فرائد الأصول - ج ١

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ١

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-02-0
الصفحات: ٦٤٨

نفس الموضوع ، وإنّما يوجب جعل أحكامه ، فيترتّب عليه الحكم ما دامت الأمارة قائمة عليه ، فإذا فقدت الأمارة وحصل العلم بعدم ذلك الموضوع ، ترتّب عليه في المستقبل جميع أحكام عدم ذلك الموضوع من أوّل الأمر ، فكذلك حال الأمر بالعمل على الأمارة القائمة على الحكم.

وحاصل الكلام في الفرق : ثبوت الفرق الواضح بين جعل مدلول الأمارة حكما واقعيّا والحكم بتحقّقه واقعا عند قيام الأمارة ، وبين الحكم واقعا بتطبيق العمل على الحكم الواقعي المدلول عليه بالأمارة ، كالحكم واقعا بتطبيق العمل على طبق الموضوع الخارجي الذي قامت عليه الأمارة.

وأمّا قولك (١) : إنّ مرجع تدارك مفسدة مخالفة الحكم الواقعي بالمصلحة الثابتة في العمل على طبق مؤدّى الأمارة إلى التصويب الباطل ؛ نظرا إلى خلوّ الحكم الواقعي حينئذ عن المصلحة الملزمة التي تكون في فوتها المفسدة ، ففيه :

منع كون هذا تصويبا ؛ كيف والمصوّبة يمنعون حكم الله في الواقع ، فلا يعقل عندهم إيجاب العمل بما جعل طريقا إليه والتعبّد بترتيب آثاره في الظاهر ، بل التحقيق عدّ مثل هذا من وجوه الردّ على المصوّبة.

إشكال الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

وأمّا ما ذكر (٢) : من أنّ الحكم الواقعي إذا كان مفسدة مخالفته متداركة بمصلحة العمل (٣) على طبق الأمارة ، فلو بقي في الواقع كان حكما بلا صفة ، وإلاّ ثبت انتفاء الحكم في الواقع ، وبعبارة اخرى : إذا

__________________

(١) في (ص) بدل «قولك» : «توهّم».

(٢) في (ت) : «وأمّا ما ذكره».

(٣) كذا في (ص) وفي غيرها : «الفعل».

١٢١

فرضنا الشيء في الواقع واجبا وقامت أمارة على تحريمه ، فإن لم يحرم ذلك الفعل لم يجب العمل بالأمارة ، وإن حرم ، فإن بقي الوجوب لزم اجتماع الحكمين المتضادّين ، وإن انتفى ثبت انتفاء الحكم الواقعيّ ، ففيه :

جواب الإشكال

أنّ المراد بالحكم الواقعيّ الذي يلزم بقاؤه ، هو الحكم المتعيّن (١) المتعلّق بالعباد (٢) الذي يحكي عنه الأمارة ويتعلّق به العلم أو (٣) الظنّ وامر السفراء بتبليغه ، وإن لم يلزم امتثاله فعلا في حقّ من قامت عنده أمارة على خلافه ، إلاّ أنّه يكفي في كونه حكمه (٤) الواقعي : أنّه لا يعذر فيه إذا كان عالما به أو جاهلا مقصّرا ، والرخصة في تركه عقلا كما في الجاهل القاصر ، أو شرعا كمن قامت عنده أمارة معتبرة على خلافه.

حال الأمارة على الموضوعات الخارجيّة

وممّا ذكرنا يظهر حال الأمارة على الموضوعات الخارجيّة ؛ فإنّها من هذا (٥) القسم الثالث.

والحاصل : أنّ المراد بالحكم الواقعي ، هي (٦) : مدلولات الخطابات الواقعيّة الغير المقيّدة بعلم المكلّفين ولا بعدم قيام الأمارة على خلافها ، و (٧) لها آثار عقليّة وشرعيّة تترتّب عليها عند العلم بها أو قيام أمارة

__________________

(١) في (ت) و (ل) زيادة : «المنزل» ، وفي نسخة بدل (ص) و (م) بدل «المتعيّن» : «المنزل».

(٢) لم ترد «المتعلّق بالعباد» في (ت) و (ل) ، نعم وردت في نسخة بدل (ل).

(٣) في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) بدل «أو» : «و».

