فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

هذه المسألة الاصوليّة ، أعني حجّيّة الأمارات المحتملة ، وهذا هو القول الذي ذكرنا في أوّل التنبيه : أنّه ذهب إليه فريق. وسيأتي الكلام فيه عند التكلّم في حجّية الظنّ المتعلّق بالمسائل الاصوليّة إن شاء الله تعالى (١).

ما ذكره صاحب ضوابط الاصول

ثمّ اعلم : أنّ بعض من لا خبرة له ـ لمّا لم يفهم من دليل الانسداد إلاّ ما تلقّن من لسان بعض مشايخه (٢) وظاهر عبارة كتاب القوانين (٣) ـ ردّ القول الذي ذكرناه أوّلا عن بعض المعاصرين (٤) : من حجّيّة الظنّ في الطريق لا في نفس الأحكام ، بمخالفته لإجماع العلماء ؛ حيث زعم أنّهم بين من يعمّم دليل الانسداد لجميع المسائل العلميّة (٥) ـ اصوليّة أو فقهيّة ـ كصاحب القوانين (٦) ، وبين من يخصّصه بالمسائل الفرعيّة ، فالقول بعكس هذا خرق للإجماع المركّب (٧).

المناقشة فيما أفاده صاحب ضوابط الاصول

ويدفعه : أنّ المسألة ليست من التوقيفيّات التي يدخلها الإجماع المركّب ، مع أنّ دعواه في مثل هذه المسائل المستحدثة بشيعة جدّا. بل

__________________

(١) انظر الصفحة ٥٤١ ، وما بعدها.

(٢) وهو شريف العلماء.

(٣) القوانين ١ : ٤٤٠.

(٤) راجع الصفحة ٤٣٨ و ٤٥٤.

(٥) في (ت) و (ظ) : «العملية».

(٦) القوانين ١ : ٤٥٢.

(٧) وقفنا على هذا المطلب في ضوابط الاصول للسيّد ابراهيم القزويني : ٢٦٦ ، وقد أثبت فيه دروس استاذه شريف العلماء.

٤٦١

المسألة عقليّة ، فإذا فرض استقلال العقل بلزوم العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطرق (١) ، فلا معنى لردّه بالإجماع المركّب.

فلا سبيل إلى ردّه إلاّ بمنع جريان حكم العقل ، وجريان مقدّمات الانسداد في خصوصها كما عرفته منّا ، أو فيها في ضمن مطلق الأحكام الشرعيّة ، كما فعله غير واحد من مشايخنا (٢).

__________________

(١) في (ل) و (ه) : «الطريق».

(٢) كالوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٢٧٦ ، والرسائل الاصولية : ٤٣٠ ـ ٤٣١ ، والمحقق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٠.

٤٦٢

الأمر الثاني

الكلام في مقامات

وهو أهمّ الامور في هذا الباب : أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي قضيّة مهملة من حيث أسباب الظنّ ، فلا يعمّ الحكم لجميع الأمارات الموجبة للظنّ إلاّ بعد ثبوت معمّم ـ من لزوم ترجيح بلا مرجّح ، أو إجماع مركّب ، أو غير ذلك ـ ، أو قضيّة كلّيّة لا تحتاج (١) في التعميم إلى شيء؟

وعلى التقدير الأوّل ، فهل ثبت المرجّح لبعض الأسباب على بعض أم لم يثبت؟

وعلى التقدير الثاني ـ أعني كون القضيّة كلّيّة ـ فكيف توجيه خروج القياس ، مع أنّ الدليل العقليّ لا يقبل التخصيص؟

فهنا مقامات :

__________________

(١) في جميع النسخ : «لا يحتاج».

٤٦٣

الأوّل

في كون نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معيّنة :

هل أن نتيجة دليل الانسداد مهملة أو معيّنة

والتحقيق : أنّه لا إشكال في أنّ المقدّمات السابقة ـ التي حاصلها بقاء التكليف ، وعدم التمكّن من العلم ، وعدم وجوب الاحتياط ، وعدم جواز الرجوع إلى القاعدة التي يقتضيها المقام ـ إذا جرت في مسألة ، تعيّن وجوب العمل بأيّ ظنّ حصل في تلك المسألة من أيّ سبب ، وهذا الظنّ كالعلم في عدم الفرق في اعتباره بين الأسباب والموارد والأشخاص ، وهذا ثابت بالإجماع وبالعقل.

