رحلة الكابتن فلوير

المؤلف:

بن دغار


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٥

قذر ، ورائحة كريهة. فالمظهر العام للبلدة هو مجموعة غير منتظمة من المنازل المستطيلة الشكل مبنية من الطين والتي صارت ربعها مجرد بقايا خراب. إن مبنى الوكالة الهولندية هو الآن بيت الحاكم يبهر العين ، وتحتوي البلدة على ستة أو سبعة أبراج هوائية أنشأها أغنياء البلدة. كان كل بيت له شيء أشبه بالمدخنة أو للتهوية وبغيرها لا يحتمل المكوث في أي بيت. المناخ حار وغير صحي ، خلف المدينة صحراء رملية وبحر مالح ، وجبل ضخم اسمه (جبل جينو).

إن الشيء المهم في (بندر عباس) هو الميناء على عكس «ميناب» والتي بها واد كبير وحدائق غناء ، فيها مياه وحلة ولكن لا علاقة لها بالوادي. وتقع ميناب على بعد حوالي أربعة وخمسون ميلا خلال صحراء شديدة الحرارة من (بندر عباس) وهذا سبب انسحاب التجار من (بندر عباس).

وكان «ميرزا عبد الله» وهو ممثل الحاكم من (بندر عباس) في

١٤١

(ميناب) ، وبعد أن مكثت ثلاثة أيام في البندر قمت مع مضيفي بأخذ الجمال في الساعة العاشرة مساء في أحد الليالي ، وفي الساعة السابعة مساء اليوم التالي كنا بين أشجار النخيل ثلاثة أو أربعة أميال أسفل حصن (ميناب) ، وفي صباح اليوم التالي ظهر لنا المنزل الصيفي ل «ميرزا عبد الله» كبناء ضخم وحديقة جميلة فيها أشجار الرمّان والحنّاء وكرمة العنب ، وشجر القطن ، والليمون ، والبرتقال ، وأشجار اللّوز ، وفيما كان الإفطار يجهز كنا نغتسل في النهر ، وهذا قد أنعشنا. نحن الآن تحت سلسلة من الجبال المنخفضة ، ينحدر النهر على صخور منحدرة وعرة ، يقطعه مجرى من ناحية الشرق بعمق مائة قدم. على سطح هذه الجبال وفي مكان ما هناك كان هناك معسكر ومباني كبيرة وقلعة ، وبها (أي ميناب) سوق ـ ويقام سوقها الكبير كل يوم خميس.

وعند تسلقنا كنا نتسلق الأبراج العالية للقلعة تحت إرشاد الرجل البلوشي المسؤول الحارس هناك ، ومن أعلى ذلك المكان شاهدنا منظرا مثيرا وغريبا ـ جيوش البلوش.

وعند ما أتكلم عن البلوش فإنني دائما أعني بلوش (مكران). فأصول هؤلاء مختلفة تماما وأرفع شأنا من رجال بلوشستان الشرقية. وقد كان منظرهم وهم يتدفقون كالسيل في مجرى النهر ويندفعون على الضفة أشبه بجيوش النمل. وكان حوالي مائتي شخص طويلي القامة يمشون كمجموعات في نهايته تتبعهم مجموعة من الدواب. ويحملون أغراضهم على ظهرهم ، وسيوفهم تتدلى من على أكتافهم جهة اليسار ، وكان كل منهم يحمل أيضا على الأقل مسدسا واحدا وخنجرا معلقا في خصرهم. من بين هؤلاء الرجال كان يوجد خمسون آخرون يمتطون الجمال. وهؤلاء يعتبرون جهاز الاستخبارات لأنه يمكنهم أن يقطعوا حوالي تسعين ميلا (أي

١٤٢

حوالي ١٤٠ كيلو مترا) في اليوم إذا لزم الأمر. وكانت هناك مواكب من الفرسان وتسعة أو عشرة خيول يحملون الحكام والأمراء. وفوجئت وأنا أرى من خلال المنظار الرجل طويل القامة بانحناءة ، ذا عمامة كبيرة بيضاء ، وأشيب الشعر والمحنّك القديم والذي يدعى «عبد النبي» وهو حاكم مقاطعة (جاسك) التي تقع على بعد حوالي ١٢٠ ميلا على الساحل. وعرفت لا حقا أنه استغل عدم وجود حاكم في (بندر عباس) لأجل أن يكون حاكما لمقاطعة جاسك والتي هي موضع نزاع بينه والأمير «يوسف» ، وبالطبع اصطحب معه كل رجل استطاع الإتيان به لأجل توضيح أهميته ل «ميرزا».

لقد علمت من الموقع العالي الذي أنا فيه أن مياه النهر تجري بين قناة تحت القلعة لتروي حديقة أخرى جميلة خلفه ، لقد قضينا ذلك اليوم الحار تحت ظل شجر الليمون والبرتقال. وقد أمكنني من تقدير ما هو موجود

١٤٣

ويمكن تصديره بأكثر من ٥٠٠ ، ١ طن من التمر سنويا. وفي هذا الفصل بالذات تجد على مدخل النهر العديد من قوارب الأهالي راسية هناك.

