فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

التبيّن إلى : أنّ العادل الواقعيّ يحصل منه غالبا الاطمئنان المذكور بخلاف الفاسق ؛ فلهذا وجب فيه تحصيل هذا (١) الاطمئنان من الخارج ، لكنّك خبير بأنّ الاستدلال بالمفهوم على حجّية خبر العادل المفيد للاطمئنان غير محتاج إليه ؛ إذ المنطوق على هذا التقرير (٢) يدلّ على حجّية كلّ ما يفيد الاطمئنان كما لا يخفى ، فيثبت اعتبار مرتبة خاصّة من مطلق الظنّ (٣).

ما اجيب به عن إيراد تعارض المفهوم والتعليل

ثمّ إنّ المحكي عن بعض (٤) : منع دلالة التعليل على عدم جواز الإقدام على ما هو مخالف للواقع ؛ بأنّ المراد بالجهالة السفاهة وفعل ما لا يجوز فعله ، لا مقابل العلم ؛ بدليل قوله تعالى : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٥) ؛ ولو كان المراد الغلط في الاعتقاد لما جاز الاعتماد على الشهادة والفتوى.

المناقشة في هذا الجواب

وفيه ـ مضافا إلى كونه خلاف ظاهر لفظ «الجهالة» ـ : أنّ الإقدام على مقتضى قول الوليد لم يكن سفاهة قطعا ؛ إذ العاقل بل جماعة من العقلاء لا يقدمون على الامور من دون وثوق بخبر المخبر بها ؛ فالآية تدلّ على المنع عن العمل بغير العلم لعلّة : هي كونه في معرض المخالفة للواقع.

__________________

(١) لم ترد «هذا» في (ر) و (ص).

(٢) في (ظ) و (م) : «التقدير».

(٣) لم ترد «فيثبت ـ إلى ـ مطلق الظنّ» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٤) حكاه ابن التلمساني عن القاضي ، انظر مفاتيح الاصول : ٣٥٦.

(٥) الحجرات : ٦.

٢٦١

وأمّا جواز الاعتماد على الفتوى والشهادة ، فلا يجوز القياس به (١) ؛ لما تقدّم في توجيه كلام ابن قبة : من أنّ الاقدام على ما فيه مخالفة الواقع أحيانا قد يحسن ؛ لأجل الاضطرار إليه وعدم وجود الأقرب إلى الواقع منه كما في الفتوى ، وقد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة إدراك الواقع ، فراجع (٢).

الأولى في التخلّص عن هذا الإيراد

فالأولى لمن يريد التفصّي عن هذا الإيراد : التشبّث بما ذكرنا ، من أنّ المراد ب «التبيّن» تحصيل الاطمئنان ، وب «الجهالة» : الشكّ أو الظنّ الابتدائيّ الزائل بعد الدقّة والتأمّل ، فتأمّل.

وفيها (٣) إرشاد إلى عدم جواز مقايسة الفاسق بغيره وإن حصل منهما الاطمئنان ؛ لأنّ (٤) الاطمئنان الحاصل من الفاسق يزول بالالتفات إلى فسقه وعدم مبالاته بالمعصية وإن كان متحرّزا عن الكذب.

الإيرادات القابلة للدفع

ومنه يظهر الجواب عمّا ربما يقال : من أنّ العاقل لا يقبل الخبر من دون اطمئنان بمضمونه ـ عادلا كان المخبر أو فاسقا ـ ، فلا وجه للأمر بتحصيل الاطمئنان في الفاسق.

١ - تعارض مفهوم الآية مع الآيات الناهية عن العمل بغير العلم

وأمّا ما اورد على الآية بما (٥) هو قابل للذبّ عنه فكثير :

منها : معارضة مفهوم الآية بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم ،

__________________

(١) في (ظ) و (م) : «بهما» ، وفي (ر) ، (ص) و (ل) : «بها».

(٢) راجع الصفحة ١٠٨ ـ ١١٠.

(٣) في (ت) ، (ظ) و (ل) : «ففيها».

(٤) كذا في (ه) ، وفي غيرها : «إلاّ أنّ».

(٥) في (ت) ، (ظ) و (م) بدل «بما» : «ممّا».

٢٦٢

والنسبة عموم من وجه ، فالمرجع إلى أصالة عدم الحجّيّة.

الجواب عن هذا الإيراد

وفيه : أنّ المراد ب «النبأ» في المنطوق ما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فالمفهوم أخصّ مطلقا من تلك الآيات ، فيتعيّن تخصيصها ؛ بناء على ما تقرّر : من أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم أقوى من ظهور العامّ في العموم.

وأمّا منع ذلك فيما تقدّم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم ؛ فلما عرفت : من منع ظهور الجملة الشرطيّة المعلّلة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه ، في إفادة الانتفاء عند الانتفاء ، فراجع (١).