(٤) في (ر) و (ه) ومصحّحة (ت) : «الحكم».

(٥) لم ترد «هذا» في (ر) و (ص).

(٦) في (ت) ، (ر) و (ظ) : «هو».

(٧) لم ترد «و» في (ر) ، (ظ) و (م).

١٢٢

حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع ، نعم هذه ليست أحكاما فعليّة بمجرّد وجودها الواقعي.

وتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ ما ذكره ابن قبة ـ من استحالة التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة الغير العلميّة ـ ممنوع على إطلاقه ، وإنّما يقبح (١) إذا ورد التعبّد على بعض الوجوه ، كما تقدّم تفصيل ذلك.

القول بوجوب التعبّد بالأمارة والمناقشة فيه

ثمّ إنّه ربما ينسب إلى بعض (٢) : إيجاب التعبّد بخبر الواحد أو مطلق الأمارة على الله تعالى ، بمعنى قبح تركه منه ، في مقابل قول ابن قبة.

فإن أراد (٣) به وجوب إمضاء حكم العقل بالعمل به عند عدم التمكّن من العلم وبقاء التكليف ، فحسن.

وإن أراد (٤) وجوب الجعل بالخصوص في حال الانسداد ، فممنوع ؛ إذ جعل الطريق بعد انسداد باب العلم إنّما يجب عليه إذا لم يكن هناك طريق عقليّ وهو الظنّ ، إلاّ أن يكون لبعض الظنون في نظره خصوصيّة (٥).

وإن أراد حكم صورة الانفتاح :

__________________

(١) في (ص) و (ظ) : «يصحّ» ، وفي غيرهما ونسخة بدل (ص) ما أثبتناه.

(٢) حكي هذا المذهب عن ابن سريج وغيره ، انظر العدّة ١ : ٩٨ ، والمعتمد للبصري ٢ : ١٠٦ ، والإحكام للآمدي ٢ : ٦٥.

(٣) في (ر) ، (ظ) ، (ل) و (م) : «اريد».

(٤) في (ظ) و (م) : «اريد».

(٥) لم ترد «إلاّ أن ـ إلى ـ خصوصيّة» في (ظ) ، (ل) و (م).

١٢٣

فإن أراد وجوب التعبّد العينيّ فهو غلط ؛ لجواز تحصيل العلم معه قطعا.

وإن أراد وجوب التعبّد به تخييرا ، فهو ممّا لا يدركه العقل ؛ إذ لا يعلم العقل بوجود مصلحة في الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع التي تفوت بالعمل بالأمارة.

اللهمّ إلاّ أن يكون في تحصيل العلم حرج يلزم في العقل رفع إيجابه بنصب أمارة هي أقرب من غيرها إلى الواقع أو أصحّ في نظر الشارع من غيره في مقام البدليّة عن الواقع ، وإلاّ فيكفي إمضاؤه للعمل بمطلق الظنّ كصورة الانسداد (١).

__________________

(١) لم ترد في (ظ) و (م) : «وإلاّ فيكفي ـ إلى ـ الانسداد» ، ولم ترد في (ل) : «عن الواقع ـ إلى ـ الانسداد» ، وفي (ه) زيادة : «أو في الجملة».

١٢٤

[المقام الثاني](١)

في وقوع التعبّد بالظنّ

ثمّ إذا تبيّن عدم استحالة تعبّد الشارع بغير العلم ، وعدم القبح فيه ولا في تركه ، فيقع الكلام في المقام الثاني (٢) في وقوع التعبّد به في الأحكام الشرعيّة مطلقا ، أو في الجملة.

وقبل الخوض في ذلك ، لا بدّ من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعوّل عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقا أو في الجملة ، فنقول :

أصالة حرمة العمل بالظنّ للأدلّة الأربعة

التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل ، محرّم بالأدلّة الأربعة.

ويكفي من الكتاب : قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٣).

دلّ على أنّ ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع ، فهو افتراء.

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) تقدّم الكلام في المقام الأول في الصفحة ١٠٥.

(٣) يونس : ٥٩.

١٢٥

ومن السنّة : قوله عليه‌السلام في عداد القضاة من أهل النار : «ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» (١).

ومن الإجماع : ما ادّعاه الفريد البهبهاني في بعض رسائله : من كون عدم الجواز بديهيّا عند العوامّ فضلا عن العلماء (٢).

