دلائل الصدق لنهج الحق - المقدمة

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - المقدمة

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-354-3
الصفحات: ٣٠٧

١
٢

٣
٤

أجلى البرهان

في نقد كتاب ابن روزبهان

بقلم

السيّد علي الحسيني الميلاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

أمّا بعد ...

فقد كنت سجّلت سابقا ملحوظات على كتاب ابن روزبهان في الردّ على نهج الحقّ للعلّامة الحلّي رحمه الله تعالى ، فلمّا عزمت مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث على تحقيق كتاب دلائل الصدق لنهج الحقّ طلبت منّي تنظيم تلك الملحوظات وترتيبها ، لتكون مقدّمة له ، فأجبت

٥

الطلب أداء لبعض ما وجب ..

وكان عنوان ما كتبته : أجلى البرهان في نقد كتاب ابن روزبهان ، وهو يشتمل على مطالب تمهيدية في أصول البحث والمناقشة ، وفي علم الكلام ، وفي خصوص الإمامة ، ثمّ دراسات في مباحث الإمامة من كتاب ابن روزبهان ، فأقول وبالله التوفيق :

إنّ صاحب أيّة فكرة أو عقيدة أو رأي يرى من حقّه الطبيعي أن ينشرها بين الناس ويدعو الآخرين إليها ..

إلّا أنّ لتقدّمه ونجاحه في مشروع الدعوة هذه شروطا ، كما أنّ دعوته إلى فكره بحاجة إلى أدوات .. لا سيّما إذا كان في مقابل رأيه رأي آخر وله أتباع يدعون إليه .. فيقع الصراع العقيدي والفكري بين الجانبين ، لأنّ كلّا منهما يدّعي الحقّ والصواب ، ويحاول التغلّب على الآخر والسيطرة عليه فكريا.

إنّ للتغلّب في ميدان الصراع العقيدي أصولا وأدوات تختلف عنها في ميدان الحرب والمواجهة العسكرية .. نوضّحها في ما يأتي :

علم الجدل :

لقد وضع العقلاء ـ وهم أصحاب الأفكار والآراء ـ حدودا وقيودا للصراع في هذا المجال ، وأسّسوا للغلبة فيه أسسا جعلوها المعيار والميزان للرضوخ لفكر أو لرفض فكر آخر ... فكانت أساليب « الجدل » التي بحث عنها ونقّحت مسائلها في كتب المنطق.

ولقد أحسنوا في اختيار هذا المصطلح لهذا العلم أو لهذه الصناعة ،

٦

لشدّة ارتباط المعنى اللغوي للكلمة بالغرض المنطقي منها ..

قال الراغب الأصفهاني : « الجدال : المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدلت الحبل ، أي : أحكمت فتله ، ومنه الجديل ، وجدلت البناء أحكمته ، ودرع مجدولة ، والأجدل : الصقر المحكم البنية ، والمجدل : القصر المحكم البناء.

ومنه : الجدال ، فكأنّ المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه.

وقيل : الأصل في الجدال الصراع ، وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة ، وهي الأرض الصلبة » (١).

الجدل في القرآن :

ولقد أقرّت الأديان السماوية أسلوب « الجدل » واتّخذه الأنبياء السابقون طريقا من طرق الدعوة .. وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من ذلك كما سيأتي ..

وأمّا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي الوقت الذي أرسل كما خاطبه الله عزّ وجلّ في الآية المباركة : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) (٢) فقد حدّد له كيفية الدعوة وأداتها بقوله له : ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (٣) ثمّ أمره بالجدال حين يكون هناك جدال منهم ، فقال بعد

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن : ٨٧ مادّة « جدل ».

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٤٥ و ٤٦.

(٣) سورة النحل ١٦ : ١٢٥.

٧

ذلك : ( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١).

