فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

وفيه : أنّ التوقّف عن ترجيح الراجح أيضا قبيح ، كترجيح المرجوح (١).

الأولى في الجواب عن هذا الوجه

فالأولى الجواب أوّلا : بالنقض بكثير من الظنون المحرّمة العمل بالإجماع أو الضرورة.

وثانيا : بالحلّ ، وتوضيحه : تسليم القبح إذا كان التكليف وغرض الشارع متعلّقا بالواقع ولم يمكن الاحتياط ؛ فإنّ العقل قاطع بأنّ الغرض إذا تعلّق بالذهاب إلى بغداد وتردّد الأمر بين طريقين ، أحدهما مظنون الإيصال والآخر موهومه ، فترجيح الموهوم قبيح ؛ لأنّه نقض للغرض ، وأمّا إذا لم يتعلّق التكليف بالواقع أو تعلّق به مع إمكان الاحتياط ، فلا يجب الأخذ بالراجح ، بل اللازم في الأوّل هو الأخذ بمقتضى البراءة ، وفي الثاني الأخذ بمقتضى الاحتياط ، فإثبات القبح موقوف على إبطال الرجوع إلى البراءة في موارد الظنّ وعدم وجوب الاحتياط فيها ، ومعلوم أنّ العقل قاض حينئذ بقبح ترجيح المرجوح (٢) ، فلا بدّ من إرجاع هذا الدليل إلى دليل الانسداد الآتي (٣) ، المركّب من بقاء التكليف ، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وعدم لزوم الاحتياط ، وغير ذلك من المقدّمات التي لا يتردّد الأمر بين الأخذ بالراجح والأخذ بالمرجوح إلاّ بعد إبطالها.

__________________

(١) في (ر) و (ص) زيادة : «فتأمّل جدّا».

(٢) في (ص) زيادة : «بل ترك ترجيح الراجح على المرجوح» ، وقريب منها في (ر).

(٣) في الصفحة ٣٨٤.

٣٨١

الوجه الثالث : ما حكي عن صاحب الرياض قدس‌سره

الثالث : ما حكاه الاستاذ عن استاذه السيّد الطباطبائيّ قدس‌سرهما (١) : من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولكن مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوب ذلك كلّه (٢) ؛ لأنّه عسر أكيد وحرج شديد ؛ فمقتضى الجمع بين قاعدتي «الاحتياط» و «انتفاء الحرج» ، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ؛ لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا.

المناقشة في هذا الوجه

وفيه : أنّه راجع إلى دليل الانسداد الآتي (٣) ؛ إذ ما من مقدّمة من مقدّمات ذلك (٤) الدليل إلاّ و (٥) يحتاج (٦) إليها في إتمام هذا الدليل ، فراجع وتأمّل حتّى يظهر لك حقيقة الحال.

مع أنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات ـ أيضا ـ كالمظنونات

__________________

(١) حكاه شريف العلماء عن استاذه صاحب الرياض قدس‌سرهما في مجلس المذاكرة ، على ما في بحر الفوائد ١ : ١٨٩.

(٢) لم ترد «كلّه» في (ظ) و (م).

(٣) في الصفحة ٣٨٤.

(٤) في (ه) ونسخة بدل (ص) : «هذا».

(٥) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ظ) زيادة : «هي».

(٦) في (ظ) : «محتاج».

٣٨٢

لا يلزم منه حرج قطعا ؛ لقلّة موارد الشكّ المتساوي الطرفين كما لا يخفى ، فيقتصر في ترك الاحتياط على الموهومات فقط.

ودعوى : أنّ كلّ من قال بعدم الاحتياط في الموهومات قال بعدمه ـ أيضا ـ في المشكوكات ، في غاية الضعف والسقوط.

٣٨٣

الوجه الرابع : الدليل الانسداد.

الدليل الرابع : هو الدليل المعروف بدليل الانسداد.

وهو مركّب من مقدّمات :

مقدّمات دليل الانسداد

الاولى : انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في معظم المسائل الفقهيّة.