ومن العقل : تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان جاهلا (٣) مع التقصير.

نعم ، قد يتوهّم متوهّم : أنّ الاحتياط من هذا القبيل.

وهو غلط واضح ؛ إذ فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّه منه مع عدم العلم بأنّه منه ، وبين الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه أو رجاء كونه منه ، وشتّان ما بينهما ؛ لأنّ العقل يستقلّ بقبح الأوّل وحسن الثاني.

والحاصل : أنّ المحرّم هو العمل بغير العلم متعبّدا به ومتديّنا به ، وأمّا العمل به من دون تعبّد بمقتضاه :

فإن كان لرجاء إدراك الواقع ، فهو حسن ما لم يعارضه احتياط آخر ولم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافه ، كما لو ظنّ الوجوب واقتضى الاستصحاب الحرمة ؛ فإنّ الإتيان بالفعل محرّم وإن لم يكن على وجه التعبّد بوجوبه والتديّن به.

وإن لم يكن لرجاء إدراك الواقع :

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١١ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

(٢) انظر الرسائل الاصوليّة : ١٢.

(٣) كذا في (ظ) ، (ل) ، (م) ، (ه) ونسخة بدل (ت) ، وفي غيرها : «عن جهل».

١٢٦

فإن لزم منه طرح أصل دلّ الدليل على وجوب الأخذ به حتّى يعلم خلافه ، كان محرّما أيضا ؛ لأنّ فيه طرحا للأصل الواجب العمل ، كما فيما ذكر من مثال كون الظنّ بالوجوب على خلاف استصحاب التحريم.

وإن لم يلزم منه ذلك جاز العمل ، كما لو ظنّ بوجوب ما تردّد بين الحرمة والوجوب ، فإنّ الالتزام بطرف الوجوب لا على أنّه حكم الله المعيّن جائز. لكن في تسمية هذا عملا بالظنّ مسامحة ، وكذا في تسمية الأخذ به من باب الاحتياط.

وبالجملة : فالعمل بالظنّ إذا لم يصادف الاحتياط محرّم إذا وقع على وجه التعبّد به والتديّن ، سواء استلزم طرح الأصل أو الدليل الموجود في مقابله أم لا ، وإذا وقع على غير وجه التعبّد به فهو محرّم إذا استلزم طرح ما يقابله من الاصول والأدلّة المعلوم وجوب العمل بها (١).

تقرير هذا الأصل بوجوه أخر والمناقشة فيها

هذا ، وقد يقرّر الأصل هنا بوجوه أخر :

منها : أنّ الأصل عدم الحجّية ، وعدم وقوع التعبّد به وإيجاب العمل به.

وفيه : أنّ الأصل وإن كان ذلك ، إلاّ أنّه لا يترتّب على مقتضاه شيء ؛ فإنّ حرمة العمل (٢) يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبّد ،

__________________

(١) لم ترد في (ه) : «المعلوم وجوب العمل بها» ، وشطب عليها في (ت) ، ووردت بدلها فيهما : «الموجودة في مورده» ، وفي هامش (ص) : «الموجودة في مورده ، خ».

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «بالظنّ» ، وشطب عليها في (ت).

١٢٧

من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ليحتاج في ذلك إلى الأصل ، ثمّ إثبات الحرمة.

والحاصل : أنّ أصالة عدم الحادث إنّما يحتاج إليها في الأحكام المترتّبة على عدم ذلك الحادث ، وأمّا الحكم المترتّب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيه الشكّ فيه ، ولا يحتاج إلى إحراز عدمه بحكم الأصل.

وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ ؛ فإنّه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمّة ، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ ، فافهم.

الوجه الثاتي والناقشة فبه

ومنها : أنّ الأصل هي إباحة العمل بالظنّ ؛ لأنّها الأصل في الأشياء ، حكاه بعض عن السيّد المحقّق الكاظمي (١).

وفيه ـ على تقدير صدق النسبة ـ :

أوّلا : أنّ إباحة التعبّد بالظنّ غير معقول ؛ إذ لا معنى لجواز التعبّد وتركه لا إلى بدل ، غاية الأمر التخيير بين التعبّد بالظنّ والتعبّد بالأصل أو الدليل الموجود هناك (٢) في مقابله (٣) الذي يتعيّن الرجوع إليه لو لا الظنّ ، فغاية الأمر وجوب التعبّد به أو بالظنّ تخييرا ، فلا معنى للإباحة التي هي الأصل في الأشياء.