وفي الجملة ، فإنّ الوظيفة الأوّلية هي البلاغ والدعوة إلى سبيل الله ، فإن كان هناك من تنفعه « الحكمة » فبها ، وإن كان من عموم الناس فبالنصيحة والموعظة الحسنة ، فإن وجد في القوم من يريد الوقوف أمامه أو التغلّب عليه وجب عليه جداله ..

ولعلّ المقصود ـ هنا ـ أهل الكتاب ، كما في الآية الأخرى : ( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢).

وعلى ضوء ما تقدّم ، فإنّ الجدال قد يكون حقّا وقد يكون باطلا ، قال تعالى : ( وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ) (٣).

وهناك في القرآن الكريم موارد من تعليم الله سبحانه النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريقة الاستدلال ، ففي سورة يس مثلا : ( وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَ وَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٤).

وفي سورة البقرة : ( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ

__________________

(١) سورة النحل ١٦ : ١٢٥.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ٤٦.

(٣) سورة الكهف ١٨ : ٥٦.

(٤) سورة يس ٣٦ : ٧٨ ـ ٨٣.

٨

نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١).

وفي سورة البقرة أيضا : ( قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ) (٢).

وفي سورة المائدة : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٣).

وفي سورة المائدة أيضا : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ... ) (٤).

وفي سورة الأنعام : ( قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا ... ) (٥).

وفي سورة الأنبياء : ( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ... أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ... ) (٦).

كما جاءت في القرآن الكريم موارد كثيرة من مجادلات واحتجاجات الأنبياء السابقين ..

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١١١.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٩٤.

(٣) سورة المائدة ٥ : ١٧.

(٤) سورة المائدة ٥ : ١٨.

(٥) سورة الأنعام ٦ : ٧١.

(٦) سورة الأنبياء ٢١ : ٢١ ـ ٢٤.

٩

ففي قضايا إبراهيم عليه‌السلام .. قال تعالى : ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١).

وقال تعالى : ( وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (٢).

وقال سبحانه وتعالى : ( قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ * قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ * قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) (٣).

وفي قضايا نوح عليه‌السلام .. قال تعالى : ( قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ )

( ... قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا ... ) (٤).

وهكذا .. في قضايا سائر الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٥٨.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ٨٠.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ : ٦٢ ـ ٦٧.

(٤) سورة هود ١١ : ٢٨ ـ ٣٢.

١٠

أجمعين.

الجدل بالحقّ : إقامة الحجّة المعتبرة :

ثمّ إنّه قد جاء التعبير عن « الجدال بالباطل » ب‍ « الجدال بغير سلطان » في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ ) (١) و « السلطان » هو « الحجّة » سمّيت به لسيطرتها وتسلّطها على القلوب (٢).

ومنه يفهم أنّ المراد من « الجدال بالحقّ » ، هو « الجدال بالحجّة ».

لكنّ « الحجّة » إنّما يحصل لها « السلطان » على القلوب إذا كانت ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٣) فلذا أمر الله تعالى بذلك ..

و في هذا إشارة إلى آداب البحث والمناظرة والجدل ..

لقد فسّرت الكلمة ب‍ : الطريقة التي هي أصلح وأقرب للنتيجة والنفع (٤) .. وهو تفسير صحيح يتناسب مع المواضع المختلفة التي استعملت فيها الكلمة في القرآن الكريم ..

قال تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) (٥).

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ : ٥٦.

(٢) انظر : المفردات في غريب القرآن : ٢٤٤ مادّة « سلط ».

(٣) سورة النحل ١٦ : ١٢٥.

(٤) انظر ما يقرب من ذلك في : تفسير الكشّاف ٢ / ٤٣٥ ، تفسير البحر المحيط ٥ / ٥٤٩ ، تفسير الطبري ١٠ / ١٤١.

(٥) سورة الأنعام ٦ : ١٥٢ ، سورة الإسراء ١٧ : ٣٤.

١١

أي : بالطريقة التي هي أعود وأنفع له (١).

وقال تعالى : ( وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ) (٢).