وربما يتوهّم : أنّ للآيات الناهية جهة خصوص ، إمّا من جهة اختصاصها بصورة التمكّن من العلم ، وإمّا من جهة اختصاصها بغير البيّنة العادلة وأمثالها ممّا خرج عن تلك الآيات قطعا.

ويندفع الأوّل ـ بعد منع الاختصاص ـ : بأنّه يكفي المستدلّ كون الخبر حجّة بالخصوص عند الانسداد.

والثاني (٢) : بأنّ خروج ما خرج من أدلّة حرمة العمل بالظنّ لا يوجب جهة عموم في المفهوم ؛ لأنّ المفهوم ـ أيضا ـ دليل خاصّ ، مثل الخاصّ الذي خصّص أدلّة حرمة العمل بالظنّ ، فلا يجوز تخصيص العامّ بأحدهما أوّلا ثمّ ملاحظة النسبة بين العامّ بعد ذلك التخصيص وبين الخاصّ الأخير (٣).

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٥٩.

(٢) لم ترد «الأوّل بعد ـ إلى ـ والثاني» في (ظ) ، (ل) ، (م) و (ه).

(٣) في (م) : «الآخر».

٢٦٣

فإذا ورد : أكرم العلماء ، ثمّ قام الدليل على عدم وجوب إكرام جماعة من فسّاقهم ، ثمّ ورد دليل ثالث على عدم وجوب إكرام مطلق الفسّاق منهم ، فلا مجال لتوهّم تخصيص العامّ بالخاصّ الأوّل أوّلا ، ثمّ جعل النسبة بينه وبين الخاصّ الثاني عموما من وجه ، وهذا أمر واضح نبّهنا عليه في باب التعارض (١).

٢ - شمول الآية لخبر السيّد المرتضى

ومنها : أنّ مفهوم الآية لو دلّ على حجّيّة خبر العادل لدلّ على حجّيّة الإجماع الذي أخبر به السيّد المرتضى وأتباعه قدّست أسرارهم : من عدم حجّيّة خبر العادل ؛ لأنّهم عدول أخبروا بحكم الإمام عليه‌السلام بعدم حجّيّة الخبر.

الجواب عن هذا الإيراد

وفساد هذا الإيراد أوضح من أن يبيّن ؛ إذ بعد الغضّ عمّا ذكرنا سابقا (٢) في عدم شمول آية النبأ للاجماع المنقول ، وبعد الغضّ عن أنّ إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشيخ قدس‌سره ، نقول : إنّه لا يمكن دخول هذا الخبر تحت الآية.

أمّا أوّلا : فلأنّ دخوله يستلزم خروجه ـ لأنّه خبر عادل (٣) ـ فيستحيل دخوله.

ودعوى : أنّه لا يعمّ نفسه ، مدفوعة : بأنّه وإن لم يعمّ (٤) نفسه ـ لقصور دلالة اللفظ عليه ـ إلاّ أنّه يعلم أنّ الحكم ثابت لهذا الفرد (٥) ؛

__________________

(١) انظر مبحث انقلاب النسبة في مبحث التعادل والتراجيح ٤ : ١٠٢.

(٢) راجع الصفحة ١٨٠.

(٣) في (ص) ، (ل) و (ه) : «العادل».

(٤) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «لا يعمّ».

(٥) في (ص) زيادة : «أيضا».

٢٦٤

للعلم بعدم خصوصيّة مخرجة له عن الحكم ؛ ولذا لو سألنا السيّد عن أنّه إذا ثبت إجماعك لنا بخبر واحد هل يجوز الاتّكال عليه؟ فيقول : لا.

وأمّا ثانيا : فلو (١) سلّمنا جواز دخوله ، لكن نقول : إنّه وقع الإجماع على خروجه من النافين لحجّيّة الخبر ومن المثبتين ، فتأمّل.

وأمّا ثالثا : فلدوران الأمر بين دخوله وخروج ما عداه وبين العكس ، ولا ريب أنّ العكس متعيّن ، لا لمجرّد قبح انتهاء التخصيص إلى الواحد ؛ بل لأنّ المقصود من الكلام حينئذ (٢) ينحصر (٣) في بيان عدم حجّيّة خبر العادل ، ولا ريب أنّ التعبير عن هذا المقصود بما يدلّ على عموم حجّيّة خبر العادل قبيح في الغاية وفضيح إلى النهاية ؛ كما يعلم من قول القائل : «صدّق زيدا في جميع ما يخبرك» ، فأخبرك زيد بألف من الأخبار ، ثمّ أخبر بكذب جميعها ، فأراد القائل من قوله : «صدّق ... الخ» خصوص هذا الخبر.

وقد أجاب بعض من لا تحصيل له (٤) : بأنّ الإجماع المنقول مظنون الاعتبار وظاهر الكتاب مقطوع الاعتبار.

٣ - عدم شمول الآية للأخبار مع الواسط

ومنها : أنّ الآية لا تشمل الأخبار مع الواسطة ؛ لانصراف النبأ إلى الخبر بلا واسطة ، فلا يعمّ الروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام ؛

__________________

(١) في (ت) : «فلأنّا لو».