__________________

(١) حكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٥٢ ، وانظر الوافي للمحقّق الكاظمي (مخطوط) : الورقة ٢٩.

(٢) لم ترد «هناك» في (ل) ، وردت بدلها في (ت) ، (ظ) ، (م) و (ه) : «هنالك».

(٣) لم ترد «في مقابله» في (ظ) و (م) ، وكتب عليها في (ت) : «زائد».

١٢٨

وثانيا : أنّ أصالة الإباحة إنّما هي فيما لا يستقلّ العقل بقبحه ، وقد عرفت استقلال العقل بقبح التعبّد بالظنّ من دون العلم بوروده من الشارع.

الوجه الثالث والناقشة فبه

ومنها : أنّ الأمر في المقام دائر بين الوجوب والتحريم ، ومقتضاه التخيير أو ترجيح جانب التحريم ؛ بناء على أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وفيه : منع الدوران ؛ لأنّ عدم العلم بالوجوب كاف في ثبوت التحريم ؛ لما عرفت (١) : من إطباق الأدلّة الأربعة على عدم جواز التعبّد بما لم يعلم (٢) وجوب التعبّد (٣) به من الشارع ؛ ألا ترى : أنّه إذا دار الأمر بين رجحان عبادة وحرمتها ، كفى عدم ثبوت الرجحان في ثبوت حرمتها.

الوجه الرابع والناقشة فبه

ومنها : أنّ الأمر في المقام دائر بين وجوب تحصيل مطلق الاعتقاد بالأحكام الشرعيّة المعلومة إجمالا ، وبين وجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ، فيرجع إلى الشكّ في المكلّف به وتردّده بين التخيير والتعيين ، فيحكم بتعيين تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ؛ تحصيلا لليقين بالبراءة ، خلافا لمن لم يوجب ذلك في مثل المقام.

وفيه :

أوّلا : أنّ وجوب تحصيل الاعتقاد بالأحكام مقدّمة عقليّة للعمل

__________________

(١) راجع الصفحة ١٢٥.

(٢) كذا في (ظ) و (م) ، وفي غيرهما : «لا يعلم».

(٣) لم ترد عبارة : «بما لم يعلم وجوب التعبّد» في (ه).

١٢٩

بها وامتثالها ، فالحاكم بوجوبه هو العقل ، ولا معنى لتردّد العقل في موضوع حكمه ، وأنّ الذي حكم هو بوجوبه تحصيل مطلق الاعتقاد أو خصوص العلم ، بل إمّا أن يستقلّ بوجوب تحصيل خصوص الاعتقاد القطعي ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإمّا أن يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد. ولا يتصوّر الإجمال في موضوع الحكم العقلي ؛ لأنّ التردّد في الموضوع يستلزم التردّد في الحكم ، وهو لا يتصوّر من نفس الحاكم ، وسيجيء الإشارة إلى هذا في ردّ من زعم أنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة مجملة ، مع عدّه دليل الانسداد دليلا عقليّا وحكما يستقلّ به العقل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ العمل بالظنّ في مورد مخالفته للاصول والقواعد ـ الذي هو محلّ الكلام ـ مخالفة قطعيّة لحكم الشارع بوجوب الأخذ بتلك الاصول حتّى يعلم خلافها ، فلا حاجة في ردّه إلى مخالفته لقاعدة الاشتغال الراجعة إلى قدح المخالفة الاحتماليّة للتكليف المتيقّن.