وقد سلك هذا المسلك صاحب القوانين ؛ حيث إنّه أبطل البراءة في كلّ مسألة من غير ملاحظة لزوم الخروج عن الدين ، وأبطل لزوم الاحتياط كذلك مع قطع النظر عن لزوم الحرج (١). ويظهر أيضا من صاحبي المعالم (٢) والزبدة (٣) ؛ بناء على اقتضاء ما ذكراه لإثبات حجّيّة خبر الواحد للعمل (٤) بمطلق الظنّ ، فلاحظ.

لكنّك قد عرفت ممّا سبق : أنّه لا دليل على منع (٥) جريان

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ٤٤٠.

(٢) المعالم : ١٩٢.

(٣) الزبدة : ٥٨.

(٤) في (ت) ، (ل) و (ص) : «العمل».

(٥) في (ل) ونسخة بدل (ص) بدل «منع» : «بطلان».

٤٦٤

أصالة البراءة وأصالة (١) الاحتياط أو الاستصحاب (٢) المطابق لإحداهما (٣) في كلّ مورد مورد (٤) من مواردها بالخصوص ، إنّما الممنوع جريانها في جميع المسائل ؛ للزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة ولزوم الحرج عن الاحتياط ، وهذا المقدار لا يثبت إلاّ وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، من دون تعميم بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة الظنّ.

تقرير دليل الانسداد بوجهين

١ ـ على وجه الكشف

وحينئذ فنقول : إنّه إمّا أن يقرّر دليل الانسداد على وجه يكون كاشفا عن حكم الشارع بلزوم العمل بالظنّ ، بأن يقال : إنّ بقاء التكاليف ـ مع العلم بأنّ الشارع لم يعذرنا في ترك التعرّض لها وإهمالها ، مع عدم إيجاب الاحتياط علينا ، وعدم بيان طريق مجعول فيها ـ يكشف عن أنّ الظنّ جائز العمل ، وأنّ العمل به ماض عند الشارع ، وأنّه لا يعاقبنا على ترك واجب إذا ظنّ بعدم وجوبه ولا بفعل محرّم إذا ظنّ بعدم تحريمه.

فحجّية الظنّ على هذا التقرير تعبّد شرعيّ كشف عنه العقل من جهة دوران الأمر بين امور كلّها باطلة سواه ، فالاستدلال عليه من باب الاستدلال على تعيين أحد طرفي المنفصلة أو أطرافها بنفي الباقي ، فيقال : إنّ الشارع إمّا أن أعرض عن هذه التكاليف المعلومة إجمالا ، أو

__________________

(١) في (ظ) ، (م) و (ه) : «أو أصالة».

(٢) في (ر) و (ص) : «والاستصحاب».

(٣) في غير (م) : «لأحدهما».

(٤) لم ترد في (ت) و (ظ) : «مورد» الثانية.

٤٦٥

أراد الامتثال بها على (١) العلم ، أو أراد الامتثال المعلوم إجمالا ، أو أراد امتثالها من طريق خاصّ تعبّدي ، أو أراد امتثالها الظنّي ، وما عدا الأخير باطل ، فتعيّن هو.

٢ ـ على وجه الحكومة

وإمّا أن يقرّر على وجه يكون العقل منشأ للحكم بوجوب الامتثال الظنّي ، بمعنى حسن المعاقبة على تركه وقبح المطالبة بأزيد منه ، كما يحكم بوجوب تحصيل العلم وعدم كفاية الظنّ عند التمكّن من تحصيل العلم ، فهذا الحكم العقليّ ليس من مجعولات الشارع ؛ إذ كما أنّ نفس وجوب الإطاعة وحرمة المعصية بعد تحقّق الأمر والنهي من الشارع ليس من الأحكام المجعولة للشارع ، بل شيء يستقلّ به العقل لا على وجه الكشف ، فكذلك كيفيّة الإطاعة وأنّه يكفي فيها الظنّ بتحصيل مراد الشارع في مقام ، ويعتبر فيها العلم بتحصيل المراد في مقام آخر إمّا تفصيلا أو إجمالا.

