فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

المناقشة فيما ذكره صاحب العالم

وأنت خبير : بأنّ ما ذكره في وجه الجمع ـ من تيسّر القرائن وعدم اعتمادهم على الخبر المجرّد ـ قد صرّح الشيخ في عبارته المتقدّمة (١) ببداهة بطلانه ؛ حيث قال : إنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة ، وأنّ المدّعي لها معوّل على ما يعلم ضرورة خلافه ويعلم من نفسه ضدّه ونقيضه. والظاهر ـ بل المعلوم ـ أنّه قدس‌سره لم يكن عنده كتاب العدّة.

كلام المحدّث الأسترابادي في موافقة الشيخ للسيّد المرتضى

وقال المحدّث الأسترابادي ـ في محكيّ الفوائد المدنيّة ـ : إنّ الشيخ قدس‌سره لا يجيز العمل إلاّ بالخبر المقطوع بصدوره عنهم ، وذلك هو مراد المرتضى قدس‌سره ، فصارت المناقشة لفظيّة ، لا كما توهّمه العلاّمة ومن تبعه (٢) ، انتهى كلامه.

وقال بعض من تأخّر عنه من الأخباريّين (٣) في رسالته ، بعد ما استحسن ما ذكره صاحب المعالم :

كلام الشيخ حسين الكركي في ذلك أيضا

ولقد أحسن النظر وفهم طريقة الشيخ والسيّد قدس‌سرهما من كلام المحقّق قدس‌سره كما هو حقّه.

والذي يظهر منه : أنّه لم ير عدّة الاصول للشيخ ، وإنّما فهم ذلك ممّا نقله المحقّق قدس‌سره ، ولو رآها لصدع بالحقّ أكثر من هذا. وكم له من تحقيق أبان به من غفلات المتأخّرين ، كوالده وغيره. وفيما ذكره كفاية لمن طلب الحقّ وعرفه ؛ وقد تقدّم كلام الشيخ ، وهو صريح فيما فهمه

__________________

(١) في الصفحة ٣١٨.

(٢) الفوائد المدنيّة : ٦٧.

(٣) هو الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي العاملي في كتاب هداية الأبرار ، كما سيأتي ، انظر شرح الوافية (مخطوط) : ١٨٦.

٣٢١

المحقّق قدس‌سره ، وموافق لما يقوله السيّد قدس‌سره ، فليراجع.

والذي أوقع العلاّمة في هذا الوهم : ما ذكره الشيخ في العدّة : من أنّه يجوز العمل بخبر العدل الإماميّ ، ولم يتأمّل بقيّة الكلام كما تأمّله المحقّق ، ليعلم أنّه إنّما يجوّز العمل بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب واجتمعوا على جواز العمل بها ، وذلك ممّا يوجب العلم بصحّتها ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العمل به ؛ وإلاّ فكيف يظنّ بأكابر الفرقة الناجية وأصحاب الأئمّة صلوات الله عليهم ـ مع قدرتهم على أخذ اصول الدين وفروعه منهم عليهم‌السلام بطريق اليقين ـ أن يعوّلوا فيها على أخبار الآحاد المجرّدة ، مع أنّ مذهب العلاّمة (١) وغيره (٢) أنّه لا بدّ في اصول الدين من الدليل القطعيّ ، وأنّ المقلّد في ذلك خارج عن ربقة الإسلام؟ وللعلاّمة وغيره كثير من هذه الغفلات ؛ لالفة أذهانهم باصول العامّة.

ومن تتبّع كتب القدماء وعرف أحوالهم ، قطع بأنّ الأخباريّين من أصحابنا لم يكونوا يعوّلون في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة أو الآحاد المحفوفة بالقرائن المفيدة للعلم ، وأمّا خبر الواحد فيوجب عندهم الاحتياط دون القضاء والافتاء ، والله الهادي (٣) ، انتهى كلامه.

المناقشة في ما أفاده المحدّث الأسترابادي والشيخ الكركي

أقول : أمّا دعوى دلالة كلام الشيخ في العدّة على عمله بالأخبار

__________________

(١) انظر الباب الحادي عشر : ٣ ـ ٤ ، ونهاية الوصول (مخطوط) : ٤٤٨.

(٢) كالشيخ الطوسي في العدّة ٢ : ٧٣١ ، والمحقّق في المعارج : ١٩٩ ، والشهيد الأوّل في الألفيّة : ٣٨ ، والشهيد الثاني في المقاصد العليّة : ٢١.

(٣) هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار : ٦٨ ـ ٦٩.

٣٢٢

المحفوفة بالقرائن العلميّة دون المجرّدة عنها وأنّه ليس مخالفا للسيّد قدس‌سرهما ، فهو كمصادمة الضرورة ؛ فإنّ في العبارة المتقدّمة من العدّة (١) وغيرها ممّا لم نذكرها مواضع تدلّ على مخالفة السيّد.

