فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

موهوم الوجوب مع كونه مطابقا للاحتياط اللازم ، فإذا فرض لزوم العسر من مراعاة الاحتياطين معا في الفقه تعيّن دفعه بعدم وجوب الاحتياط في مقابل الظنّ ، فإذا فرض (١) هذا الظنّ مجملا لزم العمل بكلّ ظنّ ممّا يقتضى الظنّ بالتكليف احتياطا ، وأمّا الظنون المخالفة للاحتياط اللازم فيعمل بها ؛ فرارا عن لزوم العسر.

قلت : دفع العسر يمكن بالعمل ببعضها ، فما المعمّم؟ فيرجع الأمر إلى أنّ قاعدة الاشتغال لا تنفع ولا تثمر (٢) في الظنون المخالفة للاحتياط ؛ لأنّك عرفت (٣) أنّه لا يثبت وجوب التسرّي إليها فضلا عن التعميم فيها ؛ لأنّ التسرّي إليها كان للزوم العسر ، فافهم.

هذا كلّه على تقدير مقدّمات دليل الانسداد على وجه يكشف عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظنّ في الجملة ، وقد عرفت (٤) أنّ التحقيق خلاف هذا التقرير ، وعرفت (٥) أيضا ما ينبغي سلوكه على تقدير تماميّته : من وجوب اعتبار المتيقّن ـ حقيقة أو بالإضافة ـ ثمّ ملاحظة مظنون الاعتبار بالتفصيل الذي تقدّم في آخر المعمّم الأوّل من المعمّمات الثلاثة (٦).

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «فرضنا».

(٢) كذا في (ت) ، وفي (ص) و (ل) : «لا ينفع ولا يثمر» ، وفي (ر) ، (ظ) ، (م) و (ه) : «لا ينفع ولا يتم».

(٣) راجع الصفحة ٤٩٧.

(٤) راجع الصفحة ٤٦٨.

(٥) راجع الصفحة ٤٩١.

(٦) راجع الصفحة ٤٩٣.

٥٠١

وجوب الاقتصار على الظنّ الاطمئناني بناء على الحكومة

وأمّا على تقدير تقريرها على وجه يوجب حكومة العقل بوجوب الإطاعة الظنّيّة والفرار عن المخالفة الظنّيّة ، وأنّه يقبح من الشارع تعالى إرادة أزيد من ذلك كما يقبح من المكلّف الاكتفاء بما دون ذلك ، فالتعميم وعدمه لا يتصوّر بالنسبة إلى الأسباب ؛ لاستقلال العقل بعدم الفرق فيما إذا كان المقصود الانكشاف الظنّي بين الأسباب المحصّلة له ، كما لا فرق فيما (١) كان المقصود الانكشاف الجزميّ بين أسبابه ، وإنّما يتصوّر من حيث مرتبة الظنّ ووجوب الاقتصار على الظنّ القويّ الذي يرتفع معه التحيّر عرفا.

بيان ذلك : أنّ الثابت من مقدّمتي بقاء التكليف وعدم التمكّن من العلم التفصيليّ : هو وجوب الامتثال الإجماليّ بالاحتياط في إتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة ، لكن المقدّمة الثالثة النافية للاحتياط إنّما أبطلت (٢) وجوبه على وجه الموجبة الكلّية ، بأن يحتاط في كلّ واقعة قابلة للاحتياط أو يرجع إلى الأصل كذلك ، ومن المعلوم أنّ إبطال الموجبة الكليّة لا يستلزم صدق السالبة الكليّة ، وحينئذ فلا يثبت من ذلك إلاّ وجوب العمل بالظنّ على خلاف الاحتياط والاصول في الجملة.

ثمّ إنّ العقل حاكم بأنّ الظنّ القويّ الاطمئنانيّ أقرب إلى العلم عند تعذّره ، وأنّه إذا لم يمكن القطع بإطاعة مراد الشارع وترك ما يكرهه وجب تحصيل ذلك بالظنّ الأقرب إلى العلم.

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «إذا».

(٢) في النسخ : «أبطل».

٥٠٢

وحينئذ : فكلّ واقعة تقتضي (١) الاحتياط الخاصّ بنفس المسألة أو الاحتياط العامّ من جهة كونها إحدى المسائل التي نقطع (٢) بتحقّق التكليف فيها ، إن قام على خلاف مقتضى الاحتياط أمارة ظنّيّة توجب الاطمئنان بمطابقة الواقع تركنا الاحتياط وأخذنا بها.

وكلّ واقعة ليست فيها أمارة كذلك ، نعمل (٣) فيها بالاحتياط ، سواء لم توجد (٤) أمارة أصلا كالوقائع المشكوكة ، أو كانت ولم تبلغ (٥) مرتبة الاطمئنان.

