فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

والإعراض عن التكاليف الإلهيّة الواقعيّة.

فظهر ممّا ذكرنا : اندفاع ما يقال : من أنّ منع نصب الطريق لا يجامع القول ببقاء الأحكام الواقعيّة ؛ إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق إليها ظاهر البطلان.

توضيح الاندفاع : أنّ التكليف إنّما يقبح مع عدم ثبوت الطريق رأسا ولو بحكم العقل الحاكم بالعمل بالظنّ مع عدم الطريق الخاصّ ، أو مع ثبوته وعدم رضا الشارع بسلوكه ، وإلاّ فلا يقبح التكليف مع عدم الطريق الخاصّ وحكم العقل بمطلق الظنّ ورضا الشارع به ؛ ولذا اعترف هذا المستدلّ : بأنّ الشارع لم ينصب طريقا خاصّا يرجع إليه عند انسداد باب العلم في تعيين الطرق (١) الشرعيّة مع بقاء التكليف بها.

وربما يستشهد للعلم الاجماليّ بنصب الطريق : بأنّ المعلوم من سيرة العلماء في استنباطهم هو اتّفاقهم على طريق خاصّ وإن اختلفوا في تعيينه.

وهو ممنوع :

أوّلا : بأنّ جماعة من أصحابنا ـ كالسيّد (٢) رحمه‌الله وبعض من تقدّم عليه وتأخّر (٣) عنه ـ منعوا نصب الطريق الخاصّ رأسا ، بل أحاله بعضهم (٤).

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «الخاصّة».

(٢) راجع الصفحة ٢٤٠.

(٣) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٢٤٠ أيضا.

(٤) وهو ابن قبة ، راجع الصفحة ١٠٥.

٤٤١

وثانيا : لو أغمضنا عن مخالفة السيّد وأتباعه ، لكن مجرّد قول كلّ من العلماء بحجّيّة طريق خاصّ ـ حيث ما (١) أدّى إليه نظره ـ لا يوجب العلم الإجماليّ بأنّ بعض هذه الطرق منصوبة ؛ لجواز خطأ كلّ واحد فيما أدّى إليه نظره.

واختلاف الفتاوى في الخصوصيّات لا يكشف عن تحقّق القدر المشترك ، إلاّ إذا كان اختلافهم راجعا إلى التعيين على وجه ينبئ عن اتّفاقهم على قدر مشترك ، نظير الأخبار المختلفة في الوقائع المختلفة ؛ فإنّها لا توجب تواتر القدر المشترك ، إلاّ إذا علم من أخبارهم كون الاختلاف راجعا إلى التعيين ، وقد حقّق ذلك في باب التواتر الإجماليّ والإجماع المركّب.

وربما يجعل تحقّق الإجماع على المنع عن العمل بالقياس وشبهه ولو مع انسداد باب العلم كاشفا عن أنّ المرجع إنّما هو طريق خاصّ.

وينتقض أوّلا : بأنّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق أيضا طريقا خاصّا ؛ للإجماع على المنع عن العمل فيه بالقياس.

ويحلّ ثانيا : بأنّ مرجع هذا إلى الإشكال الآتي (٢) في خروج القياس عن مقتضى دليل الانسداد ، فيدفع بأحد الوجوه الآتية (٣).

فإن قلت : ثبوت الطريق إجمالا ممّا لا مجال لإنكاره حتّى على

__________________

(١) لم ترد «حيث ما» في (ر) ، (ص) و (ه). نعم ، ورد بدلها في (ص) و (ه) : «حسب ما».

(٢) في الصفحة ٥١٧.

(٣) في الصفحة ٥١٧ ـ ٥٢٩.

٤٤٢

مذهب من يقول بالظنّ المطلق ؛ فإنّ غاية الأمر أنّه يجعل مطلق الظنّ طريقا عقليّا رضي به الشارع ، فنصب الشارع للطريق بالمعنى الأعمّ من الجعل والتقرير معلوم.