مثلا : إذا فرضنا أنّ الاستصحاب يقتضي الوجوب ، والظنّ حاصل بالحرمة ، فحينئذ يكون العمل بالظنّ مخالفة قطعيّة لحكم الشارع بعدم نقض اليقين بغير اليقين ، فلا يحتاج إلى تكلّف أنّ التكليف بالواجبات والمحرّمات يقينيّ ، ولا نعلم كفاية تحصيل مطلق الاعتقاد الراجح فيها ، أو وجوب تحصيل الاعتقاد القطعيّ وأنّ في تحصيل الاعتقاد الراجح مخالفة احتماليّة للتكليف المتيقّن ، فلا يجوز ، فهذا أشبه شيء بالأكل من القفا.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكرنا في بيان الأصل هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، وحاصله :

١٣٠

أنّ التعبّد بالظنّ مع الشكّ في رضا الشارع بالعمل به في الشريعة تعبّد بالشكّ ، وهو باطل عقلا ونقلا ، وأمّا مجرّد العمل على طبقه ، فهو محرّم إذا خالف أصلا من الاصول اللفظيّة أو العمليّة الدالّة على وجوب الأخذ بمضمونها حتّى يعلم الواقع (١).

للحرمة في العمل بالظنّ جهتان

فالعمل بالظنّ قد تجتمع فيه جهتان للحرمة ، كما إذا عمل به ملتزما أنّه حكم الله وكان العمل (٢) مخالفا لمقتضى الاصول.

وقد تتحقّق فيه جهة واحدة ، كما إذا خالف الأصل ولم يلتزم بكونه حكم الله ، أو التزم ولم يخالف مقتضى الاصول.

وقد لا يكون فيه عقاب أصلا ، كما إذا لم يلتزم بكونه حكم الله ولم يخالف أصلا ، وحينئذ قد يستحقّ عليه (٣) الثواب ، كما إذا عمل به على وجه الاحتياط.

هذا ، ولكن حقيقة العمل بالظنّ هو الاستناد إليه في العمل والالتزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه ، فالعمل على ما يطابقه بلا استناد إليه ليس عملا به ، فصحّ أن يقال : إنّ العمل بالظنّ والتعبّد به حرام مطلقا ، وافق الاصول أو خالفها ، غاية الأمر أنّه إذا خالف الاصول يستحقّ العقاب من جهتين : من جهة الالتزام (٤) والتشريع ، ومن جهة طرح الأصل المأمور بالعمل به حتّى يعلم بخلافه.

__________________

(١) كذا في (ص) و (ظ) وظاهر (ل) ، وفي غيرها : «الرافع».

(٢) في (ر) ، (ص) و (ظ) زيادة : «به».

(٣) في (ت) و (ه) : «عمله».

(٤) في (ظ) : «الافتراء».

١٣١

وقد اشير في الكتاب والسنّة إلى الجهتين :

الإشارة إلى هاتين الجهتين في الكتاب والسنّة

فممّا اشير فيه إلى الاولى قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(١) بالتقريب المتقدّم ، وقوله عليه‌السلام : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» (٢).

وممّا اشير فيه إلى الثانية قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٣) ، وقوله عليه‌السلام : «من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه» (٤) ، ونفس أدلّة الاصول.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الحرمة من جهتين مبنيّ على ما هو التحقيق : من أنّ اعتبار الاصول ـ لفظيّة كانت أو عمليّة ـ غير مقيّد بصورة عدم الظنّ على خلافها ، وأمّا إذا قلنا باشتراط عدم كون الظنّ على خلافها ، فلقائل أن يمنع أصالة حرمة العمل بالظنّ مطلقا ، لا على وجه الالتزام ولا على غيره.

أمّا مع عدم تيسّر العلم في المسألة ؛ فلدوران الأمر فيها بين العمل بالظنّ وبين الرجوع إلى الأصل الموجود في تلك المسألة على خلاف الظنّ ، وكما لا دليل على التعبّد بالظنّ كذلك لا دليل على التعبّد بذلك الأصل ؛ لأنّه المفروض ، فغاية الأمر التخيير بينهما ، أو تقديم الظنّ ؛ لكونه أقرب إلى الواقع ، فيتعيّن بحكم العقل.

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) الوسائل ١٨ : ١١ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

(٣) يونس : ٣٦.

(٤) المستدرك ١٧ : ٢٤٨ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤.

١٣٢

وأمّا مع التمكّن من العلم في المسألة ؛ فعدم (١) جواز الاكتفاء فيها بتحصيل الظنّ ووجوب تحصيل اليقين ، مبنيّ على القول بوجوب تحصيل الواقع علما ، أمّا إذا ادّعي أنّ العقل لا يحكم بأزيد من وجوب تحصيل الظنّ ، وأنّ الضرر الموهوم لا يجب دفعه ، فلا دليل على لزوم تحصيل العلم مع التمكّن.

