فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

بمقتضاها حتّى يعارض بالظنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها ؛ بل لما ذكرنا : من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا ما لم يحصل العلم لنا ، ولا يكفي الظنّ به. ويؤكّده : ما ورد من النهي عن اتّباع الظنّ.

وعلى هذا ، ففي ما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه ـ كغسل الجمعة ـ فالخطب سهل ؛ إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور.

وأمّا فيما لم يكن مندوحة عنه ، كالجهر بالتسمية والإخفات بها في الصلاة الإخفاتيّة التي قال بوجوب كلّ منهما قوم ولا يمكن لنا ترك التسمية ، فلا محيص لنا عن الإتيان بأحدهما ، فنحكم بالتخيير فيها ؛ لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر أو الإخفات ، فلا حرج لنا في شيء منهما ، وعلى هذا فلا يتمّ الدليل المذكور ؛ لأنّا لا نعمل بالظنّ أصلا (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

المناقشة فيها أفاده الخوانساري قدس‌سره

وقد عرفت (٢) : أنّ المحقّق القمّي قدس‌سره (٣) أجاب عنه بما لا يسلم عن الفساد ، فالحقّ ردّه بالوجوه الثلاثة المتقدّمة (٤).

ثمّ إنّ ما ذكره : من التخلّص عن العمل بالظنّ بالرجوع إلى البراءة ، لا يجري في جميع الفقه ؛ إذ قد يتردّد الأمر بين كون المال لأحد شخصين ، كما إذا شكّ في صحّة بيع المعاطاة فتبايع بها اثنان ، فإنّه

__________________

(١) حاشية جمال الدين الخوانساري على شرح المختصر (مخطوط) : الورقة ١١٩.

(٢) راجع الصفحة ٣٩٨.

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «قد».

(٤) في الصفحة ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

٤٠١

لا مجرى هنا للبراءة ؛ لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه وكذا في الثمن ، ولا معنى للتخيير أيضا ؛ لأنّ كلا منهما يختار مصلحته ، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه.

مع أنّ الكلام في حكم الواقعة ، لا في علاج الخصوصة.

اللهمّ إلاّ أن يتمسّك في أمثاله بأصالة عدم ترتّب الأثر ، بناء على أنّ أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة ، فلو ابدل في الإيراد أصالة البراءة بأصالة العدم كان أشمل.

ويمكن أن يكون هذا الأصل ـ يعني أصل الفساد وعدم التملّك وأمثاله ـ داخلا في المستثنى في قوله : «لا يثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم» ، بناء على أنّ أصل العدم من الظنون الخاصّة التي قام على اعتبارها الإجماع والسيرة ، إلاّ أن يمنع قيامهما على اعتباره عند اشتباه الحكم الشرعيّ مع وجود الظنّ على خلافه.

واعتباره من باب الاستصحاب ـ مع ابتنائه على حجّيّة الاستصحاب في الحكم الشرعيّ ـ رجوع إلى الظنّ العقليّ أو الظنّ الحاصل من أخبار الآحاد الدالّة على الاستصحاب.

اللهمّ إلاّ أن يدّعى تواترها ولو إجمالا ، بمعنى حصول العلم بصدور بعضها إجمالا ، فيخرج عن حيّز الآحاد (١) ، ولا يخلو عن تأمّل.

وكيف كان ، ففي الأجوبة المتقدّمة (٢) ولا أقلّ من الوجه الأخير غنى وكفاية إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في غير (ظ) و (م) : «خبر الآحاد».

(٢) في الصفحة ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

٤٠٢

المقدّمة الثالثة : بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل

المقدّمة الثالثة :

في بيان بطلان وجوب تحصيل الامتثال بالطرق المقرّرة للجاهل : من الاحتياط ، أو الرجوع في كلّ مسألة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك المسألة ، أو الرجوع إلى فتوى العالم بالمسألة وتقليده فيها ، فنقول :

إنّ كلا من هذه الامور الثلاثة وإن كان طريقا شرعيّا في الجملة لامتثال الحكم المجهول ، إلاّ أنّ منها ما لا يجب في المقام ومنها ما لا يجري.

عدم وجوب الاحتياط لوجهين

أمّا الاحتياط ، فهو وإن كان مقتضى الأصل والقاعدة العقليّة والنقليّة عند ثبوت العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ، إلاّ أنّه في المقام ـ أعني صورة انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهيّة ـ غير واجب ؛ لوجهين :

١ ـ الإجماع القطعيّ

أحدهما : الإجماع القطعيّ على عدم وجوبه في المقام ، لا بمعنى أنّ أحدا من العلماء لم يلتزم بالاحتياط في كلّ الفقه أو جلّه حتّى يرد عليه : أنّ عدم التزامهم به إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركا في المسألة ، بل بالمعنى الذي تقدّم نظيره في الإجماع على عدم الرجوع إلى البراءة.