نعم ، يوافقه في العمل بهذه الأخبار المدوّنة ، إلاّ أنّ السيّد يدّعي تواترها له أو احتفافها بالقرينة المفيدة للعلم ؛ كما صرّح به في محكيّ كلامه في جواب المسائل التبّانيّات : من أنّ أكثر أخبارنا المرويّة في كتبنا معلومة مقطوع على صحّتها ، إمّا بالتواتر أو بأمارة وعلامة تدلّ على صحّتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مفيدة للقطع وإن وجدناها في الكتب مودعة بسند مخصوص من طريق الآحاد (٢) ، انتهى. والشيخ يأبى عن احتفافها بها (٣) ، كما عرفت (٤) كلامه السابق في جواب ما أورده على نفسه بقوله : فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار بمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها ، إلى آخر ما ذكره (٥).

ومجرّد عمل السيّد والشيخ بخبر خاصّ ـ لدعوى الأوّل تواتره ، والثاني كون خبر الواحد حجّة ـ لا يلزم منه توافقهما في مسألة خبر الواحد ؛ فإنّ الخلاف فيها يثمر في خبر يدّعي السيّد تواتره ولا يراه

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٨.

(٢) المسائل التبّانيّات (رسائل الشريف المرتضى) ١ : ٢٦.

(٣) في (ت) و (ه) بدل «بها» : «بالقرينة».

(٤) في (ت) و (ه) زيادة : «من».

(٥) راجع الصفحة ٣١٨.

٣٢٣

الشيخ جامعا لشرائط الخبر المعتبر ، وفي خبر يراه الشيخ جامعا ولم يحصل تواتره للسيّد ؛ إذ ليس جميع ما دوّن في الكتب متواترا عند السيّد ولا جامعا لشرائط الحجّيّة عند الشيخ.

ثمّ إنّ إجماع الأصحاب الذي ادّعاه الشيخ على العمل بهذه الأخبار لا يصير قرينة لصحّتها بحيث تفيد العلم ، حتّى يكون حصول الإجماع للشيخ قرينة عامّة لجميع هذه الأخبار ؛ كيف وقد عرفت (١) إنكاره للقرائن حتّى لنفس المجمعين؟ ولو فرض كون الإجماع على العمل قرينة ، لكنّه غير حاصل في كلّ خبر بحيث يعلم أو يظنّ أنّ هذا الخبر بالخصوص وكذا ذاك وذاك ، ممّا اجتمع (٢) على العمل به ، كما لا يخفى.

بل المراد الإجماع على الرجوع إليها والعمل بها بعد حصول الوثوق من الراوي أو من القرائن ؛ ولذا استثنى القميّون كثيرا من رجال نوادر الحكمة (٣) مع كونه من الكتب المشهورة المجمع على الرجوع إليها ، واستثنى ابن الوليد (٤) من روايات العبيديّ ما يرويها عن يونس مع كونها في (٥) الكتب المشهورة.

والحاصل : أنّ معنى الإجماع على العمل بها عدم ردّها من جهة كونها أخبار آحاد ، لا الإجماع على العمل بكلّ خبر خبر منها.

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٨.

(٢) في (ت) و (ص) : «أجمع».

(٣) كتاب نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري القمّي.

(٤) هو محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، أبو جعفر ، شيخ القمّيين وفقيههم.

(٥) في (ه) : «من».

٣٢٤

ثمّ إنّ ما ذكره (١) ـ من تمكّن أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام من أخذ الاصول والفروع بطريق اليقين ـ دعوى ممنوعة واضحة المنع. وأقلّ ما يشهد عليها : ما علم بالعين (٢) والأثر : من اختلاف أصحابهم صلوات الله عليهم في الاصول والفروع ؛ ولذا شكا غير واحد من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام إليهم اختلاف أصحابهم (٣) ، فأجابوهم تارة : بأنّهم عليهم‌السلام قد ألقوا الاختلاف بينهم حقنا لدمائهم ، كما في رواية حريز (٤) وزرارة (٥) وأبي أيّوب الخزّاز (٦) ، واخرى أجابوهم : بأنّ ذلك من جهة الكذّابين ، كما في رواية الفيض بن المختار ، قال :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلني الله فداك ، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ قال : وأيّ الاختلاف يا فيض؟ فقلت له : إنّي أجلس في حلقهم بالكوفة وأكاد أشكّ في اختلافهم في حديثهم ، حتّى أرجع إلى المفضّل بن عمر ، فيوقفني من ذلك على ما تستريح به نفسي ، فقال عليه‌السلام : أجل (٧) ، كما ذكرت يا فيض ، إنّ الناس قد اولعوا بالكذب علينا ، كأنّ الله افترض عليهم ولا يريد منهم غيره ، إنّي احدّث أحدهم

__________________

(١) أي : الشيخ حسين الكركي العاملي في كلامه المتقدّم في الصفحة ٣٢٢.