(٢) لم ترد «حينئذ» في (ت) ، (ر) و (ه).

(٣) في (ظ) و (م) : «منحصر».

(٤) لم نقف عليه.

٢٦٥

لاشتمالها على وسائط.

الجواب عن هذا الإيراد

وضعف هذا الإيراد على ظاهره واضح ؛ لأنّ كلّ واسطة من الوسائط إنّما يخبر خبرا بلا واسطة ؛ فإنّ الشيخ قدس‌سره إذا قال : حدّثني المفيد ، قال : حدّثني الصدوق ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثني الصفّار ، قال : كتب إليّ العسكريّ عليه‌السلام بكذا (١) ، فإنّ هناك (٢) أخبارا متعدّدة بتعدّد الوسائط ، فخبر الشيخ قوله : حدّثني المفيد الخ ، وهذا خبر بلا واسطة يجب تصديقه ، فإذا حكم بصدقه وثبت (٣) شرعا أنّ المفيد حدّث الشيخ بقوله : حدّثني الصدوق ، فهذا الإخبار ـ أعني قول المفيد الثابت بخبر الشيخ : حدّثني الصدوق ـ أيضا خبر عادل وهو المفيد ، فنحكم بصدقه وأنّ الصدوق حدّثه ، فيكون كما لو سمعنا من الصدوق إخباره بقوله : حدّثني أبي ، والصدوق عادل ، فيصدّق في خبره ، فيكون كما لو سمعنا أباه يحدّث بقوله : حدّثني الصفّار ، فنصدّقه ؛ لأنّه عادل ، فيثبت خبر الصفّار : أنّه كتب إليه العسكري عليه‌السلام ، وإذا كان الصفّار عادلا وجب تصديقه والحكم بأنّ العسكريّ عليه‌السلام كتب إليه ذلك القول ، كما لو شاهدنا الإمام عليه‌السلام يكتبه إليه ، فيكون المكتوب حجّة ، فيثبت بخبر كلّ لاحق إخبار سابقه ؛ ولهذا يعتبر العدالة في جميع الطبقات ؛ لأنّ كلّ واسطة مخبر بخبر مستقل.

__________________

(١) لم ترد «بكذا» في (ت) ، (ر) ، (ل) و (ه).

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «بمقتضى الآية».

(٣) كذا في (ر) ، (ظ) و (م) ، ولم ترد «و» في (ص) و (ه) ، وفي (ت) و (ص) : «يثبت».

٢٦٦

إشكال تقدّم الحكم على الموضوع

هذا ، ولكن قد يشكل الأمر (١) : بأنّ ما يحكيه الشيخ عن المفيد صار خبرا للمفيد بحكم وجوب التصديق ، فكيف يصير موضوعا لوجوب التصديق الذي لم يثبت موضوع الخبريّة إلاّ به (٢)؟

__________________

(١) اضطربت النسخ في تقرير الاشكال وفي بيان جوابه الحلّي ، كما سيوافيك. وما اخترناه مطابق لنسخة (ه) ، (ت) ، ومصحّحة (ص) ، مع اختلاف يسير بينها.

(٢) في (ه) بدل «لم يثبت موضوع الخبريّة إلاّ به» : «أثبت موضوع المخبر به» ، ولم ترد عبارة «ما يحكيه ـ إلى ـ الخبرية إلاّ به» في (ظ) ، (ص) ، (ل) و (م) ، وورد بدلها ما يلي :

«بأنّ الآية إنّما تدلّ على وجوب تصديق كلّ مخبر ، ومعنى وجوب تصديقه ليس إلاّ ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على صدقه عليه ، فإذا قال المخبر : إنّ زيدا عدل ، فمعنى وجوب تصديقه : وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدالة زيد ، من جواز الاقتداء به وقبول شهادته ، وإذا قال المخبر : أخبرني عمرو أنّ زيدا عادل فمعنى تصديق المخبر ـ على ما عرفت ـ وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على إخبار عمرو بعدالة زيد ، ومن الآثار الشرعيّة المترتّبة على إخبار عمرو بعدالة زيد ـ إذا كان عادلا ـ وإن كان هو وجوب تصديقه في عدالة زيد ، إلاّ أنّ هذا الحكم الشرعيّ لإخبار عمرو إنّما حدث بهذه الآية ، وليس من الآثار الشرعيّة الثابتة للمخبر به مع قطع النظر عن الآية حتّى يحكم بمقتضى الآية بترتيبه على إخبار عمرو به.

والحاصل : أنّ الآية تدلّ على ترتيب الآثار الشرعيّة الثابتة للمخبر به الواقعي على إخبار العادل ، ومن المعلوم أنّ المراد من الآثار غير هذا الأثر الشرعي الثابت بنفس الآية ، فاللازم على هذا دلالة الآية على ترتيب جميع آثار المخبر به على الخبر إلاّ الأثر الشرعي الثابت بهذه الآية للمخبر به إذا كان خبرا.