الثانية : أنّه لا يجوز لنا إهمال الأحكام المشتبهة ، وترك التعرّض لامتثالها بنحو من أنحاء امتثال الجاهل العاجز عن العلم التفصيليّ (١) ، بأن نقتصر في الإطاعة على التكاليف القليلة المعلومة تفصيلا أو بالظنّ الخاصّ القائم مقام العلم بنصّ الشارع ، ونجعل أنفسنا في تلك الموارد ممّن لا حكم عليه فيها كالأطفال والبهائم ، أو ممّن (٢) حكمه فيها الرجوع إلى أصالة العدم.

الثالثة : أنّه إذا وجب التعرّض لامتثالها فليس امتثالها بالطرق الشرعيّة المقرّرة للجاهل : من الأخذ بالاحتياط الموجب للعلم الإجماليّ بالامتثال ، أو الأخذ في كلّ مسألة بالأصل المتّبع شرعا في نفس تلك المسألة مع قطع النظر عن ملاحظتها منضمّة إلى غيرها من المجهولات ، أو الأخذ بفتوى العالم بتلك المسألة وتقليده فيها.

الرابعة : أنّه إذا بطل الرجوع في الامتثال إلى الطرق الشرعيّة المذكورة ـ لعدم الوجوب في بعضها وعدم الجواز في الآخر ـ ، والمفروض عدم سقوط الامتثال بمقتضى المقدّمة الثانية ، تعيّن بحكم العقل المستقلّ

__________________

(١) في (ت) و (ص) بدل «التفصيلي» : «اليقيني».

(٢) في (ظ) : «من».

٣٨٤

الرجوع إلى الامتثال الظنّي والموافقة الظنّية للواقع ، ولا يجوز العدول عنه إلى الموافقة الوهميّة بأن يؤخذ بالطرف المرجوح ، ولا إلى الامتثال الاحتماليّ والموافقة الشكّية بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظنّ فيها ، أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقا شرعيّا للامتثال من دون إفادته للظنّ أصلا (١).

__________________

(١) في (ت) و (ر) ونسخة بدل (ص) زيادة : «فيحصل من جميع هذه المقدّمات وجوب الامتثال الظنّي والرجوع إلى الظنّ».

٣٨٥

أمّا المقدّمة الاولى : انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ

أمّا المقدّمة الاولى :

فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم في الأغلب غير محتاجة إلى الإثبات ؛ ضرورة قلّة ما يوجب العلم التفصيليّ بالمسألة على وجه لا يحتاج العمل فيها إلى إعمال أمارة غير علميّة. وأمّا بالنسبة إلى انسداد باب الظنّ الخاصّ ، فهي مبنيّة على أن لا يثبت من الأدلّة المتقدّمة لحجّية خبر الواحد حجّية مقدار منه يفي ـ بضميمة الأدلّة العلميّة وباقي الظنون الخاصّة ـ بإثبات معظم الأحكام الشرعيّة ، بحيث لا يبقى مانع عن الرجوع في المسائل الخالية عن الخبر وأخواته من الظنون الخاصّة إلى ما يقتضيه الأصل في تلك الواقعة ، من البراءة أو الاستصحاب أو الاحتياط أو التخيير.

تسليم أو منع هذه المقدّمة

فتسليم هذه المقدّمة ومنعها لا يظهر إلاّ بعد التأمّل التامّ وبذل الجهد في النظر فيما تقدّم من أدلّة حجّيّة الخبر ، وأنّه هل يثبت بها حجّيّة مقدار واف من الخبر أم لا؟

وهذه هي عمدة مقدّمات دليل الانسداد ، بل (١) الظاهر المصرّح به في كلمات بعض (٢) أنّ ثبوت هذه المقدّمة يكفي في حجّيّة الظنّ المطلق ؛ للإجماع عليه على تقدير انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ (٣) ؛ ولذا

__________________

(١) في (ظ) : «إذ».

(٢) كالسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٥٩.

(٣) لم ترد عبارة «للإجماع ـ إلى ـ الظنّ الخاصّ» في (ر) ، وكتب عليها في (ص) : «نسخة».

٣٨٦

لم يذكر صاحب المعالم (١) وصاحب الوافية (٢) في إثبات حجّيّة الظنّ الخبريّ غير انسداد باب العلم.