(٢) في (ظ) و (م) بدل «بالعين» : «باليقين».

(٣) في غير (ص) : «أصحابه».

(٤) علل الشرائع ٢ : ٣٩٥ ، الحديث ١٤.

(٥) نفس المصدر ، الحديث ١٦.

(٦) نفس المصدر ، الحديث ١٥.

(٧) في المصدر زيادة : «هو».

٣٢٥

بحديث ، فلا يخرج من عندي حتّى يتأوّله (١) على غير تأويله ؛ وذلك لأنّهم لا يطلبون بحديثنا وبحبّنا ما عند الله تعالى ، وكلّ يحبّ أن يدعى رأسا» (٢). وقريب منها : رواية داود بن سرحان (٣).

واستثناء القميّين كثيرا من رجال نوادر الحكمة معروف (٤) ، وقصّة ابن أبي العوجاء ـ أنّه قال عند قتله : قد دسست في كتبكم أربعة آلاف حديث ـ مذكورة في الرجال (٥). وكذا ما ذكره يونس بن عبد الرحمن : من أنّه أخذ أحاديث كثيرة من أصحاب الصادقين عليهما‌السلام ، ثمّ عرضها على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة (٦) ، إلى غير ذلك ممّا يشهد بخلاف ما ذكره.

وأمّا ما ذكره (٧) : من عدم عمل الأخباريّين في عقائدهم إلاّ على الأخبار المتواترة والآحاد العلميّة ، ففيه :

أنّ الأظهر في مذهب الأخباريّين ما ذكره العلاّمة (٨) : من أنّ الأخباريّين لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد.

__________________

(١) في (ظ) : «يؤوّله».

(٢) اختيار معرفة الرجال ١ : ٣٤٧ ، الحديث ٢١٦.

(٣) نفس المصدر ١ : ٣٩٩ ، الحديث ٢٨٧.

(٤) كما تقدّم في الصفحة ٣٢٤.

(٥) انظر أمالي السيّد المرتضى ١ : ٩٥.

(٦) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٨٩ ـ ٤٩٠.

(٧) أي : الشيخ الكركي العاملي في كلامه المتقدّم في الصفحة ٣٢٢.

(٨) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦.

٣٢٦

ولعلّهم المعنيّون ممّا ذكره الشيخ في كلامه السابق (١) في المقلّدة (٢) : أنّهم إذا سألوا عن التوحيد وصفات الأئمّة و (٣) النبوّة ، قالوا : روينا كذا ، وأنّهم يروون في ذلك الأخبار.

وكيف كان : فدعوى دلالة كلام الشيخ في العدّة على موافقة السيّد في غاية الفساد ، لكنّها غير بعيدة ممّن يدّعي قطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة ؛ لأنّه إذا ادّعى القطع لنفسه بصدور الأخبار التي أودعها الشيخ في كتابيه ، فكيف يرضى للشيخ ومن تقدّم عليه من المحدّثين أن يعملوا بالأخبار المجرّدة عن القرينة؟

عذر صاحب المعالم

وأمّا صاحب المعالم قدس‌سره ، فعذره أنّه لم يحضره عدّة الشيخ حين كتابة هذا الموضع ، كما حكي عن بعض حواشيه (٤) واعترف به هذا الرجل (٥).

وأمّا المحقّق قدس‌سره ، فليس في كلامه المتقدّم (٦) منع دلالة كلام الشيخ على حجّيّة خبر الواحد المجرّد مطلقا ، وإنّما منع من دلالته على الإيجاب الكلّيّ وهو : أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يعمل به ، وخصّ مدلوله

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٧.

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «من».

(٣) في غير (ه) : «أو».

(٤) ذكره المولى صالح المازندراني في حاشيته على المعالم ، انظر هامش المعالم (الطبعة الحجرية) : ١٩٧.

(٥) أي الشيخ حسين الكركي العاملي.

(٦) في الصفحة ٣٢٠.

٣٢٧

بهذه الأخبار التي دوّنها الأصحاب ، وجعله موافقا لما اختاره في المعتبر : من التفصيل في أخبار الآحاد المجرّدة بعد ذكر الأقوال فيها ، وهو : أنّ ما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب اطّراحه (١) ، انتهى.