٢٦٧

ولكن يضعّف هذا الإشكال :

أوّلا : بانتقاضه بورود مثله في نظيره الثابت بالإجماع كالإقرار بالإقرار ، وإخبار العادل بعدالة مخبر ، فإنّ الآية تشمل الإخبار بالعدالة بغير إشكال (١).

وثانيا : بأنّ (٢) عدم قابليّة اللفظ العامّ لأن يدخل فيه الموضوع

__________________

وبعبارة اخرى : الآية لا تدلّ على وجوب قبول الخبر الذي لم يثبت موضوع الخبريّة له إلاّ بدلالة الآية على وجوب قبول الخبر ؛ لأنّ الحكم لا يشمل الفرد الذي يصير موضوعا له بواسطة ثبوته لفرد آخر.

ومن هنا يتّجه أن يقال : إنّ أدلّة قبول الشهادة لا تشمل الشهادة على الشهادة ؛ لأن الأصل لا يدخل في موضوع الشاهد إلاّ بعد قبول شهادة الفرع». وهذه العبارة بزيادة : «ويشكل» في أوّلها موجودة في (ر) أيضا.

(١) في (ت) ومصحّحة (ص) زيادة : «وعدم قبول الشهادة على الشهادة ـ لو سلم ـ ليس من هذه الجهة».

(٢) لم ترد عبارة «وإخبار العادل ـ إلى ـ وثانيا بأنّ» في (ر) ، (ظ) ، (ص) ، (ل) و (م) ، وورد بدلها في غير (ر) ما يلي : «وكرفع اليد عن اليقين السابق بنجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة باليقين الاستصحابي بطهارته. وثانيا بالحل : وهو أنّه لا مانع من ترتب أفراد العام في الوجود الخارجي ، وكون وجود بعضها موقوفا على ثبوت الحكم لبعضها الآخر. وهذا لا ينافي كون أفراد العام متساوية الأقدام في شمول الحكم لها في نظر المتكلّم ، لا في الوجود الخارجي حتّى لا يكون لبعضها تقدّم على بعض في الوجود. وأمّا ثالثا : فلأنّ».

ووردت بدلها في (ر) : «ومخالفة قبول الشهادة على الشهادة ليست من هذه

٢٦٨

الذي لا يتحقّق ولا يوجد إلاّ بعد ثبوت حكم هذا العامّ لفرد آخر ، لا يوجب التوقّف في الحكم إذا علم المناط الملحوظ في الحكم العامّ وأنّ المتكلّم لم يلاحظ موضوعا دون آخر (١) ؛ لأنّ هذا الخروج مستند إلى قصور العبارة وعدم قابليّتها لشموله ، لا للفرق بينه وبين غيره في نظر المتكلّم حتّى يتأمّل في شمول حكم العامّ له.

بل لا قصور في العبارة بعد ما فهم منها أنّ هذا المحمول وصف

__________________

الجهة. وثانيا بالحلّ : وهو أن الممتنع هو توقّف فرديّة بعض أفراد العام على إثبات الحكم لبعضها الآخر ، كما في قول القائل : «كلّ خبري صادق أو كاذب» ، أمّا توقّف العلم ببعض الأفراد وانكشاف فرديّته على ثبوت الحكم لبعضها الآخر ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا مانع منه. وأمّا ثالثا : فلأنّ».

وورد هذا الجواب الحلّي في مصحّحة (ص) أيضا.

(١) في (ظ) ، (ل) و (م) زيادة ما يلي :

«فإنّ موضوع اليقين بطهارة الثوب الناقض لليقين بنجاسته إنّما يحدث بحكم الشارع باستصحاب طهارة الماء ، فيثبت الحكم لذلك الموضوع ، الموجود بعد تحقّق الحكم وإن لم يكن كلام المتكلّم قابلا لإرادة ذلك الموضوع الغير الثابت إلاّ بعد الحكم العام. فوجوب تصديق قول المخبر : «أخبرني عمرو بعدالة زيد» وإن لم يكن داخلا في موضوع ذلك الحكم العامّ ـ وإلاّ لزم تأخير الموضوع وجودا عن الحكم ـ إلاّ أنّه معلوم أنّ هذا الخروج ... الخ».

وفي (ر) وردت الزيادة هكذا : «فإخبار عمرو بعدالة زيد فيما لو قال المخبر : «أخبرني عمرو بأنّ زيدا عادل» وإن لم يكن داخلا في موضوع ذلك الحكم العالم ـ وإلاّ لزم تأخير الموضوع وجودا عن الحكم ـ إلاّ أنّه معلوم أنّ هذا الخروج ...».