وحاصله : دعوى الإجماع القطعيّ على أنّ المرجع في الشريعة ـ على تقدير انسداد باب العلم في معظم الأحكام وعدم ثبوت حجّيّة أخبار الآحاد رأسا أو باستثناء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم ـ ليس هو الاحتياط في الدين والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك.

٤٠٣

وصدق هذه الدعوى ممّا يجده المنصف من نفسه (١) بعد ملاحظة قلّة المعلومات ، مضافا إلى ما يستفاد من أكثر كلمات العلماء ، المتقدّمة (٢) في بطلان الرجوع إلى البراءة وعدم التكليف في المجهولات ؛ فإنّها واضحة الدلالة على أنّ (٣) بطلان الاحتياط كالبراءة مفروغ عنه ، فراجع (٤).

٢ ـ لزوم العسر والحرج

الثاني : لزوم العسر الشديد والحرج الأكيد في التزامه ؛ لكثرة ما يحتمل موهوما وجوبه خصوصا في أبواب الطهارة والصلاة ، فمراعاته ممّا يوجب الحرج ، والمثال لا يحتاج إليه ؛ فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه إجماع قطعيّ أو خبر متواتر على الالتزام بالاحتياط في جميع اموره يوما وليلة ، لوجد صدق ما ادّعيناه.

هذا كلّه بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط.

تعليم وتعلّم موارد الاحتياط حرج أيضا

وأمّا تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلّده ، وتعلّم المقلّد موارد الاحتياط الشخصيّة ، وعلاج تعارض الاحتياطات ، وترجيح الاحتياط الناشئ عن الاحتمال القويّ على الاحتياط الناشئ عن الاحتمال الضعيف ، فهو أمر مستغرق لأوقات المجتهد والمقلّد ، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلّمها في حرج يخلّ بنظام معاشهم ومعادهم.

__________________

(١) في (ت) ، (ر) ونسخة بدل (ص) : «في نفسه».

(٢) راجع الصفحة ٣٩٠ ـ ٣٩٤.

(٣) في غير (ت) : «في أنّ».

(٤) لم ترد عبارة «مضافا ـ إلى ـ فراجع» في (ظ) و (م) ، وكتب فوقها في (ص) : «نسخة».

٤٠٤

توضيح الحرج في ذلك

توضيح ذلك : أنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ترك التطهير به ، لكن قد يعارضه في الموارد الشخصيّة احتياطات أخر ، بعضها أقوى منه وبعضها أضعف وبعضها مساو ؛ فإنّه قد يوجد ماء آخر للطهارة ، وقد لا يوجد معه إلاّ التراب ، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره ، فإنّ الاحتياط في الأوّل هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة اخرى ، كما إذا كان قد أصابه ما (١) لم ينعقد الإجماع على طهارته. وفي الثاني هو الجمع بين الطهارة المائيّة والترابيّة إن لم يزاحمه ضيق الوقت المجمع عليه (٢). وفي الثالث الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب.

فكيف يسوغ للمجتهد أن يلقي إلى مقلّده أنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط في كثير من الموارد استعماله فقط أو الجمع بينه وبين غيره.

وبالجملة : فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة وتعلّمها ـ فضلا عن العمل بها ـ أمر يكاد يلحق بالمتعذّر ، و (٣) يظهر ذلك (٤) بالتأمّل في الوقائع الاتّفاقيّة.

فإن قلت : لا يجب على المقلّد متابعة هذا الشخص الذي أدّى

__________________

(١) في (ت) و (ص) : «قد أصابه ماء».

(٢) لم ترد «المجمع عليه» في (ر) و (ل) ، وشطب عليها في (ت) و (ه).

(٣) لم ترد «و» في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) في (ل) : «يظهر لك».

٤٠٥

نظره إلى انسداد باب العلم في معظم المسائل ووجوب الاحتياط ، بل يقلّد غيره.

قلت ـ مع أنّ لنا أن نفرض انحصار المجتهد في هذا الشخص ـ : إنّ كلامنا في حكم الله سبحانه بحسب اعتقاد هذا المجتهد الذي اعتقد انسداد باب العلم ، وعدم الدليل على ظنّ خاصّ يكتفى به في تحصيل غالب الأحكام ، وأنّ من يدّعي وجود الدليل على ذلك فإنّما نشأ اعتقاده ممّا لا ينبغي الركون إليه ويكون الركون إليه جزما في غير محلّه ، فالكلام في : أنّ حكم الله تعالى ـ على تقدير انسداد باب العلم وعدم نصب الطريق الخاصّ ـ لا يمكن أن يكون هو الاحتياط بالنسبة إلى العباد ؛ للزوم الحرج البالغ حدّ اختلال النظام.

