فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

الإرجاع إلى العمري وابنه

وقلت له : من اعامل ، أو عمّن آخذ ، وقول من أقبل؟ فقال عليه‌السلام له : العمريّ ثقتي ؛ فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ؛ فإنّه الثقة المأمون» (١).

وأخبرنا أحمد بن إسحاق : أنّه سأل أبا محمّد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال له : «العمريّ وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ؛ فإنّهما الثّقتان المأمونان ... الخبر» (٢).

وهذه الطائفة ـ أيضا ـ مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على اعتبار خبر الثقة المأمون.

٣ - ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء رواية إسحاق ابن يعقوب

ومنها : ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء على وجه يظهر منه : عدم الفرق بين فتواهم بالنسبة إلى أهل الاستفتاء ، وروايتهم بالنسبة إلى أهل العمل (٣) بالرواية ، مثل : قول الحجّة ، عجّل الله فرجه ، لإسحاق بن يعقوب ـ على ما في كتاب الغيبة للشيخ ، وكمال الدين (٤) للصدوق ، والاحتجاج للطبرسي ـ : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله عليهم» (٥).

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٣٠ ، باب تسمية من رآه عليه‌السلام ، الحديث الأوّل.

(٢) نفس المصدر ، ذيل الحديث.

(٣) في (ل) : «العلم».

(٤) في غير (ظ) ، (ل) و (م) : «إكمال الدين».

(٥) كمال الدين : ٤٨٤ ، ضمن الحديث ٤ ، والغيبة للطوسي : ٢٩١ ، ضمن الحديث ٢٤٧ ، والاحتجاج ٢ : ٢٨٣.

٣٠١

فإنّه لو سلّم أنّ ظاهر الصدر الاختصاص بالرجوع في حكم الوقائع إلى الرواة أعني الاستفتاء منهم ، إلاّ أنّ التعليل بأنّهم حجّته عليه‌السلام يدلّ على وجوب قبول خبرهم.

ومثل الرواية المحكيّة عن العدّة ، من قوله عليه‌السلام :

رواية العدّة

«إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا ، فانظروا إلى ما رووه عن عليّ عليه‌السلام» (١).

دلّ على الأخذ بروايات الشيعة وروايات العامّة مع عدم وجود المعارض من روايات الخاصّة.

رواية الاحتجاج في تفسير آية «ومنهم اُمّيَون»

ومثل ما في الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ...) الآية (٢) ـ من أنّه قال رجل للصادق عليه‌السلام :

«فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعون من علمائهم ، لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم؟ فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم».

فقال عليه‌السلام : «بين عوامّنا وعلمائنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة : أمّا من حيث استووا ؛ فإنّ الله تعالى ذمّ

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٦٤ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧ ، وانظر العدّة ١ : ٦٠.

(٢) البقرة : ٧٨.

٣٠٢

عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم بتقليدهم علماءهم ، وأمّا من حيث افترقوا فلا.

قال : بيّن لي يا بن رسول الله؟

قال : إنّ عوامّ اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشاء ، وبتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات والنسابات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم (١) ، وعلموهم يقارفون (٢) المحرّمات ، واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى أنّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق ، لا يجوز أن يصدّق على الله تعالى ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله تعالى ؛ فلذلك ذمّهم لمّا قلّدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لم يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوامّ امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، والترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا.

__________________

(١) كذا في (ر) و (ص) والمصدر ، ولم ترد «من أجلهم» في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه).

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «يتعارفون» ، وفي (م) : «تقارفون» ، وما أثبتناه مطابق للمصدر.

٣٠٣

فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء ، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم. فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوامّ أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة ، لا جميعهم. فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ، ولا كرامة.

وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك (١) ؛ لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجوهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ؛ ليجرّوا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا ، فيتعلّمون بعض علومنا الصحيحة ، فيتوجّهون به (٢) عند شيعتنا ، وينتقصون (٣) بنا عند أعدائنا ، ثمّ يضعون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها ، فيقبله المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا ، اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد ـ لعنه الله ـ على الحسين بن عليّ عليه‌السلام» (٤) ، انتهى.

