فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

و (١) غير ذلك ، وضممت إلى ذلك ما يظهر من بعض أسئلة الروايات السابقة : من أنّ العمل بالخبر الغير العلميّ كان مفروغا عنه عند الرواة ، تعلم علما يقينيّا (٢) صدق ما ادّعاه الشيخ من إجماع الطائفة (٣).

والإنصاف : أنّه لم يحصل في مسألة يدّعى فيها الإجماع من الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة (٤) والأمارات الكثيرة الدالّة على العمل ، ما حصل في هذه المسألة ، فالشاكّ في تحقّق الإجماع في هذه المسألة لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة ، اللهمّ إلاّ في ضروريّات المذهب.

القدر المتيقّن هو الخبر المفيد للاطمئنان

لكنّ الإنصاف : أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان ، لا مطلق الظنّ. ولعلّه مراد السيّد من العلم كما أشرنا إليه آنفا (٥). بل ظاهر كلام بعض احتمال أن يكون مراد السيّد قدس‌سره من خبر الواحد غير مراد الشيخ قدس‌سره.

__________________

(١) في (ر) و (ص) بدل «و» : «إلى».

(٢) في غير (ص) ، (ظ) و (م) : «يقينا».

(٣) وردت هنا في (ر) زيادة ، وهي : «وحكى السيّد المحدّث الجزائري عمّن يثق به : أنّه قد زار السيّد صاحب المدارك المشهد الغروي ، فزاره العلماء وزارهم إلاّ المولى عبد الله التستري ، فقيل للسيّد في ذلك ، فاعتذر بأنّه لا يرى العمل بأخبار الآحاد فهو مبدع ، ونقل في ذلك رواية مضمونها : أنّ من زار مبدعا فقد خرّب الدين.

وهذه حكاية عجيبة لا بدّ من توجيهها ، كما لا يخفى على من اطّلع على طريقة المولى المشار إليه ومسلكه في الفقه ، فراجع».

(٤) في (ت) و (ر) بدل «العظيمة» : «القطعيّة».

(٥) راجع الصفحة ٣٣١.

٣٤١

قال الفاضل القزويني في لسان الخواصّ ـ على ما حكي عنه ـ : إنّ هذه الكلمة أعني خبر الواحد ـ على ما يستفاد من تتبّع كلماتهم ـ تستعمل في ثلاثة معان :

كلام الفاضل القزويني في تفسير «الخبر الواحد»

أحدها : الشاذّ النادر الذي لم يعمل به أحد ، أو ندر من يعمل به ، ويقابله ما عمل به كثيرون.

الثاني : ما يقابل المأخوذ من الثّقات المحفوظ في الاصول المعمولة عند جميع خواصّ الطائفة ، فيشمل الأوّل ومقابله.

الثالث : ما يقابل المتواتر القطعيّ الصدور ، وهذا يشمل الأوّلين وما يقابلهما.

ثمّ ذكر ما حاصله : أنّ ما نقل إجماع الشيعة على إنكاره هو الأوّل ، وما انفرد السيّد قدس‌سره بردّه هو الثاني ، وأمّا الثالث ، فلم يتحقّق من أحد نفيه على الإطلاق (١) ، انتهى.

وهو كلام حسن. وأحسن منه ما قدمناه (٢) : من أنّ مراد السيّد من العلم ما يشمل الظنّ الاطمئنانيّ ، كما يشهد به التفسير المحكيّ عنه للعلم ، بأنّه : ما اقتضى سكون النفس (٣) ، والله العالم.

٢ - الإجماع حتّى من السيّد وأتباعه على العمل بخبر الواحد

الثاني من وجوه تقرير الإجماع :

أن يدّعى الإجماع حتّى من السيّد وأتباعه على وجوب العمل

__________________

(١) لسان الخواصّ (مخطوط) : ٤٢.

(٢) راجع الصفحة ٣٣١.

(٣) الذريعة ١ : ٢٠.

٣٤٢

بالخبر الغير العلميّ في زماننا هذا وشبهه ممّا انسدّ فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ؛ فإنّ الظاهر أنّ السيّد إنّما منع من ذلك لعدم الحاجة إلى خبر الواحد المجرّد ، كما يظهر من كلامه المتضمّن للاعتراض على نفسه بقوله :

كلام السيّد المرتضى قدس‌سره

فإن قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟

فأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والإجماع والأخبار العلميّة ، وما يبقى من المسائل الخلافيّة يرجع فيها إلى التخيير (١).