وكلّ واقعة (٦) لم يمكن فيها الاحتياط ، تعيّن التخيير في الأوّل ، والعمل بالظنّ في الثاني وإن كان في غاية الضعف ؛ لأنّ الموافقة الظنّيّة أولى من غيرها ، والمفروض عدم جريان البراءة والاستصحاب ؛ لانتقاضهما بالعلم الإجماليّ ، فلم يبق من الاصول إلاّ التخيير ، ومحلّه عدم رجحان أحد الاحتمالين ، وإلاّ فيؤخذ بالراجح (٧).

النتيجة بناء على الحكومة هو التبعيض في الاحتياط

ونتيجة هذا : هو الاحتياط في المشكوكات والمظنونات بالظنّ الغير الاطمئنانيّ إن أمكن (٨) ، والعمل بالظنّ في الوقائع المظنونة بالظنّ

__________________

(١) في النسخ : «يقتضي».

(٢) كذا في (ر) و (ص) ، وفي غيرهما : «يقطع».

(٣) في (ظ) و (م) : «يعمل».

(٤) في النسخ : «لم يوجد».

(٥) في النسخ : «ولم يبلغ».

(٦) في (م) و (ظ) بدل «وكلّ واقعة» : «نعم لو».

(٧) لم ترد عبارة «والمفروض عدم ـ إلى ـ فيؤخذ بالراجح» في (ظ) و (م).

(٨) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) زيادة : «وإلاّ فبالأصول».

٥٠٣

الاطمئنانيّ ، فإذا عمل المكلّف قطع بأنّه لم يترك القطع بالموافقة ـ الغير الواجب على المكلّف من جهة العسر ـ إلاّ إلى الموافقة الاطمئنانيّة ، فيكون مدار العمل على العلم بالبراءة والظنّ الاطمئنانيّ بها.

وأمّا مورد التخيير ، فالعمل فيه على الظنّ الموجود في المسألة وإن كان ضعيفا ، فهو خارج عن الكلام ؛ لأنّ العقل لا يحكم فيه بالاحتياط حتّى يكون التنزّل منه إلى شيء آخر ، بل التخيير أو العمل بالظنّ الموجود تنزّل من العلم التفصيليّ إليهما بلا واسطة.

وإن شئت قلت : إنّ العمل في الفقه في موارد (١) الانسداد على الظنّ الاطمئنانيّ ومطلق الظنّ والتخيير ، كلّ في مورد خاصّ ، وهذا هو الذي يحكم به العقل المستقلّ.

وقد سبق لذلك مثال في الخارج ، وهو : ما إذا علمنا بوجود شياه محرّمة في قطيع ، وكان أقسام القطيع ـ بحسب احتمال كونها مصداقا للمحرّمات ـ خمسة ، قسم منها يظنّ كونها محرّمة بالظنّ القويّ الاطمئنانيّ لا أنّ المحرّم منحصر فيه ، وقسم منها يظنّ ذلك فيها بظنّ قريب من الشكّ والتحيّر ، وثالث يشكّ في كونها محرّمة ، وقسم منها في مقابل الظنّ الأوّل ، وقسم منها (٢) في مقابل الظنّ الثاني ، ثمّ فرضنا في المشكوكات وهذا القسم من الموهومات ما يحتمل أن يكون واجب الارتكاب.

وحينئذ : فمقتضى الاحتياط وجوب اجتناب الجميع ممّا لا يحتمل

__________________

(١) في (ت) ، (ل) و (ه) : «مورد».

(٢) في غير (ه) زيادة : «موهوما» ، ولكن شطب عليها في (ت).

٥٠٤

الوجوب ، فإذا انتفى وجوب الاحتياط لأجل العسر واحتيج إلى ارتكاب موهوم الحرمة ، كان ارتكاب الموهوم في مقابل الظنّ الاطمئنانيّ أولى من الكلّ ، فيبنى على العمل به ، ويتخيّر في المشكوك الذي يحتمل الوجوب ، ويعمل بمطلق الظنّ في المظنون منه.

الفرق بين العمل بالظنّ بعنوان التبعيض في الاحتياط أو بعنوان الحجيّة

لكنّك خبير : بأنّ هذا ليس من حجّيّة مطلق الظنّ ولا الظنّ الاطمئنانيّ في شيء ؛ لأنّ معنى حجّيته أن يكون دليلا في الفقه ـ بحيث يرجع في موارد وجوده إليه لا إلى غيره ، وفي موارد عدمه إلى مقتضى الأصل (١) الذي يقتضيه ـ ، والظنّ هنا ليس كذلك ؛ إذ العمل :

أمّا في موارد وجوده (٢) ، ففيما طابق منه الاحتياط (٣) على الاحتياط لا عليه ؛ إذ لم يدلّ (٤) على ذلك مقدّمات الانسداد ، وفيما خالف الاحتياط لا يعوّل عليه إلاّ بمقدار مخالفة الاحتياط لدفع العسر ، وإلاّ فلو فرض فيه جهة اخرى لم يكن معتبرا من تلك الجهة (٥) ، كما لو دار الأمر بين شرطيّة شيء وإباحته واستحبابه ، فظنّ باستحبابه ، فإنّه لا يدلّ مقدّمات دليل الانسداد إلاّ على عدم وجوب الاحتياط في ذلك الشيء ، والأخذ بالظنّ في عدم وجوبه ، لا في إثبات استحبابه.