ولا يخفى : أنّه لا وجه لدفع هذا الكلام بأنّ العوامّ يقلّدون مجتهدا غير هذا قائلا بعدم انسداد باب العلم أو بنصب الطرق الظنّيّة الوافية بأغلب الأحكام ، فلا يلزم عليهم حرج وضيق.

مع عدم إمكان الاحتياط لا مناص عن العمل بالظنّ

ثمّ إنّ هذا كلّه مع كون المسألة في نفسها ممّا يمكن فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل في العبادات ، أمّا مع عدم إمكان الاحتياط ـ كما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ واحد منهما إلى صرفه عليه في الحال ، وكما في المرافعات ـ فلا مناص عن العمل بالظنّ.

الإيراد على لزوم الحرج بوجوه

وقد يورد على إبطال الاحتياط بلزوم الحرج بوجوه لا بأس بالإشارة إلى بعضها :

الإيراد الأوّل

منها : النقض بما لو أدّى اجتهاد المجتهد وعمله بالظنّ إلى فتوى يوجب الحرج ، كوجوب الترتيب بين الحاضرة والفائتة لمن عليه فوائت كثيرة ، أو وجوب الغسل على مريض أجنب متعمّدا وإن أصابه من

٤٠٦

المرض ما أصابه كما هو قول بعض أصحابنا (١) ، وكذا لو فرضنا أداء ظنّ المجتهد إلى وجوب امور كثيرة يحصل العسر بمراعاتها (٢).

وبالجملة : فلزوم الحرج من العمل بالقواعد لا يوجب الإعراض عنها ، ففيما نحن فيه (٣) إذا اقتضى القاعدة رعاية الاحتياط لم يرفع اليد عنها للزوم العسر.

جواب الإيراد

والجواب : أنّ ما ذكر في غاية الفساد ؛ لأنّ مرجعه إن كان إلى منع نهوض أدلّة نفي الحرج للحكومة على مقتضيات القواعد والعمومات وتخصيصها بغير صورة لزوم الحرج ، فينبغي أن ينقل الكلام في منع ثبوت قاعدة الحرج ، ولا يخفى أنّ منعه في غاية السقوط ؛ لدلالة الأخبار المتواترة معنى عليه (٤) ، مضافا إلى دلالة ظاهر الكتاب (٥).

والحاصل : أنّ قاعدة نفي الحرج ممّا ثبتت بالأدلّة الثلاثة ، بل الأربعة في مثل المقام ؛ لاستقلال العقل بقبح التكليف بما يوجب اختلال نظام أمر المكلّف. نعم ، هي في غير ما يوجب الاختلال قاعدة ظنّية تقبل الخروج عنها بالأدلّة الخاصّة المحكمة وإن لم تكن قطعيّة.

__________________

(١) كالشيخ المفيد في المقنعة : ٦٠.

(٢) في (ت) ، (ل) ، (ه) ونسخة بدل (ص) : «لمراعاتها».

(٣) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «وفيما نحن فيه».

(٤) مثل : ما في الوسائل ١ : ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ ، والصفحة ١١٣ و ١١٥ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥ و ١١ ، وانظر عوائد الأيّام : ١٧٤ ـ ١٨١.

(٥) سورة الحجّ : ٧٨.

٤٠٧

حكومة أدلّة نفي الحرج على العمومات المثبتة للتكليف

وأمّا القواعد والعمومات المثبتة للتكليف ، فلا إشكال بل لا خلاف في حكومة أدلّة نفي الحرج عليها ، لا لأنّ النسبة بينهما عموما من وجه فيرجع إلى أصالة البراءة كما قيل (١) ، أو إلى المرجّحات الخارجيّة المعاضدة لقاعدة نفي الحرج كما زعم (٢) ؛ بل لأنّ أدلّة نفي العسر (٣) بمدلولها اللفظيّ حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف ، فهي بالذات مقدّمة عليها ، وهذا هو السرّ في عدم ملاحظة الفقهاء المرجّح الخارجيّ ، بل يقدّمونها من غير مرجّح خارجيّ.

نعم ، جعل بعض متأخّري المتأخّرين (٤) عمل الفقهاء بها في الموارد من المرجّحات لتلك القاعدة ؛ زعما منه أنّ عملهم لمرجّح توقيفيّ اطّلعوا عليه واختفى علينا (٥). ولم يشعر أنّ وجه التقديم كونها حاكمة على العمومات.

ممّا يوضح الحكومة

وممّا يوضح ما ذكرنا ، و (٦) يدعو إلى التأمّل في وجه التقديم المذكور في محلّه ، ويوجب الإعراض عمّا زعمه غير واحد (٧) ، من

__________________

(١) انظر القوانين ٢ : ٥٠.

(٢) زعمه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٣٧.

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «والحرج».

(٤) انظر كفاية الأحكام : ٢٤١.