وقد اعترف السيّد رحمه‌الله في بعض كلامه ـ على ما في المعالم (٢) ـ بل وكذا الحلّي في بعض كلامه (٣) ـ على ما هو ببالي ـ : بأنّ العمل بالظنّ متعيّن فيما لا سبيل فيه إلى العلم.

٣ - استقرار سيرة المسلمين على العمل بخبر الواحد

الثالث من وجوه تقرير الإجماع :

استقرار سيرة المسلمين طرّا على استفادة الأحكام الشرعيّة من أخبار الثقات المتوسّطة بينهم وبين الإمام عليه‌السلام أو المجتهد.

أترى : أنّ المقلّدين يتوقّفون في العمل بما يخبرهم الثقة عن المجتهد ، أو الزوجة تتوقّف فيما يحكيه زوجها عن المجتهد في مسائل حيضها وما

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، وراجع الصفحة ٣٢٩.

(٢) المعالم : ١٩٦ ـ ١٩٧ ، وانظر رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢١٠.

(٣) انظر السرائر ١ : ٤٦ و ٤٩.

٣٤٣

يتعلّق بها إلى أن يعلموا من المجتهد تجويز العمل بالخبر الغير العلميّ؟ وهذا ممّا لا شكّ فيه.

ودعوى : حصول القطع لهم في جميع الموارد ، بعيدة عن الإنصاف. نعم ، المتيقّن من ذلك صورة حصول الاطمئنان بحيث لا يعتنى باحتمال الخلاف.

وقد حكي اعتراض السيّد قدس‌سره على نفسه (١) : بأنّه لا خلاف بين الامّة في أنّ من وكلّ وكيلا أو استناب صديقا في ابتياع أمة أو عقد على امرأة في بلده أو في بلاد نائية ، فحمل إليه الجارية وزفّ إليه المرأة ، وأخبره أنّه أزاح العلّة في ثمن الجارية ومهر المرأة ، وأنّه اشترى هذه وعقد على تلك : أنّ له وطأها والانتفاع بها في كلّ ما يسوغ للمالك والزوج. وهذه سبيله مع زوجته وأمته إذا أخبرته بطهرها وحيضها ، ويرد الكتاب على المرأة بطلاق زوجها أو بموته فتتزوّج ، وعلى الرجل بموت امرأته فيتزوّج اختها.

وكذا لا خلاف بين الامّة في أنّ للعالم أن يفتي وللعاميّ أن يأخذ منه ، مع عدم علم أنّ ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنّه مذهبه.

فأجاب بما حاصله : أنّه إن كان الغرض من هذا الردّ على من أحال التعبّد بخبر الواحد ، فمتوجّه ولا محيص (٢). وإن كان الغرض الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتحريم ، فهذه مقامات ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق علميّة من

__________________

(١) لم ترد في (ظ) و (م) : «على نفسه».

(٢) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «فلا محيص».

٣٤٤

إجماع وغيره على أنحاء مختلفة ، في بعضها لا يقبل إلاّ إخبار أربعة ، وفي بعضها لا يقبل إلاّ عدلان ، وفي بعضها يكفي قول العدل الواحد (١) ، وفي بعضها يكفي خبر الفاسق والذمّي ، كما في الوكيل ومبتاع (٢) الأمة والزوجة في الحيض والطهر. وكيف يقاس على ذلك رواية الأخبار في الأحكام (٣).

أقول : المعترض حيث ادّعى الإجماع على العمل في الموارد المذكورة ، فقد لقّن الخصم طريق إلزامه والردّ عليه بأنّ هذه الموارد للإجماع ، ولو ادّعى استقرار سيرة المسلمين على العمل في الموارد المذكورة وإن لم يطّلعوا على كون ذلك إجماعيّا عند العلماء ، كان أبعد عن الردّ ، فتأمّل.

٤ ـ استقرار طريقة العقلاء على العمل بخبر الواحد

الرابع :

استقرار طريقة العقلاء طرّا على الرجوع إلى خبر الثقة في امورهم العاديّة ، ومنها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد.

فنقول : إنّ الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعيّة فهو ، وإلاّ وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشرعيّة ، كما ردع في مواضع خاصّة ، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك ؛ لأنّ اللازم في باب الإطاعة والمعصية الأخذ بما يعدّ

__________________

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) بدل «قول العدل الواحد» : «العلم».

(٢) لم ترد في (ر) و (ص) : «مبتاع».

(٣) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٣٧ ـ ٤١.

٣٤٥

طاعة في العرف وترك ما يعدّ معصية كذلك.