٢٦٩

لازم لطبيعة الموضوع ولا ينفكّ عن مصاديقها ، فهو مثل ما لو أخبر زيد بعض عبيد المولى بأنّه قال : لا تعمل بأخبار زيد ، فإنّه لا يجوز له العمل به ولو اتّكالا على دليل عامّ يدلّ على الجواز ؛ لأنّ عدم شموله له ليس إلاّ لقصور اللفظ وعدم قابليّته للشمول ، لا للتفاوت بينه وبين غيره من أخبار زيد في نظر المولى (١). وقد تقدّم في الإيراد الثاني من هذه الإيرادات ما يوضح لك (٢) ، فراجع (٣).

ومنها : عدم إمكان العمل بمفهوم الآية في الأحكام الشرعيّة

أنّ العمل بالمفهوم في الأحكام الشرعيّة غير ممكن ؛ لوجوب التفحّص عن المعارض لخبر العدل في الأحكام الشرعيّة ، فيجب تنزيل الآية على الإخبار في الموضوعات الخارجيّة ؛ فإنّها هي التي لا يجب التفحّص فيها عن المعارض ، ويجعل المراد من القبول فيها هو القبول في الجملة ، فلا ينافي اعتبار انضمام عدل آخر إليه ، فلا يقال : إنّ قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة مطلقا يستلزم قبوله في الأحكام بالإجماع المركّب والأولويّة (٤).

الجواب عن هذا الإيراد

وفيه : أنّ وجوب التفحّص عن المعارض غير وجوب التبيّن في الخبر ، فإنّ الأوّل يؤكّد حجّيّة خبر العادل ولا ينافيها ؛ لأنّ مرجع التفحّص عن المعارض إلى الفحص عمّا أوجب الشارع العمل به كما أوجب العمل بهذا ، والتبيّن المنافي للحجّيّة هو التوقّف عن العمل

__________________

(١) لم ترد عبارة «بل لا قصور ـ إلى ـ في نظر المولى» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٢) في (ه) بدل «لك» : «ذلك».

(٣) راجع الصفحة ٢٦٥.

(٤) في (ظ) زيادة : «القطعيّة».

٢٧٠

والتماس دليل آخر ، فيكون ذلك الدليل هو المتّبع ولو كان أصلا من الاصول. فإذا يئس عن المعارض عمل بهذا الخبر ، وإذا وجده أخذ بالأرجح منهما. وإذا يئس عن التبيّن توقّف عن العمل ورجع إلى ما يقتضيه الاصول العمليّة.

فخبر الفاسق وإن اشترك مع خبر العادل في عدم جواز العمل بمجرّد المجيء ، إلاّ أنّه بعد اليأس عن وجود المنافي يعمل بالثاني دون الأوّل ، ومع وجدان المنافي يؤخذ به في الأوّل ويؤخذ بالأرجح في الثاني.

فتتبّع الأدلّة في الأوّل لتحصيل المقتضي الشرعيّ للحكم (١) الذي تضمّنه خبر الفاسق ، وفي الثاني لطلب المانع عمّا اقتضاه الدليل الموجود.

٥ - عدم العمل بمفهوم الآية في مورده

ومنها : أنّ مفهوم الآية غير معمول به في الموضوعات الخارجيّة التي منها مورد الآية وهو إخبار الوليد بارتداد طائفة ، ومن المعلوم أنّه لا يكفي فيه خبر العادل الواحد (٢) ، بل لا أقلّ من اعتبار العدلين ، فلا بدّ من طرح المفهوم ؛ لعدم جواز إخراج المورد.

الجواب عن هذا الإيراد

وفيه : أنّ غاية الأمر لزوم تقييد المفهوم ـ بالنسبة إلى الموضوعات ـ بما إذا تعدّد المخبر العادل ، فكلّ واحد من خبري (٣) العدلين في البيّنة لا يجب التبيّن فيه.

__________________

(١) في (ظ) : «المقتضي للحكم الشرعيّ».

(٢) كذا في نسخة بدل (ص) ، ولم ترد «الواحد» في غيرها.

(٣) في (ت) و (ل) : «خبر العدلين».

٢٧١

وأمّا لزوم إخراج المورد فممنوع ؛ لأنّ المورد داخل في منطوق الآية لا مفهومها.

وجعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبيّن إذا كان المخبر به فاسقا وبعدمه (١) إذا كان المخبر به عادلا ، لا يلزم منه إلاّ تقييد لحكمه (٢) في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده ، وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء.

٦ - مفهوم الآية لا يستلزم العمل والجواب عنه

ومنها : ما عن غاية البادئ (٣) : من أنّ المفهوم يدلّ على عدم وجوب التبيّن ، وهو لا يستلزم العمل ؛ لجواز وجوب التوقّف (٤).

وكأنّ هذا الايراد مبنيّ على ما تقدّم (٥) فساده : من إرادة وجوب التبيّن نفسيّا ، وقد عرفت ضعفه ، وأنّ المراد وجوب التبيّن لأجل العمل عند إرادته ، وليس التوقّف حينئذ واسطة.

٧ - كون المسألة اصوليّة وجوابه

ومنها : أنّ المسألة اصوليّة ، فلا يكتفى فيها بالظنّ.