__________________

(١) كذا في (ل) ، وورد في غيرها بدل «وفي موارد عدمه إلى مقتضى الأصل» : «وفي موارد الخلوّ عنه بمقتضى الأصل».

(٢) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «موارد وجوده» : «موارده».

(٣) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «فالعمل» ، ولكن شطب عليه في (ص).

(٤) في (ر) و (ص) : «لا يدلّ».

(٥) لم ترد «الجهة» في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه).

٥٠٥

وأمّا في موارد عدمه وهو الشكّ ، فلا يجوز العمل إلاّ بالاحتياط الكلّي الحاصل من احتمال كون الواقعة من موارد التكليف المعلوم (١) إجمالا وإن كان لا يقتضيه نفس المسألة ، كما إذا شكّ في حرمة عصير التمر أو وجوب الاستقبال بالمحتضر ، بل العمل على هذا الوجه يتبعّض (٢) في الاحتياط وطرحه في بعض الموارد دفعا للحرج ، ثمّ يعيّن العقل للطرح البعض الذي يكون وجود التكليف فيها احتمالا ضعيفا في الغاية.

فإن قلت : إنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات منضمّة إلى المظنونات (٣) يوجب العسر فضلا عن انضمام العمل به في الموهومات المقابلة للظنّ الغير القويّ (٤) ، فيثبت وجوب العمل بمطلق الظنّ ووجوب الرجوع في المشكوكات إلى مقتضى الأصل (٥) ، وهذا مساو في المعنى لحجّية الظنّ المطلق ، وإن كان حقيقة تبعيضا في الاحتياط الكلّيّ ، لكنّه لا يقدح بعد عدم الفرق في العمل.

قلت : لا نسلّم لزوم الحرج من مراعاة الاحتياط في المظنونات

__________________

(١) كذا في (ت) ، وفي غيرها : «المعلومة».

(٢) كذا في (ل) وظاهر (م) ، وفي غيرهما : «تبعيض».

(٣) في (ظ) و (م) بدل «المظنونات» : «الموهومات» ، وفي (ل) و (ه) زيادة : «مطلقا».

(٤) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «في الموهومات المقابلة للظنّ الغير القويّ» : «في المظنونات بالظنّ الغير القويّ».

(٥) في (ظ) و (م) زيادة : «في كلّ منها».

٥٠٦

بالظنّ الغير القويّ في نفي التكليف ، فضلا (١) عن لزومه من الاحتياط في المشكوكات فقط بعد الموهومات ؛ وذلك لأنّ حصول الظنّ الاطمئنانيّ غير عزيز في الأخبار وغيرها.

أمّا في غيرها ؛ فلأنّه كثيرا ما يحصل الاطمئنان من الشهرة والإجماع المنقول والاستقراء والأولويّة.

وأمّا الأخبار ؛ فلأنّ الظنّ المبحوث عنه في هذا المقام هو الظنّ بصدور المتن ، وهو يحصل غالبا من خبر من يوثق بصدقه ـ ولو في خصوص الرواية ـ وإن لم يكن إماميّا أو ثقة على الإطلاق ؛ إذ ربما يتسامح في غير الروايات بما لا يتسامح فيها.

وأمّا احتمال الإرسال ، فمخالف لظاهر كلام الراوي ، وهو داخل في ظواهر الألفاظ ، فلا يعتبر فيها إفادة الظنّ فضلا عن الاطمئنانيّ منه ، فلو فرض عدم حصول الظنّ بالصدور لأجل عدم الظنّ بالإسناد ، لم يقدح في اعتبار ذلك الخبر ؛ لأنّ الجهة التي يعتبر فيها (٢) الظنّ الاطمئنانيّ هو جهة صدق الراوي في إخباره عمّن يروي عنه ، وأمّا أنّ إخباره بلا واسطة فهو ظهور لفظيّ لا بأس بعدم إفادته للظنّ ، فيكون صدور المتن غير مظنون أصلا ؛ لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

وبالجملة : فدعوى كثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار وغيرها

__________________

(١) في (ظ) و (م) بدل «بالظنّ الغير القويّ في نفي التكليف فضلا» : «بالظنّ القويّ فضلا».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «إفادة».