أي : بأن يتكلّموا مع المشركين بالطريقة التي لا تعود بالفائدة على الشيطان في تحصيل مقاصده من الوقيعة بين المؤمنين وبين المشركين (٣) ...

فالله سبحانه يريد من المؤمنين أن يكون جدالهم مقرونا بما يعينهم في إقامة الحجّة وإفحام الخصوم وظهور الحقّ على الباطل.

وتلخّص : إنّ الجدال المقبول شرعا وعقلا هو : الجدال ب‍ : الحجّة المعتبرة ، مع رعاية الآداب ..

الحجّة المعتبرة : الكتاب والسنّة :

و « الحجّة المعتبرة » عند المسلمين كافّة هو « القرآن الكريم » و « السنّة النبوية » .. وهم في كلّ مسألة يقع الجدال بينهم فيها يرجعون إلى الكتاب والسنّة ، وهذا ما أمر به الله تعالى إذ قال :

( ... فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) (٤).

وقال : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٥).

__________________

(١) انظر : تفسير الطبري ٥ / ٣٩٣ ، مجمع البيان ٤ / ١٨٣.

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ٥٣.

(٣) انظر : تفسير البحر المحيط ٦ / ٤٩ ، تفسير الكشّاف ٢ / ٤٥٣.

(٤) سورة النساء ٤ : ٥٩.

(٥) سورة النساء ٤ : ٦٥.

١٢

وقال : ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١).

فكلّ « شيء » وقع التنازع فيه بين الأمّة ، وكلّ أمر « شجر » بينهم ، يجب ردّه إلى « الله والرسول » ، وما كان لأحد منهم « إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم » ، بل « وربّك » إنّهم « لا يؤمنون » حتّى يحكّموا النبيّ ، « ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجا » ممّا قضى « ويسلّموا تسليما ».

إنّ الرجوع إلى القرآن الكريم واضح لا لبس فيه ، فالقرآن نزل ب‍ ( لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) (٢) ، فإن أمكن استظهار معنى اللفظ فيه ولو بمراجعة المعاجم اللغوية والكتب المعدّة لمعاني ألفاظه فهو .. وإلّا وجب الرجوع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبعوث به إلى الأمّة.

فالمسلمون يحتاجون إلى السنّة النبوية المعتبرة ، لكونها المصدر الثاني ، ولكونها ـ أيضا ـ المرجع لفهم ما أغلق من ألفاظ القرآن ، ومعرفة قيد ما أطلق ، أو المخصّص لما ورد ظاهرا في العموم فيه ، وهكذا ..

ف « الحجّة المعتبرة » في مقام « الجدل » هي « الكتاب والسنّة ».

أمّا « الكتاب » فلا ريب في حجّيّته ، والمسلمون متّفقون على تصديقه ، والاحتجاج به في الخصومات.

واتّفقوا أيضا على حجّيّة « السنّة » ووجوب تصديقها والاحتجاج بها ، في كلّ باب ، لكنّهم مختلفون في طريق ثبوتها .. كما هو معلوم ..

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٦.

(٢) سورة النحل ١٦ : ١٠٣.

١٣

ومن هنا وجب على « المجادل » أن يحتجّ منها بما هو حجّة على الطرف الآخر ..

وبعبارة أخرى ، فإنّ احتجاج المسلمين بعضهم على بعض في المسائل المختلفة يدور في الأغلب مدار القرآن والسنّة ، أمّا القرآن فقد اتّفقوا على حجّيّته ، وأمّا السنّة فمنها ما اتّفقوا على تصديقه ، فيكون مرجعا في الخصومة ، ومنها ما اختلفوا فيه ، وفي هذا القسم لا بدّ من أن يحتج كلّ بما يصدّقه الآخر ، وإلّا لم تكن « حجّة معتبرة » ، وهذا أمر مسلّم به عند الكلّ ، ونكتفي هنا بإيراد تصريح به من أحد مشاهير العلماء :

قال ابن حزم الأندلسي ـ في معرض الحديث عن احتجاج أهل السنّة على الإمامية ـ:

« لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا ، فهم لا يصدّقونها ، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم ، فنحن لا نصدّقها ، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجّة به ، سواء صدّقه المحتجّ أو لم يصدّقه ؛ لأنّ من صدّق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري ، فيصير حينئذ مكابرا منقطعا إن ثبت على ما كان عليه » (١).