وفيه : أنّ الظهور اللفظيّ لا بأس بالتمسّك به في اصول الفقه ، والاصول التي لا يتمسّك فيها (٦) بالظنّ مطلقا هو اصول الدين لا اصول

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «لعدمه».

(٢) في (ت) و (ل) : «الحكم» ، وفي (ص) : «للحكم».

(٣) في النسخ : «غاية المبادي» ، والصحيح ما أثبتناه.

(٤) حكاه عنه في مفاتيح الاصول : ٣٥٦ ، ولكنّه لا يوجد فيه ، انظر غاية البادئ (مخطوط) : الورقة ٨٩.

(٥) راجع الصفحة ٢٥٥.

(٦) كذا في (ظ) و (ت) ، وفي غيرهما : «لها».

٢٧٢

الفقه ، والظنّ الذي لا يتمسّك به في الاصول مطلقا هو مطلق الظنّ ، لا الظنّ الخاصّ.

انحصار مفهوم الآية في المعصوم عليهم‌السلام ومن دونه

ومنها : أنّ المراد بالفاسق مطلق الخارج عن طاعة الله ولو بالصغائر ، فكلّ من كان كذلك أو احتمل في حقّه ذلك وجب التبيّن في خبره ، وغيره ممّن يفيد قوله العلم ؛ لانحصاره في المعصوم أو من هو دونه ، فيكون في تعليق الحكم بالفسق إشارة إلى أنّ مطلق خبر المخبر غير المعصوم لا عبرة به ؛ لاحتمال فسقه ؛ لأنّ المراد الفاسق الواقعيّ لا المعلوم.

فهذا وجه آخر لإفادة الآية حرمة اتّباع غير العلم ، لا يحتاج معه إلى التمسّك في ذلك بتعليل الآية ، كما تقدّم (١) في الإيراد الثاني من الإيرادين الأوّلين.

الجواب عن هذا الإيراد

وفيه : أنّ إرادة مطلق الخارج عن طاعة الله من إطلاق الفاسق خلاف الظاهر عرفا ، فالمراد به : إمّا الكافر ، كما هو الشائع إطلاقه في الكتاب ، حيث إنّه يطلق غالبا في مقابل المؤمن. وإمّا الخارج عن طاعة الله بالمعاصي الكبيرة الثابتة تحريمها في زمان نزول هذه الآية ، فالمرتكب للصغيرة غير داخل تحت إطلاق الفاسق في عرفنا المطابق للعرف السابق.

مضافا إلى قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)(٢).

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٥٩.

(٢) النساء : ٣١.

٢٧٣

مع أنّه يمكن فرض الخلوّ عن الصغيرة والكبيرة ، كما إذا علم منه التوبة من الذنب السابق ، وبه يندفع الإيراد المذكور ، حتّى على مذهب من يجعل كلّ ذنب كبيرة (١).

وأمّا احتمال فسقه بهذا الخبر ـ لكذبه فيه ـ فهو غير قادح ؛ لأنّ ظاهر قوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ)(٢) تحقّق الفسق قبل النبأ لا به ، فالمفهوم يدلّ على قبول خبر من ليس فاسقا مع قطع النظر عن هذا النبأ واحتمال فسقه به.

هذه جملة ممّا أوردوه على ظاهر الآية ، وقد عرفت (٣) أنّ الوارد منها إيرادان ، والعمدة الايراد الأوّل الذي أورده جماعة من القدماء والمتأخّرين (٤).

الاستدلال بمنطوق الآية على حجيّة خبر غير العادل إذا حصل الظنّ بصدقه

ثمّ إنّه كما استدلّ بمفهوم الآية على حجّيّة خبر العادل ، كذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّيّة خبر غير العادل إذا حصل الظنّ بصدقه ؛ بناء على أنّ المراد ب «التبيّن» : ما يعمّ تحصيل الظنّ ، فإذا حصل من الخارج ظنّ بصدق خبر الفاسق كفى في العمل به.

ومن التبيّن الظنّيّ : تحصيل شهرة العلماء على العمل بالخبر أو على مضمونه أو على (٥) روايته ، ومن هنا تمسّك بعض (٦) بمنطوق الآية على

__________________

(١) كالحلّي في السرائر ٢ : ١١٨ ، وانظر تفصيل ذلك في مفاتيح الاصول : ٥٥٤.

(٢) الحجرات : ٦.

(٣) راجع الصفحة ٢٥٦.

(٤) تقدّم ذكرهم في الصفحة ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٥) لم ترد «على» في (ت) ، (ر) و (ظ).

(٦) انظر الفوائد الحائريّة : ٤٨٩ ، ومفاتيح الاصول : ٤٧٥.

٢٧٤

حجّيّة الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة ، وفي حكم الشهرة أمارة اخرى غير معتبرة.