وأمّا الاحتمالات الآتية في ضمن المقدّمات الآتية ، من الرجوع بعد انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ إلى شيء آخر غير الظنّ ، فإنّما هي امور احتملها بعض المدقّقين من متأخّري المتأخّرين ، أوّلهم ـ فيما أعلم ـ المحقّق جمال الدين الخوانساريّ ، حيث أورد على دليل الانسداد باحتمال الرجوع إلى البراءة واحتمال الرجوع إلى الاحتياط (٣) ، وزاد عليها بعض من تأخّر (٤) احتمالات أخر.

__________________

(١) انظر المعالم : ١٩٢.

(٢) انظر الوافية : ١٥٩.

(٣) سيأتي نقل كلامه في الصفحة ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(٤) كالفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٣٧٩.

٣٨٧

وأمّا المقدّمة الثانية

المقدّمة الثانية : عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة والدليل عليه من وجوه :

وهي عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة على كثرتها ، وترك التعرّض لامتثالها بنحو من الأنحاء ، فيدلّ عليه وجوه :

١ ـ الإجماع القطعيّ

الأوّل : الإجماع القطعيّ على أنّ المرجع على تقدير انسداد باب العلم وعدم ثبوت الدليل على حجّيّة أخبار الآحاد بالخصوص ، ليس هي البراءة وإجراء أصالة العدم في كلّ حكم ، بل لا بدّ من التعرّض لامتثال الأحكام المجهولة بوجه ما ، وهذا الحكم وإن لم يصرّح به أحد من قدمائنا بل المتأخّرين في هذا المقام ، إلاّ أنّه معلوم للمتتبّع في طريقة الأصحاب بل علماء الإسلام طرّا ؛ فربّ مسألة غير معنونة يعلم اتّفاقهم فيها من ملاحظة كلماتهم في نظائرها.

أترى : أنّ علماءنا العاملين بالأخبار التي بأيدينا لو لم يقم عندهم دليل خاصّ على اعتبارها ، كانوا يطرحونها ويستريحون في مواردها إلى أصالة العدم؟! حاشا ثمّ حاشا.

مع أنّهم كثيرا ما يذكرون أنّ الظنّ يقوم مقام العلم في الشرعيّات عند تعذّر العلم ، وقد حكي عن السيّد في بعض كلماته : الاعتراف بالعمل بالظنّ عند تعذّر العلم (١) ، بل قد ادّعى في المختلف في باب قضاء الفوائت الإجماع على ذلك (٢).

٢ ـ لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة

الثاني : أنّ الرجوع في جميع تلك الوقائع إلى نفي الحكم مستلزم

__________________

(١) انظر رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٩ ، وحكاه عنه في المعالم : ١٩٧.

(٢) المختلف ٣ : ٢٦.

٣٨٨

للمخالفة القطعيّة الكثيرة ، المعبّر عنها في لسان جمع من مشايخنا بالخروج عن الدين (١) ، بمعنى أنّ المقتصر على التديّن بالمعلومات التارك للأحكام المجهولة جاعلا لها كالمعدومة ، يكاد يعدّ خارجا عن الدين ؛ لقلّة المعلومات التي أخذ بها وكثرة المجهولات التي أعرض عنها ؛ وهذا أمر يقطع ببطلانه كلّ أحد بعد الالتفات إلى كثرة المجهولات ، كما يقطع ببطلان الرجوع إلى نفي الحكم وعدم الالتزام بحكم أصلا (٢) لو فرض ـ والعياذ بالله ـ انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في جميع الأحكام ، وانطماس هذا المقدار القليل من الأحكام المعلومة.

فيكشف بطلان الرجوع إلى البراءة عن وجوب التعرّض لامتثال تلك المجهولات ولو على غير وجه العلم والظنّ الخاصّ ، لا أن يكون تعذّر العلم والظنّ الخاصّ منشأ للحكم بارتفاع التكليف بالمجهولات ، كما توهّمه بعض من تصدّى للإيراد على كلّ واحدة واحدة من مقدّمات الانسداد (٣).

