فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

مقامه : أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح (١).

وقوله عليه‌السلام : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ؛ إنّ الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء ، وهو كلام متّصل ينصرف إلى وجوه» (٢).

وفي مرسلة شبيب (٣) بن أنس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال لأبي حنيفة : «أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال : فبأيّ شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : يا أبا حنيفة ، تعرف كتاب الله حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم ، قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة ، لقد ادّعيت علما! ويلك ، ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين انزل عليهم ، ويلك ، ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ورّثك الله من كتابه حرفا» (٤).

وفي رواية زيد الشحّام ، قال : «دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال عليه‌السلام : بلغني أنّك تفسّر القرآن ، قال : نعم ...» ـ إلى أن قال له ـ : «يا قتادة ،

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٣ ، والوسائل ١٨ : ١٥١ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٨.

(٢) تفسير العياشي ١ : ١٢ ، الحديث ٨ ، وقريب منه في الوسائل ١٨ : ١٥٠ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٣.

(٣) كذا في (ل) و (م) ونسخة بدل (ص) و (ه) والمصدر ، وفي (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «شعيب».

(٤) الوسائل ١٨ : ٣٠ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

١٤١

إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة ، إنّما يعرف القرآن من خوطب به» (١).

إلى غير ذلك ممّا ادّعى في الوسائل ـ في كتاب القضاء ـ تجاوزها عن حدّ التواتر (٢).

وحاصل هذا الوجه يرجع إلى : أنّ منع الشارع عن ذلك يكشف عن أنّ مقصود المتكلّم ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام ، فليس من قبيل المحاورات العرفيّة.

الجواب عن الاستدلال بالأخبار

والجواب عن الاستدلال بها :

أنّها لا تدلّ على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الأخبار ؛ إذ من المعلوم أنّ هذا لا يسمّى تفسيرا ؛ فإنّ أحدا من العقلاء إذا رأى في كتاب مولاه أنّه أمره بشيء بلسانه المتعارف في مخاطبته له ـ عربيّا أو فارسيّا أو غيرهما ـ فعمل به وامتثله ، لم يعدّ هذا تفسيرا ؛ إذ التفسير كشف القناع.

ثمّ لو سلّم كون مطلق حمل اللفظ على معناه تفسيرا ، لكن الظاهر أنّ المراد بالرأي هو الاعتبار العقليّ الظنّي الراجع إلى الاستحسان ، فلا يشمل حمل ظواهر الكتاب على معانيها اللغويّة والعرفيّة.

لمراد من التفسير بالرأي

وحينئذ : فالمراد بالتفسير بالرأي : إمّا حمل اللفظ على خلاف

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٣٦ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٥.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٥١ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث ٨٠.

١٤٢

ظاهره أو أحد احتماليه ؛ لرجحان ذلك في نظره القاصر وعقله الفاتر.

ويرشد إليه : المرويّ عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال في حديث طويل : «وإنّما هلك الناس في المتشابه ؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء عليهم‌السلام فيعرّفونهم» (١).

وإمّا الحمل على ما يظهر له في بادئ الرأي من المعاني العرفيّة واللغويّة ، من دون تأمّل في الأدلّة العقليّة ومن دون تتبّع في القرائن النقليّة ، مثل الآيات الأخر الدالّة على خلاف هذا المعنى ، والأخبار الواردة في بيان المراد منها وتعيين ناسخها من منسوخها.

وممّا يقرّب هذا المعنى الثاني وإن كان الأوّل أقرب عرفا : أنّ المنهيّ في تلك الأخبار المخالفون الذين يستغنون بكتاب الله تعالى عن أهل البيت عليهم‌السلام ، بل يخطّئونهم به ، ومن المعلوم ضرورة من مذهبنا تقديم نصّ الإمام عليه‌السلام على ظاهر القرآن ، كما أنّ المعلوم ضرورة من مذهبهم العكس.