قلت : هذه مغالطة ؛ فإنّ مطلق الظنّ ليس طريقا في عرض الطرق المجعولة حتّى يتردّد الأمر بين كون الطريق هو مطلق الظنّ أو طريق آخر مجعول ، بل الطريق العقليّ بالنسبة إلى الطريق الجعليّ كالأصل بالنسبة إلى الدليل ، إن وجد الطريق الجعليّ لم يحكم العقل بكون الظنّ طريقا ؛ لأنّ الظنّ بالواقع لا يعمل به في مقابلة القطع ببراءة الذمّة. وإن لم يوجد كان طريقا ؛ لأنّ احتمال البراءة لسلوك الطريق المحتمل لا يلتفت إليه مع الظنّ بالواقع ، فمجرّد عدم ثبوت الطريق الجعليّ ـ كما في ما نحن فيه ـ كاف في حكم العقل بكون مطلق الظنّ طريقا ، وعلى كلّ حال فتردّد الأمر بين مطلق الظنّ وطريق خاصّ آخر ممّا لا معنى له.

المناقشة الثانية في كلام صاحب الفصول

وثانيا : سلّمنا نصب الطريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ، بيان ذلك :

أنّ ما حكم بطريقيّته لعلّه قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلاّ قليل ، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعليّ بالصدور ـ الذي كان كثيرا في الزمان السابق لكثرة القرائن ـ ولا ريب في ندرة هذا القسم في هذا الزمان ، أو خبر العادل أو الثقة الثابت عدالته أو وثاقته بالقطع أو بالبيّنة الشرعيّة أو الشياع مع إفادته الظنّ الفعليّ بالحكم ، ويمكن دعوى ندرة هذا القسم في هذا الزمان ؛ إذ غاية الأمر أن نجد الراوي في الكتب الرجاليّة محكيّ التعديل بوسائط عديدة من مثل الكشّيّ والنجاشيّ وغيرهما ، ومن

٤٤٣

المعلوم أنّ مثل هذا لا تعدّ بيّنة شرعيّة ، ولهذا لا يعمل (١) مثله (٢) في الحقوق.

ودعوى حجّيّة مثل ذلك بالإجماع ممنوعة ، بل المسلّم أنّ الخبر المعدّل بمثل هذا حجّة بالاتّفاق (٣). لكن قد عرفت سابقا (٤) ـ عند تقرير الإجماع على حجّيّة خبر الواحد ـ أنّ مثل هذا الاتّفاق العمليّ لا يجدي في الكشف عن قول الحجّة. مع أنّ مثل هذا الخبر في غاية القلّة ، خصوصا إذا انضمّ إليه إفادة الظنّ الفعليّ.

وثالثا : سلّمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنّيّة ـ من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والاستقراء والأولويّة الظنّيّة ـ ، إلاّ أنّ اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقّن من هذه ، فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه ، وإلاّ فالمتيقّن من الباقي ـ مثلا : الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقّن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات ؛ إذ لم يقل أحد بحجّيّة الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول ـ فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ بعد وجود القدر المتيقّن ووجوب الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل.

__________________

(١) كذا في (ت) ، (ر) ، (ظ) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي (ص) ، (ل) ونسخة بدل (ت) و (ه) : «لا يقبل».

(٢) في (ر) : «بمثله».

(٣) في (ر) زيادة : «العملي».

(٤) راجع الصفحة ٣٤٩.

٤٤٤

نعم ، لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين واحتمل نصب كلّ منهما ، صحّ تعيينه بالظنّ بعد الإغماض عمّا سيجيء من الجواب.

ورابعا : سلّمنا عدم وجود القدر المتيقّن ، لكنّ اللازم من ذلك وجوب الاحتياط ؛ لأنّه مقدّم على العمل بالظنّ ؛ لما عرفت (١) : من تقديم الامتثال العلميّ على الظنّي. اللهمّ إلاّ أن يدلّ دليل على عدم وجوبه ، وهو في المقام مفقود.

ودعوى : أنّ الأمر دائر بين الواجب والحرام ؛ لأنّ العمل بما ليس طريقا حرام ، مدفوعة : بأنّ العمل بما ليس طريقا إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرّم ، والعمل بكلّ ما يحتمل الطريقيّة رجاء أن يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع.

نعم ، قد عرفت : أنّ حرمته مع عدم قصد التشريع إنّما هي من جهة أنّ فيه طرحا للاصول المعتبرة من دون حجّة شرعيّة ، وهذا أيضا غير لازم في المقام ؛ لأنّ مورد العمل بالطريق المحتمل (٢) إن كان الاصول على طبقه فلا مخالفة ، وإن كان مخالفا للاصول : فإن كان مخالفا للاستصحاب (٣) فلا إشكال ؛ لعدم حجّيّة الاستصحابات بعد العلم الإجماليّ بأنّ بعض الأمارات الموجودة على خلافها معتبرة عند الشارع. وإن كان مخالفا للاحتياط فحينئذ يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ،

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٣٢.