(٥) في (ر) ، (ظ) و (م) ومصحّحة (ل) ونسخة بدل (ص) : «واختفى عنّا».

(٦) في (ظ) ، (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) بدل «وممّا يوضح ما ذكرنا و» : «وتوضيح هذا وإن كان له مقام آخر ، إلاّ أنّا نشير إجمالا إلى ما» ، وفي (ظ) و (م) بدل «له» : «في».

(٧) كالسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٥٣٧ ، والفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ١٩٤.

٤٠٨

وقوع التعارض بينها وبين سائر العمومات ، فيجب الرجوع إلى الاصول أو المرجّحات : ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام في من عثر ، فانقطع ظفره ، فجعل عليه مرارة ، فكيف يصنع بالوضوء؟ فقال عليه‌السلام : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ؛) امسح عليه» (١).

فإنّ في إحالة الإمام عليه‌السلام لحكم هذه الواقعة إلى عموم نفي الحرج ، وبيان أنّه ينبغي أن يعلم منه أنّ الحكم في هذه الواقعة المسح فوق المرارة ، مع معارضة العموم المذكور بالعمومات الموجبة للمسح على البشرة ، دلالة واضحة على حكومة عمومات نفي الحرج بأنفسها على العمومات المثبتة للتكاليف من غير (٢) ملاحظة تعارض وترجيح في البين ، فافهم.

وإن كان مرجع ما ذكره إلى : أنّ التزام العسر إذا دلّ عليه الدليل لا بأس به ، كما فيما ذكر من المثال والفرض ، ففيه ما عرفت (٣) ، من : أنّه لا يخصّص تلك العمومات إلاّ ما يكون أخصّ منها معاضدا بما يوجب قوّته (٤) على تلك العمومات الكثيرة الواردة في الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّه ليس في المقام إلاّ قاعدة الاحتياط التي قد رفع اليد عنها لأجل العسر في موارد كثيرة : مثل الشبهة الغير المحصورة ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ ، والآية من سورة الحجّ : ٧٨.

(٢) في غير (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «حاجة إلى».

(٣) راجع الصفحة ٤٠٧.

(٤) كذا في مصحّحة (ت) ، وفي غيرها : «قوّتها».

٤٠٩

وما لو علم أنّ عليه فوائت ولا يحصي عددها ، وغير ذلك.

بل أدلّة نفي العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل بالنسبة إلى الأصل ، فتقديمها عليها أوضح من تقديمها على العمومات الاجتهاديّة.

وأمّا ما ذكره : من فرض أداء ظنّ المجتهد إلى وجوب امور يلزم من فعلها الحرج ، فيرد عليه :

أوّلا : منع إمكانه ؛ لأنّا علمنا بأدلّة نفي الحرج أنّ الواجبات الشرعيّة في الواقع ليست بحيث يوجب العسر على المكلّف ، ومع هذا العلم الإجماليّ يمتنع الظنّ التفصيليّ بوجوب امور في الشريعة يوجب ارتكابها العسر ، على ما مرّ نظيره في الإيراد على دفع الرجوع إلى البراءة.

وثانيا : سلّمنا إمكان ذلك ـ إمّا لكون الظنون الحاصلة في المسائل الفرعيّة كلّها أو بعضها ظنونا نوعيّة لا تنافي العلم الإجماليّ بمخالفة البعض للواقع ، أو بناء على أنّ المستفاد من أدلّة نفي العسر (١) ليس هو القطع ولا الظنّ الشخصيّ بانتفاء العسر ، بل غايته الظنّ النوعيّ الحاصل من العمومات بذلك ، فلا ينافي الظنّ الشخصيّ التفصيليّ في المسائل الفرعيّة على الخلاف ، وإمّا بناء على ما ربما يدّعى : من عدم التنافي بين الظنون التفصيليّة الشخصيّة والعلم الإجماليّ بخلافها ، كما في الظنّ الحاصل من الغلبة مع العلم الإجماليّ بوجود الفرد النادر على الخلاف ـ لكن (٢)

__________________

(١) في (ت) و (ه) زيادة : «والحرج».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «ولكن».

٤١٠

نمنع وقوع ذلك ؛ لأنّ الظنون الحاصلة للمجتهد ـ بناء على مذهب الإماميّة من عدم اعتبار الظنّ القياسيّ وأشباهه ـ ظنون حاصلة من أمارات مضبوطة محصورة ، كأقسام الخبر والشهرة والاستقراء والإجماع المنقول والأولويّة الاعتباريّة ونظائرها ، ومن المعلوم للمتتبّع فيها أنّ مؤدّياتها لا تفضي إلى الحرج ؛ لكثرة ما يخالف الاحتياط فيها ، كما لا يخفى على من لاحظها وسبرها سبرا إجماليّا.