الاستدلال على أصالة الحرمة بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ

ثمّ إنّه ربما يستدلّ على أصالة حرمة العمل بالظنّ بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ (٢) ، وقد أطالوا الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام (٣) بما لا ثمرة مهمّة في ذكره بعد ما عرفت.

لأنّه إن اريد الاستدلال بها على حرمة التعبّد والالتزام والتديّن بمؤدّى الظنّ ، فقد عرفت (٤) أنّه من ضروريّات العقل ، فضلا عن تطابق الأدلّة الثلاثة النقليّة عليه.

وإن اريد دلالتها على حرمة العمل المطابق للظنّ وإن لم يكن عن استناد إليه :

فإن اريد حرمته إذا خالف الواقع مع التمكّن من العلم به ، فيكفي في ذلك الأدلّة الواقعية.

وإن اريد حرمته إذا خالف الاصول مع عدم التمكّن من العلم ، فيكفي فيه ـ أيضا ـ أدلّة الاصول ؛ بناء على ما هو التحقيق : من أنّ

__________________

(١) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «فلأنّ عدم».

(٢) يونس : ٣٦ ، والإسراء : ٣٦.

(٣) انظر مفاتيح الاصول : ٤٥٣ ، ومناهج الأحكام : ٢٥٥.

(٤) راجع الصفحة ١٢٥ ـ ١٢٦.

١٣٣

مجاريها صور عدم العلم الشامل للظنّ.

وإن اريد حرمة العمل المطابق للظنّ من دون استناد إليه وتديّن به ، وعدم مخالفة العمل للواقع مع التمكّن منه ولا لمقتضى الاصول مع العجز عن الواقع ، فلا دلالة فيها ولا في غيرها على حرمة ذلك ، ولا وجه لحرمته أيضا.

والظاهر : أنّ مضمون الآيات هو التعبّد بالظنّ والتديّن به ، وقد عرفت أنّه ضروريّ التحريم ، فلا مهمّ في إطالة الكلام في دلالة الآيات وعدمها.

موضوع هذه الرسالة هي الظنون المعتبرة الخارجة عن الأصل المتقدّم

إنّما المهمّ ـ الموضوع له هذه الرسالة (١) ـ بيان ما خرج أو قيل بخروجه من هذا الأصل ، من الامور الغير العلميّة الّتي اقيم الدليل على اعتبارها مع قطع النظر عن انسداد باب العلم الذي جعلوه موجبا للرجوع إلى الظنّ مطلقا أو في الجملة ، وهي امور :

__________________

(١) في (ه) بدل «هذه الرسالة» : «هذا المقصد».

١٣٤

[الأمارات المستعملة في استنباط الأحكام]

[من ألفاظ الكتاب والسنّة](١)

منها : الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة.

وهي على قسمين :

القسم الأوّل : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والإطلاق ، ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة ، وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشائع بناء على عدم وصوله إلى حدّ الوضع ، وكالقرائن المقاميّة التي يعتمدها أهل اللسان (٢) في محاوراتهم ، كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر ، ونحو ذلك ، وبالجملة : الامور المعتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم بحيث لو أراد المتكلّم القاصد للتفهيم خلاف مقتضاها من دون نصب قرينة معتبرة ، عدّ ذلك منه قبيحا.

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ظ) و (م) بدل «أهل اللسان» : «العقلاء» ، وفي (ت) و (ه) : «عقلاء أهل اللسان».

١٣٥

و (١) القسم الثاني : ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ ، وتمييز (٢) مجازاتها من حقائقها ، وظواهرها عن خلافها ، كتشخيص أنّ لفظ «الصعيد» موضوع لمطلق وجه الأرض أو التراب الخالص؟ وتعيين أنّ وقوع الأمر عقيب توهّم الحظر هل يوجب ظهوره في الإباحة المطلقة؟ وأنّ الشهرة في المجاز المشهور هل توجب احتياج الحقيقة إلى القرينة الصارفة عن الظهور العرضي المسبّب من الشهرة ، نظير احتياج المطلق المنصرف إلى بعض أفراده؟

وبالجملة : فالمطلوب في هذا القسم أنّ اللفظ ظاهر في هذا المعنى أو غير ظاهر؟ وفي القسم الأوّل أنّ الظاهر المفروغ عن كونه ظاهرا مراد أو لا؟

والشكّ في الأوّل مسبّب عن الأوضاع اللغوية والعرفية ، وفي الثاني عن اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه.