ويرشدك إلى هذا : ما تقدّم (٢) في ردّ الإمام عليه‌السلام على أبي حنيفة حيث إنّه يعمل بكتاب الله ، ومن المعلوم أنّه إنّما كان يعمل بظواهره ، لا أنّه كان يؤوّله بالرأي ؛ إذ لا عبرة بالرأي عندهم مع الكتاب والسنّة.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٤٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٢ ، وليس فيه : «فيعرّفونهم».

(٢) راجع الصفحة ١٤١.

١٤٣

ويرشد إلى هذا : قول أبي عبد الله عليه‌السلام في ذمّ المخالفين : «إنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض ، واحتجّوا بالمنسوخ وهم يظنّون أنّه الناسخ ، واحتجّوا بالخاصّ وهم يظنّون أنّه العامّ ، واحتجّوا بأوّل الآية وتركوا السنّة في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح (١) الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادره ، إذ لم يأخذوه عن أهله فضلّوا وأضلّوا» (٢).

وبالجملة : فالإنصاف يقتضي عدم الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتتبّع في سائر الأدلّة ، خصوصا الآثار الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام ؛ كيف ولو دلّت على المنع من العمل على هذا الوجه ، دلّت على عدم جواز العمل بأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام.

ففي رواية سليم بن قيس الهلالي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القرآن ، منه ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، وقد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكلام (٣) له وجهان ، وكلام عامّ وكلام خاصّ ، مثل القرآن» (٤).

وفي رواية ابن مسلم : «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (٥).

الأخبار الدالّة على جواز التمسّك بظاهر القرآن

هذا كلّه ، مع معارضة الأخبار المذكورة بأكثر منها ممّا يدلّ على

__________________

(١) كذا في المصدر وفي النسخ زيادة : «به».

(٢) الوسائل ١٨ : ١٤٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٢.

(٣) كذا في المصدر ، وفي النسخ زيادة : «يكون».

(٤) الوسائل ١٨ : ١٥٣ ، الباب ١٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

(٥) الوسائل ١٨ : ٧٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

١٤٤

جواز التمسّك بظاهر القرآن ، مثل خبر الثقلين ـ المشهور بين الفريقين (١) ـ وغيرها ممّا دلّ على الأمر بالتمسّك بالقرآن والعمل بما فيه (٢) ، وعرض الأخبار المتعارضة بل ومطلق الأخبار عليه (٣) ، وردّ الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود (٤) ، والأخبار الدالّة ـ قولا و (٥) فعلا و (٦) تقريرا ـ على جواز التمسّك بالكتاب.

مثل قوله عليه‌السلام لمّا قال زرارة : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس؟ فقال عليه‌السلام : «لمكان الباء» (٧) ، فعرّفه عليه‌السلام مورد استفادة الحكم من ظاهر الكتاب.

وقول الصادق عليه‌السلام في مقام نهي الدوانيقيّ عن قبول خبر النّمام : «إنّه فاسق ؛ وقال الله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...) الآية» (٨).

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٩ ، الباب ٥ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩ ، ومسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٤ ، وانظر كتاب حديث الثقلين للسيّد علي الحسيني الميلاني.

(٢) مثل ما في الوسائل ١١ : ١٣٠ ، الباب ٢ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ٧.

(٣) الوسائل ١٨ : ٧٥ ـ ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الأحاديث ١ ، ١١ ، ١٨ و ١٩.

(٤) الوسائل ١٢ : ٣٥٣ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث ٢.

(٥) في (م) : «أو».

(٦) في (ظ) ، (ل) و (م) : «أو».

(٧) الوسائل ١ : ٢٩١ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٨) الوسائل ٨ : ٦١٩ ، الباب ١٦٤ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١٠ ، والآية من سورة الحجرات : ٦.

١٤٥

وقوله عليه‌السلام لابنه إسماعيل : «إنّ الله عزّ وجلّ يقول : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» (١).

وقوله عليه‌السلام لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء ، اعتذارا بأنّه لم يكن شيئا أتاه برجله : «أما سمعت قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)» (٢).