وثالثا : سلّمنا إمكانه ووقوعه ، لكنّ العمل بتلك الظنون لا يؤدّي إلى اختلال النظام حتّى لا يمكن إخراجها عن عمومات نفي العسر ، فنعمل (١) بها في مقابلة عمومات نفي العسر ونخصّصها (٢) بها ؛ لما عرفت (٣) من قبولها التخصيص في غير مورد الاختلال.

وليس في هذا كرّ على ما فرّ منه ؛ حيث إنّا عملنا بالظنّ فرارا عن لزوم العسر ، فإذا أدّى إليه فلا وجه للعمل به ؛ لأنّ العسر اللازم على تقدير طرح العمل بالظنّ كان بالغا حدّ اختلال النظام من جهة لزوم مراعاة الاحتمالات الموهومة والمشكوكة ، وأمّا الظنون المطابقة لمقتضى الاحتياط فلا بدّ من العمل عليها ، سواء عملنا بالظنّ أو عملنا بالاحتياط ، وحينئذ : فليس العسر اللازم من العمل بالظنون الاجتهاديّة في فرض المعترض من جهة العمل بالظنّ ، بل من جهة مطابقته (٤)

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «فتعمل».

(٢) في (ت) : «وتخصّصها».

(٣) راجع الصفحة ٤٠٧.

(٤) في (ت) و (ر) : «المطابقة».

٤١١

لمقتضى الاحتياط ، فلو عمل بالاحتياط وجب عليه أن يضيف إلى تلك الظنون الاحتمالات الموهومة والمشكوكة المطابقة للاحتياط.

الإيراد الثاني على لزوم الحرج وجوابه

ومنها : أنّه يقع التعارض بين الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ والعمومات النافية للحرج ، والأوّل أكثر ، فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الإجماليّ بالتكاليف الكثيرة سليمة عن المزاحم.

وفيه : ما لا يخفى ؛ لما عرفت في تأسيس الأصل (١) : من أنّ العمل بالظنّ ليس فيه ـ إذا لم يكن بقصد التشريع والالتزام شرعا بمؤدّاه ـ حرمة ذاتيّة ، وإنّما يحرم إذا أدّى إلى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم ، فالنافي للعمل بالظنّ فيما نحن فيه ليس إلاّ قاعدة الاحتياط الآمرة بإحراز الاحتمالات الموهومة وترك العمل بالظنون المقابلة لتلك الاحتمالات ، وقد فرضنا أنّ قاعدة الاحتياط ساقطة بأدلّة نفي العسر (٢). ثمّ لو فرضنا ثبوت الحرمة الذاتيّة للعمل بالظنّ ولو لم يكن على جهة التشريع ، لكن عرفت سابقا (٣) عدم معارضة عمومات نفي العسر لشيء من العمومات المثبتة للتكليف المتعسّر.

الإيراد الثالث على لزوم الحرج

ومنها : أنّ الأدلّة النافية للعسر إنّما تنفي وجوده في الشريعة بحسب أصل الشرع أوّلا وبالذات ، فلا تنافي وقوعه بسبب عارض لا يسند إلى الشارع ؛ ولذا لو نذر المكلّف امورا عسرة ـ كالأخذ بالاحتياط في جميع الأحكام الغير المعلومة ، وكصوم الدهر ، أو

__________________

(١) راجع الصفحة ١٣٤.

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «والحرج».

(٣) راجع الصفحة ٤٠٨.

٤١٢

إحياء (١) الليالي أو المشي إلى الحجّ والزيارات (٢) ـ لم يمنع تعسّرها عن انعقاد نذرها ؛ لأنّ الالتزام بها إنّما جاء من قبل المكلّف. وكذا لو آجر نفسه لعمل شاقّ لم يمنع مشقّته من صحّة الإجارة ووجوب الوفاء بها.

وحينئذ ، فنقول : لا ريب أنّ وجوب الاحتياط ـ بإتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة ـ إنّما هو من جهة اختفاء الأحكام الشرعيّة المسبّب عن المكلّفين المقصّرين في محافظة الآثار الصادرة عن الشارع المبيّنة للأحكام والمميّزة للحلال عن الحرام ، وهذا السبب وإن لم يكن عن (٣) فعل كلّ مكلّف ـ لعدم مدخليّة أكثر المكلّفين في ذلك ـ إلاّ أنّ التكليف بالعسر ليس قبيحا عقليّا حتّى يقبح أن يكلّف به من لم يكن سببا له ويختصّ عدم قبحه بمن صار التعسّر من سوء اختياره ، بل هو أمر منفيّ بالأدلّة السمعيّة ، وظاهرها أنّ المنفيّ هو جعل الأحكام الشرعيّة أوّلا وبالذات على وجه يوجب العسر على المكلّف ، فلا ينافي عروض التعسّر لامتثالها من جهة تقصير المقصّرين في ضبطها وحفظها عن الاختفاء مع كون ثواب الامتثال حينئذ أكثر بمراتب.