وتوهّم : أنّه يلزم على هذا انفكاك حكم العقل عن حكم الشرع ، مدفوع بما قرّرنا في محلّه : من أنّ التلازم بين الحكمين إنّما هو مع قابليّة المورد لهما ، أمّا لو كان قابلا لحكم العقل دون الشرع فلا تلازم (٢) ، كما في الإطاعة والمعصية ، فإنّهما لا يقبلان لورود حكم الشارع عليهما بالوجوب والتحريم الشرعيّين ـ بأن يريد فعل الاولى وترك الثانية بإرادة مستقلّة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهيّ عنه الحاصلة بالأمر والنهي ـ حتّى أنّه لو صرّح بوجوب الإطاعة وتحريم المعصية

__________________

(١) في (ص) زيادة : «وجه».

(٢) «فلا تلازم» من (ت) و (ص).

٤٦٦

كان الأمر والنهي للإرشاد لا للتكليف ؛ إذ لا يترتّب على مخالفة هذا الأمر والنهي إلاّ ما يترتّب على ذات المأمور به والمنهيّ عنه ، أعني نفس الإطاعة والمعصية ، وهذا (١) دليل الإرشاد ، كما في أوامر الطبيب ؛ ولذا لا يحسن من الحكيم عقاب آخر أو ثواب آخر غير ما يترتّب على نفس المأمور به والمنهيّ عنه فعلا أو تركا من الثواب والعقاب.

التعميم من حيث الموارد مشترك بين التقريرين

ثمّ إنّ هذين التقريرين مشتركان في الدلالة على التعميم من حيث الموارد يعني المسائل ؛ إذ على الأوّل يدّعى الإجماع القطعيّ على أنّ العمل بالظنّ لا يفرّق فيه بين أبواب الفقه ، وعلى الثاني يقال : إنّ العقل مستقلّ بعدم الفرق في باب الإطاعة والمعصية بين واجبات الفروع من أوّل الفقه إلى آخره ولا بين محرّماتها كذلك ، فيبقى التعميم من جهتي الأسباب ومرتبة الظنّ.

لازم الحكومة التعميم من حيث الأسباب دون المراتب

فنقول :

أمّا التقرير الثاني ، فهو يقتضي التعميم والكلّية من حيث الأسباب ؛ إذ العقل لا يفرّق في باب الإطاعة الظنّية (٢) بين أسباب الظنّ ، بل هو من هذه الجهة نظير العلم لا يقصد منه إلاّ الانكشاف.

وأمّا من حيث مرتبة الانكشاف قوّة وضعفا فلا تعميم في النتيجة (٣) ؛ إذ لا يلزم من بطلان كلّية العمل بالاصول ـ التي هي طرق

__________________

(١) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «نفس» ، لكن ، شطب عليها في (ص) و (ه).

(٢) في (ظ) و (م) : «بالمظنّة».

(٣) في هامش (ل) زيادة : «بحيث يحكم العقل العمل بكلّ ظنّ قويّا وضعيفا».

٤٦٧

شرعيّة ـ الخروج عنها بالكلّيّة ، بل يمكن الفرق في مواردها بين الظنّ القويّ البالغ حدّ سكون النفس في مقابلها فيؤخذ به ، وبين ما دونه فيؤخذ بها.

لازم الكشف الإهمال من حيث الأسباب والمراتب

وأمّا التقرير الأوّل ، فالإهمال فيه ثابت من جهة الأسباب ومن جهة المرتبة.

الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو الحكومة من وجوه :

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الحقّ في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني ، وأنّ التقرير على وجه الكشف فاسد.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقدّمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع للظنّ (١) ـ مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصّة ـ حجّة ؛ لجواز أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذّر العلم أصلا ، بل عرفت ـ في الوجه الأوّل من الإيراد على القول باعتبار الظنّ في الطريق ـ : أنّ ذلك غير بعيد.

وهو أيضا طريق العقلاء في التكاليف العرفيّة ؛ حيث يعملون بالظنّ في تكاليفهم العرفيّة مع القطع بعدم جعل طريق لها من جانب الموالي ، ولا يجب على الموالي نصب الطريق عند تعذّر العلم ، نعم يجب عليهم الرضا بحكم العقل ويقبح عليهم المؤاخذة على مخالفة الواقع الذي يؤدّي إليه الامتثال الظنّي.

إلاّ أن يقال : إنّ مجرّد إمكان ذلك ما لم يحصل العلم به لا يقدح في إهمال النتيجة وإجمالها ، فتأمّل (٢).

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٢) لم ترد عبارة «إلاّ أن يقال ـ إلى ـ فتأمّل» في (ظ) ، (ل) و (م).