وقوله عليه‌السلام في تحليل العبد للمطلّقة ثلاثا : «إنّه زوج ؛ قال الله عزّ وجلّ : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)» (٣) ، وفي عدم تحليلها بالعقد المنقطع : «إنّه تعالى قال : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما)» (٤).

وتقريره عليه‌السلام التمسّك بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ،) وأنّه نسخ بقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ)(٥).

وقوله عليه‌السلام في رواية عبد الأعلى ـ في حكم من عثر ، فوقع ظفره ، فجعل على إصبعه مرارة ـ : «إنّ هذا وشبهه يعرف من كتاب الله

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٢٣٠ ، الباب ٦ من أحكام الوديعة ، الحديث الأوّل ، والآية من سورة التوبة : ٦١.

(٢) الوسائل ٢ : ٩٥٧ ، الباب ١٨ من أبواب الأغسال المسنونة ، الحديث الأوّل ، والآية من سورة الإسراء : ٣٦.

(٣) الوسائل ١٥ : ٣٧٠ ، الباب ١٢ من أبواب أقسام الطلاق ، الحديث الأوّل ، والآية من سورة البقرة : ٢٣٠.

(٤) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٩ من أبواب أقسام الطلاق ، الحديث ٤ ، والآية من سورة البقرة : ٢٣٠.

(٥) الوسائل ١٤ : ٤١٠ ، الباب الأوّل من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ، الحديث ٣ ، والآيتان من سورتي المائدة : ٥ ، والبقرة : ٢٢١.

١٤٦

(ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، ثمّ قال : امسح عليه» (١) ، فأحال عليه‌السلام معرفة حكم المسح على إصبعه المغطّى بالمرارة إلى الكتاب ، موميا إلى أنّ هذا لا يحتاج إلى السؤال ؛ لوجوده في ظاهر القرآن.

ولا يخفى : أنّ استفادة الحكم المذكور من ظاهر الآية الشريفة ممّا لا يظهر إلاّ للمتأمّل المدقّق ؛ نظرا إلى أنّ الآية الشريفة إنّما تدلّ على نفي وجوب الحرج ، أعني المسح على نفس الإصبع ، فيدور الأمر في بادئ النظر بين سقوط المسح رأسا ، وبين بقائه مع سقوط قيد «مباشرة الماسح للممسوح» ، فهو بظاهره لا يدلّ على ما حكم به الإمام عليه‌السلام ، لكن يعلم عند المتأمّل : أنّ الموجب للحرج هو اعتبار المباشرة في المسح ؛ فهو الساقط دون أصل المسح ، فيصير نفي الحرج دليلا على سقوط اعتبار المباشرة في المسح ، فيمسح على الإصبع المغطّى.

فإذا أحال الإمام عليه‌السلام استفادة مثل هذا الحكم إلى الكتاب ، فكيف يحتاج نفي وجوب الغسل أو الوضوء عند الحرج الشديد المستفاد من ظاهر الآية المذكورة ، أو غير ذلك من الأحكام التي يعرفها كلّ عارف باللسان من ظاهر القرآن ، إلى ورود التفسير بذلك من أهل البيت عليهم‌السلام.

ومن ذلك : ما ورد من أنّ المصلّي أربعا في السفر إن قرئت عليه آية القصر وجب عليه الإعادة ، وإلاّ فلا (٢) ، وفي بعض الروايات : «إن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥. والآية من سورة الحج : ٧٨.

(٢) مستدرك الوسائل ٦ : ٥٣٩ ، الباب ١٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث الأوّل.

١٤٧

قرئت عليه وفسّرت له» (١).

والظاهر ـ ولو بحكم أصالة الإطلاق في باقي الروايات ـ : أنّ المراد من تفسيرها له بيان أنّ المراد من قوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا)(٢) بيان الترخيص في أصل تشريع القصر وكونه مبنيّا على التخفيف ، فلا ينافي تعيّن القصر على المسافر وعدم صحّة الإتمام منه ، ومثل هذه المخالفة للظاهر يحتاج إلى التفسير بلا شبهة.