(٢) كذا في (ت) ، (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها بدل «بالطريق المحتمل» : «بالظنّ».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «النافي للتكليف».

٤٤٥

ولا يعمل بذلك الظنّ (١).

فحاصل الأمر يرجع إلى العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة ـ أعني نصب الطريق ـ إذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فالعمل مطلقا على الاحتياط.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ، كالشكّ في الجزئيّة وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف والنافية له بعد العلم الإجماليّ بوجوب العمل في بعضها على خلاف الحالة السابقة ؛ إذ يصير حينئذ كالشبهة المحصورة ، فتأمّل.

وخامسا : سلّمنا العلم الإجماليّ بوجود الطريق المجعول وعدم المتيقّن وعدم وجوب الاحتياط ، لكن نقول : إنّ ذلك لا يوجب تعيين العمل بالظنّ في مسألة تعيين الطريق فقط بل هو مجوّز له ، كما يجوز العمل بالظنّ في المسألة الفرعيّة ؛ وذلك لأنّ الطريق المعلوم نصبه إجمالا : إن كان منصوبا حتّى حال انفتاح باب العلم فيكون هو في عرض الواقع مبرءا للذمّة بشرط العلم به ، كالواقع المعلوم.

مثلا : إذا فرضنا حجّيّة الخبر مع الانفتاح تخيّر المكلّف بين امتثال ما علم كونه حكما واقعيّا بتحصيل (٢) العلم به ، وبين امتثال مؤدّى الطريق المجعول الذي علم (٣) جعله بمنزلة الواقع ، فكلّ من الواقع ومؤدّى

__________________

(١) لم ترد «ولا يعمل بذلك الظنّ» في (ر) ، (ص) و (ه) ، وإنّما زيد فيها وفي (ت) : «وكذا لو كان مخالفا للاستصحاب المثبت للتكليف».

(٢) في (ظ) و (ه) : «يحصّل» ، وفي (ت) : «ويحصّل».

(٣) لم ترد «علم» في (م).

٤٤٦

الطريق مبرئ مع العلم به ، فإذا انسدّ باب العلم التفصيليّ بأحدهما تعيّن الآخر ، وإذا انسدّ باب العلم التفصيليّ بهما تعيّن العمل فيهما بالظنّ ، فلا فرق بين الظنّ بالواقع والظنّ بمؤدّى الطريق في كون كلّ واحد امتثالا ظنّيا.

وإن كان ذلك الطريق منصوبا عند انسداد باب العلم بالواقع ، فنقول : إنّ تقديمه حينئذ على العمل بالظنّ إنّما هو مع العلم به وتميّزه عن غيره ؛ إذ حينئذ يحكم العقل بعدم جواز العمل بمطلق الظنّ مع وجود هذا الطريق المعلوم ؛ إذ فيه عدول عن الامتثال القطعي إلى الظنّي (١) ، أمّا مع انسداد باب العلم بهذا الطريق وعدم تميّزه عن غيره إلاّ بإعمال مطلق الظنّ ، فالعقل لا يحكم بتقديم إحراز الطريق بمطلق الظنّ على إحراز الواقع بمطلق الظنّ.

وكأنّ المستدلّ توهّم : أنّ مجرّد نصب الطريق ـ ولو مع عروض الاشتباه فيه ـ موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ، كما ينبئ عنه قوله (٢) : وحاصل القطعين إلى أمر واحد ، وهو التكليف الفعليّ بالعمل بمؤدّيات الطرق.

وسيأتي مزيد توضيح لاندفاع هذا التوهّم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ص) زيادة : «وكذا مع العلم الإجماليّ ؛ بناء على أنّ الامتثال التفصيليّ مقدّم على الإجماليّ. أو لأنّ الاحتياط يوجب الحرج المؤدّي إلى الاختلال» ، وفي (ت) زيادة «لو كان» بعد «وكذا».

وكتب فوقها في (ت) : «زائد» ، وفي (ص) : «نسخة ...».

(٢) في الصفحة ٤٣٩.

