فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

الأقرب إلى الواقع ، فإذا فرضنا أنّ مشكوك الاعتبار يحصل منه ظنّ بالواقع أقوى ممّا يحصل من الظنّ المظنون الاعتبار ، كان الأوّل أولى بالحجّيّة في نظر العقل ؛ ولذا قال صاحب المعالم : إنّ العقل قاض بأنّ الظنّ إذا كان له جهات متعدّدة متفاوتة بالقوّة والضعف ، فالعدول عن القويّ منها إلى الضعيف قبيح (١) ، انتهى.

نعم ، لو كان قيام الظنّ على حجّيّة بعضها ممّا يوجب قوّتها في نظر العقل ـ لأنّها جامعة لإدراك الواقع أو بدله على سبيل الظنّ ، بخلافه ـ رجع الترجيح به إلى ما ذكرنا سابقا ، وذكرنا ما فيه.

وحاصل الكلام يرجع إلى : أنّ الظنّ بالاعتبار إنّما يكون صارفا للقضيّة إلى ما قام عليه من الظنون إذا حصل القطع بحجّيّته في تعيين الاحتمالات ، أو صار موجبا لكون الإطاعة بمقتضاها أتمّ ؛ لجمعها بين الظنّ بالواقع والظنّ بالبدل. والأوّل موقوف على حجّيّة مطلق الظنّ. والثاني لا اطّراد له ؛ لأنّه قد يعارضها قوّة المشكوك الاعتبار.

وربما التزم بالأوّل بعض من أنكر حجّيّة مطلق الظنّ (٢) ، وأورده إلزاما على العاملين (٣) بمطلق الظنّ ، فقال :

كلام الفاضل النراقي إلزاماً على القائلين بحجيّة مطلق الظنّ

«كما يقولون يجب علينا في كلّ واقعة البناء على حكم ؛ ولعدم كونه معلوما يجب في تعيينه العمل بالظنّ ، فكذا نقول : بعد ما وجب علينا العمل بالظنّ ولم نعلم تعيينه ، يجب علينا في تعيين هذا الظنّ

__________________

(١) المعالم : ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) هو الفاضل النراقي قدس‌سره.

(٣) كذا في (ظ) ، (م) ونسخة بدل (ت) ، وفي غيرها : «القائلين».

٤٨١

العمل بالظنّ.

ثمّ اعترض على نفسه بما حاصله : أنّ وجوب العمل بمظنون الحجّيّة لا ينفي غيره.

فقال : قلنا : نعم ، ولكن لا يكون حينئذ دليل على حجّيّة ظنّ آخر ؛ إذ بعد ثبوت حجّيّة الظنّ المظنون الحجّيّة ينفتح باب الأحكام ولا يجري دليلك فيه ويبقى تحت أصالة عدم الحجّية» (١).

المناقشة في كلام الفاضل النراقي

وفيه : أنّه إذا التزم باقتضاء مقدّمات الانسداد مع فرض عدم المرجّح العمل بمطلق الظنّ في الفروع ، دخل الظنّ المشكوك الاعتبار وموهومه ، فلا مورد للترجيح والتعيين حتّى يعيّن بمطلق الظنّ ؛ لأنّ الحاجة إلى التعيين بمطلق الظنّ فرع عدم العمل بمطلق الظنّ.

وبعبارة اخرى : إمّا أن يكون مطلق الظنّ حجّة وإمّا لا ، فعلى الأوّل لا مورد للتعيين والترجيح ، وعلى الثاني لا يجوز الترجيح بمطلق الظنّ ، فالترجيح بمطلق الظنّ ساقط على كلّ تقدير.

وليس للمعترض القلب : بأنّه إن ثبت حجّية مطلق الظنّ تعيّن ترجيح مظنون الاعتبار به ؛ إذ على تقدير ثبوت حجّيّة مطلق الظنّ لا يتعقّل ترجيح حتّى يتعيّن الترجيح بمطلق الظنّ.

ثمّ إنّ لهذا المعترض (٢) كلاما في ترجيح مظنون الاعتبار بمطلق الظنّ ، لا من حيث حجّية مطلق الظنّ حتّى يقال : إنّ بعد ثبوتها لا مورد للترجيح ، لا بأس بالإشارة إليه وإلى ما وقع من الخلط

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٢) أي : الفاضل النراقي.