وقد ذكر زرارة ومحمّد بن مسلم للإمام عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى قال : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ)(٣) ، ولم يقل : افعلوا ، فأجاب عليه‌السلام بأنّه من قبيل قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)» (٤).

وهذا ـ أيضا ـ يدلّ على تقرير الإمام عليه‌السلام لهما في التعرّض لاستفادة الأحكام من الكتاب والدخل والتصرّف في ظواهره.

ومن ذلك : استشهاد الإمام عليه‌السلام بآيات كثيرة ، مثل الاستشهاد لحلّية بعض النسوان بقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(٥) ، وفي

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٥٣١ ، الباب ١٧ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٤.

(٢) النساء : ١٠١ ، وفي النسخ وردت الآية هكذا : «لا جناح عليكم أن تقصروا».

(٣) في النسخ بدل «فليس عليكم جناح» : «لا جناح».

(٤) الوسائل ٥ : ٥٣٨ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٢ ، والآية من سورة البقرة : ١٥٨.

(٥) الوسائل ١٤ : ٣٧٧ ، الباب ٣٠ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث ١١ ، والآية من سورة النساء : ٢٤.

١٤٨

عدم جواز طلاق العبد بقوله : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)(١).

ومن ذلك : الاستشهاد لحلّيّة بعض الحيوانات بقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) الآية (٢) ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

الدليل الثاني على عدم حجّية ظواهر الكتاب والجواب عنه

الثاني من وجهي المنع :

أنّا نعلم بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في أكثر ظواهر الكتاب ، وذلك ممّا يسقطها عن الظهور.

وفيه :

أوّلا : النقض بظواهر السنّة ؛ فإنّا نقطع بطروّ مخالفة الظاهر في أكثرها.

وثانيا : أنّ هذا لا يوجب السقوط ، وإنّما يوجب الفحص عمّا يوجب مخالفة الظاهر.

فإن قلت : العلم الإجماليّ بوجود مخالفات الظواهر لا يرتفع أثره ـ وهو وجوب التوقّف ـ بالفحص ؛ ولذا لو تردّد اللفظ بين معنيين ، أو علم إجمالا بمخالفة أحد الظاهرين لظاهره (٣) ـ كما في العامّين من وجه وشبههما ـ وجب التوقّف فيه ولو بعد الفحص.

قلت : هذه شبهة ربما تورد على من استدلّ على وجوب الفحص

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٤١ ، الباب ٤٣ من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث ٢ ، والآية من سورة النحل : ٧٥.

(٢) الوسائل ١٦ : ٣٢٤ ، الباب ٤ من أبواب كراهة لحوم الخيل والبغال ، الحديث ٦ ، والآية من سورة الأنعام : ١٤٥.

(٣) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي (ر) : «لظاهر الآخر».

١٤٩

عن المخصّص في العمومات بثبوت العلم الإجماليّ بوجود المخصّصات ؛ فإنّ العلم الإجماليّ إمّا أن يبقى أثره ولو بعد العلم التفصيليّ بوجود عدّة مخصّصات ، وإمّا أن لا يبقى ، فإن بقي فلا يرتفع بالفحص ، وإلاّ فلا مقتضي للفحص.

وتندفع هذه الشبهة : بأنّ المعلوم إجمالا هو وجود مخالفات كثيرة في الواقع فيما بأيدينا بحيث تظهر تفصيلا بعد الفحص ، وأمّا وجود مخالفات في الواقع زائدا على ذلك فغير معلوم ، فحينئذ لا يجوز (١) العمل قبل الفحص ؛ لاحتمال وجود مخصّص يظهر بالفحص (٢) ، ولا يمكن (٣) نفيه بالأصل ؛ لأجل العلم الإجماليّ ، وأمّا بعد الفحص فاحتمال وجود المخصّص في الواقع ينفى بالأصل السالم عن العلم الإجماليّ.

والحاصل : أنّ المنصف لا يجد فرقا بين ظواهر (٤) الكتاب والسنّة ، لا (٥) قبل الفحص ولا (٦) بعده.