فإن قلت : يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة (١) والأخبار المتظافرة بل المتواترة (٢) على حرمة العمل بما عدا العلم.

قلت : قد عرفت انحصار دليل حرمة العمل بما عدا العلم في أمرين ، وأنّ الآيات والأخبار راجعة إلى أحدهما :

الأوّل : أنّ العمل بالظنّ والتعبّد به من دون توقيف من الشارع تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة.

والثاني : أنّ فيه طرحا لأدلّة الاصول العمليّة واللفظيّة التي اعتبرها الشارع عند عدم العلم بخلافها.

وشيء من هذين الوجهين لا يوجب ردعهم عن العمل ؛ لكون حرمة العمل بالظنّ من أجلهما مركوزا في ذهن العقلاء ؛ لأنّ حرمة التشريع ثابت عندهم ، والاصول العمليّة واللفظيّة معتبرة عندهم مع عدم الدليل على الخلاف ، ومع ذلك نجد (٣) بناءهم على العمل بالخبر الموجب للاطمئنان.

والسرّ في ذلك : عدم جريان الوجهين المذكورين بعد استقرار سيرة العقلاء على العمل بالخبر ؛ لانتفاء تحقّق التشريع مع بنائهم على سلوكه في مقام الإطاعة والمعصية ؛ فإنّ الملتزم بفعل ما أخبر الثقة بوجوبه وترك ما أخبر بحرمته لا يعدّ مشرّعا ، بل لا يشكّون في كونه

__________________

(١) الأنعام : ١١٦ ، الإسراء : ٣٦ ، يونس : ٣٦.

(٢) راجع الصفحة ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٣) لم ترد «نجد» في (ظ) و (م).

٣٤٦

مطيعا ؛ ولذا يعوّلون عليه (١) في أوامرهم العرفيّة من الموالي إلى العبيد ، مع أنّ قبح التشريع عند العقلاء لا يختصّ بالأحكام الشرعيّة.

وأمّا الاصول المقابلة للخبر ، فلا دليل على جريانها في مقابل خبر الثقة ؛ لأنّ الاصول التي مدركها حكم العقل ـ لا الأخبار ؛ لقصورها عن إفادة اعتبارها ـ كالبراءة والاحتياط والتخيير ، لا إشكال في عدم جريانها في مقابل خبر الثقة بعد الاعتراف ببناء العقلاء على العمل به في أحكامهم العرفيّة ؛ لأنّ نسبة العقل في حكمه بالعمل بالاصول المذكورة إلى الأحكام الشرعيّة والعرفيّة سواء.

وأمّا الاستصحاب ، فإن اخذ من العقل فلا إشكال في أنّه لا يفيد الظنّ في المقام. وان اخذ من الأخبار فغاية الأمر حصول الوثوق بصدورها دون اليقين.

وأمّا الاصول اللفظيّة كالإطلاق والعموم ، فليس بناء أهل اللسان على اعتبارها حتّى في مقام وجود الخبر الموثوق به في مقابلها ، فتأمّل.

٥ ـ إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد

الخامس :

ما ذكره العلاّمة في النهاية : من إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد من غير نكير ، وقد ذكر في النهاية مواضع كثيرة عمل فيها الصحابة بخبر الواحد (٢).

التأمّل في هذا الوجه

وهذا الوجه لا يخلو من تأمّل ؛ لأنّه : إن اريد من الصحابة العاملين

__________________

(١) في (ص) و (ل) بدل «يعوّلون عليه» : «يقولون به».

(٢) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٥.

٣٤٧

بالخبر من كان في ذلك الزمان لا يصدر إلاّ عن رأي الحجّة عليه‌السلام ، فلم يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد ، فضلا عن ثبوت تقرير الإمام عليه‌السلام له.

وإن اريد به الهمج الرعاع الذين يصغون إلى كلّ ناعق ، فمن المقطوع عدم كشف عملهم عن رضا الإمام عليه‌السلام ؛ لعدم ارتداعهم بردعه في ذلك اليوم.

ولعلّ هذا مراد السيّد قدس‌سره ، حيث أجاب عن هذا الوجه : بأنّه إنّما عمل بخبر الواحد المتأمّرون الذين يتحشّم (١) التصريح بخلافهم ، وإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرضا بعملهم (٢).

إلاّ أن يقال : إنّه لو كان عملهم منكرا لم يترك الإمام بل ولا أتباعه من الصحابة النكير على العاملين ؛ إظهارا للحقّ وإن لم يظنّوا الارتداع ؛ إذ ليست هذه المسألة بأعظم من مسألة الخلافة التي أنكرها عليهم من أنكر ؛ لإظهار الحقّ ، ودفعا لتوهّم دلالة السكوت على الرضا.