٤٨٢

والغفلة منه في المراد بالترجيح هنا. فقال معترضا على القائل بما قدّمنا ـ من أنّ ترجيح أحد المحتملين عين تعيينه بالاستدلال ـ بقوله :

كلامّ آخر للفاضل النراقي في ترجيح مظنون الاعتبار بمطلق الظنّ

إنّ هذا القائل خلط بين ترجيح الشيء وتعيينه ولم يعرف الفرق بينهما ، ولبيان هذا المطلب نقدّم مقدّمة ، ثمّ نجيب عن كلامه ، وهي :

أنّه لا ريب في بطلان الترجيح بلا مرجّح ؛ فإنّه ممّا يحكم بقبحه العقل والعرف والعادة ، بل يقولون بامتناعه الذاتيّ كالترجّح بلا مرجّح ، والمراد بالترجيح بلا مرجّح هو سكون النفس إلى أحد الطرفين والميل إليه من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوبا ، وأمّا الحكم بذلك فهو أمر آخر وراء ذلك. ثمّ أوضح ذلك بأمثلة :

منها : أنّه لو دار أمر العبد في أحكام السلطان المرسلة إليه بين امور ، وكان بعضها مظنونا بظنّ لم يعلم حجّيّته من طرف السلطان ، صحّ له ترجيح المظنون ، ولا يجوز له الحكم بلزوم ذلك.

ومنها : أنّه لو اقدم (١) إلى (٢) أحد طعامان أحدهما ألذّ من الآخر فاختاره عليه ، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح ، وإن لم يلزم أكل الألذّ ، ولكن لو حكم بلزوم الأكل لا بدّ من تحقّق دليل عليه ، ولا يكفي مجرّد الألذّيّة. نعم لو كان أحدهما مضرّا صحّ الحكم باللزوم.

ثمّ قال :

وبالجملة : فالحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح ، فالمرجّح غير الدليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل ، والثاني يكون في مقام

__________________

(١) كذا في النسخ ، والأنسب : «قدّم».

(٢) في (ه) : «على».

٤٨٣

التصديق والحكم.

ثمّ قال :

أن ليس المراد أنّه يجب العمل بالظنّ المظنون حجّيّته وأنّه الذي يجب العمل به بعد انسداد باب العلم ، بل مراده : أنّه بعد ما وجب على المكلّف ـ لانسداد باب العلم وبقاء التكليف ـ العمل بالظنّ ، ولا يعلم أيّ ظنّ ، لو عمل بالظنّ المظنون حجّيّته أيّ نقص يلزم عليه؟

فإن قلت : ترجيح بلا مرجّح ، فقد غلطت غلطا ظاهرا ، وإن كان غيره ، فبيّنه حتّى ننظر (١) ، انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى أنّه ليس المراد من أصل دليل الانسداد إلاّ وجوب العمل بالظنّ ، فإذا فرض أنّ هذا الواجب تردّد بين ظنون ، فلا غرض إلاّ في تعيينه بحيث يحكم بأنّ هذا هو الذي يجب العمل به شرعا ، حتّى يبني المجتهد عليه في مقام العمل ويلتزم بمؤدّاه على أنّه حكم شرعيّ عزميّ (٢) من الشارع. وأمّا دواعي ارتكاب بعض الظنون دون بعض فهي مختلفة غير منضبطة : فقد يكون الداعي إلى الاختيار موجودا في موهوم الاعتبار لغرض من الأغراض ، وقد يكون في مظنون الاعتبار.

فليس الكلام إلاّ في أنّ الظنّ بحجّيّة بعض الظنون هل يوجب الأخذ بذلك الظنّ شرعا ، بحيث يكون الآخذ بغيره لداع من الدواعي معاقبا

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٢) لم ترد «عزميّ» في (ت) ، (ر) ، (ل) ، وورد بدلها في (ت) : «عرفي وجوبي» ، وفي (ل) : «جزمي».

٤٨٤

عند الله في ترك ما هو وظيفته من سلوك الطريق؟ وبعبارة اخرى : هل يجوز شرعا أن يعمل المجتهد بغير مظنون الاعتبار ، أم لا يجوز؟ إن قلت : لا يجوز شرعا.

قلنا : فما الدليل الشرعيّ بعد جواز العمل بالظنّ في الجملة على أنّ تلك المهملة غير هذه الجزئيّة؟

وإن قلت : يجوز (١) ، لكن بدلا عن مظنون الاعتبار لا جمعا بينهما ، فهذا هو التخيير الذي التزم المعمّم ببطلانه.

وإن قلت يجوز جمعا بينهما ، فهذا هو مطلب المعمّم.

فليس المراد بالمرجّح ما يكون داعيا إلى إرادة أحد الطرفين ، بل المراد : ما يكون دليلا على حكم الشارع ، ومن المعلوم أنّ هذا الحكم الوجوبيّ لا يكون إلاّ عن حجّة شرعيّة ، فلو كان هي مجرّد الظنّ بوجوب العمل بذلك البعض فقد لزم العمل بمطلق الظنّ عند اشتباه الحكم الشرعيّ ، فإذا جاز ذلك في هذا المقام لم لا يجوز في سائر المقامات؟ فلم قلتم : إنّ نتيجة دليل الانسداد حجّيّة الظنّ في الجملة؟

وبعبارة اخرى : لو اقتضى انسداد باب العلم في الأحكام تعيين الأحكام المجهولة بمطلق الظنّ ، فلم منعتم إفادة ذلك الدليل إلاّ لإثبات حجّيّة الظنّ في الجملة؟ وإن اقتضى تعيين الأحكام بالظنّ في الجملة ، لم يوجب انسداد باب العلم في تعيين الظنّ في الجملة ـ الذي وجب العمل به بمقتضى الانسداد ـ العمل في تعيينه بمطلق الظنّ.