٤٦٨

الوجه الثاني

وأمّا ثانيا : فلأنّه إذا بني على كشف المقدّمات المذكورة عن جعل الظنّ على وجه الإهمال والإجمال ، صحّ المنع الذي أورده بعض المتعرّضين (١) لردّ هذا الدليل ، وقد أشرنا إليه سابقا (٢) ، وحاصله :

أنّه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظنّ أو الظنّ في الجملة ـ المتردّد بين الكلّ والبعض المردّد بين (٣) الأبعاض ـ كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجّة من دون اعتبار إفادته الظنّ ؛ لأنّه أمر ممكن غير مستحيل ، والمفروض عدم استقلال العقل بحكم في هذا المقام ، فمن أين يثبت جعل الظنّ في الجملة دون شيء آخر ، ولم يكن لهذا المنع دفع أصلا؟ إلاّ أن يدّعى الإجماع على عدم نصب شيء آخر غير الظنّ في الجملة ، فتأمّل (٤).

الوجه الثالث

وأمّا ثالثا : فلأنّه لو صحّ كون النتيجة مهملة مجملة لم ينفع أصلا إن بقيت على إجمالها ، وإن عيّنت : فإمّا أن تعيّن (٥) في ضمن كلّ الأسباب ، وإمّا أن تعيّن (٦) في ضمن بعضها المعيّن ، وسيجيء (٧) عدم تماميّة شيء من هذين إلاّ بضميمة الإجماع ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى دعوى الإجماع على حجّيّة مطلق الظنّ بعد الانسداد ،

__________________

(١) كذا في (ل) و (ه) ، وفي غيرهما : «المعترضين».

(٢) راجع الصفحة ٤٣٢.

(٣) لم ترد عبارة «الكلّ والبعض المردّد بين» في (ظ).

(٤) لم ترد عبارة «إلاّ أن ـ إلى ـ فتأمّل» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) في (ص) ، (ل) ، (م) و (ه) : «يعيّن».

(٦) في (ص) ، (ل) ، (م) و (ه) : «يعيّن».

(٧) في المقام الثاني ، الصفحة ٤٧١.

٤٦٩

فتسميته دليلا عقليّا لا يظهر له وجه ، عدا كون الملازمة بين تلك المقدّمات الشرعيّة ونتيجتها عقليّة ، وهذا جار في جميع الأدلّة السمعيّة ، كما لا يخفى.

٤٧٠

المقام الثاني

في أنّه على أحد التقريرين السابقين (١) هل يحكم بتعميم الظنّ من حيث الأسباب والمرتبة (٢) ، أم لا؟

طرق التعميم على الكشف

فنقول : أمّا على تقدير كون العقل كاشفا عن حكم الشارع بحجّيّة الظنّ في الجملة ، فقد عرفت أنّ الإهمال بحسب الأسباب وبحسب المرتبة ، ويذكر للتعميم من جهتهما (٣) وجوه :

الطريق الأوّل : عدم المرجّح

الطريق الأوّل : عدم المرجّح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم ؛ لبطلان الترجيح بلا مرجّح والإجماع على بطلان التخيير.

والتعميم بهذا الوجه يحتاج إلى ذكر ما يصلح (٤) أن يكون مرجّحا وإبطاله ، وليعلم أوّلا (٥) : أنّه لا بدّ أن يكون المعيّن والمرجّح معيّنا لبعض كاف ، بحيث لا يلزم من الرجوع بعد الالتزام به إلى الاصول محذور ؛ وإلاّ فوجوده لا يجدي.

إذا تمهّد هذا ، فنقول :

__________________

(١) في الصفحة ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

(٢) في (ل) و (ص) : «أو المرتبة».

(٣) كذا في (ت) و (ر) ، وفي غيرهما : «جهتها».

(٤) في (ظ) و (م) : «يستصلح».

(٥) لم ترد «أوّلا» في (ر) و (ص).

٤٧١

ما يصلح أن يكون معيّنا أو مرجّحا :

ما يصلح أن يكون معيّنا أو مرجّحا أحد امور ثلاثة :

الأوّل من هذه الامور : كون بعض الظنون متيقّنا (١) بالنسبة إلى الباقي ، بمعنى كونه واجب العمل قطعا على كلّ تقدير ، فيؤخذ به ويطرح الباقي ؛ للشكّ في حجّيّته.

وبعبارة اخرى : يقتصر في القضيّة المهملة المخالفة للأصل على المتيقّن ، وإهمال النتيجة حينئذ من حيث الكمّ فقط ؛ لتردّده بين الأقلّ المعيّن (٢) والأكثر.