والإنصاف : أنّ ما فهمه العلاّمة من إطلاق قول الشيخ بحجّية خبر العدل الإماميّ أظهر ممّا فهمه المحقّق من التقييد ؛ لأنّ الظاهر أنّ الشيخ إنّما يتمسّك بالإجماع على العمل بالروايات المدونة في كتب الأصحاب على حجّية مطلق خبر العدل الإماميّ ، بناء منه على أنّ الوجه في عملهم بها كونها أخبار عدول ، وكذا ما ادّعاه من الإجماع على العمل بروايات الطوائف الخاصّة من غير الإماميّة ؛ وإلاّ فلم يأخذه في عنوان مختاره ، ولم يشترط كون الخبر ممّا رواه الأصحاب وعملوا به ، فراجع كلام الشيخ وتأمّله ، والله العالم وهو الهادي إلى الصواب.

التدافع بين دعوى السيّد ودعوى الشيخ

ثمّ إنّه لا يبعد وقوع مثل هذا التدافع بين دعوى السيّد ودعوى الشيخ ـ مع كونهما معاصرين خبيرين بمذهب الأصحاب ـ في العمل بخبر الواحد ؛ فكم من مسألة فرعيّة وقع الاختلاف بينهما في دعوى الإجماع فيها ، مع أنّ المسألة الفرعيّة أولى بعدم خفاء مذهب الأصحاب فيها عليهما ؛ لأنّ المسائل الفرعيّة معنونة في الكتب مفتى بها غالبا بالخصوص ـ نعم قد يتّفق دعوى الإجماع بملاحظة قواعد الأصحاب ـ والمسائل الاصوليّة لم تكن معنونة في كتبهم ، إنّما المعلوم من حالهم أنّهم عملوا بأخبار وطرحوا أخبارا.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٩.

٣٢٨

فلعلّ وجه عملهم بما عملوا كونه متواترا أو محفوفا عندهم ، بخلاف ما طرحوا ، على ما يدّعيه السيّد قدس‌سره على ما صرّح به في كلامه المتقدّم (١) : من أنّ الأخبار المودعة في الكتب بطريق الآحاد متواترة أو محفوفة. ونصّ في مقام آخر (٢) على : أنّ معظم الأحكام يعلم بالضرورة والأخبار المعلومة.

ويحتمل : كون الفارق بين ما عملوا وما طرحوا ـ مع اشتراكهما في عدم التواتر والاحتفاف ـ فقد شرط العمل في أحدهما دون الآخر ، على ما يدّعيه الشيخ قدس‌سره على ما صرّح به في كلامه المتقدّم (٣) ، من الجواب عن احتمال كون عملهم بالأخبار لاقترانها بالقرائن.

نعم ، لا يناسب ما ذكرنا من الوجه تصريح السيّد بأنّهم شدّدوا الإنكار على العامل بخبر الواحد.

ولعلّ الوجه فيه : ما أشار إليه الشيخ في كلامه المتقدّم (٤) بقوله : إنّهم منعوا من الأخبار التي رواها المخالفون في المسائل التي روى أصحابنا خلافها (٥).

واستبعد هذا صاحب المعالم ـ في حاشية منه على هامش المعالم ، بعد ما حكاه عن الشيخ ـ : بأنّ الاعتراف بإنكار عمل الإماميّة بأخبار

__________________

(١) في الصفحة ٣٢٣.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢.

(٣) في الصفحة ٣١٨.

(٤) في الصفحة ٣١٣.

(٥) في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «خلافه».

٣٢٩

الآحاد لا يعقل صرفه إلى روايات مخالفيهم ؛ لأنّ اشتراط العدالة عندهم وانتفاءها في غيرهم كاف في الإضراب عنها ، فلا وجه للمبالغة في نفي العمل بخبر يروونه (١) ، انتهى.

وفيه : أنّه يمكن أن يكون إظهار هذا المذهب والتجنّن به في مقام لا يمكنهم التصريح بفسق الراوي ، فاحتالوا في ذلك بأنّا لا نعمل إلاّ بما حصل لنا القطع بصدقه بالتواتر أو (٢) بالقرائن ، ولا دليل عندنا على العمل بالخبر الظنّي وإن كان راويه غير مطعون ، وفي عبارة الشيخ ـ المتقدّمة (٣) ـ إشارة إلى ذلك ؛ حيث خصّ إنكار الشيوخ للعمل بالخبر المجرّد بصورة المناظرة مع خصومهم.

الجمع بين دعوى السيّد والشيخ قدس‌سرهما

والحاصل : أنّ الإجماع الذي ادّعاه السيّد قدس‌سره قوليّ ، وما ادّعاه الشيخ قدس‌سره إجماع عمليّ ، والجمع بينهما يمكن بحمل عملهم على ما احتفّ بالقرينة عندهم ، وبحمل قولهم على ما ذكرنا من الاحتمال في دفع الروايات الواردة فيما لا يرضونه من المطالب ، والحمل الثاني مخالف لظاهر القول ، والحمل الأوّل ليس مخالفا لظاهر العمل ؛ لأنّ العمل مجمل من أجل (٤) الجهة التي وقع عليها.