وحاصل الكلام : أنّ المراد من المرجّح هنا هو المعيّن والدليل

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «ذلك».

٤٨٥

الملزم من جانب الشارع ليس إلاّ ، فإن كان في المقام شيء غير الظنّ فليذكر ، وإن كان مجرّد الظنّ فلم تثبت حجّيّة مطلق الظنّ.

فثبت من جميع ذلك : أنّ الكلام ليس في المرجّح للفعل ، بل المطلوب المرجّح للحكم بأنّ الشارع أوجب بعد الانسداد العمل بهذا دون ذاك.

وممّا ذكرنا يظهر ما في آخر كلام البعض المتقدّم ذكره (١) في توضيح مطلبه : من أنّ كون المرجّح ظنّا لا يقتضي كون الترجيح ظنّيا.

فإنّا نقول : إنّ كون المرجّح قطعيّا لا يقتضي ذلك ، بل إن قام دليل على اعتبار ذلك المرجّح شرعا (٢) كان الترجيح به قطعيّا ، وإلاّ فليس ظنّيّا أيضا.

ثمّ إنّ ما ذكره الأخير في مقدّمته : من أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح بل محال ، يظهر منه خلط بين الترجيح بلا مرجّح في الإيجاد والتكوين ، وبينه في مقام الإلزام والتكليف ؛ فإنّ الأوّل محال لا قبيح ، والثاني قبيح لا محال ؛ فالإضراب في كلامه عن القبح إلى الاستحالة لا مورد له ، فافهم.

عدم صحّة تعيين بعض الظنون لأجل الظنّ بعدم حجّية ما سواه

فثبت ممّا ذكرنا : أنّ تعيين الظنّ في الجملة من بين الظنون بالظنّ غير مستقيم.

وفي حكمه : ما لو عيّن بعض الظنون لأجل الظنّ بعدم حجّية ما

__________________

(١) أي الشيخ محمّد تقي ، وقد تقدّم كلامه في الصفحة ٤٧٩.

(٢) لم ترد «شرعا» في (ظ).

٤٨٦

سواه ، كالأولويّة والاستقراء بل الشهرة ؛ حيث إنّ المشهور على عدم اعتبارها ، بل لا يبعد دخول الأوّلين تحت القياس المنهيّ عنه ، بل النهي عن العمل بالاولى منهما وارد في قضيّة «أبان» المتضمّنة لحكم دية أصابع المرأة (١) ؛ فإنّه يظنّ بذلك : أنّ الظنّ المعتبر بحكم الانسداد في ما عدا هذه الثلاثة.

وقد ظهر ضعف ذلك ممّا ذكرنا : من عدم استقامة تعيين القضيّة المهملة بالظنّ.

ونزيد هنا : أنّ دعوى حصول الظنّ على عدم اعتبار هذه الامور ممنوعة ؛ لأنّ مستند الشهرة على عدم اعتبارها ليس إلاّ عدم الدليل عند المشهور على اعتبارها ، فيبقى تحت الأصل ـ لا لكونها منهيّا عنها بالخصوص كالقياس ـ ومثل هذه الشهرة المستندة إلى الأصل لا يوجب الظنّ بالواقع.

وأمّا دعوى كون الأوّلين قياسا ، فنكذّبه بعمل غير واحد من أصحابنا (٢) عليهما ، بل الأولويّة قد عمل بها غير واحد من أهل الظنون الخاصّة في بعض الموارد (٣).

__________________

(١) تقدّم الحديث في الصفحة ٦٣.

(٢) الزبدة : ٧٤ ، والحدائق ١ : ٦٠ ، وانظر مفاتيح الاصول : ٤٨٠ ، ٥٢٦ ـ ٥٢٧ ، و ٦٦٧ ـ ٦٧١.

(٣) كالشهيد الثاني في المسالك ١ : ٣١٠ ، و ٢ : ١٠٤ ، ١٦٩ و ١٨٢ ، وكولده صاحب المعالم في فقه المعالم : ٤٠٣ ، كما ستأتي الإشارة إليه في مبحث الاستصحاب ٣ : ٢٩٩.

٤٨٧

ومنه يظهر : الوهن في دلالة قضيّة «أبان» على حرمة العمل عليها بالخصوص ، فلا يبقى ظنّ من الرواية بحرمة العمل عليها بالخصوص.

ولو فرض ذلك : دخل الأولويّة في ما قام الدليل على عدم اعتباره ؛ لأنّ الظنّ الحاصل من رواية «أبان» متيقّن الاعتبار بالنسبة إلى الأولويّة ؛ فحجّيّتها مع عدم حجّيّة الخبر الدالّ على المنع عنها غير محتملة ، فتأمّل.