فالقسمان من قبيل الصغرى والكبرى لتشخيص المراد (٣).

__________________

(١) لم ترد «و» في (ر) ، (ظ) و (م).

(٢) كذا في (ت) ، (ظ) و (ه) ، وفي غيرها : «تشخيص».

(٣) لم ترد «فالقسمان ـ إلى ـ المراد» في (ت) و (ه) ، وكتب عليها في (ص) : «زائد».

١٣٦

أمّا القسم الأوّل :

ما يستعمل لتشخيص مراد المتكلم

فاعتباره في الجملة ممّا (١) لا إشكال فيه ولا خلاف ؛ لأنّ المفروض كون تلك الامور معتبرة عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم ، ومن المعلوم بديهة أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقا مخترعا مغايرا لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم.

وإنّما الخلاف والإشكال وقع في موضعين :

الخلاف في موضعين :

أحدهما : جواز العمل بظواهر الكتاب.

والثاني : أنّ العمل بالظواهر مطلقا في حقّ غير المخاطب بها قام الدليل عليه بالخصوص ـ بحيث لا يحتاج إلى إثبات انسداد باب العلم في الأحكام الشرعيّة ـ أم لا؟

والخلاف الأوّل ناظر إلى عدم كون المقصود بالخطاب استفادة المطلب منه مستقلا.

والخلاف الثاني ناظر إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان اعتماد غير من قصد إفهامه بالخطاب على ما يستفيده من الخطاب بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب.

فمرجع كلا الخلافين إلى منع الصغرى. وأمّا الكبرى ـ أعني كون الحكم عند الشارع في استنباط مراداته من خطاباته المقصود بها التفهيم ، ما هو المتعارف عند أهل اللسان في الاستفادة ـ فممّا لا خلاف فيه ولا إشكال.

__________________

(١) لم ترد «ممّا» في (ت) ، (ر) و (ل).

١٣٧
١٣٨

[١ ـ حجّية ظواهر الكتاب](١)

أمّا الكلام في الخلاف الأوّل ، فتفصيله :

عدم حجّية ظواهر الكتاب عند جماعة من الأخباريين

أنّه ذهب جماعة من الأخباريّين (٢) إلى المنع عن العمل بظواهر الكتاب من دون ما يرد التفسير وكشف المراد عن الحجج المعصومين صلوات الله عليهم.

وأقوى ما يتمسّك لهم على ذلك وجهان :

الدليل الاول : الاستدلال على ذلك بالأخبار

أحدهما : الأخبار المتواترة المدّعى ظهورها في المنع عن ذلك :

مثل النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (٣).

وفي رواية اخرى : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ ...» (٤).

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) انظر الفوائد المدنيّة : ١٧ و ١٢٨ ، وشرح الوافية (مخطوط) : ١٣٧ ـ ١٥٠ ، والحدائق : ٢٧ ـ ٣٥ ، والدرر النجفيّة : ١٦٩ ـ ١٧٤ ، والفوائد الطوسيّة : ١٨٦.

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ١٠٤ ، الحديث ١٥٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٤٠ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥.

١٣٩

وفي نبويّ ثالث : «من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب» (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ سقط (٢) أبعد من السماء» (٣).

وفي النبويّ العامّي : «من فسّر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (٤).

وعن مولانا الرضا عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عزّ وجلّ قال في الحديث القدسيّ : ما آمن بي من فسّر كلامي برأيه ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني» (٥).

وعن تفسير العياشي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ، ومن فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر» (٦).

وعن مجمع البيان : أنّه قد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمة القائمين

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٤٠ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧.

(٢) في (م) بدل «سقط» : «لقد» ، وفي الوسائل : «خرّ».

(٣) الوسائل ١٨ : ١٤٩ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٦.

(٤) الوسائل ١٨ : ١٥١ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٩ ، وفيه : «فأصاب الحقّ».

(٥) الوسائل ١٨ : ٢٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢.

(٦) تفسير العياشي ١ : ١٨ ، الحديث ٦ ، والوسائل ١٨ : ٣٩ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥.

١٤٠