عدم صحّة هذا الجمع

إلاّ أنّ الإنصاف : أنّ القرائن تشهد بفساد الحمل الأوّل كما سيأتي (٥) ،

__________________

(١) حكى المولى صالح المازندراني هذه الحاشية في حاشيته على المعالم ، انظر هامش المعالم (الطبعة الحجريّة) : ١٩٩.

(٢) في (ت) ، (ل) و (ه) : «و».

(٣) في الصفحة ٢١٣.

(٤) لم ترد «أجل» في (ل).

(٥) انظر الصفحة ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٣٣٠

فلا بدّ من حمل قول من حكى عنهم السيّد المنع ، إمّا على ما ذكرنا : من إرادة دفع أخبار المخالفين التي لا يمكنهم ردّها بفسق الراوي ، وإمّا على ما ذكره الشيخ : من كونهم جماعة معلومي النسب لا يقدح مخالفتهم بالإجماع.

الجمع بوجه آخر

ويمكن الجمع بينهما بوجه آخر (١) ، وهو : أنّ مراد السيّد قدس‌سره من العلم الذي ادّعاه في صدق الأخبار هو مجرّد الاطمئنان ؛ فإنّ المحكيّ عنه قدس‌سره في تعريف العلم : أنّه ما اقتضى سكون النفس (٢) ، وهو الذي ادّعى بعض الأخباريّين (٣) : أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى ، لا اليقين الذي لا يقبل الاحتمال رأسا.

فمراد الشيخ من تجرّد هذه الأخبار عن القرائن : تجرّدها عن القرائن الأربع التي ذكرها أوّلا ، وهي موافقة الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو دليل العقل ، ومراد السيّد من القرائن التي ادّعى في عبارته المتقدّمة (٤) احتفاف أكثر الأخبار بها : هي الامور (٥) الموجبة للوثوق بالراوي أو بالرواية ، بمعنى سكون النفس بهما وركونها إليهما ، وحينئذ فيحمل إنكار الإماميّة للعمل بخبر الواحد على إنكارهم للعمل به تعبّدا ، أو (٦) لمجرّد حصول رجحان بصدقه على ما يقوله المخالفون.

__________________

(١) في (ر) و (ص) ونسخة بدل (ت) بدل «آخر» : «أحسن».

(٢) الذريعة ١ : ٢٠.

(٣) وهو المحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : ٦٣.

(٤) في الصفحة ٣٢٣.

(٥) في (ت) ، (ص) و (ه) زيادة : «الخارجيّة» ، وفي (ظ) زيادة : «الخارجة».

(٦) في (م) : «و».

٣٣١

والإنصاف : أنّه لم يتّضح من كلام الشيخ دعوى الإجماع على أزيد من الخبر الموجب لسكون النفس ولو بمجرّد وثاقة الراوي وكونه سديدا في نقله لم يطعن في روايته.

هذا الوجه أحسن الوجوه

ولعلّ هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي (١) الشيخ والسيّد قدس‌سرهما ، خصوصا مع ملاحظة تصريح السيّد قدس‌سره في كلامه بأنّ أكثر الأخبار متواترة أو محفوفة (٢) ، وتصريح الشيخ قدس‌سره في كلامه المتقدّم (٣) بإنكار ذلك.

وممّن نقل الإجماع على حجّيّة أخبار الآحاد : السيّد الجليل رضيّ الدين بن طاوس ، حيث قال في جملة كلام له يطعن فيه على السيّد قدس‌سره :

دعوى ابن طاووس الإجماع على حجيّة الخبر الواحد

ولا يكاد تعجّبي ينقضي كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة تعمل (٤) بأخبار الآحاد في الامور الشرعيّة؟ ومن اطّلع على التواريخ والأخبار وشاهد عمل ذوي الاعتبار ، وجد المسلمين والمرتضى (٥) وعلماء الشيعة الماضين (٦) عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر محمّد ابن الحسن الطوسي في كتاب العدّة ، وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار

__________________

(١) في (ل) : «كلام».

(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «بالقرائن».

(٣) في الصفحة ٣١٨.

(٤) في (ر) و (ص) : «لا تعمل».

(٥) شطب على «والمرتضى» في (ت).

(٦) في (ر) : «والماضين».

٣٣٢

الشيعة وغيرهم من المصنّفين (١) ، انتهى.

وفيه دلالة على : أنّ غير الشيخ من العلماء أيضا ادّعى الإجماع على عمل الشيعة بأخبار الآحاد.