صحّة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ في مواضع

ثمّ بعد ما عرفت : من عدم استقامة تعيين القضيّة المهملة بمطلق الظنّ ، فاعلم : أنّه قد يصحّ تعيينها بالظنّ في مواضع :

أحدها : أن يكون الظنّ القائم على حجّيّة بعض الظنون من المتيقّن اعتباره بعد الانسداد ، إمّا مطلقا كما إذا قام فرد من الخبر الصحيح المتيقّن (١) اعتباره من بين سائر الأخبار وسائر الأمارات على حجّيّة بعض ما دونه ، فإنّه يصير حينئذ متيقّن الاعتبار ؛ لأجل قيام الظنّ المتيقّن الاعتبار على اعتباره.

وإمّا بالإضافة إلى ما قام على اعتباره إذا ثبت حجّيّة ذلك الظنّ القائم ، كما لو قام الإجماع المنقول على حجّيّة الاستقراء مثلا ؛ فإنّه يصير بعد إثبات حجّيّة الإجماع المنقول ببعض (٢) الوجوه ظنّا معتبرا.

ويلحق (٣) به ما هو متيقّن بالنسبة إليه ، كالشهرة إذا كانت متيقّنة

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «متيقّن».

(٢) في (ل) : «على بعض».

(٣) في (ظ) ، (م) ، و (ه) : «والحق».

٤٨٨

الاعتبار بالنسبة إلى الاستقراء بحيث لا يحتمل اعتباره دونها (١).

لكن ، هذا مبنيّ على عدم الفرق في حجّيّة الظنّ بين كونه في المسائل الفروعيّة وكونه في المسائل الاصوليّة ؛ وإلاّ فلو قلنا : إنّ الظنّ في الجملة الذي قضى به مقدّمات (٢) الانسداد ، إنّما هو المتعلّق بالمسائل الفرعيّة دون غيرها ، فالقدر المتيقّن إنّما هو متيقّن بالنسبة إلى الفروع ، لا غير.

وما ذكرنا سابقا (٣) : من عدم الفرق بين تعلّق الظنّ بنفس الحكم الفرعيّ وبين تعلّقه بما جعل طريقا إليه ، إنّما هو بناء على ما هو التحقيق من تقرير مقدّمات الانسداد على وجه يوجب حكومة العقل دون كشفه عن جعل الشارع ، والقدر المتيقّن مبنيّ على الكشف ، كما سيجيء (٤).

إلاّ أن يدّعى : أنّ القدر المتيقّن في الفروع هو متيقّن في المسائل الاصوليّة أيضا (٥).

__________________

(١) لم ترد عبارة «وإمّا بالإضافة ـ إلى ـ اعتباره دونها» هنا في (ر) ، (ظ) ، (م) و (ه) ، وشطب عليها في (ل) ، نعم كتبت هنا في هامش (ه).

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «دليل».

(٣) راجع الصفحة ٤٣٧.

(٤) انظر الصفحة ٤٩١.

(٥) لم ترد عبارة «إلاّ أن ـ إلى ـ أيضا» في (ظ) و (م) ، وفي (ر) ، (ظ) ، (م) و (ه) هنا زيادة : «وإمّا بالاضافة ـ إلى ـ اعتباره دونها» التي تقدّمت في الصفحة السابقة.

٤٨٩

الموضع الثاني

الثاني : أن يكون الظنّ القائم على حجّيّة ظنّ متّحدا لا تعدّد فيه ، كما إذا كان مظنون الاعتبار منحصرا فيما قامت أمارة واحدة على حجّيّته ، فإنّه يعمل به في تعيين المتّبع وإن كان أضعف الظنون ؛ لأنّه إذا انسدّ باب العلم في مسألة تعيين ما هو المتّبع بعد الانسداد ولم يجز الرجوع فيها إلى الاصول حتّى الاحتياط كما سيجيء (١) ، تعيّن الرجوع إلى الظنّ الموجود في المسألة فيؤخذ به ؛ لما عرفت (٢) : من أنّ كلّ مسألة انسدّ فيها باب العلم وفرض عدم صحّة الرجوع فيها إلى مقتضى الاصول ، تعيّن ـ بحكم العقل ـ العمل بأيّ ظنّ وجد في تلك المسألة.

الموضع الثالث

الثالث : أن يتعدّد الظنون في مسألة تعيين المتّبع بعد الانسداد بحيث يقوم كلّ واحد منها على اعتبار طائفة من الأمارات كافية في الفقه ، لكن يكون هذه الظنون القائمة ـ كلّها ـ في مرتبة لا يكون اعتبار بعضها مظنونا ، فحينئذ : إذا وجب ـ بحكم مقدّمات (٣) الانسداد في مسألة تعيين المتّبع ـ الرجوع فيها إلى الظنّ في الجملة ، والمفروض تساوي الظنون الموجودة في تلك المسألة وعدم المرجّح لبعضها ، وجب الأخذ بالكلّ بعد بطلان التخيير بالإجماع وتعسّر ضبط البعض الذي لا يلزم العسر من الاحتياط فيه (٤).

وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن بناء على الكشف

ثمّ على تقدير صحّة تقرير دليل الانسداد على وجه الكشف ،

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٠٤.

(٢) راجع الصفحة ٤٣٥.

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «دليل».

(٤) لم ترد عبارة «بعد بطلان ـ إلى ـ الاحتياط فيه» في (ظ) و (م).

٤٩٠

فالذي ينبغي أن يقال (١) : إنّ اللازم على هذا ـ أوّلا ـ هو الاقتصار على المتيقّن من الظنون.

وهل يلحق به كلّ ما قام المتيقّن على اعتباره؟ وجهان : أقواهما العدم كما تقدّم ؛ إذ بناء على هذا التقرير لا نسلّم (٢) كشف العقل بواسطة مقدّمات الانسداد إلاّ عن اعتبار الظنّ في الجملة في الفروع دون الاصول ، والظنّ بحجّيّة الأمارة الفلانيّة ظنّ بالمسألة الاصوليّة.

نعم ، مقتضى تقرير الدليل على وجه حكومة العقل : أنّه لا فرق بين تعلّق الظنّ بالحكم الفرعيّ أو بحجّيّة طريق.

لو لم يكن القدر المتيقّن كافيا

ثمّ إن كان القدر المتيقّن كافيا في الفقه ـ بمعنى أنّه لا يلزم من العمل بالاصول في مجاريها المحذور اللازم على تقدير الاقتصار على المعلومات ـ فهو ، وإلاّ فالواجب الأخذ بما هو المتيقّن من الأمارات الباقية الثابتة (٣) بالنسبة إلى غيرها ، فإن كفى في الفقه بالمعنى الذي ذكرنا فهو ، وإلاّ فيؤخذ بما هو المتيقّن بالنسبة ، وهكذا.

ثمّ لو فرضنا عدم القدر المتيقّن بين الأمارات أو عدم كفاية ما هو (٤) المتيقّن مطلقا أو بالنسبة : فإن لم يكن على شيء منها أمارة فاللازم الأخذ بالكلّ ؛ لبطلان التخيير بالإجماع وبطلان طرح الكلّ

__________________

(١) وردت عبارة «فالذي ينبغي أن يقال» مقدّمة على «تقدير ...» في غير (ظ) و (م) ، ولم ترد في تلك النسخ «ثمّ».

(٢) في (ظ) و (م) : «لا يسلم».

(٣) لم ترد «الثابتة» في (ت) و (ه).

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «القدر».

٤٩١

بالفرض وفقد المرجّح ، فتعيّن الجمع (١).

وإن قام على بعضها أمارة : فإن كانت أمارة واحدة ـ كما إذا قامت الشهرة على حجّيّة جملة من الأمارات ـ كان اللازم الأخذ بها ؛ لتعيين (٢) الرجوع إلى الشهرة في تعيين المتّبع من بين الظنون.

وإن كانت أمارات متعدّدة قامت كلّ واحدة منها على حجّيّة ظنّ مع الحاجة إلى جميع تلك الظنون في الفقه وعدم كفاية بعضها ، عمل بها. ولا فرق حينئذ بين تساوي تلك الأمارات القائمة من حيث الظنّ بالاعتبار والعدم ، وبين تفاوتها في ذلك.

وأمّا لو قامت كلّ واحدة منها على مقدار من الأمارات كاف في الفقه : فإن لم تتفاوت الأمارات القائمة في الظنّ بالاعتبار ، وجب الأخذ بالكلّ ـ كالأمارة الواحدة ـ ؛ لفقد المرجّح. وإن تفاوتت ، فما قام متيقّن الاعتبار ومظنون الاعتبار على اعتباره يصير معيّنا (٣) ، كما إذا قام الإجماع المنقول ـ بناء على كونه مظنون الاعتبار ـ على حجّيّة أمارة غير مظنون الاعتبار ، وقامت تلك الأمارة ، فإنّها تتعيّن (٤) بذلك.

هذا كلّه على تقدير كون دليل الانسداد كاشفا.

وأمّا على ما هو المختار من كونه حاكما ، فسيجيء الكلام فيه (٥)

__________________

(١) في (ر) و (ل) : «الجميع».

(٢) في (ر) : «لتعيّن».

(٣) في (ظ) زيادة : «بعده» ، وفي (ل) ، (م) و (ه) زيادة : «لغيره».

(٤) في (ظ) : «تعيّن».

(٥) انظر الصفحة ٥٠٢.

٤٩٢

بعد الفراغ عن المعمّمات التي ذكروها لتعميم النتيجة إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك : فاللازم على المجتهد أن يتأمّل في الأمارات ، حتّى يعرف المتيقّن منها حقيقة أو بالإضافة إلى غيره (١) ، ويحصّل ما يمكن تحصيله من الأمارات القائمة على حجّية تلك الأمارات ، ويميّز بين تلك الأمارات القائمة من حيث التساوي والتفاوت من حيث الظنّ بحجّية بعضها من أمارة اخرى ، ويعرف كفاية ما أحرز اعتباره من تلك الأمارات وعدم كفايته في الفقه.