٥٠٧

من الأمارات ، بحيث لا يحتاج إلى ما دونها ، ولا يلزم من الرجوع في الموارد الخالية عنها إلى الاحتياط (١) محذور وإن كان هناك ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان ، قريبة جدّا. إلاّ أنّه يحتاج إلى مزيد تتبّع في الروايات وأحوال الرواة وفتاوى العلماء.

وكيف كان : فلا أرى الظنّ الاطمئناني الحاصل من الأخبار وغيرها من الأمارات أقلّ عددا من الأخبار المصحّحة بعدلين ، بل لعلّ هذا (٢) أكثر.

عدم الفرق في الظنّ الاطميناني بين الظنّ بالحكم أو الظنّ بالطريق

ثمّ إنّ الظنّ الاطمئناني من أمارة أو أمارات إذا تعلّقت (٣) بحجّية أمارة ظنّية كانت في حكم الاطمئنان وإن لم تفده ، بناء على ما تقدّم (٤) : من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق (٥) ، إلاّ أن يدّعي مدّع قلّتها بالنسبة إلى نفسه ؛ لعدم الاطمئنان له غالبا من الأمارات القويّة وعدم ثبوت حجّية أمارة بها أيضا ، وحينئذ فيتعيّن في حقّه التعدّي منه إلى مطلق الظنّ.

الإشكال في العمل بما يقتضيه الأصل في المشكوكات

وأمّا العمل في المشكوكات (٦) بما يقتضيه الأصل في المورد ، فلم يثبت ، بل اللازم بقاؤه على الاحتياط ؛ نظرا إلى كون المشكوكات

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها ونسخة بدلها بدل «الاحتياط» : «الاصول».

(٢) في النسخ : «هذه».

(٣) في (ر) و (ت) : «تعلّق».

(٤) راجع الصفحة ٤٣٧.

(٥) في (ظ) ، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) بدل «بالطريق» : «بالواقع».

(٦) في (ظ) ، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) : «المشكوك».

٥٠٨

من المحتملات التي يعلم إجمالا بتحقّق التكليف فيها وجوبا وتحريما. ولا عسر في الاحتياط فيها ؛ نظرا إلى قلّة المشكوكات ؛ لأنّ أغلب المسائل يحصل فيها الظنّ بأحد الطرفين ، كما لا يخفى.

مع أنّ الفرق بين الاحتياط في جميعها والعمل بالاصول الجارية في خصوص مواردها إنّما يظهر في الاصول المخالفة للاحتياط ، ولا ريب أنّ العسر لا يحدث بالاحتياط فيها ، خصوصا مع كون مقتضى الاحتياط في شبهة التحريم الترك ، وهو غير موجب للعسر.

وحينئذ : فلا يثبت المدّعى ، من حجّيّة الظنّ وكونه دليلا بحيث يرجع في موارد عدمه إلى الأصل ، بل يثبت عدم وجوب الاحتياط في المظنونات.

والحاصل : أنّ العمل بالظنّ من باب الاحتياط (١) لا يخرج المشكوكات عن حكم الاحتياط الكلّي الثابت بمقتضى العلم الإجماليّ في الوقائع.

نعم ، لو ثبت بحكم العقل أنّ الظنّ عند انسداد باب العلم مرجع في الأحكام الشرعيّة نفيا وإثباتا كالعلم ، انقلب التكليف إلى الظنّ ، وحكمنا بأنّ الشارع لا يريد إلاّ الامتثال الظنّيّ ، وحيث (٢) لا ظنّ ـ كما في المشكوكات ـ فالمرجع إلى الاصول الموجودة في خصوصيّات المقام ، فيكون كما لو انفتح باب العلم أو الظنّ الخاصّ ، فيصير لزوم العسر حكمة في عدم ملاحظة الشارع العلم الإجمالي في الامتثال بعد تعذّر

__________________

(١) في نسخة بدل (ص) بدل «الاحتياط» : «العسر».

(٢) في غير (ه) : «فحيث».

٥٠٩

التفصيليّ ، لا علّة حتّى يدور الحكم مدارها.

ولكنّ الإنصاف : أنّ المقدّمات المذكورة لا تنتج هذه النتيجة ، كما يظهر لمن راجعها وتأمّلها. نعم ، لو ثبت أنّ الاحتياط في المشكوكات يوجب العسر ثبتت (١) النتيجة المذكورة ، لكن عرفت (٢) فساد دعواه في الغاية ، كدعوى أنّ العلم الإجماليّ المقتضي للاحتياط الكلّي إنّما هو في موارد الأمارات دون المشكوكات ، فلا مقتضي فيها للعدول عمّا تقتضيه (٣) الاصول الخاصّة في مواردها ؛ فإنّ هذه الدعوى يكذّبها ثبوت العلم الإجماليّ بالتكليف الإلزاميّ قبل استقصاء الأمارات ، بل قبل الاطّلاع عليها ، وقد مرّ تضعيفه سابقا ، فتأمّل فيه ؛ فإنّ ادّعاء ذلك ليس كلّ البعيد.