ولو عمّم التبيّن للتبيّن الاجماليّ ـ وهو تحصيل الظنّ بصدق مخبره ـ دخل خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ؛ فيدخل الموثّق وشبهه بل الحسن أيضا.

وعلى ما ذكر ، فيثبت من آية النبأ ـ منطوقا ومفهوما ـ حجّيّة الأقسام الأربعة للخبر : الصحيح ، والحسن ، والموثّق ، والضعيف المحفوف بقرينة ظنّيّة.

المناقشة في الاستدلال المذكور

ولكن فيه من الإشكال ما لا يخفى ؛ لأنّ التبيّن ظاهر في العلميّ ؛ كيف ولو كان المراد مجرّد الظنّ لكان الأمر به في خبر الفاسق لغوا ، إذ العاقل لا يعمل بخبر إلاّ بعد رجحان صدقه على كذبه.

إلاّ أن يدفع اللغويّة بما ذكرنا سابقا : من أنّ المقصود التنبيه والارشاد على أنّ الفاسق لا ينبغي أن يعتمد عليه ، وأنّه لا يؤمن من كذبه وإن كان المظنون صدقه.

وكيف كان : فمادّة «التبيّن» ولفظ «الجهالة» وظاهر التعليل ـ كلّها ـ آبية عن (١) إرادة مجرّد الظنّ.

نعم ، يمكن دعوى صدقه على الاطمئنان الخارج عن التحيّر والتزلزل بحيث لا يعدّ في العرف العمل به تعريضا للوقوع في الندم ؛ فحينئذ لا يبعد انجبار خبر الفاسق به.

لكن ، لو قلنا بظهور المنطوق في ذلك كان دالا على حجّيّة الظنّ

__________________

(١) في غير (ظ) و (م) : «من».

٢٧٥

الاطمئنانيّ المذكور وإن لم يكن معه خبر فاسق ؛ نظرا إلى أنّ الظاهر من الآية أنّ خبر الفاسق وجوده كعدمه ، وأنّه لا بدّ من تبيّن الأمر من الخارج ، والعمل على ما يقتضيه التبيّن الخارجيّ.

نعم ، ربما يكون نفس الخبر من الأمارات التي يحصل من مجموعها التبيّن.

فالمقصود : الحذر عن الوقوع في مخالفة الواقع ، فكلّما حصل الأمن منه جاز العمل ، فلا فرق حينئذ بين خبر الفاسق المعتضد بالشهرة إذا حصل الاطمئنان بصدقه وبين الشهرة المجرّدة إذا حصل الاطمئنان بصدق مضمونها.

والحاصل : أنّ الآية تدلّ على أنّ العمل يعتبر فيه التبيّن من دون مدخليّة لوجود خبر الفاسق وعدمه ، سواء قلنا بأنّ المراد منه العلم أو الاطمئنان أو مطلق الظنّ ، حتّى أنّ من قال (١) بأنّ (٢) خبر الفاسق يكفي فيه مجرّد الظنّ بمضمونه ـ لحسن (٣) أو توثيق أو غيرهما من صفات الراوي ـ فلازمه القول بدلالة الآية على حجّيّة مطلق الظنّ بالحكم الشرعيّ وإن لم يكن معه خبر أصلا ، فافهم واغتنم واستقم.

هذا ، ولكن لا يخفى : أنّ حمل التبيّن على تحصيل مطلق الظنّ أو الاطمئنان يوجب خروج مورد المنطوق ، وهو الإخبار بالارتداد (٤).

__________________

(١) كالمحقّق القمّي في القوانين ١ : ٢٢٣.

(٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «إنّ».

(٣) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «بحسن».

(٤) لم ترد «هذا ولكن ـ إلى ـ بالارتداد» في (ظ) ، (ل) و (م).

٢٧٦

الآية الثانية : آية «النفر»

ومن جملة الآيات : قوله تعالى في سورة براءة :

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١).

وجه الاستدلال بها

دلّت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرين ، من دون اعتبار إفادة خبرهم العلم لتواتر أو قرينة ، فيثبت وجوب العمل بخبر الواحد.

أمّا وجوب الحذر ، فمن وجهين :

أحدهما : أنّ لفظة «لعلّ» بعد انسلاخها عن معنى الترجّي ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلّم ، وإذا تحقّق حسن الحذر ثبت وجوبه ؛ إمّا لما ذكره في المعالم : من أنّه لا معنى لندب الحذر ؛ إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن (٢) ، وإمّا لأنّ رجحان العمل بخبر الواحد مستلزم لوجوبه بالإجماع المركّب ؛ لأنّ كلّ من أجازه فقد أوجبه.

الثاني : أنّ ظاهر الآية وجوب الإنذار ؛ لوقوعه غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة «لو لا» ، فإذا وجب الإنذار أفاد وجوب الحذر لوجهين :

أحدهما : وقوعه غاية للواجب ؛ فإنّ الغاية المترتّبة على فعل الواجب ممّا لا يرضى الآمر بانتفائه ، سواء كان من الأفعال المتعلّقة للتكليف أم لا ، كما في قولك : «تب لعلّك تفلح» ، و «أسلم لعلّك تدخل الجنّة» ، وقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٣).