نعم ، هذا إنّما يستقيم في حكم واحد أو أحكام قليلة لم يوجد عليه دليل علميّ أو ظنّيّ معتبر ، كما هو دأب المجتهدين بعد تحصيل الأدلّة والأمارات في أغلب الأحكام ، أمّا إذا صار معظم الفقه أو كلّه مجهولا فلا يجوز أن يسلك فيه هذا المنهج.

__________________

(١) انظر هداية المسترشدين : ٤٠٢ ، ومفاتيح الاصول : ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ، وضوابط الاصول : ٢٥٢.

(٢) لم ترد «أصلا» في (ظ) و (م).

(٣) هو الفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٣٦٠ ، ومناهج الأحكام : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٣٨٩

الإشارة إلى هذا الوجه في كلام جماعة

والحاصل : أنّ طرح أكثر الأحكام الفرعيّة بنفسه محذور مفروغ عن بطلانه ، كطرح جميع الأحكام لو فرضت مجهولة ، وقد وقع ذلك تصريحا أو تلويحا في كلام جماعة من القدماء والمتأخّرين :

منهم : الصدوق في الفقيه ـ في باب الخلل الواقع في الصلاة ، في ذيل أخبار سهو النبيّ ـ حيث قال رحمه‌الله (١) : فلو جاز ردّ هذه الأخبار الواردة في هذا الباب لجاز ردّ جميع الأخبار ، وفيه إبطال للدين والشريعة (٢) ، انتهى.

و (٣) منهم : السيّد قدس‌سره حيث أورد على نفسه في المنع عن العمل بخبر الواحد ، وقال : فإن قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟ فأجاب بما حاصله : دعوى انفتاح باب العلم في الأحكام (٤).

ولا يخفى : أنّه لو جاز طرح الأحكام المجهولة ولم يكن شيئا منكرا لم يكن وجه للايراد المذكور ؛ إذ الفقه حينئذ ليس إلاّ عبارة عن الأحكام التي قام عليها الدليل والمرجع وكان فيها (٥) معوّل. ولم يكن وقع أيضا للجواب بدعوى الانفتاح الراجعة إلى دعوى عدم الحاجة إلى

__________________

(١) «حيث قال رحمه‌الله» من (ت) فقط.

(٢) الفقيه ١ : ٣٦٠ ، ذيل الحديث ١٠٣١.

(٣) لم ترد عبارة «منهم الصدوق ـ إلى ـ انتهى و» في (ظ) ، (ل) و (م) ، وكتب عليها في (ص) : «نسخة».

(٤) انظر رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢.

(٥) في غير (ه) : «فيه».

٣٩٠

أخبار الآحاد.

بل المناسب حينئذ الجواب : بأنّ عدم المعوّل في أكثر المسائل لا يوجب فتح باب العمل (١) بخبر الواحد.

والحاصل : أنّ ظاهر السؤال والجواب المذكورين التسالم والتصالح (٢) على أنّه لو فرض الحاجة إلى أخبار الآحاد ـ لعدم المعوّل في أكثر الفقه ـ ، لزم العمل عليها وإن لم يقم عليه دليل بالخصوص ؛ فإنّ نفس الحاجة إليها هي أعظم دليل ، بناء على عدم جواز طرح الأحكام ؛ ومن هنا ذكر السيّد صدر الدين في شرح الوافية : أنّ السيّد قد اصطلح بهذا الكلام مع المتأخّرين (٣).

كلام الشيخ الطوسي قدس‌سره

ومنهم : الشيخ قدس‌سره في العدّة ، حيث إنّه ـ بعد دعوى الإجماع على حجّيّة أخبار الآحاد ـ قال ما حاصله : أنّه لو ادّعى أحد أنّ (٤) عمل الإماميّة بهذه الأخبار كان لأجل قرائن انضمّت إليها ، كان معوّلا على ما يعلم من الضرورة خلافه ـ ثمّ قال ـ :

ومن قال : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به. وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ؛ لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من

__________________

(١) في (م) و (ه) : «باب العلم».

(٢) في (م) : «أو التصالح».

(٣) شرح الوافية (مخطوط) : ١٨٨.

(٤) في النسخ زيادة : «دعوى».

٣٩١

الشرع خلافه (١) ، انتهى.