دلّ هذا الخبر الشريف اللائح منه آثار الصدق على جواز قبول

__________________

(١) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «لتلك».

(٢) «به» من (ص) والمصدر.

(٣) كذا في (ر) ، (ص) ، (ل) والمصدر ، وفي (ت) ، (ظ) و (م) : «ينتقضون».

(٤) الاحتجاج ٢ : ٥٠٨ ـ ٥١٢ ، الحديث ٣٣٧ ، وتفسير العسكري : ٢٩٩ ـ ٣٠١.

٣٠٤

قول من عرف بالتحرّز عن الكذب وإن كان ظاهره اعتبار العدالة بل ما فوقها ، لكنّ المستفاد من مجموعه : أنّ المناط في التصديق هو التحرّز عن الكذب ، فافهم.

روايةُ اُخرى

ومثل ما عن أبي الحسن عليه‌السلام فيما كتبه جوابا عن السؤال عمّن يعتمد عليه في الدين ، قال :

«اعتمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا ، كثير القدم في أمرنا» (١).

وقوله عليه‌السلام في رواية اخرى :

روايةُ اُخرى

«لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ؛ فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ؛ إنّهم ائتمنوا على كتاب الله فحرّفوه وبدّلوه ... الحديث» (٢).

وظاهرهما (٣) وإن كان الفتوى ، إلاّ أنّ الإنصاف شمولهما (٤) للرواية بعد التأمّل ، كما تقدّم في سابقيهما (٥).

رواية الحسين ابن روح

ومثل ما في كتاب الغيبة بسنده الصحيح إلى عبد الله الكوفيّ ـ خادم الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح ـ حيث سأله أصحابه عن

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٠٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

(٣) كذا في (ر) ، (ص) ، (ظ) و (م) ، وفي (ت) ، (ل) و (ه) : «ظاهرها».

(٤) كذا في (ت) ، (ر) ، (ص) و (م) ، وفي (ظ) ، (ل) و (ه) : «شمولها».

(٥) كذا في (ظ) و (م) ، وفي (ر) و (ص) : «سابقتهما» ، وفي (ت) و (ه) : «سابقتها» ، وفي (ل) : «سابقيها».

٣٠٥

كتب الشلمغانيّ ، فقال الشيخ : أقول فيها ما قاله العسكريّ عليه‌السلام في كتب بني فضّال ، حيث قالوا له (١) : «ما نصنع بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ قال : خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» (٢).

فإنّه دلّ بمورده على جواز الأخذ بكتب بني فضّال ، وبعدم الفصل على كتب غيرهم من الثقات ورواياتهم ؛ ولهذا أنّ الشيخ الجليل المذكور الذي لا يظنّ به القول في الدين بغير السماع من الإمام عليه‌السلام قال : أقول في كتب الشلمغانيّ ما قاله العسكريّ عليه‌السلام في كتب بني فضّال ، مع أنّ هذا الكلام بظاهره قياس باطل.

رواية المحاسن

ومثل ما ورد مستفيضا في المحاسن وغيره : «حديث واحد في حلال وحرام تأخذه من صادق خير لك من الدّنيا وما فيها من ذهب وفضّة» (٣). وفي بعضها : «يأخذ صادق عن صادق» (٤).

رواية الكشيّ

ومثل ما في الوسائل ، عن الكشّيّ ، من أنّه ورد توقيع على القاسم بن العلاء ، وفيه : «إنّه لا عذر لأحد من موالينا في التّشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ؛ قد علموا أنّا نفاوضهم سرّنا ونحمله إليهم» (٥).

مرفوعة الكناني

ومثل مرفوعة الكنانيّ ، عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى :

__________________

(١) لم ترد «له» في (ظ) و (ل).

(٢) الغيبة للشيخ الطوسي : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٥.