الإشكال في الاصول اللفظيّة أيضا

ثمّ إنّ نظير هذا الإشكال الوارد في المشكوكات من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظنّ إلى الاصول العمليّة ، وارد فيها من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظنّ إلى الاصول اللفظيّة الجارية في ظواهر الكتاب والسنّة المتواترة والأخبار المتيقّن كونها ظنونا خاصّة.

توضيحه : أنّ من مقدّمات دليل الانسداد (٤) إثبات عدم جواز العمل بتلك (٥) الظواهر ؛ للعلم الإجماليّ بمخالفة ظواهرها في كثير من

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «تثبت».

(٢) راجع الصفحة ٤٢٣.

(٣) في غير (ظ) : «عمّا يقتضيه».

(٤) هنا زيادة «تقتضي» في طبعة جماعة المدرّسين.

(٥) في (ر) و (ص) : «بأكثر تلك».

٥١٠

الموارد ؛ فتصير مجملة لا تصلح للاستدلال.

فإذا فرضنا رجوع الأمر إلى ترك الاحتياط في المظنونات أو في المشكوكات أيضا ، وجواز العمل بالظنّ المخالف للاحتياط وبالأصل المخالف للاحتياط ؛ فما الذي أخرج تلك الظواهر عن الإجمال حتّى يصحّ الاستدلال بها (١) في المشكوكات ؛ إذ (٢) لم يثبت كون الظنّ مرجعا كالعلم ، بحيث يكفي في الرجوع (٣) إلى الظواهر عدم الظنّ بالمخالفة؟

مثلا : إذا أردنا التمسّك ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٤) لإثبات صحّة عقد انعقدت أمارة ـ كالشهرة أو الإجماع المنقول ـ على فساده ، قيل : لا يجوز التمسّك بعمومه ؛ للعلم الإجماليّ بخروج كثير من العقود عن هذا العموم لا نعلم تفصيلها.

ثمّ إذا ثبت وجوب العمل بالظنّ ـ من جهة عدم إمكان الاحتياط في بعض الموارد ، وكون الاحتياط في جميع موارد إمكانه مستلزما للحرج ـ ، فإذا شكّ في صحّة عقد لم يقم على حكمه أمارة ظنّية ، قيل : إنّ الواجب الرجوع إلى عموم الآية ، ولا يخفى أنّ إجمالها لا يرتفع بمجرّد حكم العقل بعدم وجوب الاحتياط فيما ظنّ فيه بعدم التكليف.

ودفع هذا ـ كالإشكال السابق ـ منحصر في أن يكون نتيجة دليل

__________________

(١) في غير (ظ) : «بها الاستدلال».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ) : «إذا».

(٣) في (ه) زيادة : «عملا».

(٤) المائدة : ١.

٥١١

الانسداد حجّيّة الظنّ كالعلم ، ليرتفع الإجمال في الظواهر ـ لقيامه في كثير من مواردها ـ من جهة ارتفاع العلم الإجماليّ ، كما لو علم تفصيلا بعض تلك الموارد بحيث لا يبقى علم إجمالا في الباقي.

أو يدّعى أنّ العلم الإجماليّ الحاصل في تلك الظواهر إنّما هو بملاحظة موارد الأمارات ، فلا يقدح في المشكوكات سواء ثبت حجّيّة الظنّ أم لا.

وأنت خبير : بأنّ دعوى النتيجة على الوجه المذكور يكذّبها مقدّمات دليل الانسداد.

ودعوى : اختصاص المعلوم إجمالا من مخالفة الظواهر بموارد الأمارات ، مضعّفة بأنّ هذا العلم حاصل بملاحظة (١) الأمارات ومواردها ، وقد تقدّم سابقا أنّ المعيار في دخول طائفة من المحتملات في أطراف العلم الإجماليّ ـ لنراعي فيها حكمه ـ وعدم دخولها ، هو تبديل طائفة من المحتملات ـ المعلوم لها دخل في العلم الإجماليّ ـ بهذه الطائفة المشكوك دخولها ، فإن حصل العلم الإجماليّ كانت من أطراف العلم ، وإلاّ فلا.

وقد يدفع الاشكالان : بدعوى قيام الإجماع بل الضرورة على أنّ المرجع في المشكوكات إلى العمل بالاصول اللفظيّة إن كانت ، وإلاّ فإلى الاصول العمليّة.

وفيه : أنّ هذا الإجماع مع ملاحظة الاصول في أنفسها ، وأمّا مع طروّ العلم الإجماليّ بمخالفتها في كثير من الموارد ـ غاية الكثرة ـ

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «من دون ملاحظة».