وهذا يحتاج إلى سير مسائل الفقه إجمالا ، حتّى يعرف أنّ القدر المتيقّن من الأخبار لا يكفي مثلا في الفقه ، بحيث يرجع في موارد خلت عن هذا الخبر إلى الاصول التي يقتضيها الجهل بالحكم في ذلك المورد ، وأنّه إذا انضمّ إليه قسم آخر من الخبر ـ لكونه متيقّنا إضافيّا ، أو لكونه مظنون الاعتبار بظنّ متّبع ـ هل يكفي أم لا؟ فليس له الفتوى على وجه يوجب طرح سائر الظنون حتّى يعرف كفاية ما أحرزه من جهة اليقين أو الظنّ المتّبع. وفّقنا الله للاجتهاد الذي هو أشدّ من طول الجهاد ، بحقّ محمّد وآله الأمجاد.

الطريق الثاني للتعميم : عدم كفاية الظنون المعتبرة

الثاني من طرق التعميم : ما سلكه غير واحد من المعاصرين (٢) : من عدم الكفاية ؛ حيث اعترفوا ـ بعد تقسيم الظنون إلى مظنون

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) : «غيرها».

(٢) انظر الفصول : ٢٧٨ ، وهداية المسترشدين : ٤٠٢.

٤٩٣

الاعتبار ومشكوكه وموهومه ـ بأنّ مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة الاقتصار على مظنون الاعتبار ، ثمّ على المشكوك ، ثمّ يتسرّى إلى الموهوم.

لكنّ الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ، إمّا بأنفسها ؛ بناء على انحصارها في الأخبار الصحيحة بتزكية عدلين. وإمّا لأجل العلم الإجماليّ بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة (١) منها ووجود ما يظنّ منه ذلك في الظنون المشكوكة الاعتبار ، فلا يجوز التمسّك بتلك الظواهر ؛ للعلم الإجماليّ المذكور ، فيكون حالها حال ظاهر الكتاب والسنّة المتواترة في عدم الوفاء بمعظم الأحكام.

فلا بدّ من التسرّي ـ بمقتضى قاعدة الانسداد ولزوم المحذور من الرجوع إلى الاصول ـ إلى الظنون المشكوكة الاعتبار التي دلّت على إرادة خلاف الظاهر في ظواهر مظنون الاعتبار ، فيعمل بما هو ـ من مشكوك الاعتبار ـ مخصّص لعمومات مظنون الاعتبار ومقيّد لإطلاقاته وقرائن لمجازاته.

فإذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ثبت وجوب العمل بغيرها (٢) ممّا ليس فيها معارضة لظواهر الأمارات المظنونة الاعتبار ، بالإجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار ؛ فإنّ أحدا لم يفرّق بين الخبر الحسن المعارض لإطلاق الصحيح ، وبين خبر حسن آخر غير معارض لخبر صحيح ، بل بالأولويّة القطعيّة ؛ لأنّه إذا

__________________

(١) ورد في (ص) بدل «الظاهرة» : «المرادة».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «لغيرها».

٤٩٤

وجب العمل بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعمل بما ليس له معارض أولى.

ثمّ نقول : إنّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يعلم إجمالا بعدم إرادة المعاني الظاهرة ، والكاشف عن ذلك ـ ظنّا ـ هي الأمارات الموهومة الاعتبار ، فنعمل بتلك الأمارات ، ثمّ نعمل بباقي أفراد الموهوم الاعتبار بالإجماع المركّب ؛ حيث إنّ أحدا لم يفرّق بين الشهرة المعارضة للخبر الحسن بالعموم والخصوص وبين غير المعارض له ، بل بالأولويّة ، كما عرفت.

المناقشة في هذه الطريقة

أقول : الإنصاف : أنّ التعميم بهذا الطريق أضعف من التخصيص بمظنون الاعتبار ؛ لأنّ هذا المعمّم قد جمع ضعف القولين ؛ حيث اعترف بأنّ مقتضى القاعدة ـ لو لا عدم الكفاية ـ الاقتصار على مظنون الاعتبار ، وقد عرفت أنّه لا دليل على اعتبار مطلق الظنّ بالاعتبار إلاّ إذا ثبت جواز العمل بمطلق الظنّ عند انسداد باب العلم.