٦ ـ دعوى إجماع الإماميّة على وجوب الرجوع إلى الأخبار المدوّنة

السادس :

دعوى الإجماع من الإماميّة حتّى السيّد وأتباعه ، على وجوب الرجوع إلى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا المودعة في اصول الشيعة وكتبهم.

__________________

(١) كذا في (ر) ، وفي غيرها : «يتجشّم».

(٢) انظر الذريعة ٢ : ٥٣٧.

٣٤٨

ولعلّ (١) هذا هو الذي فهمه بعض (٢) من عبارة الشيخ المتقدّمة عن العدّة (٣) ، فحكم بعدم مخالفة الشيخ للسيّد قدس‌سرهما.

المناقشة في هذا الوجه أيضا

وفيه :

أوّلا : أنّه إن اريد ثبوت الاتّفاق على العمل بكلّ واحد واحد (٤) من أخبار هذه الكتب ، فهو ممّا علم خلافه بالعيان ، وإن اريد ثبوت الاتّفاق على العمل بها في الجملة ـ على اختلاف العاملين في شروط العمل ، حتّى يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم مطروحا عند آخر ـ فهذا لا ينفعنا إلاّ في حجّيّة ما علم اتّفاق الفرقة على العمل به بالخصوص ، وليس يوجد ذلك في الأخبار إلاّ نادرا ، خصوصا مع ما نرى من ردّ بعض المشايخ ـ كالصدوق والشيخ ـ بعض الأخبار المودعة (٥) في الكتب المعتبرة بضعف السند ، أو بمخالفة الإجماع ، أو نحوهما.

وثانيا : أنّ ما ذكر من الاتّفاق لا ينفع حتّى في الخبر الذي علم اتّفاق الفرقة على قبوله والعمل به ؛ لأنّ الشرط في الاتّفاق العمليّ أن يكون وجه عمل المجمعين معلوما ؛ ألا ترى أنّه لو اتّفق جماعة ـ يعلم (٦) برضا (٧) الإمام عليه‌السلام بعملهم ـ على النظر إلى امرأة ، لكن يعلم أو يحتمل

__________________

(١) لم ترد «لعلّ» في (ل).

(٢) هو الشيخ حسين الكركي العاملي المتقدّم كلامه في الصفحة ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٣) راجع الصفحة ٣١٢ ـ ٣١٩.

(٤) لم تتكرّر «واحد» في (ر) و (ظ).

(٥) في (ر) و (ه) ونسخة بدل (ص) : «المرويّة».

(٦) في (ت) و (ه) زيادة : «منه».

(٧) في (ر) و (ه) : «رضا».

٣٤٩

أن يكون وجه نظرهم كونها زوجة لبعضهم وامّا لآخر وبنتا لثالث وأمّ زوجة لرابع وبنت زوجة لخامس ، وهكذا ، فهل يجوز لغيرهم ممّن لا محرميّة بينها وبينه أن ينظر إليها من جهة اتّفاق الجماعة الكاشف عن رضا الإمام عليه‌السلام؟ بل لو رأى شخص الإمام عليه‌السلام ينظر إلى امرأة ، فهل يجوز لعاقل التأسّي به؟ وليس هذا كلّه إلاّ من جهة أنّ الفعل لا دلالة فيه على الوجه الذي يقع عليه.

فلا بدّ في الاتّفاق العمليّ من العلم بالجهة والحيثيّة التي اتّفق المجمعون على إيقاع الفعل من تلك الجهة والحيثيّة ، ومرجع هذا إلى وجوب إحراز الموضوع في الحكم الشرعيّ المستفاد من الفعل.

ففيما نحن فيه : إذا علم بأنّ بعض المجمعين يعملون بخبر من حيث علمه بصدوره بالتواتر أو بالقرينة ، وبعضهم من حيث كونه ظانّا بصدوره قاطعا بحجّية هذا الظنّ ، فإذا لم يحصل لنا العلم بصدوره ولا العلم بحجّية الظنّ الحاصل منه ، أو علمنا بخطإ من يعمل به لأجل مطلق الظنّ ، أو احتملنا خطأه ، فلا يجوز لنا العمل بذلك الخبر تبعا للمجمعين.