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) المعالم : ٤٧.

(٣) طه : ٤٤.

٢٧٧

الثاني : أنّه إذا وجب الإنذار ثبت وجوب القبول ؛ وإلاّ لغى الإنذار.

ونظير ذلك : ما تمسّك به في المسالك على وجوب قبول قول المرأة وتصديقها في العدّة ، من قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ)(١) ، فاستدلّ بتحريم الكتمان ووجوب الإظهار عليهنّ ، على قبول قولهنّ بالنسبة إلى ما في الأرحام (٢).

فإن قلت : المراد بالنفر النفر إلى الجهاد ، كما يظهر من صدر الآية وهو قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ،) ومن المعلوم أنّ النفر إلى الجهاد ليس للتفقّه والإنذار.

نعم ربما يترتّبان عليه ، بناء على ما قيل (٣) : من أنّ المراد حصول البصيرة في الدين من مشاهدة آيات الله وظهور أوليائه على أعدائه وسائر ما يتّفق في حرب المسلمين مع الكفّار من آيات عظمة الله وحكمته ، فيخبروا بذلك عند رجوعهم (٤) الفرقة المتخلّفة الباقية في المدينة ؛ فالتفقّه والإنذار من قبيل الفائدة ، لا الغاية حتّى تجب بوجوب ذيها.

قلت :

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) المسالك ٩ : ١٩٤.

(٣) قاله الحسن وأبو مسلم ، انظر تفسير التبيان ٥ : ٣٢١ ، ومجمع البيان ٣ : ٨٣ ـ ٨٤.

(٤) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «إلى» ، وشطب عليه في (ت).

٢٧٨

أوّلا : إنّه ليس في صدر الآية دلالة على أنّ المراد النفر إلى الجهاد ، وذكر الآية في آيات الجهاد لا يدلّ على ذلك.

وثانيا : لو سلّم أنّ المراد النفر إلى الجهاد ، لكن لا يتعيّن أن يكون النفر من كلّ قوم طائفة لأجل مجرّد الجهاد ؛ بل لو كان لمحض الجهاد لم يتعيّن أن ينفر من كلّ قوم طائفة ، فيمكن أن يكون التفقّه غاية لإيجاب النفر على طائفة من كلّ قوم ، لا لإيجاب أصل النفر.

ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار

وثالثا : إنّه قد فسّر الآية بأنّ المراد نهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد (١) ؛ كما يظهر من قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(٢) ، وأمر بعضهم بأن يتخلّفوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يخلّوه وحده ، فيتعلّموا مسائل حلالهم وحرامهم حتّى ينذروا قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم.

ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار

والحاصل : أنّ ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار ممّا لا ينكر ، فلا محيص عن حمل الآية عليه وإن لزم مخالفة الظاهر في سياق الآية أو بعض ألفاظها.

الأخبار التي استشهد فيها الإمام عليه‌السلام بآية «النفر» على وجوب التفقّه

وممّا يدلّ على ظهور الآية في وجوب التفقّه والإنذار : استشهاد الإمام بها على وجوبه في أخبار كثيرة.

منها : ما عن الفضل بن شاذان في علله ، عن الرضا عليه‌السلام في حديث ، قال :

__________________

(١) فسّره بذلك الشيخ الطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٨٣.

(٢) التوبة : ١٢٢.

٢٧٩

«إنّما امروا بالحجّ ؛ لعلّة الوفادة إلى الله ، وطلب الزيادة ، والخروج عن كلّ ما اقترف العبد» ـ إلى ـ أن قال ـ : «ولأجل (١) ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة عليهم‌السلام إلى كلّ صقع وناحية ؛ كما قال الله عزّ وجلّ : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...) الآية» (٢).

ومنها : ما ذكره في ديباجة المعالم (٣) : من رواية عليّ بن أبي حمزة ، قال :

«سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : تفقّهوا في الدّين ؛ فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابيّ ؛ إنّ الله عزّ وجلّ يقول : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)» (٤).

ومنها : ما رواه في الكافي ـ في باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام عليه‌السلام ـ من صحيحة يعقوب بن شعيب ، قال :

«قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال : أين قول الله عزّ وجلّ : (فَلَوْ لا نَفَرَ ...)؟ قال : هم في عذر ما داموا في الطلب ، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتّى يرجع إليهم أصحابهم» (٥).

ومنها : صحيحة عبد الأعلى ، قال :

__________________

(١) لم ترد «ولأجل» في (ظ) و (م).

(٢) الوسائل ١٨ : ٦٩ ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٥.

(٣) معالم الاصول : ٢٥.

(٤) الكافي ١ : ٣١ ، باب فرض العلم ، الحديث ٦.

(٥) الكافي ١ : ٣٧٨ ، الحديث ١.

٢٨٠