دعوى العلاّمة الإجماع أيضاً

وممّن نقل الإجماع أيضا : العلاّمة رحمه‌الله في النهاية حيث قال : إنّ الأخباريّين منهم لو يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، والاصوليّين منهم ـ كأبي جعفر الطوسيّ وغيره ـ وافقوا (٢) على قبول خبر الواحد ، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه ؛ لشبهة حصلت لهم (٣) ، انتهى.

دعوى المحدّث المجلسي الإجماع كذلك

وممّن ادّعاه أيضا : المحدّث المجلسيّ قدس‌سره في بعض رسائله ، حيث ادّعى تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد (٤).

ثمّ إنّ مراد العلاّمة قدس‌سره من الأخباريّين ، يمكن أن يكون مثل الصدوق (٥) وشيخه قدس‌سرهما (٦) ؛ حيث أثبتا السهو للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ؛ لبعض أخبار الآحاد ، وزعما أنّ نفيه عنهم عليهم‌السلام أوّل درجة في الغلوّ ،

__________________

(١) لم نعثر عليه ، ولا على من حكاه.

(٢) كذا في (ت) و (ه) والمصدر ، نعم «وغيره» من المصدر فقط ، وفي غيرها بدل «وغيره ـ إلى ـ الواحد» : «عمل بها».

(٣) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦.

(٤) انظر البحار ٢ : ٢٤٥ ، ذيل الحديث ٥٥.

(٥) انظر الفقيه ١ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، ذيل الحديث ١٠٣١.

(٦) وهو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، انظر نفس المصدر.

٣٣٣

ويكون ما تقدّم في كلام الشيخ (١) من المقلّدة الذين إذا سألوا عن التوحيد وصفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام قالوا : روينا كذا ، ورووا في ذلك الأخبار. وقد نسب الشيخ قدس‌سره ـ في هذا المقام من العدّة ـ العمل بأخبار الآحاد في اصول الدين إلى بعض غفلة أصحاب الحديث.

ثمّ إنّه يمكن أن يكون الشبهة التي ادّعى العلاّمة قدس‌سره حصولها للسيّد وأتباعه ، هو : زعم الأخبار التي عمل بها الأصحاب ودوّنوها في كتبهم محفوفة عندهم بالقرائن ، أو أنّ من قال من شيوخهم بعدم حجّيّة أخبار الآحاد أراد بها مطلق الأخبار ، حتّى الأخبار الواردة من طرق أصحابنا مع وثاقة الراوي ، أو أنّ مخالفته لأصحابنا في هذه المسألة لأجل شبهة حصلت له ، فخالف المتّفق عليه بين الأصحاب.

ثمّ إنّ دعوى الإجماع (٢) على العمل بأخبار الآحاد ، وإن لم نطّلع (٣) عليها صريحة في كلام غير الشيخ وابن طاوس والعلاّمة والمجلسي قدّست أسرارهم ، إلاّ أنّ هذه الدعوى منهم مقرونة بقرائن تدلّ على صحّتها وصدقها ، فخرج عن الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرّد عن القرينة ، ويدخل في المحفوف بالقرينة ؛ وبهذا الاعتبار يتمسّك به (٤) على حجّيّة الأخبار.

اعتراف السيّد بعمل الطائفة بأخبار الآحاد :

بل السيّد قدس‌سره قد اعترف في بعض كلامه المحكيّ ـ كما يظهر منه ـ

__________________

(١) راجع الصفحة ٣١٧.

(٢) في غير (ر) زيادة : «صريحا».

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) : «لم يطّلع».

(٤) كذا في (ت) ، وفي (ر) ، (ص) ، (ظ) ، (م) و (ه) : «بها».

٣٣٤

بعمل الطائفة بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه يدّعي أنّه لمّا كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجرّدة كعدم عملهم بالقياس ، فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة.

قال في الموصليّات على ما حكي عنه في محكيّ السرائر :

كلام السيّد في الموصليّات

إن قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم وجعلوها العمدة والحجّة في الأحكام ، حتّى رووا عن أئمّتهم عليهم‌السلام في ما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح : أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامّة ، وهذا يناقض ما قدّمتموه.

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع عليها بما هو (١) مشتبه وملتبس مجمل ، وقد علم كلّ موافق ومخالف أنّ الشيعة الإماميّة تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدّي إلى العلم ، وكذلك نقول في أخبار الآحاد (٢) ، انتهى المحكيّ عنه.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ اعتراف بما (٣) يظهر منه عمل الشيوخ بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه قدس‌سره ادّعى معلوميّة خلافه من مذهب الإماميّة ، فترك هذا الظهور أخذا بالمقطوع ، ونحن نأخذ بما ذكره أوّلا ؛ لاعتضاده بما يوجب الصدق ، دون ما ذكره أخيرا ؛ لعدم ثبوته إلاّ من قبله ، وكفى

__________________

(١) كذا في المصدر.