ولعمري ، أنّه يكفي مثل هذا الكلام من الشيخ في قطع توهّم جواز الرجوع إلى البراءة عند فرض فقد العلم والظنّ الخاصّ في أكثر الأحكام (٢).

ومنهم : العلاّمة في نهج المسترشدين ـ في مسألة إثبات عصمة الإمام ـ حيث ذكر : أنّه عليه‌السلام لا بدّ أن يكون حافظا للأحكام ؛ واستدلّ بأنّ الكتاب والسنّة لا يدلاّن على التفاصيل ـ إلى أن قال ـ : والبراءة الأصليّة ترفع جميع الأحكام (٣).

ومنهم : بعض أصحابنا (٤) ـ في رسالته المعمولة في علم الكلام المسمّاة بعصرة المنجود ـ حيث استدلّ على عصمة الإمام عليه‌السلام : بأنّه حافظ للشريعة ؛ لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به ـ إلى أن قال ـ : والقياس باطل ، والبراءة الأصليّة ترفع جميع الأحكام (٥) ، انتهى.

ومنهم : الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر ، إلاّ أنّه

__________________

(١) العدّة ١ : ١٣٦.

(٢) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «ومنهم : المحقّق في المعتبر ، حيث قال في مسألة خمس الغوص ـ في ردّ من نفاه مستدلا بأنّه لو كان لنقل بالسنّة ـ : قلنا : أمّا تواترا فممنوع ؛ وإلاّ لبطل كثير من الأحكام» انتهى. وزاد في (ص) أيضا : «لعدم وجود التواتر في كثير من الأحكام». انظر المعتبر ٢ : ٦٢٢.

(٣) نهج المسترشدين : ٦٣.

(٤) هو الشيخ زين الدين البياضي النباطي العاملي ، المتوفّى سنة ٨٧٧.

(٥) عصرة المنجود (مخطوط) ، باب الإمامة ، الصفحة ٣.

٣٩٢

قال : إنّ الرجوع إلى البراءة الأصليّة يرفع أكثر الأحكام (١).

والظاهر : أنّ مراد العلاّمة وصاحب الرسالة قدس‌سرهما من جميع الأحكام ما عدا المستنبط من الأدلّة العلميّة ؛ لأنّ كثيرا من الأحكام ضروريّة لا ترفع (٢) بالأصل ، ولا يشكّ فيها حتّى يحتاج إلى الإمام عليه‌السلام.

كلام المحقّق الخوانساري قدس‌سره

ومنهم : المحقّق الخوانساري في ما حكى عنه السيّد الصدر في شرح الوافية (٣) : من أنّه رجّح الاكتفاء في تعديل الراوي بعدل ؛ مستدلا ـ بعد مفهوم آية النبأ ـ : بأنّ اعتبار التعدّد يوجب خلوّ أكثر الأحكام عن الدليل (٤).

كلام الفاضل التوني قدس‌سره

ومنهم : صاحب الوافية ، حيث تقدّم عنه (٥) الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد : بأنّا نقطع مع طرح أخبار الآحاد في مثل الصلاة والصوم والزكاة والحجّ والمتاجر والأنكحة وغيرها ، بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور.

كلام بعض شراّح الوسائل

وهذه عبارة اخرى عن الخروج عن الدين الذي عبّر به جماعة من مشايخنا (٦).

__________________

(١) شرح الباب الحادي عشر : ٤٣.

(٢) في (ت) ، (ص) ، (م) ونسخة بدل (ه) : «لا ترتفع».

(٣) شرح الوافية (مخطوط) : ٢٠٩.

(٤) حاشية شرح مختصر الاصول للمحقق جمال الدين الخوانساري (مخطوط) : الورقة ١٣٠ ، فما بعدها.

(٥) راجع الصفحة ٣٦١.

(٦) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٣٨٩.

٣٩٣

ومنهم : بعض شرّاح الوسائل (١) ، حيث استدلّ على حجّيّة أخبار الآحاد : بأنّه لو لم يعمل بها بطل التكليف ، وبطلانه ظاهر.