(٣) المحاسن ١ : ٣٥٦ ، الحديث ١٥٧ و ١٥٨ ، والوسائل ١٨ : ٦٩ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ٦٧ ـ ٧٠.

(٤) المستدرك ١٧ : ٢٩٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٣.

(٥) الوسائل ١٨ : ١٠٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

٣٠٦

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(١) ، قال : «هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، وليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا فيسمعون حديثنا ويفتّشون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتعبون أبدانهم حتّى يدخلوا علينا ويسمعوا حديثنا فينقلوا إليهم ، فيعيه اولئك ويضيّعه هؤلاء ، فاولئك الذين يجعل الله لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون» (٢).

دلّ على جواز العمل بالخبر وإن نقله من يضيّعه ولا يعمل به.

٤ - ما يظهر منها جواز العمل بخبر الواحد

ومنها : الأخبار الكثيرة التي يظهر من مجموعها جواز العمل بخبر الواحد وإن كان في دلالة كلّ واحد على ذلك نظر.

مثل النبويّ المستفيض بل المتواتر : «إنّه من حفظ على امّتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة» (٣).

قال شيخنا البهائيّ قدس‌سره في أوّل أربعينه : إنّ دلالة هذا الخبر على حجّيّة خبر الواحد لا يقصر عن دلالة آية النفر (٤).

ومثل الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الرواية والحثّ عليها ، وإبلاغ ما في كتب الشيعة (٥) ، مثل ما ورد في شأن الكتب التي

__________________

(١) الطلاق : ٢.

(٢) الوسائل ١٨ : ٦٤ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥ ، وفيه : «مرفوعة الكناسي».

(٣) الوسائل ١٨ : ٦٦ ـ ٦٧ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ٥٤ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٠ و ٦٢.

(٤) الأربعون حديثا : ٧١.

(٥) في (ر) ، (ظ) و (ل) ونسخة بدل (ص) بدل «الشيعة» : «الثقة».

٣٠٧

دفنوها لشدّة التقيّة ، فقال عليه‌السلام : «حدّثوا بها فإنّها حقّ» (١).

ومثل ما ورد في مذاكرة الحديث والأمر بكتابته ، مثل قوله [عليه‌السلام] للراوي : «اكتب وبثّ علمك في بني عمّك ؛ فإنّه يأتي زمان هرج ، لا يأنسون إلاّ بكتبهم» (٢).

وما ورد في ترخيص النقل بالمعنى (٣).

وما ورد مستفيضا بل متواترا ، من قولهم عليهم‌السلام : «اعرفوا منازل الرجال منّا بقدر روايتهم عنّا» (٤).

وما ورد من قولهم عليهم‌السلام : «لكلّ رجل منّا من يكذب عليه» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستكثر بعدي القالة ، وإنّ من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار» (٦).

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّا أهل بيت صدّيقون ، لا نخلو من

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٥٨ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٢) الوسائل ١٨ : ٥٦ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨ ، وفي المصدر بدل «بني عمّك» : «إخوانك».

(٣) الوسائل ١٨ : ٥٤ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٤) الوسائل ١٨ : ٩٩ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣ ، والصفحة ١٠٩ ، نفس الباب ، الحديث ٤١.

(٥) لم نقف عليه في المجاميع الحديثيّة ، ورواه في المعتبر مرسلا عن الصادق عليه‌السلام ، المعتبر ١ : ٢٩.

(٦) لم نقف عليه في المجاميع الحديثيّة ، ورواه في المعتبر مرسلا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المعتبر ١ : ٢٩ ، وورد قريب منه في الوسائل ١٨ : ١٥٣ ، الباب ١٤ من أبواب صفات القاضي ، ضمن الحديث الأوّل.

٣٠٨

كذّاب يكذب علينا» (١).

وقوله عليه‌السلام : «إنّ الناس اولعوا بالكذب علينا ، كأنّ الله افترض عليهم ولا يريد منهم غيره» (٢).