(٢) المسائل الموصليات الثالثة (رسائل الشريف المرتضى) ١ : ٢١٠ ـ ٢١١ ، وحكى عنه في السرائر ١ : ٥٠.

(٣) لم ترد «اعتراف بما» في (ر) و (ص).

٣٣٥

القرائن على صدق الإجماع المدّعى من الشيخ

بذلك موهنا ، بخلاف الإجماع المدّعى من الشيخ والعلاّمة ؛ فإنّه معتضد بقرائن كثيرة تدلّ على صدق مضمونه وأنّ الأصحاب عملوا بالخبر الغير العلميّ في الجملة.

١ - ما ادّعاه الكشّي

فمن تلك القرائن : ما ادّعاه الكشّيّ ، من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة (١) ؛ فإنّ من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو عدّ خبره صحيحا بمعنى عملهم به ، لا القطع بصدوره ؛ إذ الإجماع وقع على التصحيح لا على الصحّة ، مع أنّ الصحّة عندهم ـ على ما صرّح به غير واحد (٢) ـ عبارة عن الوثوق والركون ، لا القطع واليقين.

٢ - دعوى النجاشي

ومنها : دعوى النجاشيّ أنّ مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب (٣). وهذه العبارة تدلّ على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عمير ، لا من أجل القطع بالصدور ، بل لعلمهم بأنّه لا يروي أو لا يرسل إلاّ عن ثقة ؛ فلو لا قبولهم لما يسنده الثقة إلى الثقة لم يكن وجه لقبول مراسيل ابن أبي عمير الذي لا يروي إلاّ عن الثقة.

والاتّفاق المذكور قد ادّعاه الشهيد في الذكرى (٤) أيضا. وعن

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٥٠٧ ، الترجمة ٦٧٣٩.

(٢) كالشيخ البهائي ، انظر مشرق الشمسين (رسائل الشيخ البهائي) : ٢٦٩ ، والمحدّث البحراني في الحدائق ١ : ١٤ ، والمحقّق القمي في القوانين ١ : ٤٨٤ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٣٠٩.

(٣) انظر رجال النجاشي : ٣٢٦ ، رقم الترجمة ٨٨٧.

(٤) الذكرى ١ : ٤٩.

٣٣٦

كاشف الرموز تلميذ المحقّق : أنّ الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطي (١).

ومنها : ما ذكره ابن إدريس ـ في رسالة خلاصة الاستدلال التي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ـ في مقام دعوى الإجماع على المضايقة ، وأنّها ممّا أطبقت عليه الإماميّة إلاّ نفر يسير من الخراسانيّين ، قال في مقام تقريب الإجماع :

إنّ ابني بابويه والأشعريّين : كسعد بن عبد الله وسعد بن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب ، والقمّيين أجمع : كعليّ بن إبراهيم ومحمّد بن الحسن بن الوليد ، عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضايقة ؛ لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته (٢) ، انتهى.

فقد استدلّ على مذهب الإماميّة : بذكرهم لأخبار المضايقة وذهابهم إلى العمل برواية الثقة ، فاستنتج من هاتين المقدّمتين ذهابهم إلى المضايقة.

وليت شعري : إذا علم ابن إدريس أنّ مذهب هؤلاء ـ الذين هم أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، ويحصل العلم بقول الإمام عليه‌السلام من اتّفاقهم ـ وجوب العمل برواية الثقة وأنّه لا يحلّ ترك العمل بها ، فكيف تبع السيّد في مسألة خبر الواحد؟

إلاّ أن يدّعى أنّ المراد بالثقة من يفيد قوله القطع ، وفيه ما لا يخفى. أو يكون مراده ومراد السيّد قدس‌سرهما من الخبر العلميّ ما يفيد الوثوق والاطمئنان لا ما يفيد (٣) اليقين ، على ما ذكرناه سابقا في الجمع بين

__________________

(١) كشف الرموز ١ : ٤٥٢.

(٢) تقدّم نقل هذا الكلام من خلاصة الاستدلال في الصفحة ٢٠٧.

(٣) كذا في (ر) ، (ظ) ، (م) ونسخة بدل (ص) ، وفي غيرها بدل «يفيد» : «يوجب».

٣٣٧

كلامي السيّد والشيخ قدس‌سرهما (١).

٤ - ما ذكره المحقّق قدس‌سره

ومنها : ما ذكره المحقّق في المعتبر في مسألة خبر الواحد ، حيث قال :

أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ؛ فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستكثر بعدي القالة عليّ» ، وقول الصادق عليه‌السلام : «إنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه» (٢).

واقتصر بعضهم من هذا الإفراط ، فقال : كلّ سليم السند يعمل به. وما علم أنّ الكاذب قد يصدق ، ولم يتنبّه على أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ؛ إذ ما من مصنّف إلاّ وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل.

