاد ـ وهي الإجماع العمليّ ـ لا تساعد على ذلك.

العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في اصول الدين

وممّا ذكرنا يظهر الكلام في العمل بظاهر الكتاب والخبر المتواتر في اصول الدين ؛ فإنّه قد لا يأبى دليل حجّيّة الظواهر عن وجوب التديّن بما تدلّ عليه من المسائل الاصوليّة التي لم يثبت التكليف بمعرفتها ، لكن ظاهر كلمات كثير عدم العمل بها في ذلك.

ولعلّ الوجه في ذلك : أنّ وجوب التديّن المذكور إنّما هو من آثار العلم بالمسألة الاصوليّة لا من آثار نفسها ، واعتبار الظنّ مطلقا (١) أو الظنّ الخاصّ ـ سواء كان من الظواهر أو غيرها ـ معناه : ترتيب الآثار المتفرّعة على نفس الأمر المظنون لا على العلم به (٢).

وأمّا ما يتراءى من التمسّك بها أحيانا لبعض العقائد ؛ فلاعتضاد مدلولها بتعدّد الظواهر وغيرها من القرائن ، وإفادة كلّ منها الظنّ ، فيحصل من المجموع القطع بالمسألة ، وليس استنادهم في تلك المسألة إلى مجرّد أصالة الحقيقة التي قد لا تفيد الظنّ بإرادة الظاهر ، فضلا

__________________

(١) في (ه) : «الظنّ المطلق».

(٢) لم ترد عبارة «ولعلّ ـ إلى ـ لا على العلم به» في (ظ) ، (ل) و (م).

٥٥٨

عن العلم.

تمييز ما يجب تحصيل العلم به عمّا لا يجب

ثمّ ، إنّ الفرق بين القسمين المذكورين ، وتمييز ما يجب تحصيل العلم به عمّا لا يجب في غاية الإشكال.

وقد ذكر العلاّمة قدس‌سره في الباب الحادي عشر ـ فيما يجب معرفته على كلّ مكلّف من تفاصيل التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد ـ امورا لا دليل على وجوبها كذلك ، مدّعيا أنّ الجاهل بها عن نظر واستدلال خارج عن ربقة الإيمان (١) مستحقّ للعذاب الدائم (٢). وهو في غاية الإشكال.

هل تجب معرفة التفاصيل؟

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مقتضى عموم وجوب المعرفة ـ مثل قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(٣) أي ليعرفون ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات (٤) الخمس» (٥) ، بناء على أنّ الأفضليّة من الواجب خصوصا مثل الصلاة تستلزم الوجوب ـ ، وكذا عمومات وجوب التفقّه في الدين (٦) الشامل للمعارف ؛ بقرينة

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (م) ونسخة بدل (ت) : «ربقة الإسلام».

(٢) الباب الحادي عشر : ٣ ـ ٥.

(٣) الذاريات : ٥٦.

(٤) في (ر) و (م) : «الصلاة».

(٥) انظر الوسائل ٣ : ٢٥ ، الباب ١٠ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث الأول.

والحديث مرويّ في مصادر الحديث عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيه بدل «هذه الصلوات الخمس» : «هذه الصلاة».

(٦) مثل آية النفر في سورة التوبة : ١٢٢ ، وانظر تفسير القمّي ١ : ٣٠٧.

٥٥٩

استشهاد الإمام عليه‌السلام بها لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق عليه‌السلام ، وعمومات طلب العلم (١) ، هو وجوب معرفة الله جلّ ذكره ومعرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعرفة (٢) الإمام عليه‌السلام ومعرفة ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على كلّ قادر يتمكّن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتّى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشيء من هذه التفاصيل اعتقد وتديّن ، وإلاّ توقّف ولم يتديّن بالظنّ لو حصل له.

ومن هنا قد يقال : إنّ الاشتغال بالعلم المتكفّل لمعرفة الله ومعرفة أوليائه صلوات الله عليهم أهمّ من الاشتغال بعلم المسائل العمليّة ، بل هو المتعيّن ؛ لأنّ العمل يصحّ عن تقليد ، فلا يكون الاشتغال بعلمه إلاّ كفائيّا ، بخلاف المعرفة.

هذا ، ولكنّ الإنصاف عمّن جانب الاعتساف يقتضي الإذعان بعدم التمكّن من ذلك إلاّ للأوحديّ من الناس ؛ لأنّ المعرفة المذكورة لا يحصل إلاّ بعد تحصيل قوّة استنباط المطالب من الأخبار ، وقوّة نظريّة اخرى ؛ لئلاّ يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقليّة ، ومثل هذا الشخص مجتهد في الفروع قطعا ، فيحرم عليه التقليد.

ودعوى جوازه له للضرورة ، ليس بأولى من دعوى جواز ترك الاشتغال بالمعرفة التي لا تحصل غالبا بالأعمال المبتنية على التقليد.

هذا إذا لم يتعيّن عليه الإفتاء والمرافعة لأجل قلّة المجتهدين ، وأمّا في مثل زماننا فالأمر واضح.

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ٣٠ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه.

(٢) لم ترد «معرفة» في (ت) ، (ل) و (ه).

٥٦٠