كلام المحدّث البحراني قدس‌سره

ومنهم : المحدّث البحرانيّ صاحب الحدائق ، حيث ذكر في مسألة ثبوت الربا في الحنطة بالشعير خلاف الحلّي في ذلك (٢) ، وقوله بكونهما جنسين ، وأنّ الأخبار الواردة في اتّحادهما آحاد لا توجب علما ولا عملا ، قال في ردّه : إنّ الواجب عليه مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدين إلى دين آخر (٣) ؛ انتهى.

كلام الحاجبي والمضدي

ومنهم : العضدي ـ تبعا للحاجبي ـ حيث حكى عن بعضهم الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد : بأنّه لولاها لخلت أكثر الوقائع عن المدرك (٤).

ثمّ ، إنّه وإن ذكر في الجواب عنه (٥) : أنّا نمنع الخلوّ عن المدرك ؛ لأنّ الأصل من المدارك ، لكنّ هذا الجواب من العامّة القائلين بعدم إتيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحكام جميع الوقائع ، ولو كان المجيب من الإماميّة القائلين بإتمام (٦) الشريعة وبيان جميع الأحكام لم يجب بذلك.

وبالجملة : فالظاهر أنّ خلوّ أكثر الأحكام عن المدرك المستلزم

__________________

(١) لم نقف عليه.

(٢) انظر السرائر ٢ : ٢٥٤.

(٣) الحدائق ١٩ : ٢٣١.

(٤) في المصدر : «عن الحكم» ، انظر شرح مختصر الاصول : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، المتن للحاجبي ، والشرح للعضدي.

(٥) حكاه الحاجبي في ذيل الاستدلال المذكور.

(٦) كذا في (ت) ، (ر) ، (م) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها : «بإكمال».

٣٩٤

للرجوع فيها إلى نفي الحكم وعدم الالتزام في معظم الفقه بحكم تكليفيّ ، كأنّه أمر مفروغ البطلان.

والغرض من جميع ذلك : الردّ على بعض من تصدّى لردّ هذه المقدّمة (١) ، ولم يأت بشيء عدا ما قرع سمع كلّ أحد ، من أدلّة البراءة وعدم ثبوت التكليف إلاّ بعد البيان ، ولم يتفطّن لأنّ مجراها في غير ما نحن فيه ؛ فهل يرى من نفسه إجراءها لو فرضنا ـ والعياذ بالله ـ ارتفاع العلم بجميع الأحكام.

بل نقول : لو فرضنا أنّ مقلّدا دخل عليه وقت الصلاة ولم يعلم من الصلاة عدا ما تعلّم من أبويه بظنّ الصحّة ـ مع احتمال الفساد عنده احتمالا ضعيفا ـ ولم يتمكّن من أزيد من ذلك ، فهل يلتزم بسقوط التكليف عنه بالصلاة في هذه الحالة ، أو أنّه يأتي بها على حسب ظنّه الحاصل من قول أبويه ، والمفروض أنّ قول أبويه ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعيّ؟ فإذا لم تجد من نفسك الرخصة في تجويز ترك الصلاة لهذا الشخص ، فكيف ترخّص الجاهل بمعظم الأحكام في نفي الالتزام بشيء منها عدا القليل المعلوم أو المظنون بالظنّ الخاصّ ، وترك ما عداه ولو كان مظنونا بظنّ لم يقم على اعتباره دليل خاصّ؟

بل الإنصاف : أنّه لو فرض ـ والعياذ بالله ـ فقد الظنّ المطلق في معظم الأحكام ، كان الواجب الرجوع إلى الامتثال الاحتماليّ بالتزام ما لا يقطع معه بطرح الأحكام الواقعيّة.

__________________

(١) هو الفاضل النراقي في عوائد الأيّام : ٣٥٩ ـ ٣٧٦ ، ومناهج الأحكام : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٣٩٥

٣ ـ العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات

الثالث : أنّه لو سلّمنا أنّ الرجوع إلى البراءة لا يوجب شيئا ممّا ذكر من المحذور البديهيّ ، وهو الخروج عن الدين ، فنقول : إنّه لا دليل على الرجوع إلى البراءة من جهة العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات ؛ فإنّ أدلّتها مختصّة بغير هذه الصورة ، ونحن نعلم إجمالا أنّ في المظنونات (١) واجبات كثيرة ومحرّمات كثيرة.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه : أنّ الوجه السابق كان مبنيّا على لزوم المخالفة القطعيّة الكثيرة المعبّر عنها بالخروج عن الدين ، وهو محذور مستقلّ وإن قلنا بجواز العمل بالأصل في صورة لزوم مطلق المخالفة القطعيّة.