٤٤٧

فإن قلت : نحن نرى أنّه إذا عيّن الشارع طريقا للواقع عند انسداد باب العلم به ثمّ انسدّ باب العلم بذلك الطريق ، كان البناء على العمل بالظنّ في الطريق دون نفس الواقع ؛ ألا ترى : أنّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعيّ ، والقاضي يعمل بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة لقطع المرافعات لا في تحصيل الحقّ الواقعيّ بين المتخاصمين؟

قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثالين ، فإنّ الظنون الحاصلة للمقلّد والقاضي في المثالين بالنسبة إلى الواقع امور غير مضبوطة كثير المخالفة للواقع ، مع قيام الإجماع على عدم جواز العمل بها كالقياس ، بخلاف ظنونهما المعمولة في تعيين الطريق ؛ فإنّها حاصلة من أمارات منضبطة غالب المطابقة لم يدلّ دليل بالخصوص على عدم جواز العمل بها.

فالمثال المطابق لما نحن فيه : أن يكون الظنون المعمولة في تعيين الطريق بعينها هي المعمولة في تحصيل الواقع لا يوجد بينهما فرق من جهة العلم الإجماليّ بكثرة مخالفة إحداهما للواقع ، ولا من جهة منع الشارع عن إحداهما (١) بالخصوص ، كما أنّا لو فرضنا أنّ الظنون المعمولة في نصب الطريق على العكس في المثالين (٢) كان المتعيّن العمل بالظنّ في نفس الواقع دون الطريق.

فما ذكرنا : من العمل على الظنّ سواء تعلّق بالطريق أم بنفس

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «أخذها» ، وفي (ص) : «أخذهما».

(٢) في (ظ) ، (ل) و (م) : «من المثالين».

٤٤٨

الواقع ، فإنّما هو مع مساواتهما من جميع الجهات ؛ فإنّا لو فرضنا أنّ المقلّد يقدر على إعمال نظير الظنون التي يعملها لتعيين المجتهد في الأحكام الشرعيّة مع قدرة الفحص عمّا يعارضها على الوجه المعتبر في العمل بالظنّ ، لم يجب عليه العمل بالظنّ في تعيين المجتهد ، بل وجب عليه العمل بظنّه في تعيين الحكم الواقعيّ.

وكذا القاضي إذا شهد عنده عادل واحد بالحقّ لا يعمل به ، وإذا أخبره هذا العادل بعينه بطريق قطع هذه المخاصمة يأخذ به ؛ فإنّما هو لأجل قدرته على الاجتهاد في مسألة الطريق بإعمال الظنون وبذل الجهد في المعارضات ودفعها ، بخلاف الظنّ بحقّية أحد المتخاصمين ؛ فإنّه ممّا يصعب الاجتهاد وبذل الوسع في فهم الحقّ من المتخاصمين ؛ لعدم انضباط الأمارات في الوقائع الشخصيّة وعدم قدرة المجتهد على الإحاطة بها حتّى يأخذ بالأحرى ، وكما أنّ المقلّد عاجز عن الاجتهاد في المسألة الكلّية ، كذلك القاضي عاجز عن الاجتهاد في الوقائع الشخصيّة ، فتأمّل.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ مسألة عمل القاضي بالظنّ في الطريق مغايرة لمسألتنا ؛ من جهة أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب الطريق وأعرض عنه ، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبّديّة ، مثل الإقرار والبيّنة واليمين والنكول والقرعة وشبهها ، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة ؛ فإنّ الظاهر أنّ مبناها على الكشف الغالبيّ عن الواقع ، ووجه تخصيصها من بين سائر الأمارات كونها أغلب مطابقة للواقع وكون غيرها غير غالب المطابقة ، بل غالب المخالفة ، كما ينبئ عنه : ما ورد في

٤٤٩

نتيجة (١) العمل بالعقول في دين الله ، وأنّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال (٢) ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه (٣) ، وأنّ الدين يمحق بالقياس (٤) ، ونحو ذلك (٥).

ولا ريب : أنّ المقصود من نصب الطريق (٦) إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصيّة فيها من بين سائر الأمارات ، ثمّ انسدّ باب العلم بذلك الطريق المنصوب ، والتجأ إلى إعمال سائر الأمارات التي لم يعتبرها الشارع في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعيّ.