٣٥٠

الرابع : الدليل العقلى

الاستدلال بالدليل العقلى على حجية خبر الواحد وهو من وجوه ، بعضها يختصّ بإثبات حجّية خبر الواحد ، وبعضها يثبت حجّية الظنّ مطلقا أو في الجملة فيدخل فيه الخبر :

بالدليل العقلى على حجية خبر الواحد من وجوه

أمّا الأوّل ، فتقريره من وجوه :

أوّلها :

الوجه الإوّل العلم الإجمالي بصدور أكثر الأخبار عن الأئمّة عليهم‌السلام

ما اعتمدته سابقا ، وهو : أنّه لا شكّ للمتتبّع في أحوال الرواة المذكورة في تراجمهم في كون (١) أكثر الأخبار بل جلّها ـ إلاّ ما شذّ وندر ـ صادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ؛ وهذا يظهر بعد التأمّل في كيفيّة ورودها إلينا ، وكيفيّة اهتمام أرباب الكتب ـ من المشايخ الثلاثة ومن تقدّمهم ـ في تنقيح ما أودعوه (٢) في كتبهم ، وعدم الاكتفاء بأخذ الرواية من كتاب وإيداعها في تصانيفهم ؛ حذرا من كون ذلك الكتاب (٣) مدسوسا فيه من بعض الكذّابين.

فقد حكي عن أحمد بن محمد بن عيسى ، أنّه جاء إلى الحسن بن عليّ الوشّاء وطلب إليه (٤) أن يخرج إليه كتابا لعلاء بن رزين وكتابا

__________________

(١) في (ر) و (ص) : «أنّ».

(٢) في (ت) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «ودّعوه».

(٣) لم ترد «الكتاب» في (م).

(٤) في (ر) ، (ص) و (ظ) : «وطلب منه».

٣٥١

لأبان بن عثمان الأحمر ، فلمّا أخرجهما ، قال : احبّ أن أسمعهما ، فقال : رحمك الله ما أعجلك؟! اذهب ، فاكتبهما واسمع من بعد (١) ، فقال (٢) : لا آمن الحدثان ، فقال : لو علمت أنّ الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه ، فإنّي قد أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ (٣) ، كلّ يقول : حدّثني جعفر بن محمّد عليهما‌السلام (٤).

وعن حمدويه ، عن أيّوب بن نوح : أنّه دفع (٥) إليه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا (٦) ؛ فإنّي كتبت عن محمّد بن سنان ، ولكن لا أروي لكم عنه شيئا ؛ فإنّه قال قبل موته : كلّ ما حدّثتكم فليس بسماع ولا برواية ، وإنّما وجدته (٧).

شدّة اهتمام الأصحاب بتنقيح الأخبار

فانظر : كيف احتاطوا في الرواية عمّن لم يسمع من الثقات وإنّما وجد في الكتب.

وكفاك شاهدا : أنّ عليّ بن (٨) الحسن بن فضّال لم يرو كتب أبيه

__________________

(١) كذا في (ه) والمصدر ، وفي (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م). «من بعدي» ، وفي (ت) و (ر) : «من بعده».

(٢) وقعت في نقل هذه الحكاية اختلافات غير مهمّة بين النسخ ، وبينهما والمصدر.

(٣) كذا في المصدر ، وفي جميع النسخ : مائة شيخ.

(٤) رجال النجاشي : ٣٩ ، رقم الترجمة ٨٠.

(٥) في (ص) ، (ل) و (م) : «وقع عنده دفاتر».

(٦) في (ص) ، (ظ) ، (ل) و (م) بدل «إن شئتم ـ إلى ـ فافعلوا» : «إن تكتبوا ذلك».

(٧) اختيار معرفة الرجال ١ : ٧٩٥ ، الحديث ٩٧٦.

(٨) لم ترد «بن الحسن» في (ر) ، (ظ) و (م).

٣٥٢

الحسن عنه مع مقابلتها عليه ، وإنّما يرويها عن أخويه أحمد ومحمّد ، عن أبيه ، واعتذر عن ذلك بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه كان صغير السنّ ، ليس له كثير معرفة بالروايات ، فقرأها على أخويه ثانيا (١).

والحاصل : أنّ الظاهر انحصار مدارهم على إيداع ما سمعوه من صاحب الكتاب أو ممّن سمعه منه ، فلم يكونوا يودعون إلاّ ما سمعوا ولو بوسائط من صاحب الكتاب ولو كان معلوم الانتساب ، مع اطمئنانهم بالوسائط وشدّة وثوقهم بهم.

حتّى أنّه ربما كانوا يتبعونهم في تصحيح الحديث وردّه ، كما اتّفق للصدوق بالنسبة إلى شيخه ابن الوليد قدس‌سرهما (٢).