فهذه هي « الحجّة المعتبرة » عند « الجدل بالحقّ ».

آداب المناظرة والجدل :

وأمّا الآداب التي يجب على الطرفين الالتزام بها ـ في الجدل المقصود

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٣ / ١٢.

١٤

منه تحرّي الحقّ والوصول إلى الحقيقة ـ مضافا إلى الحجّة المعتبرة ، تلك الآداب التي جاءت الإشارة إليها في القرآن الكريم ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) فأهمّها :

١ ـ أن يدلي برأيه والحجّة المعتبرة عنده بكلّ رفق وسكينة ووقار.

٢ ـ أن يختار لمطلبه الألفاظ الواضحة والعبارات الجميلة.

٣ ـ أن يجتنب السبّ والشتم.

٤ ـ أن يجتنب الأساليب الملتوية ، والخروج عن البحث ، بما يشوّش على الخصم فكره.

٥ ـ أن لا يتصرّف في كلام الخصم بزيادة فيه أو نقصان ، ولا ينسب إليه شيئا لا يقول به أو حجّة لا يعتبرها.

هذا إذا كان البحث والجدل بالكتابة.

وأمّا إذا كان بالقول ، فيضاف إليها آداب أخرى ، كأن لا يقاطعه كلامه ، وأن لا يرفع صوته إلّا بالمعروف ..

هذا ، وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ الجدل قد يكون بالحقّ ، وقد يكون بالباطل ، والجدل بالحقّ هو إقامة الحجّة المعتبرة عند الطرفين أو عند الطرف الآخر ، مع رعاية الآداب والأخلاق السامية.

ولم نكن ـ في البحث الذي عرضناه على ضوء آيات القرآن الكريم ـ بصدد التحقيق عن أنّ « علم الجدل » هو « علم المناظرة » ، أو أنّ الأوّل هو العلم الباحث عن الطرق التي يقتدر بها على إبرام ونقض حجّة الخصم ،

__________________

(١) سورة النحل ١٦ : ١٢٥.

١٥

والثاني هو العلم الباحث عن آداب المناظرة والبحث ، فإنّ العلماء اختلفوا في هذا المطلب ، لكنّه لا يعنينا الآن .. كما إنّا لم نفرّق هنا بين « الجدل » وبين « الاحتجاج » وبين « المناظرة » ، فليتنبّه إلى ذلك.

علم الكلام :

قد أشرنا إلى أنّ « علم الجدل » لا يختصّ بمطلب دون غيره ، أو مسألة دون أخرى ، فإنّه علم يستعمل في شتّى المسائل الخلافية ، من فقه وحديث وفلسفة واقتصاد وسياسة ... وغيرها من العلوم ، إذ يقيم كلّ ذي رأي حجّته المعتبرة على دعواه وما يتبنّاه ، ثمّ يتناظران طبق القواعد المقرّرة والأصول المؤسّسة ، حتّى يتميّز الحقّ عن الباطل ، والصواب من الخطأ.

ومن العلوم التي كثر الجدل في مسائلها وما يزال هو : « علم الكلام ».

تعريف علم الكلام وفائدته :

والظاهر أن لا اختلاف كبير بين العلماء في تعريف علم الكلام ، وفائدته ، والغرض من وضعه وتأسيسه.

قال القاضي عضد الدين الإيجي (١) :

__________________

(١) هو : عضد الدين ، أبو الفضل ، عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفّار بن أحمد الإيجي الشيرازي الشافعي ، القاضي ، ولد بإيج من نواحي شيراز بعد السبعمئة ، عالم بالأصول والمعاني والبيان والنحو والفقه وعلم الكلام ، له مصنّفات ، منها :

١٦

« الكلام : علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه ».