بل الظاهر : أنّ إعمالها في نفس الواقع أولى ؛ لإحراز المصلحة الأوّليّة التي هي أحقّ بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق ؛ فإنّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ؛

__________________

(١) لم ترد «نتيجة» في (ر) ، (ص) و (ل).

(٢) لم نعثر على هذا المضمون في المجاميع الحديثيّة ، نعم ورد في الوسائل : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن القرآن» أو «من تفسير القرآن» ، انظر الوسائل ١٨ : ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ و ٧٣.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٩٤ ، الباب ١١ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ٢٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٥) تقدّم بعضها في الصفحة ٦٢ ـ ٦٣.

(٦) في (ت) و (ه) : «الطرق».

٤٥٠

ولهذا اتّفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نيّة الوجه اتفاقا ، بل الحقّ ذلك فيها أيضا ، كما مرّت (١) الإشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط.

فإن قلت : العمل بالظنّ في الطريق عمل بالظنّ في الامتثال الظاهريّ والواقعيّ ؛ لأنّ الفرض إفادة الطريق للظنّ بالواقع ، بخلاف غير ما ظنّ طريقيّته ؛ فإنّه ظنّ بالواقع وليس ظنّا بتحقّق الامتثال في الظاهر ، بل الامتثال الظاهريّ مشكوك أو موهوم بحسب احتمال اعتبار ذلك الظنّ.

قلت :

أوّلا : إنّ هذا خروج عن الفرض ؛ لأنّ مبنى الاستدلال المتقدّم على وجوب العمل بالظنّ في الطريق (٢) وإن لم يكن الطريق مفيدا للظنّ بالواقع (٣) أصلا. نعم ، قد (٤) اتّفق في الخارج أنّ الامور التي يعلم بوجود الطريق فيها إجمالا مفيدة للظنّ (٥) ، لا أنّ مناط الاستدلال اتّباع الظنّ بالطريق المفيد للظنّ بالواقع.

__________________

(١) راجع الصفحة ٤١٧ ـ ٤٢٠.

(٢) في (ص) : «بالطريق».

(٣) لم ترد «بالواقع» في (ظ) ، (ل) و (م) ، وورد بدلها في (ر) و (ص) : «به».

(٤) لم ترد «قد» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٥) في (ر) و (ص) زيادة : «شخصا أو نوعا» ، وفي (ت) زيادة : «نوعا أو شخصا».

٤٥١

وثانيا : إنّ هذا يرجع إلى ترجيح بعض الأمارات الظنّيّة على بعض باعتبار الظنّ باعتبار بعضها شرعا دون الآخر ، بعد الاعتراف بأنّ مؤدّى دليل الانسداد حجّيّة الظنّ بالواقع لا بالطريق. وسيجيء (١) الكلام في أنّ نتيجة دليل الانسداد ـ على تقدير إفادته اعتبار الظنّ بنفس الحكم ـ كلّية بحيث لا يرجّح بعض الظنون على بعض ، أو مهملة بحيث يجب الترجيح بين الظنون ، ثمّ التعميم مع فقد المرجّح.

والاستدلال المذكور مبنيّ على إنكار ذلك كلّه ، وأنّ دليل الانسداد جار في مسألة تعيين الطريق وهي المسألة الاصوليّة ، لا في نفس الأحكام الواقعيّة الفرعيّة ؛ بناء منه على أنّ الأحكام الواقعيّة بعد نصب الطرق (٢) ليست مكلّفا بها تكليفا فعليّا إلاّ بشرط قيام تلك الطرق عليها ، فالمكلّف به في الحقيقة مؤدّيات تلك الطرق ، لا الأحكام الواقعيّة من حيث هي.

وقد عرفت ممّا ذكرنا : أنّ نصب هذه الطرق ليس إلاّ لأجل كشفها الغالبيّ عن الواقع ومطابقتها له ، فإذا دار الأمر بين إعمال ظنّ (٣) في تعيينها أو في تعيين الواقع لم يكن رجحان للأوّل.

ثمّ إذا فرضنا أنّ نصبها ليس لمجرّد الكشف ، بل لأجل مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع ، لكن ليس مفاد نصبها تقييد الواقع بها واعتبار مساعدتها في إرادة الواقع ، بل مؤدّى وجوب العمل بها : جعلها

__________________

(١) انظر الصفحة ٤٦٣.