ألا ترى : أنّ الاجتهاد الواجب على المكلّفين ـ ولو كفاية ـ من

__________________

(١) في (ت) ، (ظ) و (م) : «وإحياء» ، وفي غير (ه) و (ت) : «إحياء بعض الليالي».

(٢) في (ر) و (ص) : «أو الزيارات».

(٣) في (ت) ، (ظ) ، (م) و (ه) : «من».

٤١٣

الامور الشاقّة جدّا خصوصا في هذه الأزمنة ، فهل السبب فيه إلاّ تقصير المقصّرين الموجبين لاختفاء آثار الشريعة؟ وهل يفرّق في نفي العسر بين الوجوب الكفائيّ والعينيّ؟

جواب الإيراد الثالث

والجواب عن هذا الوجه : أنّ أدلّة نفي العسر ـ سيّما البالغ منه حدّ اختلال النظام والإضرار بامور المعاش والمعاد ـ لا فرق فيها بين ما يكون بسبب يسند عرفا إلى الشارع ، وهو الذي اريد بقولهم عليهم‌السلام : «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (١) ، وبين ما يكون مسندا إلى غيره.

ووجوب صوم الدهر على ناذره إذا كان فيه مشقّة لا يتحمّل عادة ممنوع. وكذا أمثالها (٢) : من المشي إلى بيت الله جلّ ذكره ، وإحياء الليالي ، وغيرهما.

مع إمكان أن يقال : بأنّ ما ألزمه المكلّف على نفسه من المشاقّ (٣) ، خارج عن العمومات ، لا ما كان السبب فيه نفس المكلّف ، فيفرّق بين الجنابة متعمّدا فلا يجب الغسل مع المشقّة وبين إجارة النفس للمشاقّ ؛ فإنّ الحكم في الأوّل تأسيس من الشارع وفي الثاني إمضاء لما ألزمه المكلّف على نفسه ، فتأمّل.

وأمّا الاجتهاد الواجب كفاية عند انسداد باب العلم ـ فمع أنّه شيء يقضي بوجوبه الأدلّة القطعيّة ، فلا ينظر إلى تعسّره وتيسّره ـ فهو

__________________

(١) الوسائل ٧ : ١٦٢ ، الباب ٢٤ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث ٦.

(٢) كذا في جميع النسخ ، والأنسب : «أمثاله».

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) زيادة : «لازم» ، وفي (ظ) و (م) زيادة : «بملزم».

٤١٤

ليس أمرا حرجا (١) ، خصوصا بالنسبة إلى أهله ؛ فإنّ مزاولة العلوم لأهلها ليس بأشقّ من أكثر المشاغل الصعبة التي يتحمّلها الناس لمعاشهم ، وكيف كان فلا يقاس عليه.

وأمّا عمل العباد بالاحتياط ومراقبة ما هو أحوط الأمرين أو الامور في الوقائع الشخصيّة إذا دار الأمر فيها بين الاحتياطات المتعارضة ، فإنّ هذا دونه خرط القتاد ؛ إذ أوقات المجتهد لا يفي بتمييز (٢) موارد الاحتياط (٣) ، ثمّ إرشاد المقلّدين إلى ترجيح بعض الاحتياطات على بعض عند تعارضها في الموارد الشخصيّة التي تتّفق (٤) للمقلّدين ، كما مثّلنا لك سابقا بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر.

الردّ على الاحتياط بوجوه أخر

وقد يردّ الاحتياط بوجوه أخر غير ما ذكرنا من الإجماع والحرج :

الوجه الأوّل والمناقشة فيه

منها : أنّه لا دليل على وجوب الاحتياط ، وأنّ الاحتياط أمر مستحبّ إذا لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة.

وفيه : أنّه إن اريد أنّه لا دليل على وجوبه في كلّ واقعة إذا لوحظت مع قطع النظر عن العلم الإجماليّ بوجود التكليف (٥) بينها وبين الوقائع الأخر ، فهو مسلّم بمعنى : أنّ كلّ واقعة ليست ممّا يقتضي الجهل

__________________

(١) في (ر) : «حرجيّا».

(٢) في غير (ه) : «بتميّز».

(٣) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «الاحتياطات».

(٤) في النسخ : «يتّفق».

(٥) في (ت) و (ه) : «التكاليف».

٤١٥

فيها ـ بنفسها ـ للاحتياط (١) ، بل الشكّ فيها إن رجع إلى التكليف ـ كما في شرب التتن ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ لم يجب فيها الاحتياط ، وإن رجع إلى تعيين المكلّف به ـ كالشكّ في القصر والإتمام والظهر والجمعة ، وكالشكّ في مدخليّة شيء في العبادات بناء على وجوب الاحتياط فيما شكّ في مدخليّته ـ وجب فيها الاحتياط ، لكن وجوب الاحتياط في ما نحن فيه في الوقائع المجهولة من جهة العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات فيها وإن كان الشكّ في نفس الواقعة شكّا في التكليف ؛ ولذا ذكرنا سابقا (٢) : أنّ الاحتياط هو مقتضى القاعدة الأوّليّة عند انسداد باب العلم.