قال : « وفائدته أمور :

الأوّل : الترقّي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان.

الثاني : إرشاد المسترشدين بإيضاح المحجّة ، وإلزام المعاندين بإقامة الحجّة.

الثالث : حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين.

الرابع : أن يبنى عليه العلوم الشرعية فإنّه أساسها.

الخامس : صحّة النيّة والاعتقاد ، إذ بها يرجى قبول العمل ».

قال :

« وغاية ذلك كلّه : الفوز بسعادة الدارين » (١).

وقال سعد الدين التفتازاني (٢) :

__________________

الرسالة العضدية في الوضع ، جواهر الكلام ، الفوائد الغياثية ، شرح مختصر ابن الحاجب ، المواقف في علم الكلام.

توفّي مسجونا بقلعة دريميان سنة ٧٥٦ ه‍.

انظر : طبقات الشافعية الكبرى ـ للسبكي ـ ١٠ / ٤٦ رقم ١٣٦٩ ، الدرر الكامنة ٢ / ١٩٦ رقم ٢٢٧٩ ، معجم المؤلفين ٢ / ٧٦ رقم ٦٧٥٦ ، الأعلام ٣ / ٢٩٥.

(١) المواقف في علم الكلام : ٧ ـ ٨.

(٢) هو : سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني ، ولد بتفتازان ـ قرية كبيرة من نواحي نسا ، وراء الجبل ، من مدن خراسان ـ سنة ٧١٢ ، وقيل : ٧٢٢ ه‍ ؛ من أئمّة العربية والبيان والمنطق ، عالم بالفقه والأصول والتفسير والكلام ، له مؤلّفات كثيرة ، منها : تهذيب المنطق ، المطوّل في البلاغة ، حقائق التنقيح في الأصول ،

١٧

« الكلام هو : العلم بالعقائد الدينية عن الأدلّة اليقينية ».

قال : « وغايته : تحلية الإيمان بالإيقان ».

« ومنفعته : الفوز بنظام المعاش ، ونجاة المعاد » (١).

والفيّاض اللاهيجي (٢) ، شارح التجريد من أصحابنا ، ذكر كلا التعريفين في كتابه شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام (٣).

فالغرض الذي من أجله وضع علم الكلام من قبل علماء الإسلام هو إقامة الحجّة المعتبرة من العقل والنقل « بالتي هي أحسن » على أصول الدين ، إرشادا للمسترشدين ، وإلزاما للمعاندين ، ولتحفظ به قواعد الدين

__________________

حاشية على تفسير الكشّاف للزمخشري ، شرح العقائد النسفية ، شرح المقاصد.

توفّي بسمرقند سنة ٧٩٢ ، وقيل : ٧٩١ و ٧٩٣.

انظر : الدرر الكامنة ٤ / ٢١٤ رقم ٤٩٣٣ ، معجم البلدان ٢ / ٤١ رقم ٢٥٤٥ وج ٥ / ٣٢٥ رقم ١١٩٩٧ ، البدر الطالع ٢ / ١٦٤ رقم ٥٤٨ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦ ، الأعلام ٧ / ٢١٩.

(١) شرح المقاصد في علم الكلام ١ / ١٦٣ و ١٧٥.

(٢) هو : الشيخ عبد الرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الجيلاني ، الملقّب بالفيّاض ؛ كان عالما محقّقا مدقّقا حكيما ، من علماء الكلام ، درّس بقم ، وهو من تلامذة المولى صدر الدين محمّد الشيرازي ، وصهره على ابنته ، له مؤلّفات ، منها : شوارق الأنوار وبوارق الأسرار في الحكمة ، الكلمات الطيّبة في المحاكمة بين ملّا صدرا وبين المير داماد ، ديوان شعر فارسي ، حواش على حاشية الخضري ، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام.