(٢) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «الطريق».

(٣) في (ت) و (ل) : «الظنّ».

٤٥٢

عين الواقع ولو بحكم الشارع ، لا قيدا له.

والحاصل : أنّه فرق بين أن يكون مرجع نصب هذه الطرق إلى قول الشارع : «لا اريد من الواقع إلاّ ما ساعد عليه ذلك الطريق» ، فينحصر التكليف الفعليّ حينئذ في مؤدّيات الطرق (١) ، ولازمه إهمال ما لم يؤدّ إليه الطريق من الواقع ، سواء انفتح باب العلم بالطريق أم انسدّ ، وبين أن يكون التكليف الفعليّ بالواقع باقيا على حاله ، إلاّ أنّ الشارع حكم بوجوب البناء على كون مؤدّى الطريق هو ذلك الواقع ، فمؤدّى هذه الطرق واقع جعليّ ، فإذا انسدّ طريق العلم إليه ودار الأمر بين الظنّ بالواقع الحقيقيّ وبين الظنّ بما جعله الشارع واقعا فلا ترجيح ؛ إذ الترجيح مبنيّ على إغماض الشارع عن الواقع.

وبذلك ظهر ما في قول بعضهم (٢)(٣) : من أنّ التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق إنّما يحسن لو كان أداء التكليف المتعلّق بكلّ من الفعل والطريق المقرّر مستقلا ؛ لقيام الظنّ في كلّ من التكليفين حينئذ مقام العلم به مع قطع النظر عن الآخر ، وأمّا لو كان أحد التكليفين منوطا بالآخر مقيّدا له ، فمجرّد حصول الظنّ بأحدهما دون حصول الظنّ بالآخر المقيّد له لا يقتضي الحكم بالبراءة. وحصول البراءة في صورة العلم بأداء الواقع إنّما هو لحصول الأمرين به ؛ نظرا إلى أداء

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «الطريق».

(٢) هو الشيخ محمّد تقي صاحب هداية المسترشدين.

(٣) كذا في نسخة بدل (ص) و (ل) ، وفي غيرهما : «هذا المستدلّ» ، إلاّ أنّه لم ترد «هذا» في (ل).

٤٥٣

الواقع وكونه من الوجه المقرّر ؛ لكون العلم طريقا إلى الواقع في العقل والشرع ، فلو كان الظنّ بالواقع ظنّا بالطريق جرى ذلك فيه أيضا ، لكنّه ليس كذلك ؛ فلذا لا يحكم بالبراءة معه (١) ، انتهى.

٢ ـ ما ذكره صاحب هداية المسترشدين

الوجه الثاني : ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين (٢) مع الوجه الأوّل وبعض الوجوه الأخر (٣) ، قال :

لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعيّة في الجملة ، وأنّ الواجب علينا أوّلا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف ، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به وسقوط التكليف عنّا ، سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

وحينئذ فنقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ؛ إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ.

وبينهما بون بعيد ؛ إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة ؛ لقيام دليل ظنّي على حجّيته سواء حصل منه الظنّ بالواقع

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٩٤.

(٢) هو الشيخ محمّد تقي صاحب هداية المسترشدين أيضا.

(٣) في (ظ) ، (م) ونسخة بدل (ص) بدل «الآخر» : «الآتية».

٤٥٤

أو لا ، وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم الشارع ؛ إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع الظنّ باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد النهي عن اتّباع الظنّ ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى العقل يلزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه رضى المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلاّ الدليل الظنّي الدالّ على حجّيّته ، فكلّ طريق قام ظنّ على حجّيّته عند الشارع يكون حجّة ، دون ما لم يقم عليه ذلك (١) ، انتهى بألفاظه.

وأشار بقوله : «حسب ما مرّ تفصيل القول فيه» إلى ما ذكره سابقا في مقدّمات هذا المطلب ، حيث قال في المقدّمة الرابعة من تلك المقدّمات :

إنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوّليّة إلاّ أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره؟ أو أنّ الواجب أوّلا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام ، وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع منّا في الظاهر وحكم معه قطعا بتفريغ ذمّتنا بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها ممّا جعلها وسيلة للوصول إليها ، سواء علم بمطابقته للواقع أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل به شيء منهما؟ وجهان.