نعم ، من لا يوجب الاحتياط حتّى مع العلم الإجماليّ بالتكليف فهو مستريح عن كلفة الجواب عن الاحتياط.

الوجه الثاني : أنّ العمل بالاحتياط مخالف للاحتياط

ومنها : أنّ العمل بالاحتياط مخالف للاحتياط ؛ لأنّ مذهب جماعة من العلماء بل المشهور بينهم اعتبار معرفة الوجه ، بمعنى تمييز (٣) الواجب عن المستحبّ اجتهادا أو تقليدا ـ قال في الإرشاد في أوائل الصلاة : يجب معرفة واجب أفعال الصلاة من مندوبها وإيقاع كلّ منهما (٤) على وجهه (٥) ـ وحينئذ : ففي الاحتياط إخلال بمعرفة الوجه ، التي أفتى جماعة

__________________

(١) كذا في جميع النسخ ، ولعلّ الأنسب : «الاحتياط».

(٢) راجع الصفحة ٤٠٣.

(٣) في (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «تميّز».

(٤) في (ت) و (م) : «كلّ منها».

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٥١.

٤١٦

بوجوبها وبإطلاق بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه :

أوّلا : أنّ معرفة الوجه ممّا يمكن ـ للمتأمّل في الأدلّة وفي إطلاقات العبادة وفي سيرة المسلمين وفي سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام مع الناس ـ الجزم بعدم اعتبارها حتّى مع التمكّن من المعرفة العلميّة ؛ ولذا ذكر المحقّق قدس‌سره ـ كما في المدارك في باب الوضوء ـ : أنّ ما حقّقه المتكلّمون من وجوب إيقاع الفعل لوجهه (١) أو وجه وجوبه كلام شعريّ (٢) ، وتمام الكلام في غير هذا المقام.

وثانيا : لو سلّمنا وجوب المعرفة أو احتمال وجوبها الموجب للاحتياط ، فإنّما هو مع التمكّن من المعرفة العلميّة ، أمّا مع عدم التمكّن فلا دليل عليه قطعا ؛ لأنّ اعتبار معرفة الوجه إن كان لتوقّف نيّة الوجه عليها ، فلا يخفى أنّه لا يجدي المعرفة الظنّيّة في نيّة الوجه ؛ فإنّ مجرّد الظنّ بوجوب شيء لا يتأتّى معه القصد إليه (٣) لوجوبه ؛ إذ لا بدّ من الجزم بالغاية. ولو اكتفي بمجرّد الظنّ بالوجوب ـ ولو لم يكن نيّة حقيقة ـ فهو ممّا لا يفي بوجوبه ما ذكروه في اشتراط نيّة الوجه. نعم ، لو كان الظنّ المذكور ممّا ثبت وجوب العمل به تحقّق معه نيّة الوجه الظاهريّ على سبيل الجزم. لكنّ الكلام بعد في وجوب العمل بالظنّ.

فالتحقيق : أنّ الظنّ بالوجه إذا لم يثبت حجّيّته فهو كالشكّ فيه

__________________

(١) في (ت) و (ص) : «بوجهه».

(٢) انظر الرسائل التسع : ٣١٧ ، والمدارك ١ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٣) لم ترد «إليه» في (ر) ، (ص) و (ظ).

٤١٧

لا وجه لمراعاة نيّة الوجه (١) معه أصلا.

وإن كان اعتبارها لأجل توقّف الامتثال التفصيليّ المطلوب عقلا وشرعا (٢) عليه ـ ولذا أجمعوا ظاهرا (٣) على عدم كفاية الامتثال الإجماليّ مع التمكّن من التفصيليّ ، بأن يتمكّن من الصلاة إلى القبلة في مكان ويصلّي في مكان آخر غير معلوم القبلة إلى أربع جهات ، أو يصلّي في ثوبين مشتبهين أو أكثر مرّتين أو أكثر مع إمكان صلاة واحدة في ثوب معلوم الطهارة ، إلى غير ذلك ـ ففيه :

أنّ ذلك إنّما هو مع التمكّن من العلم التفصيليّ ، وأمّا مع عدم التمكّن منه ـ كما في ما نحن فيه ـ فلا دليل على ترجيح الامتثال التفصيليّ الظنّي على الامتثال الإجماليّ العلميّ ؛ إذ لا دليل على ترجيح صلاة واحدة في مكان إلى جهة مظنونة على الصلاة (٤) المكرّرة في مكان مشتبه الجهة ، بل بناء العقلاء في إطاعاتهم العرفيّة على ترجيح العلم الإجماليّ على الظنّ التفصيليّ.