قيل : توفّي سنة ١٠٥١ ، وقال آقا بزرك الطهراني : وهو اشتباه ، والصحيح أنّه توفّي سنة ١٠٧٢.

انظر : رياض العلماء ٣ / ١١٤ ، أعيان الشيعة ٧ / ٤٧٠ ، طبقات أعلام الشيعة / القرن الحادي عشر ٥ / ٣١٩ ، الذريعة ١٤ / ٢٣٨ رقم ٢٣٦٦ ، معجم المؤلّفين ٢ / ١٤١ رقم ٧١٨٥ ، الأعلام ٣ / ٣٥٢.

(٣) شوارق الإلهام ١ / ٥.

١٨

عن أن تزلزلها شبه المبطلين ، ولأنّ العقائد الدينية هي الأساس للعلوم الشرعية والأحكام العملية ، فمن صحّت عقائده قبلت أعماله الشرعية ، وكيف تقبل الأعمال عن العقائد الباطلة أو ممّن هو في شكّ من أمر دينه؟!

فعلم الكلام ـ بالنظر إلى موضوعه ـ من أهمّ العلوم الضرورية للأمّة ؛ لأنّه المتكفّل لبيان ما على المكلّفين الالتزام به من الناحية الاعتقادية ، كما أنّ علم الفقه يتكفّل بيان ما يجوز وما لا يجوز عليهم من الناحية العملية ، مع جواز التقليد فيه.

وكما أنّ بقاء الشريعة المقدّسة في أحكامها الفرعية بعلم الفقه وجهود الفقهاء فيه ، كذلك علم الكلام وآثار المتكلّمين في الحفاظ على الأصول الاعتقادية.

على إنّ من الواضح أنّه إذا استوعب الإنسان الأدلّة والبراهين على المعتقدات الحقّة الصحيحة ، تمكّن من الدفاع عنها والإجابة عن الشبهات المطروحة حولها ، بل ودعوة الآخرين إليها بالقلم واللسان ...

ومن هنا كثر اهتمام العلماء بهذا العلم ، وكثرت الكتب المؤلّفة فيه من مختلف المذاهب الإسلامية ...

من كتب الإمامية في أصول الدين :

وهذه أسماء بعض الكتب المؤلّفة في أصول الدين من قبل علماء الإمامية في مختلف القرون :

١ ـ أوائل المقالات : للشيخ أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن

١٩

النعمان البغدادي ، الملقّب بالمفيد ، المتوفّى سنة ٤١٣.

٢ ـ الذخيرة في علم الكلام : للسيّد المرتضى علم الهدى علي بن الحسين الموسوي البغدادي ، المتوفّى سنة ٤٣٦.

٣ ـ تقريب المعارف : للشيخ أبي الصلاح تقي الدين الحلبي ، المتوفّى سنة ٤٤٧.

٤ ـ كنز الفوائد : للشيخ أبي الفتح الكراجكي ، المتوفّى سنة ٤٤٩.

٥ ـ الاعتقاد الهادي إلى طريق الرشاد : للشيخ أبي جعفر الطوسي ، المتوفّى سنة ٤٦٠.

٦ ـ الاعتصام في علم الكلام : للشيخ زين الدين علي بن عبد الجليل البياضي ، من علماء القرن السادس.

٧ ـ المنقذ من التقليد : للشيخ سديد الدين محمود الحمصي الرازي ، من علماء القرن السادس.

٨ ـ التجريد : للشيخ نصير الدين محمّد بن محمّد الطوسي ، المتوفّى سنة ٦٧٢.

٩ ـ المسلك في أصول الدين : للشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر ابن الحسن ، المحقّق الحلّي ، المتوفّى سنة ٦٧٦.

١٠ ـ قواعد المرام في علم الكلام : للشيخ كمال الدين ميثم بن علي ابن ميثم البحراني ، المتوفّى سنة ٦٧٩.

١١ ـ مناهج اليقين في أصول الدين.

١٢ ـ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد.

٢٠