وافرط آخرون في طريق ردّ الخبر حتّى أحالوا استعماله عقلا. واقتصر آخرون ، فلم يروا العقل مانعا ، لكنّ الشرع لم يأذن في العمل به.

وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السنن ، والتوسّط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض عنه الأصحاب أو شذّ يجب اطّراحه (٣) ، انتهى.

وهو ـ كما ترى ـ ينادي : بأنّ علماء الشيعة قد يعملون بخبر

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٣١.

(٢) تقدّم الحديثان في الصفحة ٣٠٨.

(٣) المعتبر ١ : ٢٩.

٣٣٨

المجروح كما يعملون بخبر العدل ، وليس المراد عملهم بخبر المجروح والعدل إذا أفاد العلم بصدقه ؛ لأنّ كلامه في الخبر الغير العلميّ ، وهو الذي أحال قوم استعماله عقلا ومنعه آخرون شرعا.

٥ - ما ذكره الشهيد والمفيد الثاني

ومنها : ما ذكره الشهيد في الذكرى (١) والمفيد الثاني ولد شيخنا الطوسي (٢) : من أنّ الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن عليّ ابن بابويه عند إعواز النصوص ؛ تنزيلا لفتاواه منزلة رواياته. ولو لا عمل الأصحاب برواياته الغير العلميّة لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته.

٦ - ما ذكر المحدّث المجلسي

ومنها : ما ذكره المجلسي في البحار ـ في تأويل بعض الأخبار التي تقدّم ذكرها في دليل السيّد وأتباعه ممّا دلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصدور ـ : من أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بالخبر الغير العلميّ متواتر بالمعنى (٣).

ولا يخفى : أنّ شهادة مثل هذا المحدّث الخبير الغوّاص في بحار أنوار أخبار الأئمّة الأطهار بعمل أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بالخبر الغير العلميّ. ودعواه حصول القطع له بذلك من جهة التواتر ، لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة الإجماع على العمل بأخبار الآحاد ، وسيأتي أنّ المحدّث الحرّ العامليّ في الفصول المهمّة ادّعى أيضا تواتر الأخبار بذلك (٤).

__________________

(١) الذكرى ١ : ٥١.

(٢) كتبه قدس‌سره غير مطبوعة ، ولم نعثر على مخطوطها.

(٣) البحار ٢ : ٢٤٥ ، ذيل الحديث ٥٥.

(٤) لم نعثر عليه في ما سيأتي ، نعم تقدّم ذلك عن الوسائل ، راجع الصفحة ٣٠٩.

٣٣٩

ومنها : ما ذكره شيخنا البهائيّ في مشرق الشمسين : من أنّ الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه. وذكر فيما يوجب الوثوق امورا لا تفيد إلاّ الظنّ (١).

ومعلوم أنّ الصحيح عندهم هو المعمول به ، وليس مثل الصحيح عند المتأخّرين في أنّه قد لا يعمل به لإعراض الأصحاب عنه أو لخلل آخر ؛ فالمراد أنّ المقبول عندهم ما تركن إليه النفس وتثق به.

هذا ما حضرني من كلمات الأصحاب ، الظاهرة في دعوى الاتّفاق على العمل بخبر الواحد الغير العلميّ في الجملة ، المؤيّدة لما ادّعاه الشيخ والعلاّمة.

ذهاب معظم الأصحاب إلى حجيّة الخبر الواحد

وإذا ضممت إلى ذلك كلّه ذهاب معظم الأصحاب بل كلّهم ـ عدا السيّد وأتباعه ـ من زمان الصدوق إلى زماننا هذا ، إلى حجّيّة الخبر الغير العلميّ ، حتّى أنّ الصدوق تابع في التصحيح والردّ لشيخه ابن الوليد ، وأنّ ما صحّحه فهو صحيح وأنّ ما ردّه فهو مردود ـ كما صرّح به في صلاة الغدير (٢) ، وفي الخبر الذي رواه في العيون عن كتاب الرحمة (٣) ـ ، ثمّ ضممت إلى ذلك ظهور عبارة أهل الرجال في تراجم كثير من الرواة في كون العمل بالخبر الغير العلميّ مسلّما عندهم ، مثل قولهم : فلان لا يعتمد على ما ينفرد به ، وفلان مسكون في روايته ، وفلان صحيح الحديث ، والطعن في بعض بأنّه يعتمد الضعفاء والمراسيل ،

__________________

(١) مشرق الشمسين (رسائل الشيخ البهائي) : ٢٦٩.

(٢) الفقيه ٢ : ٩٠ ، ذيل الحديث ١٨١٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠ ـ ٢٣ ، الحديث ٤٥.

٣٤٠