وأمّا ما ذكره : من التعميم لعدم (١) الكفاية ، ففيه :

أوّلا : أنّه مبنيّ على زعم كون مظنون الاعتبار منحصرا في الخبر الصحيح بتزكية عدلين ، وليس كذلك ، بل الأمارات الظنّيّة ـ من الشهرة ، وما دلّ على اعتبار قول الثقة ، مضافا إلى ما استفيد من سيرة القدماء في العمل بما يوجب سكون النفس من الروايات وفي تشخيص أحوال الرواة ـ توجب الظنّ القويّ بحجّيّة الخبر الصحيح بتزكية عدل واحد ، والخبر الموثّق ، والضعيف المنجبر بالشهرة من حيث الرواية ، ومن

__________________

(١) في (م) : «بعدم».

٤٩٥

المعلوم : كفاية ذلك وعدم لزوم محذور من الرجوع في موارد فقد تلك الأمارات إلى الاصول.

وثانيا : أنّ العلم الإجماليّ الذي ادّعاه يرجع حاصله إلى العلم بمطابقة بعض مشكوكات الاعتبار للواقع من جهة كشفها عن المرادات في مظنونات الاعتبار ، ومن المعلوم أنّ العمل بها لأجل ذلك لا يوجب التعدّي إلى ما ليس فيه هذه العلّة ، أعني مشكوكات الاعتبار الغير الكاشفة عن مرادات مظنونات الاعتبار ؛ فإنّ العلم الإجماليّ بوجود شهرات متعدّدة مقيّدة لإطلاقات (١) الأخبار أو مخصّصة لعموماتها ، لا يوجب التعدّي إلى الشهرات الغير المزاحمة للأخبار بتقييد أو تخصيص ، فضلا عن التسرّي إلى الاستقراء والأولويّة.

ودعوى الإجماع لا يخفى ما فيها ؛ لأنّ الحكم بالحجّيّة في القسم الأوّل لعلّة غير مطّردة في القسم الثاني حكم عقليّ نعلم (٢) بعدم تعرّض الإمام عليه‌السلام له قولا ولا فعلا ، إلاّ من باب تقرير حكم العقل ، والمفروض عدم جريان حكم العقل في غير مورد العلّة ، وهي وجود العلم الإجماليّ.

ومن ذلك يعرف الكلام في دعوى الأولويّة ؛ فإنّ المناط في العمل بالقسم الأوّل إذا كان هو العلم الإجماليّ ، فكيف يتعدّى إلى ما لا يوجد فيه المناط ، فضلا عن كونه أولى؟

وكأنّ متوهّم الإجماع رأى أنّ أحدا من العلماء لم يفرّق بين أفراد

__________________

(١) في جميع النسخ : «لإطلاق».

(٢) في (ر) : «يعلم» ، وفي (ت) ، (ل) و (ه) : «فعلم».

٤٩٦

الخبر الحسن أو (١) أفراد الشهرة ، ولم يعلم أنّ الوجه عندهم ثبوت الدليل عليهما مطلقا أو نفيه كذلك ؛ لأنّهم أهل الظنون الخاصّة ، بل لو ادّعى الإجماع على أنّ كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحسان أو شهرات لأجل العلم الإجماليّ بمطابقة بعضها للواقع لم يعمل بالباقي لخالي عن هذا العلم الإجماليّ ، كان في محلّه.

الثالث من طرق التعميم : قاعدة الاشتغال

الثالث من طرق التعميم : ما ذكره بعض مشايخنا طاب ثراه (٢) ، من قاعدة الاشتغال ؛ بناء على أنّ الثابت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، فإذا لم يكن قدر متيقّن كاف في الفقه وجب العمل بكلّ ظنّ.

ومنع جريان قاعدة الاشتغال هنا ـ لكون ما عدا واجب العمل من الظنون محرّم العمل ـ قد (٣) عرفت الجواب عنه في بعض أجوبة الدليل الأوّل من أدلّة اعتبار الظنّ بالطريق.

المناقشة في هذه الطريقة أيضا

ولكن فيه : أنّ قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظنّ معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة ، كما إذا اقتضى الاحتياط في الفرع (٤) وجوب السورة ، وكان ظنّ مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها ، فإنّه يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة

__________________

(١) في (ر) : «وأفراد».

(٢) هو شريف العلماء ، انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٢٥٥.

(٣) في (ت) ، (ر) و (ص) : «فقد».

(٤) في (ص) : «في الفروع».

٤٩٧

السورة ؛ لاحتمال وجوبها ، ولا ينافيه الاحتياط في المسألة الاصوليّة ؛ لأنّ الحكم الاصوليّ المعلوم بالإجمال ـ وهو وجوب العمل بالظنّ القائم على عدم الوجوب ـ معناه وجوب العمل على وجه ينطبق مع عدم الوجوب ، ويكفي فيه أن يقع الفعل على وجه الوجوب ، ولا تنافي بين الاحتياط وفعل (١) السورة لاحتمال الوجوب ، وكونه لا على وجه الوجوب الواقعيّ.