وربما كانوا لا يثقون بمن يوجد فيه قدح بعيد المدخليّة في الصدق ؛ ولذا حكي عن جماعة منهم : التحرّز عن الرواية عمّن يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل وإن كان ثقة في نفسه ، كما اتّفق بالنسبة إلى البرقيّ (٣). بل يتحرّزون (٤) عن الرواية عمّن يعمل بالقياس ، مع أنّ عمله لا دخل له بروايته ، كما اتّفق بالنسبة إلى الإسكافيّ ؛ حيث ذكر في ترجمته : أنّه كان يرى القياس ، فترك رواياته لأجل ذلك (٥).

وكانوا يتوقّفون في روايات من كان على الحقّ فعدل عنه وإن

__________________

(١) رجال النجاشي : ٢٥٨.

(٢) انظر الفقيه ٢ : ٩٠ ، ذيل الحديث ١٨١٧ ، وراجع الصفحة ٣٤٠.

(٣) انظر رجال النجاشي : ٧٦ ، الرقم ١٨٢ ، ورجال العلاّمة الحلّي : ١٤ ، الرقم ٧.

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ظ) و (م) : «يحترزون».

(٥) انظر الفهرست للشيخ الطوسي : ٢٦٨ ، الرقم ٥٩٢.

٣٥٣

كانت كتبه ورواياته حال الاستقامة ، حتّى أذن لهم الإمام عليه‌السلام أو نائبه ، كما سألوا العسكري عليه‌السلام عن كتب بني فضّال ، وقالوا : إنّ بيوتنا منها ملاء (١) ، فأذن عليه‌السلام لهم (٢). وسألوا الشيخ أبا القاسم بن روح عن كتب ابن أبي عزاقر (٣) التي صنّفها قبل الارتداد عن مذهب الشيعة ، حتّى أذن لهم الشيخ في العمل بها (٤).

والحاصل : أنّ الأمارات الكاشفة عن اهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار في الأزمنة المتأخّرة عن زمان الرضا عليه‌السلام أكثر من أن تحصى ، ويظهر (٥) للمتتبّع.

الداعي إلى هذا الاهتمام

والداعي إلى شدّة الاهتمام ـ مضافا إلى كون تلك الروايات أساس الدين وبها قوام شريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا قال الإمام عليه‌السلام في شأن جماعة من الرواة : «لو لا هؤلاء لاندرست آثار النبوّة» (٦). وأنّ الناس لا يرضون بنقل ما لا يوثق به في كتبهم المؤلّفة في التواريخ التي

__________________

(١) كذا في الغيبة : ٣٨٩ ، وفي البحار ٢ : ٢٥٢ : «مليء» ، وفيه ٥١ : ٣٥٨ : «ملأى».

(٢) البحار ٢ : ٢٥٢ ، الحديث ٧٢ ، و ٥١ : ٣٥٨ ، باب احوال السفراء ، والغيبة للشيخ الطوسي : ٣٨٩ ، الرقم ٣٥٥ ، وانظر الوسائل ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

(٣) كذا في (ه) والمصدر ، وفي (ص) ، (ل) و (م) : «ابن عذافر» ، وفي (ر) : «ابن عزاقر» ، وفي (ظ) : «ابن عذافر».

(٤) انظر المصادر المتقدّمة ، البحار والغيبة.

(٥) لم ترد «ويظهر» في (ت) ، (ظ) و (ه).

(٦) الوسائل ١٨ : ١٠٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

٣٥٤

لا يترتّب على وقوع الكذب فيها أثر دينيّ ، بل (١) ولا دنيويّ ، فكيف في كتبهم المؤلّفة لرجوع من يأتي إليها في امور الدين ، على ما أخبرهم الإمام عليه‌السلام ب «أنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم» (٢) ، وعلى ما ذكره الكلينيّ قدس‌سره في ديباجة الكافي : من كون كتابه مرجعا لجميع من يأتي بعد ذلك ـ (٣) :

دسّ الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهما‌السلام

ما تنبّهوا له ونبّههم عليه الأئمّة عليهم‌السلام : من أنّ الكذّابة كانوا يدسّون الأخبار المكذوبة في كتب أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ؛ كما يظهر من الروايات الكثيرة :

منها : أنّه عرض يونس بن عبد الرحمن على سيّدنا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام كتب جماعة من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال صلوات الله عليه : «إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام» (٤).