ولا يتوهّم : أنّ هذا المقدار المتيقّن حينئذ من الظنون الخاصّة ؛ للقطع التفصيليّ بحجّيّته.

لاندفاعه بأنّ المراد بالظنّ (٣) الخاصّ ما علم حجّيّته بغير دليل الانسداد ، فتأمّل.

٢ ـ كون بعض الئنون أقوي

الأمر الثاني : كون بعض الظنون أقوى من بعض ، فيتعيّن العمل عليه ؛ للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللازم في كلّ واحد من محتملات التكاليف الواقعيّة من الواجبات والمحرّمات على القدر المتيقّن ، وهو ما كان الاحتمال المخالف (٤) للاحتياط فيه في غاية البعد ؛ فإنّه كلّما ضعف الاحتمال المخالف (٥) للاحتياط كان ارتكابه أهون.

٣ ـ كون بعض الظنون مظنون الحجيّة

الأمر الثالث : كون بعض الظنون مظنون الحجّيّة ؛ فإنّه في مقام دوران

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه) : «متعيّنا».

(٢) في نسخة بدل (ص) : «المتيقّن».

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) ونسخة بدل (ص) : «من الظنّ».

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) بدل «المخالف» : «الموافق».

(٥) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) بدل «المخالف» : «الموافق».

٤٧٢

الأمر بينه وبين غيره يكون أولى من غيره :

إمّا لكونه أقرب إلى الحجّية من غيره ، ومعلوم أنّ القضيّة المهملة المجملة تحمل ـ بعد صرفها إلى البعض بحكم العقل ـ على ما هو أقرب محتملاتها إلى الواقع.

وإمّا لأنّه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع ؛ لأنّ المفروض رجحان مطابقته للواقع ؛ لأن المفروض كونه من الامارات المفيدة للظنّ بالواقع ، ورجحان كونه بدلا عن الواقع ؛ لأنّ المفروض الظنّ بكونه طريقا قائما مقام الواقع بحيث يتدارك مصلحة الواقع على تقدير مخالفته له.

فاحتمال مخالفة هذه الأمارة للواقع ولبدله موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع ؛ لأنّها على تقدير مخالفتها للواقع لا يظنّ كونها بدلا عن الواقع.

ونظير ذلك : ما لو تعلّق غرض المريض بدواء تعذّر الاطلاع العلميّ عليه ، فدار الأمر بين دواءين : أحدهما يظنّ أنّه ذلك الدواء ، وعلى تقدير كونه غيره يظنّ كونه بدلا عنه في جميع الخواصّ ، والآخر يظنّ أنّه ذلك الدواء ، لكن لا يظنّ أنّه على تقدير المخالفة بدل عنه ، ومعلوم بالضرورة أنّ العمل بالأوّل أولى.

ثمّ إنّ البعض المظنون الحجّيّة : قد يعلم بالتفصيل ، كما إذا ظنّ حجّيّة الخبر المزكّى رواته بعدل واحد أو حجّيّة الإجماع المنقول.

وقد يعلم إجمالا وجوده بين أمارات ، فالعمل بهذه الأمارات أرجح من غيرها الخارج عن محتملات ذلك المظنون الاعتبار ، وهذا كما لو ظنّ عدم حجّيّة بعض الأمارات ، كالأولويّة والشهرة والاستقراء وفتوى الجماعة الموجبة للظنّ ، فإنّا إذا فرضنا نتيجة دليل الانسداد مجملة

٤٧٣

مردّدة بين هذه الامور (١) وغيرها ، وفرضنا الظنّ بعدم حجّية هذه ، لزم من ذلك الظنّ بأنّ الحجّة في غيرها وإن كان مردّدا بين أبعاض ذلك الغير ، فكان الأخذ بالغير أولى من الأخذ بها ؛ لعين ما تقدّم وإن لم يكن بين أبعاض ذلك (٢) الغير مرجّح ، فافهم.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في ترجيح بعض الظنون على بعض.

المناقشة في المرجّحات المذكورة

لكن نقول : إنّ المسلّم من هذه في الترجيح لا ينفع ، والذي ينفع غير مسلّم كونه مرجّحا.