وهذا الوجه مبنيّ على أنّ مطلق المخالفة القطعيّة غير جائز ، وأصل البراءة في مقابلها غير جار ما لم يصل المعلوم الإجماليّ إلى حدّ الشبهة الغير المحصورة ، وقد ثبت في مسألة البراءة : أنّ مجراها الشكّ في أصل التكليف ، لا الشكّ في تعيينه مع القطع بثبوت أصله ، كما في ما نحن فيه.

فإن قلت : إذا فرضنا أنّ ظنّ المجتهد أدّى في جميع الوقائع إلى ما يوافق البراءة ، فما تصنع؟

قلت :

أوّلا : إنّه مستحيل ؛ لأنّ العلم الإجماليّ بوجود الواجبات والمحرّمات الكثيرة في جملة الوقائع المشتبهة يمنع عن حصول الظنّ بعدم وجوب شيء من الوقائع المحتملة للوجوب وعدم حرمة شيء من الوقائع المحتملة

__________________

(١) في (ت) و (ص) : «المشتبهات».

٣٩٦

للتحريم ؛ لأنّ الظنّ بالسالبة الكلّيّة يناقض العلم بالموجبة الجزئيّة ، فالظنّ بأنّه (١) «لا شخص من العلماء بفاسق» يناقض العلم إجمالا بأنّ «بعض العلماء فاسق».

وثانيا : إنّه على تقدير الإمكان غير واقع ؛ لأنّ الأمارات التي يحصل للمجتهد (٢) منها الظنّ في الوقائع لا تخلو عن الأخبار المتضمّن كثير منها لإثبات التكليف وجوبا وتحريما ، فحصول الظنّ بعدم التكليف في جميع الوقائع أمر يعلم عادة بعدم وقوعه.

وثالثا : لو سلّمنا وقوعه ، لكن لا يجوز حينئذ العمل بعدم التكليف في جميع الوقائع ؛ لأجل العلم الإجماليّ المفروض ؛ فلا بدّ حينئذ من التبعيض بين مراتب الظنّ بالقوّة والضعف ، فيعمل في موارد الظنّ الضعيف بنفي التكليف بمقتضى الاحتياط ، وفي موارد الظنّ القويّ بنفي التكليف بمقتضى البراءة ، ولو فرض التسوية في القوّة والضعف كان الحكم كما لو لم يكن ظنّ في شيء من تلك الوقائع : من التخيير إن لم يتيسّر لهذا الشخص الاحتياط ، وإن تيسّر الاحتياط تعيّن الاحتياط في حقّ نفسه وإن (٣) لم يجز لغيره تقليده ، ولكنّ الظاهر أنّ ذلك مجرّد فرض غير واقع ؛ لأنّ الأمارات كثير منها مثبتة للتكليف ، فراجع كتب الأخبار.

ثمّ إنّه قد يردّ (٤) الرجوع إلى أصالة البراءة ـ تبعا لصاحب

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) : «بأنّ».

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) : «المجتهد».

(٣) لم ترد «إن» في (ظ) و (م).

(٤) الرادّ هو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٢.

٣٩٧

المعالم (١) وشيخنا البهائيّ في الزبدة (٢) ـ : بأنّ اعتبارها من باب الظنّ ، والظنّ منتف في مقابل الخبر ونحوه من أمارات الظنّ.

وفيه : منع كون البراءة من باب الظنّ. كيف؟ ولو كانت كذلك لم يكن دليل على اعتبارها ، بل هو من باب حكم العقل القطعيّ بقبح التكليف (٣) من دون بيان.

كلام المحقّق القمّي قدس‌سره

وذكر المحقّق القمّي رحمه‌الله في منع حكم العقل المذكور : أنّ حكم العقل إمّا أن يريد به الحكم القطعيّ أو الظنّيّ.