ومنها : ما عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان المغيرة بن سعد لعنه الله يتعمّد الكذب على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه ـ المستترون بأصحاب أبي ـ يأخذون الكتب من

__________________

(١) لم ترد «بل» في (ت) و (ل).

(٢) الوسائل ١٨ : ٥٦ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨.

(٣) الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٤) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٩٠ ، رقم الترجمة ٤٠١.

٣٥٥

أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة لعنه الله ، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي عليه‌السلام ... الحديث» (١).

ورواية الفيض بن المختار المتقدّمة (٢) في ذيل كلام الشيخ ، إلى غير ذلك من الروايات (٣).

وظهر ممّا ذكرنا : أنّ ما علم إجمالا من الأخبار الكثيرة : من وجود الكذّابين ووضع الأحاديث (٤) ، فهو إنّما كان قبل زمان مقابلة الحديث وتدوين علمي الحديث والرجال بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام.

مع أنّ العلم بوجود الأخبار المكذوبة إنّما ينافي دعوى القطع بصدور الكلّ التي تنسب إلى بعض الأخباريّين (٥) ، أو دعوى الظنّ بصدور جميعها (٦) ، ولا ينافي (٧) ما نحن بصدده : من دعوى العلم الإجماليّ بصدور أكثرها أو كثير منها ، بل هذه دعوى بديهيّة.

والمقصود ممّا ذكرنا : دفع ما ربما يكابره المتعسّف الخالي عن التتبّع ، من منع هذا العلم الإجماليّ.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٩١ ، رقم الترجمة ٤٠٢.

(٢) في الصفحة ٣٢٥.

(٣) تقدّم بعضها في الصفحة ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

(٤) في (ت) و (ه) : «الحديث».

(٥) انظر الفوائد المدنيّة : ٥٢ ـ ٥٣ ، وهداية الأبرار : ١٧ ، والحدائق ١ : ١٧.

(٦) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «التي يعترف بها المنصف بعد التأمّل في ما ذكرنا وتتبّع أضعافه من تراجم الرواة» ، مع اختلاف يسير.

(٧) في غير (ظ) ، (ل) و (م) زيادة : «ذلك».

٣٥٦

ثمّ إنّ هذا العلم الإجماليّ إنّما هو متعلّق بالأخبار المخالفة للأصل المجرّدة عن القرينة ، وإلاّ فالعلم بوجود مطلق الصادر (١) لا ينفع ، فإذا ثبت العلم الإجماليّ بوجود الأخبار الصادرة ، فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر مظنون الصدور ؛ لأنّ تحصيل الواقع الذي يجب العمل به إذا لم يمكن على وجه العلم تعيّن المصير إلى الظنّ في تعيينه ؛ توصّلا إلى العمل بالأخبار الصادرة.

بل ربما يدّعى : وجوب العمل بكلّ واحد منها مع عدم المعارض ، والعمل بمظنون الصدور أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين.

المناقشة في الوجه الأوّل

والجواب عنه :

أوّلا : أنّ وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنّما هو لأجل وجوب امتثال أحكام الله الواقعيّة المدلول عليها بتلك الأخبار ، فالعمل بالخبر الصادر عن الإمام عليه‌السلام إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم الله تعالى (٢) ، وحينئذ نقول : إنّ العلم الإجماليّ ليس مختصّا بهذه الأخبار ، بل نعلم إجمالا بصدور أحكام كثيرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ؛ لوجود (٣) تكاليف كثيرة ، وحينئذ : فاللازم أوّلا الاحتياط ، ومع تعذّره أو تعسّره أو قيام الدليل على عدم وجوبه يرجع إلى ما أفاد الظنّ بصدور الحكم الشرعيّ التكليفيّ عن الحجّة عليه‌السلام ، سواء كان المفيد للظنّ خبرا أو شهرة أو غيرهما ، فهذا الدليل لا يفيد حجّيّة خصوص الخبر ، وإنّما يفيد حجّيّة

__________________

(١) في (م) : «الصادرة».

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «الواقعي».

(٣) في (ظ) و (م) : «بوجود» ، وفي (ص) و (ل) : «لوجوب».

٣٥٧

كلّ ما ظنّ منه بصدور الحكم عن الحجّة وإن لم يكن خبرا.

فإن قلت : المعلوم صدور كثير من هذه الأخبار التي بأيدينا ، وأمّا صدور الأحكام المخالفة للاصول غير مضمون هذه الأخبار فهو غير معلوم لنا ولا مظنون.