وتوضيح ذلك : أنّ معنى وجوب العمل بالظنّ وجوب تطبيق عمله عليه ، فإذا فرضنا أنّه يدلّ على عدم وجوب شيء ، فليس معنى وجوب العمل به إلاّ أنّه لا يتعيّن عليه ذلك الفعل ، فإذا (٢) اختار فعل ذلك فيجب أن يقع الفعل لا على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذا الظنّ وكان غير واجب بمقتضى الأصل ، لا أنّه يجب أن يقع على وجه عدم الوجوب ؛ إذ لا يعتبر في الأفعال الغير الواجبة قصد عدم الوجوب. نعم ، يجب التشرّع والتديّن بعدم الوجوب ـ سواء فعله أو تركه ـ من باب وجوب التديّن بجميع ما علم من الشرع.

وحينئذ : فإذا تردّد الظنّ ـ الواجب العمل ـ المذكور بين ظنون تعلّقت بعدم وجوب امور ، فمعنى وجوب ملاحظة ذلك الظنّ المجمل المعلوم إجمالا وجوب (٣) أن لا يكون فعله لهذه الامور على وجه الوجوب ، كما لو لم يكن هذه الظنون وكانت هذه الامور مباحة

__________________

(١) في (ر) و (ه) : «بفعل».

(٢) في (ظ) ، (ل) و (ه) : «وإذا».

(٣) كذا في (ر) ، (ل) ، (ه) ومصحّحة (ت) ، وفي غيرها : «وجوبه».

٤٩٨

بحكم الأصل ؛ ولذا يستحبّ الاحتياط وإتيان الفعل لاحتمال أنّه واجب.

ثمّ إذا فرض العلم الإجماليّ من الخارج بوجوب أحد هذه الأشياء على وجه يجب الاحتياط والجمع بين تلك الامور ، فيجب على المكلّف الالتزام بفعل كلّ واحد (١) منها ؛ لاحتمال أن يكون هو الواجب.

وما اقتضاه الظنّ القائم على عدم وجوبه ـ من وجوب أن يكون فعله لا على وجه الوجوب ـ باق بحاله ؛ لأنّ الاحتياط في الجميع لا يقتضي إتيان كلّ منها بعنوان الوجوب الواقعيّ ، بل بعنوان أنّه محتمل الوجوب ، والظنّ القائم على عدم وجوبه لا يمنع من لزوم إتيانه على هذا الوجه ، كما أنّه لو فرضنا ظنّا معتبرا معلوما بالتفصيل ـ كظاهر الكتاب ـ دلّ على عدم وجوب شيء ، لم يناف مؤدّاه لاستحباب الإتيان بهذا الشيء لاحتمال الوجوب.

هذا ، وأمّا ما قرع سمعك : من تقديم قاعدة الاحتياط في المسألة الاصوليّة على الاحتياط في المسألة الفرعيّة أو تعارضهما ، فليس في مثل المقام.

بل مثال الأوّل منهما : ما إذا كان العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة مزيلا للشكّ الموجب للاحتياط في المسألة الفرعيّة ، كما إذا تردّد الواجب بين القصر والإتمام ودلّ على أحدهما أمارة من الأمارات التي يعلم إجمالا بوجوب العمل ببعضها ؛ فإنّه إذا قلنا بوجوب العمل

__________________

(١) لم ترد «واحد» في (ظ) ، (ل) و (م).

٤٩٩

بهذه الأمارات (١) يصير (٢) حجّة معيّنة لإحدى الصلاتين.

إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط في المسألة الاصوليّة إنّما يقتضي (٣) إتيانها لا نفي غيرها ، فالصلاة الاخرى حكمها حكم السورة في عدم جواز إتيانها على وجه الوجوب ، فلا ينافي وجوب إتيانها لاحتمال الوجوب ، فيصير نظير ما نحن فيه.

وأمّا الثاني وهو مورد المعارضة ، فهو كما إذا علمنا إجمالا بحرمة شيء من بين أشياء ، ودلّت على وجوب كلّ منها أمارات نعلم إجمالا بحجّيّة إحداها ؛ فإنّ مقتضى هذا وجوب الإتيان بالجميع ، ومقتضى ذاك ترك الجميع ، فافهم.

وأمّا دعوى : أنّه إذا ثبت وجوب العمل بكلّ ظنّ في مقابل غير الاحتياط من الاصول وجب العمل به في مقابل الاحتياط ؛ للإجماع المركّب ، فقد عرفت شناعته (٤).

فإن قلت : إذا عملنا في مقابل الاحتياط بكلّ ظنّ يقتضي التكليف وعملنا في مورد الاحتياط بالاحتياط ، لزم العسر والحرج ؛ إذ يجمع حينئذ بين كلّ مظنون الوجوب وكلّ مشكوك الوجوب أو (٥)

__________________

(١) في (ت) و (ظ) : «الأمارة».

(٢) في (ت) : «تصير».

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «وجوب».

(٤) راجع الصفحة ٤٦١.

(٥) في (ت) ، (ر) و (ص) بدل «أو» : «و» ، وفي (ر) ، (ص) و (م) زيادة : «كلّ».

٥٠٠