وقوله عليه‌السلام : «لكلّ منّا من يكذب عليه» (٣).

فإنّ بناء المسلمين لو كان على الاقتصار على المتواترات لم يكثر القالة والكذّابة ، والاحتفاف بالقرينة القطعيّة في غاية القلّة.

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد من مجموعها : رضا الأئمّة عليهم‌السلام بالعمل بالخبر وإن لم يفد القطع.

القدر المتيقّن من الأخبار اعتبار الوثاقة

وقد ادّعى في الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة (٤) ، إلاّ أنّ القدر المتيقّن منها هو خبر الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء ويقبّحون التوقّف فيه لأجل ذلك الاحتمال ؛ كما دلّ عليه ألفاظ «الثقة» و «المأمون» و «الصادق» وغيرها الواردة في الأخبار المتقدّمة ، وهي أيضا منصرف إطلاق غيرها.

عدم اعتبار العدالة

وأمّا العدالة ، فأكثر الأخبار المتقدّمة خالية عنها ، بل في كثير منها التصريح بخلافه ، مثل رواية العدّة الآمرة بالأخذ بما رووه عن عليّ عليه‌السلام ، والواردة في كتب بني فضّال ، ومرفوعة الكنانيّ وتاليها (٥).

__________________

(١) البحار ٢ : ٢١٧ ، الحديث ١٢ ، وفيه : «صادقون».

(٢) البحار ٢ : ٢٤٦ ، ضمن الحديث ٥٨ ، وسيأتي الحديث بكامله في الصفحة ٣٢٥.

(٣) لم نقف عليه في المجاميع الحديثيّة ، ولعلّه منقول بالمعنى.

(٤) الوسائل ٢٠ : ٩٣ (الفائدة الثامنة).

(٥) تقدّمت بأجمعها في الصفحة ٣٠٢ و ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

٣٠٩

نعم ، في غير واحد منها حصر المعتمد في أخذ معالم الدين في الشيعة (١) ، لكنّه محمول على غير الثقة أو على أخذ الفتوى ؛ جمعا بينها وبين ما هو أكثر منها ؛ وفي رواية بني فضّال شهادة على هذا الجمع.

مع أنّ التعليل للنهي في ذيل الرواية بأنّهم ممّن خانوا الله ورسوله يدلّ على انتفاء النهي عند انتفاء الخيانة المكشوف عنه بالوثاقة ؛ فإنّ الغير الإماميّ الثقة ـ مثل ابن فضّال وابن بكير ـ ليسوا خائنين في نقل الرواية ، وسيأتي توضيحه عند ذكر الإجماع إن شاء الله.

__________________

(١) مثل ما تقدّم في الصفحة ٣٠٥.

٣١٠

[الثالث : الإجماع](١)

الاستدلال على حجيّة الخبر الواحد بالإجماع من وجوه :

وأمّا الإجماع ، فتقريره من وجوه :

أحدها : الإجماع على حجّيّة خبر الواحد في مقابل السيّد وأتباعه ، وطريق تحصيله أحد وجهين على سبيل منع الخلوّ :

١ ـ الإجماع في مقابل السيّد وأتباعة وتحصيله بطريقين

أحدهما : تتبّع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخين فيحصل من ذلك : القطع بالاتّفاق الكاشف عن رضا الإمام عليه‌السلام بالحكم ، أو عن وجود نصّ معتبر في المسألة.

أ ـ تتبّع أقوال العلماء

ولا يعتنى بخلاف السيّد وأتباعه ؛ إمّا لكونهم معلومي (٢) النسب كما ذكره الشيخ في العدّة (٣) ، وإمّا للاطلاع على أنّ ذلك لشبهة حصلت لهم ، كما ذكره العلاّمة في النهاية (٤) ويمكن أن يستفاد من العدّة أيضا ، وإمّا لعدم اعتبار اتّفاق الكلّ في الإجماع على طريق المتأخّرين المبنيّ على الحدس.