١ ـ تيقّن البعض لا ينفع

توضيح ذلك هو : أنّ المرجّح الأوّل ـ وهو تيقّن البعض بالنسبة إلى الباقي ـ وإن كان من المرجّحات (٣) ، بل لا يقال له المرجّح ـ لكونه معلوم الحجّية تفصيلا ، وغيره مشكوك الحجّيّة ، فيبقى تحت (٤) الأصل ـ لكنّه لا ينفع ؛ لقلّته وعدم كفايته ؛ لأنّ القدر المتيقّن من هذه الأمارات هو الخبر الذي زكّي جميع رواته بعدلين ، ولم يعمل في تصحيح رجاله ولا في تمييز مشتركاته بظنّ أضعف نوعا من سائر الأمارات الأخر ، ولم يوهن بمعارضة شيء (٥) منها ، وكان معمولا به عند الأصحاب كلاّ أو

__________________

(١) لم ترد «الامور» في (ت) ، (ل) و (م).

(٢) لم ترد «ذلك» في (ل) و (م).

(٣) العبارة في (ظ) ، (ل) و (م) هكذا : «توضيح ذلك : هو أنّ تيقّن البعض بالنسبة إلى الباقي من المرجّحات».

(٤) في (ل) بدل «فيبقى تحت» : «منفيّ بحسب».

(٥) كذا في (ت) و (ظ) ، وفي (ه) : «لمعارضته بشيء» ، وفي (ل) : «بمعارضته شيء» ، وفي (ر) و (ص) : «لمعارضة شيء» ، وفي (م) : «لمعارضته شيء».

٤٧٤

جلاّ ، ومفيدا للظنّ الاطمئنانيّ بالصدور ؛ إذ لا ريب أنّه كلما انتفى أحد هذه القيود (١) الخمسة في خبر احتمل كون غيره حجّة دونه ، فلا يكون متيقّن الحجّيّة على كلّ تقدير.

وأمّا عدم كفاية هذا الخبر لندرته (٢) ، فهو واضح ، مع أنّه لو كان بنفسه كثيرا كافيا لكن يعلم إجمالا بوجود مخصّصات كثيرة ومقيّدات له في الأمارات الأخر ، فيكون نظير ظواهر الكتاب في عدم جواز التمسّك بها مع قطع النظر عن غيرها ، إلاّ أن يؤخذ بعد الحاجة إلى التعدّي منها بما هو متيقّن (٣) بالإضافة إلى ما بقي ، فتأمّل.

٢ ـ أقوائيّة البعض لا يمكن ضبطه

وأمّا المرجّح الثاني ، وهو كون بعضها أقوى ظنّا من الباقي ، ففيه : أنّ ضبط مرتبة خاصّة له متعسّر أو متعذّر ؛ لأنّ القوّة والضعف إضافيّان ، وليس تعارض القويّ مع الضعيف هنا في متعلّق واحد حتّى يذهب الظنّ من (٤) الأضعف ويبقى في الأمارة الاخرى. نعم يوجد مرتبة خاصّة ، وهو الظنّ الاطمئنانيّ الملحق بالعلم حكما بل موضوعا ، لكنّه نادر التحقّق.

مع أنّ كون القوّة معيّنة للقضيّة المجملة محلّ منع ؛ إذ لا يستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنّا يكون أضعف من غيره ، كما هو المشاهد في الظنون الخاصّة ؛ فإنّها ليست على الإطلاق أقوى من غيرها

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «الامور».

(٢) في (ر) و (ص) : «وأمّا عدم كفايته لندرته».

(٣) في (ت) ، (م) و (ه) : «متعيّن».

(٤) لم ترد «من» في (ظ).

٤٧٥

بالبديهة.

وما تقدّم في تقريب مرجّحيّة القوّة (١) ، إنّما هو مع كون إيجاب العمل بالظنّ عند انسداد باب العلم من منشآت العقل وأحكامه ، وأمّا على تقدير كشف مقدّمات الانسداد عن أنّ الشارع جعل الظنّ حجّة في الجملة ، وتردّد أمره في أنظارنا بين الكلّ والأبعاض ، فلا يلزم من كون بعضها أقوى كونه هو المجعول حجّة ؛ لأنّا قد وجدنا تعبّد الشارع بالظنّ الأضعف وطرح الأقوى في موارد كثيرة.