٥١٢

فالإجماع على سقوط العمل بالاصول مطلقا ، لا على ثبوته.

ثمّ إنّ هذا العلم الإجماليّ وإن كان حاصلا لكلّ أحد قبل تمييز (١) الأدلّة عن غيرها ، إلاّ أنّ من تعيّنت له الأدلّة وقام الدليل القطعيّ عنده على بعض الظنون عمل بمؤدّاها ، وصار المعلوم بالإجماع عنده معلوما بالتفصيل ، كما إذا قامت أمارة معتبرة كالبيّنة واليد على حرمة بعض (٢) القطيع الذي علم بحرمة كثير من شياهها ، فإنّه يعمل بمقتضى الأمارة ، ثمّ يرجع في مورد فقدها إلى أصالة الحلّ ؛ لأنّ المعلوم إجمالا صار معلوما بالتفصيل ، والحرام الزائد عليه غير معلوم التحقّق في أوّل الأمر.

وأمّا من لم يقم عنده الدليل (٣) على أمارة ، إلاّ أنّه ثبت له عدم وجوب الاحتياط ، والعمل بالأمارات لا من حيث إنّها أدلّة ، بل من حيث إنّها مخالفة للاحتياط وترك الاحتياط فيها موجب لاندفاع العسر ، فلا رافع (٤) لذلك العلم الإجماليّ لهذا الشخص بالنسبة إلى المشكوكات.

حاصل الكلام في المسألة

فعلم ممّا ذكرنا : أنّ مقدّمات دليل الانسداد على تقرير الحكومة وإن كانت تامّة في الإنتاج إلاّ أنّ نتيجتها لا تفي بالمقصود : من حجّية

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ه) : «تميّز».

(٢) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما بدل «قامت ـ إلى ـ بعض» : «نصب أمارة طريقا لتعيين المحرّمات في».

(٣) في (م) : «دليل».

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ظ) : «فلا دافع».

٥١٣

الظنّ وجعله كالعلم أو كالظنّ الخاصّ.

وأمّا على تقرير الكشف ، فالمستنتج منها وإن كان عين المقصود ، إلاّ أنّ الإشكال والنظر بل المنع في استنتاج تلك النتيجة.

فإن كنت تقدر على إثبات حجّيّة قسم من الخبر لا يلزم من الاقتصار عليه محذور ، كان أحسن ، وإلاّ فلا تتعدّ على تقرير الكشف عمّا (١) ذكرناه (٢) من المسلك في آخره ، وعلى تقدير الحكومة ما بيّنا هنا أيضا : من الاقتصار في مقابل الاحتياط على الظنّ الاطمئنانيّ بالحكم أو بطريقيّة أمارة دلّت على الحكم وإن لم تفد اطمئنانا بل ولا ظنّا ، بناء على ما عرفت من مسلكنا المتقدّم (٣) : من عدم الفرق بين الظنّ بالحكم والظنّ بالطريق.

وأمّا في ما لا يمكن الاحتياط ، فالمتّبع فيه ـ بناء على ما تقدّم (٤) في المقدّمات : من سقوط الاصول عن الاعتبار ؛ للعلم الإجماليّ بمخالفة الواقع فيها ـ هو مطلق الظنّ إن وجد ، وإلاّ فالتخيير.

وحاصل الأمر : عدم رفع اليد عن الاحتياط في الدين مهما أمكن إلاّ مع الاطمئنان بخلافه.

وعليك بمراجعة ما قدّمنا من الأمارات على حجّيّة الأخبار ، عساك تظفر فيها بأمارات توجب الاطمئنان بوجوب العمل بخبر الثقة

__________________

(١) في (ر) ، (ظ) و (م) بدل «عمّا» : «ما».

(٢) راجع الصفحة ٤٩٣.

(٣) راجع الصفحة ٤٣٧.

(٤) في الصفحة ٤٢٨.

٥١٤

عرفا إذا أفاد الظنّ وإن لم يفد الاطمئنان ، بل لعلّك تظفر فيها بخبر مصحّح بعدلين مطابق لعمل المشهور مفيد للاطمئنان يدلّ على حجّيّة المصحّح بواحد عدل ـ نظرا إلى حجّية قول الثقة المعدّل في تعديله ، فيصير بمنزلة المعدّل بعدلين ـ حتّى يكون المصحّح بعدل واحد متّبعا ؛ بناء على دليل الانسداد بكلا تقريريه ؛ لأنّ المفروض حصول الاطمئنان من الخبر القائم على حجّية قول الثقة (١) المستلزم لحجّية المصحّح بعدل واحد ؛ بناء على شمول دليل اعتبار خبر الثقة للتعديلات (٢) ، فيقضي به تقرير الحكومة ، وكون مثله متيقّن الاعتبار من بين الأمارات فيقضي به تقرير الكشف.