ب ـ تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجّية

والثاني : تتبّع الإجماعات المنقولة في ذلك : فمنها : ما حكي عن الشيخ قدس‌سره في العدّة في هذا المقام ، حيث قال :

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ظ) و (ل) : «معلوم».

(٣) العدّة ١ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٤) نهاية الوصول (مخطوط) : ٢٩٦.

٣١١

وأمّا ما اخترته من المذهب فهو : أنّ خبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عن أحد الأئمّة عليهم‌السلام وكان ممّن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ـ ؛ لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجبا للعلم كما تقدّمت القرائن ـ ، جاز العمل به.

دعوى الشيخ الطوسي الإجماع على حجيّة الخبر الواحد

والذي يدلّ على ذلك : إجماع الفرقة المحقّة ؛ فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون ، حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه ، سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله.

هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده من الأئمّة صلوات الله عليهم إلى زمان جعفر بن محمّد عليه‌السلام الذي انتشر عنه العلم وكثرت الرواية من جهته ، فلو لا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ؛ لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو.

والذي يكشف عن ذلك : أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظورا عندهم في الشريعة لم يعملوا به أصلا ، وإذا شذّ منهم واحد و (١) عمل به في بعض المسائل أو استعمله على وجه المحاجّة لخصمه وإن لم يكن اعتقاده ، ردّوا قوله وأنكروا عليه وتبرّءوا من قوله ، حتّى أنّهم يتركون

__________________

(١) «و» من (ه).

٣١٢

تصانيف من وصفناه ورواياته لمّا كان عاملا بالقياس ، فلو كان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى لوجب فيه أيضا مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه.

فإن قيل : كيف تدّعون إجماع الفرقة المحقّة على العمل بخبر الواحد ، والمعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ المعلوم أنّها لا ترى العمل بالقياس ، فإن جاز ادّعاء أحدهما جاز ادّعاء الآخر.

قيل له : المعلوم من حالها الذي لا ينكر ، أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ويختصّون بطريقه ، وأمّا (١) ما كان رواته منهم وطريقه أصحابهم ، فقد بيّنّا أنّ المعلوم خلاف ذلك ، وبيّنّا الفرق بين ذلك وبين القياس ، وأنّه لو كان معلوما حظر العمل بخبر الواحد لجرى مجرى العلم بحظر القياس ، وقد علم خلاف ذلك.

فإن قيل : أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يعمل به ، ويدفعونهم عن صحّة ذلك ، حتّى أنّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلا ، ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك لأنّ السمع لم يرد به ، وما رأينا أحدا تكلّم في جواز ذلك ، ولا صنّف فيه كتابا ، ولا أملى فيه مسألة ، فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك؟

قيل له : من أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد ، إنّما تكلّموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم عن وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة للأحكام التي يروون خلافها ، وذلك صحيح على

__________________

(١) كذا في (ص) و (م) ، وفي غيرهما والمصدر : «فأمّا».

٣١٣

ما قدّمناه ، ولم نجدهم اختلفوا في ما بينهم وأنكر بعضهم على بعض العمل بما يروونه ، إلاّ مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحّتها. فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم ؛ لمكان الأدلّة الموجبة للعلم والأخبار المتواترة بخلافه (١).

على أنّ الذين اشير إليهم في السؤال أقوالهم متميّزة بين أقوال الطائفة المحقّة ، وقد علمنا أنّهم لم يكونوا أئمّة معصومين ، وكلّ قول قد علم قائله وعرف نسبه وتميّز من أقاويل سائر الفرقة المحقّة ، لم يعتدّ بذلك القول ؛ لأنّ قول الطائفة إنّما كان حجّة من حيث كان فيهم معصوم ، فإذا كان القول من غير معصوم علم أنّ قول المعصوم داخل في باقي الأقوال ، ووجب المصير إليه على ما بيّنته في الإجماع (٢) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ العقل إذا جوّز التعبّد بخبر الواحد ، والشرع ورد به ، فما الذي يحملكم على الفرق بين ما يرويه الطائفة المحقّة وبين ما يرويه أصحاب الحديث من العامّة؟

ثمّ أجاب عن ذلك : بأنّ خبر الواحد إذا كان دليلا شرعيّا فينبغي أن يستعمل بحسب ما قرّرته الشريعة ، والشارع يرى العمل بخبر طائفة خاصّة ، فليس لنا التعدّي إلى غيرها. على أنّ العدالة شرط في الخبر بلا خلاف ، ومن خالف الحقّ لم يثبت عدالته ، بل ثبت فسقه.