٣ ـ الظنّ بحجيّة البعض ليست له ضابطة كليّة أيضا

وأمّا المرجّح الثالث ، وهو الظنّ باعتبار بعض فيؤخذ به لأحد الوجهين المتقدّمين (٢) ، ففيه ـ مع أنّ الوجه الثاني لا يفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته ـ :

أنّ الترجيح على هذا الوجه يشبه الترجيح بالقوّة والضعف في أنّ مداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذ : إذا (٣) فرضنا كون الظنّ الذي لم يظنّ حجّيته (٤) أقوى ظنّا بمراتب من الظنّ الذي ظنّ حجّيّته ، فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني ، فيرجع الأمر إلى لزوم ملاحظة الموارد الخاصّة ، وعدم وجود ضابطة كلّيّة بحيث يؤخذ بها في ترجيح الظنّ المظنون الاعتبار.

نعم ، لو فرض تساوي أبعاض الظنون دائما من حيث القوّة

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٧٢.

(٢) في الصفحة ٤٧٣.

(٣) في غير (ر) و (ص) : «فإذا».

(٤) كذا في (ه) ، وفي غيرها : «بحجّيته».

٤٧٦

والضعف ، كان ذلك المرجّح بنفسه منضبطا ، ولكنّ الفرض مستبعد بل مستحيل.

مع أنّ اللازم على هذا أن لا يعمل بكلّ مظنون الحجّيّة ، بل بما ظنّ حجّيّته بظنّ قد ظنّ حجّيته ؛ لأنّه أبعد عن مخالفة الواقع وبدله بناء على التقرير المتقدّم (١).

وأمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح مظنون الاعتبار على غيره ، ففيه :

أوّلا : أنّه لا أمارة تفيد الظنّ بحجّيّة أمارة على الإطلاق ؛ فإنّ أكثر ما اقيم على حجّيّته (٢) الأدلّة ـ من الأمارات الظنّيّة المبحوث عنها ـ الخبر الصحيح ، ومعلوم عند المنصف أنّ شيئا ممّا ذكروه لحجّيته (٣) لا يوجب الظنّ بها على الإطلاق.

عدم اعتبار مطلق الظنّ في تعيين القضية المهملة

وثانيا : أنّه لا دليل على اعتبار مطلق الظنّ في مسألة تعيين هذا الظنّ المجمل.

ثمّ إنّه قد توهّم غير واحد (٤) : أنّه ليس المراد اعتبار مطلق الظنّ وحجّيّته في مسألة تعيين القضيّة المهملة ، وإنّما المقصود ترجيح بعضها على بعض.

__________________

(١) في الصفحة ٤٧٣.

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ) : «حجّية».

(٣) كذا في (ت) ، (ر) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «لحجّيتها».

(٤) منهم صاحب هداية المسترشدين كما سيأتي ، وكذا صاحب الفصول في الفصول : ٢٨٠.

٤٧٧

فقال بعضهم (١) في توضيح (٢) لزوم الأخذ بمظنون الاعتبار ـ بعد الاعتراف بأنّه ليس المقصود هنا إثبات حجّيّة الظنون المظنونة الاعتبار بالأمارات الظنّيّة القائمة عليها ، ليكون الاتّكال في حجّيّتها على مجرّد الظنّ ـ :

إنّ الدليل العقلي المثبت لحجّيّتها هو الدليل العقليّ المذكور ، والحاصل من تلك الأمارات الظنّيّة هو ترجيح بعض الظنون على البعض ، فيمنع ذلك من إرجاع القضيّة المهملة إلى الكلّيّة ، بل يقتصر في مفاد القضيّة المهملة على تلك الجملة ، فالظنّ المفروض إنّما يبعث على صرف مفاد الدليل المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظنون ؛ نظرا إلى حصول القوّة بالنسبة إليها ؛ لانضمام الظنّ بحجّيتها إلى الظنّ بالواقع.

فإذا قطع العقل بحجّية الظنّ بالقضيّة المهملة ، ثمّ وجد الحجّية متساوية بالنظر إلى الجميع ، حكم بحجّيّة الكلّ ، وأمّا إذا وجدها مختلفة وكان جملة منها أقرب إلى الحجّيّة من الباقي ـ نظرا إلى الظنّ بحجّيّتها دون الباقي ـ ، فلا محالة يقدّم المظنون على المشكوك ، والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ، فليس الظنّ مثبتا لحجّيّة ذلك الظنّ ، وإنّما هو قاض بتقديم جانب الحجّيّة في تلك الظنون ، فينصرف إليه ما قضى به الدليل المذكور.

ثمّ اعترض على نفسه : بأنّ صرف الدليل إليها إن كان على وجه

__________________

(١) هو الشيخ محمد تقي صاحب هداية المسترشدين.