ثمّ إنّك قد عرفت (٧) : أنّ العمدة في منع الأخباريّين من العمل بظواهر الكتاب هي الأخبار المانعة عن تفسير القرآن ، إلاّ أنّه يظهر من

__________________

(١) في (ص) ، (ر) و (ل) : «فلا يجوز».

(٢) كذا في (ت) ، (ل) ، (ه) ونسخة بدل (ص) ، وفي (ص) ، (ر) ، (ظ) و (م) بدل «بالفحص» : «بعد الفحص».

(٣) في (ت) ، (ل) و (ه) : «ولا يمكنه».

(٤) في (ت) ، (ل) و (ه) : «ظاهر».

(٥) لم ترد «لا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٦) لم ترد «لا» في (ظ) ، (ل) و (م).

(٧) راجع الصفحة ١٣٩.

١٥٠

كلام السيّد الصدر ـ شارح الوافية ـ في آخر كلامه : أنّ المنع عن العمل بظواهر الكتاب هو مقتضى الأصل ، والعمل بظواهر الأخبار خرج بالدليل ؛ حيث قال ـ بعد إثبات أنّ في القرآن محكمات وظواهر ، وأنّه ممّا لا يصحّ إنكاره ، وينبغي النزاع في جواز العمل بالظواهر ، وأنّ الحقّ مع الأخباريّين ـ ما خلاصته :

أنّ التوضيح يظهر بعد مقدّمتين :

الاولى : أنّ بقاء التكليف ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم العمل بمقتضاه موقوف على الإفهام ، وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالته في الأكثر تكون ظنّيّة ؛ إذ مدار الإفهام على إلقاء الحقائق مجرّدة عن القرينة وعلى ما يفهمون ، وإن كان احتمال التجوّز وخفاء القرينة باقيا.

الثانية : أنّ المتشابه كما يكون في أصل اللغة كذلك يكون بحسب الاصطلاح ، مثل أن يقول أحد : أنا استعمل العمومات ، وكثيرا ما اريد الخصوص من غير قرينة ، وربما اخاطب أحدا واريد غيره ، ونحو ذلك ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل لنا الظنّ به ، والقرآن من هذا القبيل ؛ لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ ، لا أقول على وضع جديد ، بل أعمّ من أن يكون ذلك أو يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب ، ومع ذلك قد وجدت فيه كلمات لا يعلم المراد منها كالمقطّعات.

ثمّ قال (١) :

قال سبحانه : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ...) الآية (٢) ، ذمّ على اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن لهم المتشابهات

__________________

(١) لم ترد «قال» في غير (ص).

(٢) آل عمران : ٧.

١٥١

ما هي؟ وكم هي؟ بل لم يبيّن لهم المراد من هذا اللفظ ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى الناس عن التفسير بالآراء ، وجعلوا الأصل عدم العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

إذا تمهّدت (١) المقدّمتان ، فنقول : مقتضى الاولى العمل بالظواهر ، ومقتضى الثانية عدم العمل ؛ لأنّ ما صار متشابها لا يحصل الظنّ بالمراد منه ، وما بقى ظهوره مندرج في الأصل المذكور ، فنطالب بدليل جواز العمل ؛ لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة هو عدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

لا يقال : إنّ الظاهر من المحكم ، ووجوب العمل بالمحكم إجماعيّ.

لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا.

إلى أن قال :

لا يقال : إنّ ما ذكرتم ـ لو تمّ ـ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ؛ لما فيها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ (٢) المخصّص ، والمطلق (٣) المقيّد.

لأنّا نقول : إنّا لو خلّينا وأنفسنا ، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، ولكن منعنا من ذلك في القرآن ؛ للمنع من اتّباع المتشابه وعدم بيان حقيقته ، ومنعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير القرآن ، ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير.

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «تمهّد».

(٢) في غير (ل) و (م) زيادة «و» ، وما أثبتناه مطابق للمصدر.

(٣) في غير (ل) و (م) زيادة «و» ، وما أثبتناه مطابق للمصدر.

١٥٢

وأيضا : ذمّ الله تعالى على اتّباع الظنّ وكذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياؤه عليهم‌السلام ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن.