__________________

(١) في (ص) زيادة : «وأمّا من أحال ذلك عقلا فقد دللنا فيما مضى على بطلان قوله ، وبيّنا أنّ ذلك جائز ، فمن أنكره كان محجوجا بذلك».

(٢) العدّة ١ : ١٢٦ ـ ١٢٩.

٣١٤

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ العمل بخبر الواحد يوجب كون الحقّ في جهتين عند تعارض خبرين.

ثمّ أجاب ـ أوّلا ـ : بالنقض بلزوم ذلك عند من منع العمل بخبر الواحد إذا كان هناك خبران (١) متعارضان ؛ فإنّه يقول مع عدم الترجيح بالتخيير ، فإذا اختار كلا منهما إنسان لزم كون الحقّ في جهتين ، وأيّد ذلك : بأنّه قد سئل الصادق عليه‌السلام عن اختلاف أصحابه في المواقيت وغيرها ، فقال عليه‌السلام : «أنا خالفت بينهم» (٢). ثمّ قال بعد ذلك :

فإن قيل : كيف تعملون بهذه الأخبار ، ونحن نعلم أنّ رواتها كما رووها رووا أيضا أخبار الجبر والتفويض وغير ذلك من الغلوّ والتناسخ وغير ذلك من المناكير ، فكيف يجوز الاعتماد على ما يرويه أمثال هؤلاء؟

قلنا لهم : ليس كلّ الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه ، ولو صحّ أنّه نقل لم يدلّ على أنّه كان معتقدا لما تضمّنه الخبر ؛ ولا يمتنع أن يكون إنّما رواه ليعلم أنّه لم يشذّ عنه شيء من الروايات ، لا لأنّه معتقد ذلك ، ونحن لم نعتمد على مجرّد نقلهم ، بل اعتمدنا على العمل الصادر من جهتهم وارتفاع النزاع فيما بينهم ، وأمّا مجرّد الرواية فلا حجّيّة (٣) فيه على حال.

__________________

(١) في (ه) زيادة : «متوازيان».

(٢) انظر الوسائل ٣ : ١٠١ ، الباب ٧ من أبواب المواقيت ، الحديث ٣ ، والكافي ١ : ٦٥ ، باب اختلاف الحديث ، الحديث ٥ ، والبحار ٢ : ٢٣٦ و ٢٥٢ ، الأحاديث ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤ و ٦٩.

(٣) في (ظ) ، (ل) و (م) والمصدر : «حجّة».

٣١٥

فإن قيل : كيف تعوّلون على هذه الروايات ، وأكثر رواتها المجبرة والمشبّهة والمقلّدة والغلاة والواقفيّة والفطحيّة وغير هؤلاء من فرق الشيعة المخالفة للاعتقاد الصحيح ، ومن شرط خبر الواحد أن يكون راويه عدلا عند من أوجب العمل به؟

وإن عوّلتم على عملهم دون روايتهم فقد وجدناهم عملوا بما طريقه هؤلاء الذين ذكرناهم ، وذلك يدلّ على جواز العمل بأخبار الكفّار والفسّاق.

قيل لهم : لسنا نقول إنّ جميع أخبار الآحاد يجوز العمل بها ، بل لها شرائط نذكرها فيما بعد ، ونشير هاهنا إلى جملة من القول فيه.

فأمّا ما يرويه العلماء المعتقدون للحقّ فلا طعن على ذلك به.