(٢) في (ت) ونسخة بدل (ه) : «توجيه».

٤٧٨

اليقين تمّ ما ذكر ، وإلاّ كان اتّكالا على الظنّ.

والحاصل : أنّه لا قطع لصرف الدليل إلى تلك الظنون.

ثمّ أجاب : بأنّ الاتّكال ليس على الظنّ الحاصل بحجّيّتها ، ولا على الظنّ بترجيح تلك الظنون على غيرها ، بل التعويل على القطع بالترجيح.

وتوضيحه : أنّ قضيّة دليل الانسداد حجّيّة الظنّ على سبيل الإهمال ، فيدور الأمر بين القول بحجّيّة الجميع والبعض ، ثمّ الأمر في البعض يدور بين المظنون وغيره ، وقضيّة العقل في الدوران بين الكلّ والبعض هو الاقتصار على البعض ؛ أخذا بالمتيقّن ؛ ولذا قال علماء الميزان : إنّ المهملة في قوّة الجزئيّة.

ولو لم يتعيّن البعض في المقام ودارت الحجّيّة بينه وبين سائر الأبعاض من غير تفاوت في نظر العقل ، لزم الحكم بحجّيّة الكلّ ؛ لبطلان الترجيح من غير مرجّح.

وأمّا لو كانت حجّيّة البعض ـ ممّا فيه الكفاية ـ مظنونة بخصوصه بخلاف الباقي ، كان ذلك أقرب إلى الحجّيّة من غيره ممّا لم يقم على حجّيّته دليل ، فيتعيّن عند العقل الأخذ به دون غيره ؛ فإنّ الرجحان حينئذ قطعيّ وجدانيّ ، والترجيح من جهته ليس ترجيحا بمرجّح ظنّي وإن كان ظنّا بحجّيّة تلك الظنون ؛ فإنّ كون المرجّح ظنّا لا يقتضي كون الترجيح ظنّيّا ، وهو ظاهر (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

مناقشة فيما أفادة الهداية

أقول : قد عرفت سابقا (٢) : أنّ مقدّمات دليل الانسداد ، إمّا أن

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

(٢) راجع الصفحة ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

٤٧٩

تجعل كاشفة عن كون الظنّ في الجملة حجّة علينا بحكم الشارع ، كما يشعر به قوله : كان بعض الظنون أقرب إلى الحجّيّة من الباقي. وإمّا أن تجعل (١) منشأ لحكم العقل بتعيّن (٢) إطاعة الله سبحانه حين الانسداد على وجه الظنّ ، كما يشعر به قوله : نظرا إلى حصول القوّة لتلك الجملة ؛ لانضمام الظنّ بحجّيّتها إلى الظنّ بالواقع.

فعلى الأوّل ، إذا كان الظنّ المذكور مردّدا بين الكلّ والبعض (٣) اقتصر على البعض ، كما ذكره ؛ لأنّه المتيقّن. وأمّا إذا تردّد ذلك البعض بين الأبعاض ، فالمعيّن لأحد المحتملين أو المحتملات لا يكون إلاّ بما يقطع بحجّيّته ، كما أنّه إذا احتمل في الواقعة الوجوب والحرمة لا يمكن ترجيح أحدهما بمجرّد الظنّ به إلاّ بعد إثبات حجّيّة ذلك الظنّ.

بل التحقيق : أنّ المرجّح لأحد الدليلين عند التعارض ـ كالمعيّن لأحد الاحتمالين ـ يتوقّف على القطع باعتباره عقلا أو نقلا ؛ وإلاّ فأصالة عدم اعتبار الظنّ لا فرق في مجراها بين جعله دليلا وجعله مرجّحا.

هذا ، مع أنّ الظنّ المفروض إنّما قام على حجّيّة بعض الظنون في الواقع من حيث الخصوص ، لا على تعيين الثابت حجّيّته بدليل الانسداد ، فتأمّل.

وأمّا على الثاني ، فالعقل إنّما يحكم بوجوب الإطاعة على الوجه

__________________

(١) في (ر) ، (ص) ، (م) و (ه) : «يجعل».

(٢) كذا في (ت) ، (ر) و (ه) ، وفي غيرها : «بتعيين».

(٣) لم ترد «والبعض» في (ظ) ، (ل) و (م) ، نعم ورد في هامش (ل) تصحيحا.

٤٨٠