إلى أن قال :

وأمّا الأخبار ، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام كانوا عاملين بأخبار الآحاد (١) من غير فحص عن مخصّص أو معارض ناسخ أو مقيّد ، ولو لا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقّفين (٢) ، انتهى.

المناقشة فيها أفاده السيّد الصدر

أقول : وفيه مواقع للنظر ، سيّما في جعل العمل بظواهر الأخبار من جهة قيام الإجماع العمليّ ، ولولاه لتوقّف في العمل بها أيضا ؛ إذ لا يخفى أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بظواهر الأخبار لم يكن لدليل شرعيّ خاصّ وصل إليهم من أئمّتهم ، وإنّما كان أمرا مركوزا في أذهانهم بالنسبة إلى مطلق الكلام الصادر من المتكلّم لأجل الإفادة والاستفادة ، سواء كان من الشارع أم غيره ، وهذا المعنى جار في القرآن أيضا على تقدير كونه ملقى للإفادة والاستفادة ، على ما هو الأصل في خطاب كلّ متكلّم.

نعم ، الأصل الأوّلي هي حرمة العمل بالظنّ ، على ما عرفت مفصّلا ، لكنّ الخارج منه ليس خصوص ظواهر الأخبار حتّى يبقى الباقي ، بل الخارج منه هو مطلق الظهور الناشئ عن كلام كلّ متكلّم القى إلى غيره للإفهام.

__________________

(١) كذا في (ظ) ، وفي غيرها : «واحد».

(٢) شرح الوافية (مخطوط) : ١٤٠ ـ ١٤٦.

١٥٣

ثمّ إنّ ما ذكره ـ من عدم العلم بكون الظواهر من المحكمات واحتمال كونها من المتشابهات ـ ممنوع :

أوّلا : بأنّ المتشابه لا يصدق على الظواهر لا لغة ولا عرفا ، بل يصحّ سلبه عنه ، فالنهي الوارد عن اتّباع المتشابه لا يمنع ؛ كما اعترف به في المقدّمة الاولى ، من أنّ مقتضى القاعدة وجوب العمل بالظواهر.

وثانيا : بأنّ احتمال كونها من المتشابه لا ينفع في الخروج عن الأصل الذي اعترف به.

ودعوى اعتبار العلم بكونها من المحكم هدم لما اعترف به من أصالة حجّية الظواهر ؛ لأنّ مقتضى ذلك الأصل جواز العمل إلاّ أن يعلم كونه (١) ممّا نهى الشارع عنه.

وبالجملة : فالحقّ ما اعترف به قدس‌سره ، من أنّا لو خلّينا وأنفسنا لعملنا بظواهر الكتاب ، ولا بدّ للمانع من إثبات المنع.

ثمّ إنّك قد عرفت ممّا ذكرنا : أنّ خلاف الأخباريّين في ظواهر الكتاب ليس في الوجه الذي ذكرنا ، من اعتبار الظواهر اللفظيّة في الكلمات الصادرة لإفادة المطالب (٢) واستفادتها (٣) ، وإنّما يكون خلافهم في أنّ خطابات الكتاب لم يقصد بها استفادة المراد من أنفسها ، بل بضميمة تفسير أهل الذكر ، أو أنّها ليست بظواهر بعد احتمال كون محكمها من المتشابه ، كما عرفت من كلام السيّد المتقدّم (٤).

__________________

(١) في (ظ) : «كونها».

(٢) في (ص) و (ل) : «المطلب».

(٣) في (ص) : «استفادته».

(٤) أي السيّد الصدر المتقدّم كلامه في الصفحة ١٥١.

١٥٤

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل :

توهّم عدم الثمرة في الخلاف في حجّية ظواهر الكتاب

أنّه ربما يتوهّم (١) بعض (٢) : أنّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ؛ إذ ليست آية متعلّقة بالفروع أو الاصول (٣) إلاّ و (٤) ورد في بيانها أو في الحكم الموافق لها خبر أو أخبار كثيرة ، بل انعقد الإجماع على أكثرها. مع أنّ جلّ آيات الاصول والفروع ـ بل كلّها ـ ممّا تعلّق الحكم فيها بامور مجملة لا يمكن العمل بها إلاّ بعد أخذ تفصيلها من الأخبار (٥) ، انتهى.