الذي يقتضيه التحقيق : هو الثاني ؛ فإنّه القدر الذي يحكم العقل بوجوبه ودلّت الأدلّة المتقدّمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ،

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٩١.

٤٥٥

ولم يقض شيء من الأدلّة الشرعيّة بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بل الأدلّة الشرعيّة قائمة على خلاف ذلك ؛ إذ لم يبن الشريعة من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع ؛ وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام كفاية في ذلك ؛ إذ لم يوجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب أو الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ بالنظر إلى الجميع ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به (١) ، انتهى.

ثمّ شرع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقا ، إلى أن قال :

فتحصّل ممّا قرّرناه : كون العلم الذي هو مناط التكليف أوّلا هو العلم بالأحكام من الوجه المقرّر لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو أداؤه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمّة في حكم الشرع ، سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشارع وإن لم يعلم ولم يظنّ بمطابقتها للواقع.

وبعبارة اخرى : لا بدّ من المعرفة بالتكليف ، وأداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجه منته إلى اليقين ، من غير فرق بين الوجهين ، ولا ترتيب بينهما.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٨٤.

٤٥٦

نعم ، لو لم يظهر طريق مقرّر من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع مع إمكانه ؛ إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقّف لإيصاله إلى الواقع على بيان الشرع ، بخلاف غيره من الطرق المقرّرة (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

المناقشة فيما أفاده صاحب الهداية

أقول : ما ذكره في مقدّمات مطلبه : من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء الواقع على ما هو عليه (٢) وبين العلم بأدائه من الطريق المقرّر ، ممّا لا إشكال فيه.

نعم ، ما جزم به من أنّ المناط في تحصيل العلم أوّلا هو العلم بتفريغ الذمّة دون أداء الواقع على ما هو عليه ، فيه :

أنّ تفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة ، وإمّا بفعل ما حكم حكما جعليّا بأنّه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة ، فتفريغ الذمّة بهذا ـ على مذهب المخطّئة ـ من حيث إنّه نفس المراد الواقعيّ بجعل الشارع ، لا من حيث إنّه شيء مستقلّ في مقابل المراد الواقعيّ ، فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين.

والحاصل : أنّ مضمون الأوامر الواقعيّة المتعلّقة بأفعال المكلّفين مراد واقعيّ حقيقيّ ، ومضمون الأوامر الظاهريّة المتعلّقة بالعمل بالطرق المقرّرة ذلك المراد الواقعيّ ، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة ـ وقد اعترف (٣)

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٨٤ ـ ٣٨٥.

(٢) لم ترد «عليه» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٣) في (ت) زيادة : «به».

٤٥٧

المحقّق المذكور ؛ حيث عبّر عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول ـ فأداء كلّ من الواقع الحقيقيّ والواقع الجعليّ لا يكون بنفسه امتثالا وإطاعة للأمر (١) المتعلّق به ما لم يحصل العلم به.

نعم ، لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالأداءين ممّا لا يعتبر في سقوطه قصد الإطاعة والامتثال ، كان مجرّد إتيان كلّ منهما مسقطا للأمر من دون امتثال ، وأمّا الامتثال للأمر بهما فلا يحصل إلاّ مع العلم.

ثمّ إنّ هذين الأمرين مع التمكّن من امتثالهما يكون المكلّف مخيّرا في امتثال أيّهما ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين تحصيل العلم بالواقع فيتعيّن عليه وينتفي موضوع الأمر الآخر ؛ إذ المفروض كونه ظاهريّا قد اخذ في موضوعه عدم العلم بالواقع ، وبين ترك تحصيل الواقع وامتثال الأمر الظاهريّ.

هذا مع التمكّن من امتثالهما ، وأمّا لو تعذّر عليه امتثال أحدهما تعيّن عليه امتثال الآخر ، كما لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع وتمكّن من سلوك الطريق المقرّر ؛ لكونه معلوما له ، أو انعكس الأمر بأن تمكّن من العلم وانسدّ عليه باب سلوك الطريق المقرّر ؛ لعدم العلم به.

ولو عجز عنهما معا قام الظنّ بهما مقام العلم بهما بحكم العقل.

فترجيح الظنّ بسلوك الطريق المقرّر (٢) على الظنّ بسلوك الواقع

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) : «لأمره».

(٢) لم ترد «المقرّر» في (ر) و (ل).