قلت (١) : العلم الإجماليّ وإن كان حاصلا في خصوص هذه الروايات (٢) التي بأيدينا ، إلاّ أنّ العلم الإجماليّ حاصل أيضا في مجموع ما بأيدينا من الأخبار ومن الأمارات الأخر المجرّدة عن الخبر التي بأيدينا المفيدة للظنّ بصدور الحكم عن الإمام عليه‌السلام ، وليست هذه الأمارات خارجة عن أطراف العلم الإجماليّ الحاصل في المجموع بحيث يكون العلم الإجماليّ في المجموع مستندا إلى بعضها وهي الأخبار ؛ ولذا لو فرضنا عزل طائفة من هذه الأخبار وضممنا إلى الباقي مجموع الأمارات الأخر ، كان العلم الإجماليّ بحاله.

فهنا علم إجماليّ حاصل في الأخبار ، وعلم إجماليّ حاصل بملاحظة مجموع الأخبار وسائر الأمارات المجرّدة عن الخبر ؛ فالواجب مراعاة العلم الإجماليّ الثاني وعدم الاقتصار على مراعاة الأوّل.

نظير ذلك : ما إذا علمنا إجمالا بوجود شياه (٣) محرّمة في قطيع غنم بحيث يكون نسبته إلى كلّ بعض منها كنسبته إلى البعض الآخر ،

__________________

(١) في غير (ر) ، (ظ) و (ل) زيادة : «أوّلا» ، والصحيح عدمه لعدم وجود ثان له.

(٢) لم ترد «الروايات» في (م).

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «شاة».

٣٥٨

وعلمنا أيضا بوجود شياه محرّمة في خصوص طائفة خاصّة من تلك الغنم بحيث لو لم يكن من الغنم إلاّ هذه علم إجمالا بوجود الحرام فيها أيضا ؛ والكاشف عن ثبوت العلم الإجماليّ في المجموع ما أشرنا إليه سابقا : من أنّه لو عزلنا من هذه الطائفة الخاصّة التي علم بوجود الحرام فيها قطعة توجب انتفاء العلم الإجماليّ فيها وضممنا إليها مكانها باقي الغنم ، حصل العلم الإجماليّ بوجود الحرام فيها أيضا ، وحينئذ : فلا بدّ (١) من أن نجري (٢) حكم العلم الإجماليّ في تمام الغنم إمّا بالاحتياط ، أو بالعمل بالمظنّة لو بطل وجوب الاحتياط. وما نحن فيه من هذا القبيل. ودعوى : أنّ سائر الأمارات المجرّدة لا مدخل لها في العلم الإجماليّ ، وأنّ هنا علما إجماليّا واحدا بثبوت الواقع بين الأخبار ، خلاف الانصاف.

المناقشة الثانية في الوجه الأول

وثانيا : أنّ اللازم من ذلك العلم الإجماليّ هو العمل بالظنّ في مضمون تلك الأخبار ؛ لما عرفت (٣) : من أنّ العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم الله الذي يجب العمل به ، وحينئذ : فكلّما ظنّ بمضمون خبر منها ـ ولو من جهة الشهرة ـ يؤخذ به ، وكلّ خبر لم يحصل الظنّ (٤) بكون مضمونه حكم الله لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصدور ، فالعبرة بظنّ مطابقة الخبر للواقع ، لا بظنّ الصدور.

__________________

(١) في (ت) و (ر) : «لا بدّ».

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) : «يجري».

(٣) راجع الصفحة ٣٥٧.

(٤) لم ترد «الظنّ» في (ظ) ، (ل) و (م).

٣٥٩

المناقشة الثالثة في الوجه الأوّل

وثالثا : أنّ مقتضى هذا الدليل وجوب العمل بالخبر المقتضي للتكليف ؛ لأنّه الذي يجب العمل به ، وأمّا الأخبار الصادرة النافية للتكليف فلا يجب العمل بها. نعم ، يجب الإذعان بمضمونها وإن لم تعرف بعينها.

وكذلك لا يثبت به حجّيّة الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الكتاب والسنّة القطعيّة (١).

والحاصل : أنّ معنى حجّيّة الخبر كونه دليلا متّبعا في مخالفة الاصول العمليّة والاصول اللفظيّة مطلقا ، وهذا المعنى لا يثبت بالدليل المذكور ، كما لا يثبت بأكثر ما سيأتي من الوجوه العقليّة بل كلّها ، فانتظر.

__________________

(١) وردت في (ت) ونسخة بدل (ه) زيادة ، وهي : «لأنّ العمل بالخبر من باب الاحتياط لا يوجب تخصيص العام وتقييد المطلق».

٣٦٠