وبالجملة : فعدم جواز الاحتياط مع التمكّن من تحصيل الظنّ ممّا لم يقم له وجه ، فإن كان ولا بدّ من إثبات العمل بالظنّ فهو بعد تجويز الاحتياط والاعتراف برجحانه وكونه مستحبّا ، بل لا يبعد ترجيح الاحتياط على تحصيل (٥) الظنّ الخاصّ الذي قام الدليل عليه بالخصوص ، فتأمّل.

__________________

(١) في (ص) ، (م) و (ه) زيادة : «فيه».

(٢) في (ت) ، (ل) و (ه) : «أو شرعا».

(٣) لم ترد «ظاهرا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) في (ظ) ، (ل) و (ه) : «الصلوات».

(٥) لم ترد «تحصيل» في (ر) ، (ص) و (ظ).

٤١٨

نعم ، الاحتياط مع التمكّن من العلم التفصيليّ في العبادات ممّا انعقد الإجماع ظاهرا على عدم جوازه ، كما أشرنا إليه في أوّل الرسالة في مسألة اعتبار العلم الإجماليّ وأنّه كالتفصيليّ من جميع الجهات أم لا ، فراجع (١).

وممّا ذكرنا ظهر : أنّ القائل بانسداد باب العلم وانحصار المناص في مطلق الظنّ ليس له أن يتأمّل في صحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد إذا أخذ بالاحتياط ؛ لأنّه لم يبطل عند انسداد باب العلم إلاّ وجوب الاحتياط لا جوازه أو رجحانه ، فالأخذ بالظنّ (٢) وترك الاحتياط عنده من باب الترخيص ودفع (٣) العسر والحرج ، لا من باب العزيمة.

وثالثا : سلّمنا تقديم الامتثال التفصيلي ولو كان ظنّيا على الإجماليّ ولو كان علميّا ، لكنّ الجمع ممكن بين تحصيل الظنّ في المسألة ومعرفة الوجه ظنّا والقصد إليه على وجه الاعتقاد الظنّي ، والعمل على الاحتياط.

مثلا : إذا حصل الظنّ بوجوب القصر في ذهاب أربعة فراسخ ، فيأتي بالقصر بالنيّة الظنّيّة الوجوبيّة ، ويأتي بالإتمام بقصد القربة احتياطا أو بقصد الندب (٤). وكذلك إذا حصل الظنّ بعدم وجوب السورة في

__________________

(١) راجع الصفحة ٧١ ـ ٧٢.

(٢) في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه) زيادة : «عنده».

(٣) في (ر) ، (ص) و (م) : «رفع».

(٤) لم ترد عبارة «أو بقصد الندب» في (ت) ، (ر) و (ه). وشطب عليها في (ص).

٤١٩

الصلاة ، فينوي الصلاة الخالية عن السورة على وجه الوجوب ، ثمّ يأتي بالسورة قربة إلى الله تعالى للاحتياط (١).

ورابعا : لو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا ، فنقول : إنّ الظنّ إذا لم يثبت حجّيّته فقد (٢) كان اللازم بمقتضى العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات في الوقائع المشتبهة هو الاحتياط كما عرفت سابقا (٣) ، فإذا وجب الاحتياط حصل معرفة وجه العبادة وهو الوجوب ، وتأتّى نيّة الوجه (٤) الظاهريّ كما تأتّى في جميع الموارد التي يفتي فيها الفقهاء بالوجوب من باب الاحتياط واستصحاب الاشتغال (٥).

فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ العمدة في ردّ الاحتياط هي ما تقدّم من الإجماع ولزوم العسر دون غيرهما.

__________________

(١) في (ه) زيادة : «بناء على اعتبار قصد الوجه» ، وفي (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) زيادة عبارة اخرى ـ مع اختلاف يسير بينها ـ وهي : «أو بقصد الندب بناء على اعتبار قصد الوجه.

ودعوى : أنّ التمام المأتيّ به في الفرض الأوّل والسورة المأتيّ بها في الفرض الثاني ، يحتمل وجوبهما ، فيكون نيّة الندب نيّة الخلاف والندب مخالفة للاحتياط ، يدفعها : الإجماع على أنّه لا يعتبر فيما يؤتى به لخصوص الاحتياط إلاّ الوجه الظاهريّ ؛ وإلاّ لارتفع الاحتياط رأسا ، وهو باطل بديهة من العقل والشرع» ، ولكن كتب فوقها في (ص) : «زيادة».

(٢) لم ترد «فقد» في (ت) و (ه).

(٣) راجع الصفحة ٤٠٣.

(٤) في (ل) و (ص) : «نيّة الوجوب».

(٥) في (ر) و (ص) زيادة : «فتأمّل».

٤٢٠