__________________

(١) لم ترد «الثقة» في (ه) ، وفي غير (ظ) و (م) زيادة : «المعدّل».

(٢) لم ترد عبارة «بناء ـ إلى ـ للتعديلات» في (ظ) و (م).

٥١٥

المقام الثالث (١)

عدم الإشكال في خروج الظنّ القياسي على الكشف

في أنّه إذا بني على تعميم الظنّ ، فإن كان التعميم على تقرير الكشف ، بأن يكون مقدّمات الانسداد كاشفة عن حكم الشارع بوجوب العمل بالظنّ في الجملة ثمّ تعميمه بأحد (٢) المعمّمات المتقدّمة ، فلا إشكال (٣) من جهة العلم بخروج القياس عن هذا العموم ؛ لعدم جريان المعمّم فيه بعد وجود الدليل على حرمة العمل به (٤) ، فيكون التعميم بالنسبة إلى ما عداه ، كما لا يخفى على من راجع المعمّمات المتقدّمة.

توجّه الإشكال على الحكومة

وأمّا على تقرير الحكومة ، بأن يكون مقدّمات الدليل موجبة لحكومة العقل بقبح إرادة الشارع ما عدا الظنّ وقبح اكتفاء المكلّف بما دونه (٥) ، فيشكل توجيه خروج القياس ، وكيف يجامع حكم العقل بكون الظنّ كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية ويقبح من الآمر والمأمور التعدّي عنه ، ومع ذلك يحصل الظنّ أو خصوص الاطمئنان من القياس ، ولا يجوّز الشارع العمل به؟ فإنّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل ـ من

__________________

(١) قد تقدّم الكلام في المقامين الأوّلين في الصفحة ٤٦٤ و ٤٧١.

(٢) في (ل) و (ه) : «بإحدى».

(٣) في (ص) زيادة : «أصلا» ، وفي (ت) ، (ظ) ، (م) و (ه) زيادة : «أيضا».

(٤) لم ترد «به» في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «على ما دونه».

٥١٦

الظنّ أو خصوص الاطمئنان ـ لو فرض ممكنا جرى في غير القياس ، فلا يكون العقل مستقلا ؛ إذ لعلّه نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس بل وأزيد ، واختفى علينا.

ولا رافع (١) لهذا الاحتمال إلاّ قبح ذلك على الشارع ؛ إذ احتمال صدور الممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلاّ بقبحه. وهذا من أفراد ما اشتهر : من أنّ الدليل العقليّ لا يقبل التخصيص ، ومنشؤه لزوم التناقض.

ولا يندفع إلاّ بكون الفرد الخارج عن الحكم خارجا عن الموضوع وهو التخصّص. وعدم التناقض في تخصيص العمومات اللفظيّة إنّما هو لكون العموم صوريّا ، فلا يلزم إلاّ التناقض الصوريّ.

ثمّ إنّ الإشكال هنا في مقامين :

١ ـ خروج الظنّ القياسي عن حجيّة مطلق الظنّ

الإشكال في مقامين

أحدهما : في خروج مثل القياس وأمثاله ممّا نقطع بعدم اعتباره. الثاني : في حكم الظنّ الذي قام على عدم اعتباره ظنّ آخر ؛ حيث إنّ الظنّ المانع والممنوع متساويان في الدخول تحت دليل الانسداد ولا يجوز العمل بهما ، فهل يطرحان أو يرجّح المانع أو الممنوع منه أو يرجع إلى الترجيح؟ وجوه بل أقوال.

أمّا المقام الأوّل ، فقد قيل في توجيهه امور :

ما قيل في توجيه خروج القياس

الأوّل : ما مال إليه أو قال به بعض (٢) : من منع حرمة العمل

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «لا دافع».

(٢) هو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٩ ، و ٢ : ١١٣.

٥١٧

بالقياس في أمثال زماننا ، وتوجيهه بتوضيح منّا :

١ ـ منع حرمة العمل بالقياس في زمان الانسداد

أنّ الدليل على الحرمة : إن كان هي الأخبار المتواترة معنى في الحرمة (١) ، فلا ريب أنّ بعض تلك الأخبار في مقابلة معاصري الأئمّة صلوات الله عليهم من العامّة التاركين للثقلين (٢) ، حيث تركوا الثقل الأصغر الذي عنده علم الثقل الأكبر ، ورجعوا إلى اجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا واستحسنوا وضلّوا وأضلّوا ، وإليهم أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيان من يأتي من بعده من الأقوام ، فقال : «برهة يعملون بالقياس» (٣) ، والأمير صلوات الله عليه بما معناه : «إنّ قوما تفلّتت عنهم الأحاديث أن يحفظوها وأعوزتهم النصوص أن يعوها ، فتمسّكوا بآرائهم ... إلى آخر الرواية» (٤).