الجواب عن التوهّم المذكور

أقول : ولعلّه قصّر نظره على (٦) الآيات الواردة في العبادات ؛ فإنّ أغلبها من قبيل ما ذكره ، وإلاّ فالإطلاقات الواردة في المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص المتكافئة ، كثيرة جدّا ، مثل : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٧) ، و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٨) ،

__________________

(١) في (م) و (ه) : «توهّم».

(٢) وهو الفاضل النراقي.

(٣) في (ت) ، (ر) و (ه) : «والاصول».

(٤) «و» من (م) و (ه).

(٥) مناهج الأحكام : ١٥٦.

(٦) كذا في (ت) و (ه) ، وفي غيرهما : «إلى».

(٧) المائدة : ١.

(٨) البقرة : ٢٧٥.

١٥٥

و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(١) ، و (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)(٢) ، و (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)(٣) ، و (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)(٤) ، و (أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ)(٥) ، و (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(٦) ، و (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ)(٧) ، و (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(٨) ، و (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ)(٩) ، و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ)(١٠) ، وغير ذلك ممّا لا يحصى.

بل وفي العبادات أيضا كثيرة ، مثل قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ)(١١) ، وآيتي (١٢) التيمّم والوضوء والغسل (١٣).

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) البقرة : ٢٨٣.

(٣) النساء : ٥.

(٤) الأنعام : ١٥٢ ، والإسراء : ٣٤.

(٥) النساء : ٢٤.

(٦) الحجرات : ٦.

(٧) التوبة : ١٢٢.

(٨) النحل : ٤٣ ، والأنبياء : ٧.

(٩) النحل : ٧٥.

(١٠) التوبة : ٩١.

(١١) التوبة : ٢٨.

(١٢) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ه) : «آيات».

(١٣) النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦.

١٥٦

وهذه العمومات وإن ورد فيها أخبار في الجملة ، إلاّ أنّه ليس كلّ فرع ممّا يتمسّك فيه بالآية ورد فيه خبر سليم عن المكافئ ، فلاحظ وتتبّع.

الثاني :

لو اختلفت القراءة في الكتاب

أنّه إذا اختلفت (١) القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّى ، كما في قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٢) ، حيث قرئ بالتشديد من التطهّر الظاهر في الاغتسال ، وبالتخفيف (٣) من الطهارة الظاهرة في النّقاء من الحيض ، فلا يخلو : إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها كما هو المشهور (٤) ، خصوصا في ما كان الاختلاف في المادّة ، وإمّا أن لا نقول كما هو مذهب جماعة (٥).

فعلى الأوّل : فهما بمنزلة آيتين تعارضتا ، لا بدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو على الأظهر ، ومع التكافؤ لا بدّ من الحكم بالتوقّف والرجوع إلى غيرهما (٦).

__________________

(١) كذا في (خ) ، (د) ، (ف) و (ن) ، وفي نسخنا : «اختلف».

(٢) البقرة : ٢٢٢.

(٣) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «والتخفيف».

(٤) انظر القوانين ١ : ٤٠٦ ، ومفاتيح الاصول : ٣٢٢ ، ومناهج الأحكام : ١٥٠ ، وشرح الوافية (مخطوط) : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٥) ذكرهم في القوانين ومفاتيح الاصول ، وذهب إليه الفاضل النراقي في المناهج أيضا.

(٦) في هامش (م) زيادة العبارة التالية : «قال البيضاوي عند تفسير قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) : إنّ القراءتين آيتان يعمل بهما ، ثمّ فرّع على ذلك ما لا يخلو تفرّعه عن بحث».