٤٥٨

لم يعلم وجهه ، بل الظنّ بالواقع أولى في مقام الامتثال ؛ لما أشرنا إليه سابقا (١) : من حكم العقل والنقل بأولويّة إحراز الواقع.

هذا في الطريق المجعول في عرض العلم بأن أذن في سلوكه مع التمكّن من العلم ، وأمّا إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم ، فهو أيضا كذلك ؛ ضرورة أنّ القائم مقام تحصيل العلم الموجب للإطاعة الواقعيّة عند تعذّره هي الإطاعة الظاهريّة المتوقّفة على العلم بسلوك الطريق المجعول ، لا على مجرّد سلوكه.

والحاصل : أنّ سلوك الطريق المجعول ـ مطلقا أو عند تعذّر العلم ـ في مقابل العمل بالواقع ، فكما أنّ العمل بالواقع مع قطع النظر عن العلم لا يوجب امتثالا ، وإنّما يوجب فراغ الذمّة من المأمور به واقعا لو لم يؤخذ فيه تحقّقه على وجه الامتثال ، فكذلك سلوك الطريق المجعول ، فكلّ منهما موجب لبراءة الذمّة واقعا وإن لم يعلم بحصوله ، بل ولو اعتقد عدم حصوله.

وأمّا العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقّق في شيء منهما إلاّ بعد العلم أو الظنّ القائم مقامه.

فالحكم بأنّ الظنّ بسلوك الطريق المجعول يوجب الظنّ بفراغ الذمّة ، بخلاف الظنّ بأداء الواقع فإنّه لا يوجب الظنّ بفراغ الذمّة ، إلاّ إذا ثبت حجّيّة ذلك الظنّ ؛ وإلاّ فربما يظنّ بأداء الواقع من طريق يعلم بعدم حجّيته ، تحكّم صرف.

ومنشأ ما ذكره قدس‌سره : تخيّل أنّ نفس سلوك الطريق الشرعيّ

__________________

(١) راجع الصفحة ٤٥١.

٤٥٩

المجعول ، في مقابل سلوك الطريق العقليّ الغير المجعول وهو العلم بالواقع الذي هو سبب تامّ لبراءة الذمّة ، فيكون هو أيضا كذلك ، فيكون الظنّ بالسلوك ظنّا بالبراءة ، بخلاف الظنّ بالواقع ؛ لأنّ نفس أداء الواقع ليس سببا تامّا للبراءة حتّى يحصل من الظنّ به الظنّ بالبراءة ، فقد قاس الطريق الشرعيّ بالطريق العقليّ.

وأنت خبير : بأنّ الطريق الشرعيّ لا يتّصف بالطريقيّة فعلا إلاّ بعد العلم به تفصيلا ؛ وإلاّ فسلوكه ـ أعني مجرّد تطبيق الأعمال عليه ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع ، لغو صرف ؛ ولذلك أطلنا الكلام في أنّ سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع ، لا في مقابل العلم بالعمل (١) بالواقع ، ويلزم من ذلك كون كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما في مقابل المتعلّق بالآخر ؛ فدعوى : أنّ الظنّ بسلوك الطريق يستلزم الظنّ بالفراغ ، بخلاف الظنّ بإتيان الواقع ، فاسدة.

هذا كلّه ، مع ما علمت سابقا في ردّ الوجه الأوّل : من إمكان منع جعل الشارع طريقا إلى الأحكام ، وإنّما اقتصر على الطرق المنجعلة عند العقلاء وهو العلم ، ثمّ على الظنّ الاطمئنانيّ.

ثمّ إنّك حيث عرفت أنّ مآل هذا القول إلى أخذ نتيجة دليل الانسداد بالنسبة إلى المسائل الاصوليّة وهي حجّيّة الأمارات المحتملة للحجّيّة ، لا بالنسبة إلى نفس الفروع ، فاعلم :

القول باعتبار الظنّ في المسائل الفرعيّة دون الاصوليّة

أنّ في مقابله قولا آخر لغير واحد من مشايخنا المعاصرين قدّس الله أسرارهم (٢) ، وهو عدم جريان دليل الانسداد على وجه يشمل مثل

__________________

(١) لم ترد «بالعمل» في (م) و (ه).

(٢) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٤٣٨ ، الهامش (٢).

٤٦٠