فإن كان الأوّل ، فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا أوّل الكلام ، كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة المثبتين والنافين من العقل والنقل.

سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، لكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع ، وأمّا بعد ورود الشرع فالعلم بأنّ فيه أحكاما إجماليّة على سبيل اليقين يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعا ، كما لا يخفى.

سلّمنا ذلك ، ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه.

وإن أراد الحكم الظنّيّ ـ سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السابقة ـ فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار التي لم يثبت حجّيّتها (٤) بالخصوص. مع أنّه ممنوع بعد

__________________

(١) انظر المعالم : ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) الزبدة : ٥٨.

(٣) في (ل) : «بعدم التكليف».

(٤) في (ت) ، (ر) و (ه) : «حجّيّتهما».

٣٩٨

ورود الشرع ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

المناقشة فيها أفاده المحقّق القميّ

وفيه : أنّ حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان حكم قطعيّ لا اختصاص له بحال دون حال ، فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع ، ولم يقع فيه خلاف بين العقلاء ، وإنّما ذهب من ذهب إلى وجوب الاحتياط لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط من الآيات والأخبار (٢) التي ذكروها. وأمّا الخبر الصحيح فهو كغيره من الظنون إن قام دليل قطعيّ على اعتباره كان داخلا في البيان ، ولا كلام في عدم جريان البراءة معه ، وإلاّ فوجوده كعدمه غير مؤثّر في الحكم العقليّ.

والحاصل : أنّه لا ريب لأحد ـ فضلا عن أنّه لا خلاف (٣) ـ في أنّه على تقدير عدم بيان التكليف بالدليل العامّ أو الخاصّ فالأصل البراءة ، وحينئذ فاللازم إقامة الدليل على كون الظنّ المقابل بيانا.

وممّا ذكرنا ظهر : صحّة دعوى الإجماع على أصالة البراءة في المقام ؛ لأنّه إذا فرض عدم الدليل على اعتبار الظنّ المقابل صدق قطعا عدم البيان ، فتجري البراءة.

وظهر فساد دفع أصل البراءة بأنّ المستند فيها إن كان هو الإجماع فهو مفقود في محلّ البحث ، وإن كان هو العقل فمورده صورة

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٤٢.

(٢) في (ت) : «أو الأخبار».

(٣) في (ه) : «فضلا من الاختلاف».

٣٩٩

عدم الدليل ولا نسلّم عدم الدليل مع وجود الخبر.

وهذا الكلام ـ خصوصا الفقرة الأخيرة منه ـ ممّا يضحك الثكلى (١) ؛ فإنّ عدم ثبوت كون الخبر دليلا يكفي في تحقّق مصداق القطع بعدم الدليل الذي هو مجرى البراءة.

واعلم : أنّ الاعتراض على مقدّمات دليل الانسداد بعدم استلزامها للعمل بالظنّ ؛ لجواز الرجوع إلى البراءة ، وإن كان قد أشار إليه صاحب المعالم وصاحب الزبدة وأجابا عنه بما تقدّم (٢) مع ردّه : من أنّ أصالة البراءة لا يقاوم الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، إلاّ أنّ أوّل من شيّد الاعتراض به وحرّره لا من باب الظنّ ، هو المحقّق المدقّق جمال الدين قدس‌سره في حاشيته (٣) ، حيث قال :

يرد على الدليل المذكور : أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالبا لا يوجب جواز العمل بالظنّ حتّى يتّجه ما ذكروه ؛ لجواز أن لا يجوز العمل بالظنّ ، فكلّ حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع نحكم به ، وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراءة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ، ولا للإجماع على وجوب التمسّك بها ؛ بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم به ، أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم ، ففيما انتفى الأمران فيه يحكم العقل ببراءة الذمّة عنه وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّا

__________________

(١) في (ص) بدل «ممّا يضحك الثكلى» : «كما ترى».

(٢) راجع الصفحة ٣٩٨.

(٣) أي في حاشيته على شرح مختصر الاصول.

٤٠٠