وبعض منها : إنّما (٥) يدلّ على الحرمة من حيث إنّه ظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.

وبعض منها : يدلّ على الحرمة من حيث استلزامه لإبطال الدين ومحق السنّة ؛ لاستلزامه الوقوع غالبا في خلاف الواقع (٦).

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، ٣ ، ٤ ، ١٠ ، ١١ ، ١٥ ، ١٨ ، ٢٠ وغيرها.

(٢) نفس المصدر ، الحديث ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٢٤ وغيرها.

(٣) البحار ٢ : ٣٠٨ ، الحديث ٦٨.

(٤) البحار ٢ : ٨٤ ، الحديث ٩ ، مع تفاوت.

(٥) لم ترد «إنّما» في (ت) ، (ظ) و (ل).

(٦) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

٥١٨

وبعض منها : يدلّ على الحرمة ووجوب التوقّف إذا لم يوجد ما عداه (١) ، ولازمه الاختصاص بصورة التمكّن من إزالة التوقّف لأجل العمل بالرجوع إلى أئمّة الهدى عليهم‌السلام ، أو بصورة ما إذا كانت المسألة من غير العمليّات ، أو نحو ذلك.

ولا يخفى : أنّ شيئا من الأخبار الواردة على أحد هذه الوجوه المتقدّمة ، لا يدلّ على حرمة العمل بالقياس الكاشف عن صدور الحكم عموما أو خصوصا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد امنائه صلوات الله عليهم أجمعين ، مع عدم التمكّن من تحصيل العلم به ولا الطريق الشرعيّ ، ودوران الأمر بين العمل بما يظنّ أنّه صدر منهم عليهم‌السلام والعمل بما يظنّ أنّ خلافه صدر منهم ، كمقتضى الاصول المخالفة للقياس في موارده أو الأمارات (٢) المعارضة له. وما ذكرنا واضح على من راعى الإنصاف وجانب الاعتساف.

وإن كان الدليل هو الإجماع ، بل الضرورة عند علماء المذهب كما ادّعي (٣) ، فنقول : إنّه كذلك ، إلاّ أنّ دعوى الإجماع والضرورة على الحرمة في كلّ زمان ممنوعة.

ألا ترى : أنّه لو فرض ـ والعياذ بالله ـ انسداد باب الظنّ من الطرق السمعيّة لعامّة المكلّفين أو لمكلّف واحد باعتبار ما سنح له من البعد عن بلاد الإسلام ، فهل تقول : إنّه يحرم عليه العمل بما يظنّ

__________________

(١) نفس المصدر ، الحديث ٤٩.

(٢) في (ظ) و (م) : «أو الأمارة» ، وفي (ر) ، (ص) : «والأمارة».

(٣) انظر القوانين ١ : ٤٤٩ ، ومفاتيح الاصول : ٦٦٣ ـ ٦٦٤.

٥١٩

بواسطة القياس أنّه الحكم الشرعيّ المتداول بين المتشرّعة ، وأنّه مخيّر بين العمل به والعمل بما يقابله من الاحتمال الموهوم ، ثمّ تدّعي الضرورة على ما ادّعيته من الحرمة؟ حاشاك!

ودعوى : الفرق بين زماننا هذا وزمان انطماس جميع الأمارات السمعيّة ممنوعة ؛ لأنّ المفروض أنّ الأمارات السمعيّة الموجودة بأيدينا لم تثبت كونها مقدّمة (١) في نظر الشارع على القياس ؛ لأنّ تقدّمها : إن كان لخصوصيّة فيها ، فالمفروض بعد انسداد باب الظنّ الخاصّ عدم ثبوت خصوصيّة فيها ، واحتمالها بل ظنّها لا يجدي ، بل نفرض الكلام فيما إذا قطعنا بأنّ الشارع لم ينصب تلك الأمارات (٢) بالخصوص.

وإن كان لخصوصيّة في القياس أوجبت كونه دونها في المرتبة ، فليس الكلام إلاّ في ذلك.

وكيف كان ، فدعوى الإجماع والضرورة في ذلك في الجملة مسلّمة ، وأمّا كلّيّة فلا. وهذه الدعوى ليست بأولى من دعوى السيّد ضرورة المذهب على حرمة العمل بأخبار الآحاد (٣).

المناقشة في هذا الوجه

لكنّ الإنصاف : أنّ إطلاق بعض الأخبار وجميع معاقد الإجماعات يوجب الظنّ المتاخم للعلم بل العلم بأنّه ليس ممّا يركن إليه في الدين مع وجود الأمارات السمعيّة ، فهو حينئذ ممّا قام الدليل على عدم حجّيّته ، بل العمل بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح ـ كما هو

__________________

(١) في (ر) و (م) : «متقدّمة».

(٢) في غير (ر) و (ص) : «الأمارة».

(٣) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤.

٥٢٠