١٥٧

وعلى الثاني : فإن ثبت جواز الاستدلال بكلّ قراءة ـ كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكلّ قراءة ـ كان الحكم كما تقدّم ، وإلاّ فلا بدّ من التوقّف في محلّ التعارض والرجوع إلى القواعد مع عدم المرجّح ، أو مطلقا بناء على عدم ثبوت الترجيح هنا (١) ، فيحكم باستصحاب الحرمة قبل الاغتسال ؛ إذ لم يثبت تواتر التخفيف ، أو بالجواز بناء على عموم قوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(٢) من حيث الزمان خرج منه أيّام الحيض على الوجهين في كون المقام من استصحاب حكم المخصّص أو العمل بالعموم الزمانيّ.

الثالث :

وقوع التحريف في القرآن لا يمنع من التمسّك بالظواهر

أنّ وقوع التحريف في القرآن ـ على القول به ـ لا يمنع من التمسّك بالظواهر ؛ لعدم العلم الإجماليّ باختلال الظواهر بذلك. مع أنّه لو علم لكان من قبيل الشبهة الغير المحصورة. مع أنّه لو كان من قبيل الشبهة المحصورة أمكن القول بعدم قدحه ؛ لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهره من الظواهر الغير المتعلّقة بالأحكام الشرعيّة العمليّة التي امرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب ، فافهم.

الرابع :

توهّم ودفع

قد يتوهّم (٣) : أنّ وجوب العمل بظواهر الكتاب بالإجماع مستلزم لعدم جواز العمل بظواهره (٤) ؛ لأنّ من تلك الظواهر ظاهر الآيات

__________________

(١) في (ص) و (ه) زيادة : «كما هو الظاهر».

(٢) البقرة : ٢٢٣.

(٣) ذكره المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ١٠٩.

(٤) كذا في (ظ) ، (ل) و (م) ، وفي غيرها : «بظاهره».

١٥٨

الناهية عن العمل بالظنّ مطلقا حتّى ظواهر الكتاب.

وفيه : أنّ فرض وجود الدليل على حجّية الظواهر موجب لعدم ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل بالظواهر.

مع أنّ ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن حجّية أنفسها ، إلاّ أن يقال : إنّها لا تشمل أنفسها ، فتأمّل.

وبإزاء هذا التوهّم توهّم : أنّ خروج ظواهر الكتاب عن الآيات الناهية ليس من باب التخصيص ، بل من باب التخصّص ؛ لأنّ وجود القاطع على حجّيتها يخرجها عن غير العلم إلى العلم.

وفيه ما لا يخفى.

١٥٩

[حجّية الظواهر بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه](١)

تفصيل صاحب القوانين بين من قصد إفهامه وغيره

وأمّا التفصيل الآخر :

فهو الذي يظهر من صاحب القوانين ـ في آخر مسألة حجّية الكتاب (٢) ، وفي أوّل مسألة الاجتهاد والتقليد (٣) ـ وهو : الفرق بين من قصد إفهامه بالكلام ، فالظواهر حجّة بالنسبة إليه من باب الظنّ الخاصّ ـ سواء كان مخاطبا كما في الخطابات الشفاهيّة ، أم لا كما في الناظر في الكتب المصنّفة لرجوع كلّ من ينظر إليها ـ وبين من لم يقصد إفهامه بالخطاب ، كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الأئمّة عليهم‌السلام الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين ، وبالنسبة إلى الكتاب العزيز بناء على عدم كون خطاباته موجّهة إلينا وعدم كونه من باب تأليف المصنّفين ، فالظهور اللفظيّ ليس حجّة حينئذ لنا ، إلاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيته عند انسداد باب العلم.

توجيه هذا التفصيل :

ويمكن توجيه هذا التفصيل : بأنّ الظهور اللفظيّ ليس حجّة إلاّ من باب الظنّ النوعيّ ، وهو كون اللفظ بنفسه ـ لو خلّي وطبعه ـ مفيدا للظنّ بالمراد ، فإذا (٤) كان مقصود المتكلّم من الكلام إفهام من يقصد

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) القوانين ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٣.

(٣) القوانين ٢ : ١٠٣.

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ص) و (ل) : «فإن».

١٦٠