وأمّا ما يرويه قوم من المقلّدة ، فالصحيح الذي أعتقده : أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا في الأصل ، معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، ولا يلزم على هذا ترك ما نقلوه.

على أنّ من أشاروا إليه (١) لا نسلّم أنهم كلّهم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدليل على سبيل الجملة ، كما يقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة.

وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحجج ينبغي أن يكونوا غير عالمين ؛ لأنّ إيراد الحجج والمناظرة صناعة ليس يقف حصول المعرفة على حصولها ، كما قلنا في أصحاب الجملة.

وليس لأحد أن يقول : هؤلاء ليسوا من أصحاب الجملة ؛ لأنّهم

__________________

(١) في (ت) و (ه) : «أشار إليهم».

٣١٦

إذا سألوا عن التوحيد أو العدل أو صفات الأئمّة أو صحّة النبوّة قالوا روينا كذا ، ويروون في ذلك كلّه الأخبار ، وليس هذا طريقة أصحاب الجملة.

وذلك أنّه ليس يمتنع أن يكون هؤلاء أصحاب الجملة وقد حصل لهم المعارف بالله ، غير أنّهم لمّا تعذّر عليهم إيراد الحجج في ذلك أحالوا على ما كان سهلا عليهم.

وليس يلزمهم أن يعلموا أنّ ذلك لا يصحّ أن يكون دليلا إلاّ بعد أن يتقدّم منهم المعرفة بالله ، وإنّما الواجب عليهم أن يكونوا عالمين ، وهم عالمون على الجملة كما قرّرنا ، فما يتفرّع عليه من الخطأ لا يوجب التكفير ولا التضليل.

وأمّا الفرق الذين أشار إليهم من الواقفيّة والفطحيّة وغير ذلك ، فعن ذلك جوابان ، ثمّ ذكر الجوابين :

وحاصل أحدهما : كفاية الوثاقة في العمل بالخبر ؛ ولهذا قبل خبر (١) ابن بكير وبني فضّال وبني سماعة.

وحاصل الثاني : أنّا لا نعمل برواياتهم إلاّ إذا انضمّ إليها رواية غيرهم.

ومثل الجواب الأخير ذكر في رواية الغلاة ومن هو متّهم في نقله ، وذكر الجوابين أيضا في روايات المجبّرة والمشبّهة ، بعد منع كونهم مجبّرة ومشبّهة ؛ لأنّ روايتهم لأخبار الجبر والتشبيه لا تدلّ على ذهابهم إليه.

ثمّ قال :

__________________

(١) في (م) : «عمل بخبر».

٣١٧

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليهم لم يعملوا بهذه الأخبار لمجرّدها ، بل إنّما عملوا بها لقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها ، ولأجلها عملوا بها ، ولو تجرّدت لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يمكن (١) الاعتماد على عملهم بها.

قيل لهم : القرائن التي تقترن بالخبر وتدلّ على صحّته أشياء مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنّة والإجماع والتواتر ، ونحن نعلم أنّه ليس في جميع المسائل التي استعملوا فيها أخبار الآحاد ذلك ؛ لأنّها اكثر من أن تحصى موجودة في كتبهم وتصانيفهم وفتاواهم ؛ لأنّه ليس في جميعها يمكن الاستدلال بالقرآن ؛ لعدم ذكر ذلك في صريحه وفحواه ودليله ومعناه. ولا بالسنّة (٢) المتواترة ؛ لعدم ذكر ذلك في أكثر الأحكام ، بل وجودها في مسائل معدودة. ولا بإجماع (٣) ؛ لوجود الاختلاف في ذلك.

فعلم : أنّ دعوى القرائن في جميع ذلك دعوى محالة. ومن ادّعى القرائن في جميع ما ذكرنا كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا على ما يعلم ضرورة خلافه ، ومدافعا لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه.

ومن قال عند ذلك : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه ،

__________________

(١) في (ت) ، (ر) و (ص) : «لم يكن».

(٢) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما والمصدر : «في السنّة».

(٣) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «في إجماع» ، وفي المصدر : «في الإجماع».

٣١٨

ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ؛ لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه ، انتهى.

ثمّ أخذ في الاستدلال ـ ثانيا ـ على جواز العمل بهذه الأخبار : بأنّا وجدنا أصحابنا مختلفين في المسائل الكثيرة في جميع أبواب الفقه ، وكلّ منهم يستدلّ ببعض هذه الأخبار ، ولم يعهد من أحد منهم تفسيق صاحبه وقطع المودّة عنه ، فدلّ ذلك على جوازه عندهم.

ثمّ استدلّ ـ ثالثا ـ على ذلك : بأنّ الطائفة وضعت الكتب لتمييز الرجال الناقلين لهذه الأخبار وبيان أحوالهم من حيث العدالة والفسق ، والموافقة في المذهب والمخالفة ، وبيان من يعتمد على حديثه ومن لا يعتمد ، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه في التصانيف ، وهذه عادتهم من قديم الوقت إلى حديثه ، فلو لا جواز العمل برواية من سلم عن الطعن لم يكن فائدة لذلك كلّه (١) ، انتهى المقصود من كلامه ، زاد الله في علوّ مقامه.

وقد أتى في الاستدلال على هذا المطلب بما لا مزيد عليه ، حتّى أنّه أشار في جملة (٢) كلامه إلى دليل الانسداد ، وأنّه لو اقتصر على الأدلّة العلميّة وعمل بأصل البراءة في غيرها ، لزم ما علم ضرورة من الشرع خلافه ، فشكر الله سعيه.

ثمّ إنّ من العجب أن غير واحد من المتأخّرين (٣) تبعوا صاحب

__________________

(١) العدّة ١ : ١٢٩ ـ ١٤٢.

(٢) في (ص) و (م) زيادة : «من».

(٣) سيأتي ذكرهم في الصفحة ٣٢١.

٣١٩

المعالم في دعوى عدم دلالة كلام الشيخ على حجّيّة الأخبار المجرّدة عن القرينة ، قال في المعالم على ما حكي عنه :

والإنصاف : أنّه لم يتّضح من حال الشيخ وأمثاله مخالفتهم للسيّد قدس‌سره ؛ إذ كانت أخبار الأصحاب يومئذ قريبة العهد بزمان لقاء المعصوم عليه‌السلام واستفادة الأحكام منه (١) ، وكانت القرائن المعاضدة لها متيسّرة كما أشار إليه السيّد قدس‌سره ، ولم يعلم أنّهم اعتمدوا على الخبر المجرّد ليظهر مخالفتهم لرأيه فيه. وتفطّن المحقّق من كلام الشيخ لما قلناه ، حيث قال في المعارج :

ذهب شيخنا أبو جعفر قدس‌سره إلى العمل بخبر الواحد العدل من رواة أصحابنا ، لكن لفظه وإن كان مطلقا فعند التحقيق يتبيّن : أنّه لا يعمل بالخبر مطلقا ، بل بهذه الأخبار التي رويت عن الأئمّة عليهم‌السلام ودوّنها الأصحاب ، لا أنّ كلّ خبر يرويه عدل إماميّ يجب العمل به ، هذا هو الذي تبيّن لي من كلامه. ويدعي إجماع الأصحاب على العمل بهذه الأخبار ، حتّى لو رواها غير الإماميّ وكان الخبر سليما عن المعارض واشتهر نقله في هذه الكتب الدائرة بين الأصحاب ، عمل به (٢) ، انتهى.

قال بعد نقل هذا عن المحقّق : وما فهمه المحقّق من كلام الشيخ هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، لا ما نسبه العلاّمة إليه (٣) ، انتهى كلام صاحب المعالم.

__________________

(١) في غير (ص) والمصدر : «منهم».

(٢) المعارج : ١٤٧.

(٣) المعالم : ١٩٧ ـ ١٩٨.

٣٢٠