الحنّة أيضا هي من المحاصيل المهمة ، وكمية جيدة منها ترسل إلى بومباي بالبحر ، ولكن يرسل كمية أكثر من هذه الحنّة إلى (كرمان) و (يزد) وتعتبر (بندر عباس) هي الميناء الفعلي لبلدتي (كرمان) و (يزد) وفي (أصفهان) يرسل الجزء الأكبر من البضائع الإنجليزية عبر (بغداد) و (كرمانشاه). وأية قافلة محمّلة تصل «يزد» خلال سبعة وعشرون يوما أما إلى (كرمان) فتصل خلال أربعة وعشرون يوما. في المساء عدنا ثانية وقدّم لنا العشاء في العاشرة ليلا مع «ميرزا» وكان حولنا أواني نحاسية مليئة بالزهور زكية الرائحة وشجرتان من الياسمين حولنا.

باستفسارنا عن وضع الجمال لم نجد راعيها رغم بحثنا عنه دونما نجاح ، لقد كان ل «الميرزا» يواسينا بأخلاقه غير أنه قام بنفسه بأخذ جمالنا ليضمها إلى قافلته المحملة بالتمر التي كان سيرسلها إلى بندر عباس.

وفي خلال ساعة جاء ال «ميرزا» مصطحبا بعض الحمير وأكدّ لنا بأنها تخص الحكومة الفارسية. ثم أضاف : «إنه يجب عليّ أن أجد المؤن على الطريق».

كانت الساعة الحادية عشر والنصف والظلام حالك عند ما بدأنا السير ، وبعد أن قطعنا حوالي ستة أميال اقترح علينا سائقوا الحمير بأن نحصل على حمير أخرى نشطة بدلا عن هذه. ولكني عموما قد أعطيتهم أوامري بأنه يلزم علينا أن ألا نترك هذه الحمير قبل أن نجد حميرا أخرى تنوب عنها. لحدّ علمي الآن نحن في مكان ما وسط الصحراء. فتابعنا سيرنا بجهد في الظلام ، وأنني لا أشك بأننا كنا نصف نائمين حوالي نصف ساعة عند ما تنّبهت على صوت يقول «لا أستطيع أن أسير» «يجب عليك

١٤٤

أنت» «إن حميري عرجاء» «إنها أوامر الحكومة» «إن لي حمار واحد فقط وهو يحمل القمح منذ ثلاثة أسابيع» ، وعمره سنتان فقط وهو على وشك الموت». لم يكن ذلك الحوار مزاحا ولكنني قد وعدت بأن أوصل حميرنا للاستعاضة عنها بأخرى. ثم قررنا أن نكمل الأربعة حمير الجديدة باقي الرحلة وهي حوالي ثمانية وأربعون ميلا في الصحراء الميؤوس منها مع أتعس حمير في العالم. وعند ما وضعنا أرجلنا لنّهم بالركوب أخذ الواحد تلو الآخر يهوي على الأرض حتى قبل أن أضع جسدي عليه برغم حمولته المعتدلة.

وما كان علينا إلا أن نقبل الوضع حتى يتسنى لنا أن نجد سفينة ولا ننتظر. ولكن هناك صعوبة أخرى ظهرت لنا عند ما علمنا بأن سائقي الحمير الثلاثة ، واحد طاعن في الكبر والآخران صغيران ، فثلاثتهم يجهلون الطريق. لذا قررت أن أجعلها رغبتهم في إرشادنا للطريق وجعلهم يبدأون بالسير مجازفة على الطريق المظلم ويسوقون الحمير أمامي. وإنني لم أكن بعيدا عند ما سمعت الكبير فيهم قد أرسل يطلب والده الذي أخذ بدوره يشتم ويسبّ ووجد أن عليه أن يوافق على السير هكذا.

لا داعي لوصف سيرنا في هذه الرحلة الآن فأي شخص ممكن أن يتصور كيفية السير في الظلام على تلال من الرمال المتحركة ، ويكفي أن نقول بأنه طلع علينا الفجر ونحن نتعجب بدون أمل ، ونمشي بغير هدى عند ما أخذنا طريقا من زاوية قائمة بحوالي ٤٥ درجة. حين بدأ ضوء الصباح يظهر معالم الأرض وقد بدت من بعيد غابات شجر النخيل في الأفق وأمامنا على مدى بصرنا غبارا رمليا. وفي الخامسة مساءا وصلنا لغابة شجر التمر في (كالانجونج) حيث تناول الجميع غدائهم المكوّن من الكاري والأرز والشاي.

في الطريق وجدت أن سائقي الحمير البائسين لديهم إحساسا بأن هذه

١٤٥

الحمير للحكومة الفارسية وأنني ضعيف لدرجة أنه لا يمكنني دفع مصاريف هذه الرحلة والدواب.

وفورا بعد أن اكتشفت ما يفكرون به أكدت لهم بأنه لا يمكن لأي شخص أن يعمل «للفرنج» بدون أجر ، وفورا قدمت لهم أجرا مضاعفا ونحن في هذه المنطقة. كان لفعلي هذا أثرا كبيرا فيهم. وفي الساعة السادسة بدأنا السير ثانية. ولكننا لاحظنا في حوالي الساعة العاشرة بأننا قد ضللنا الطريق ، ولم يكن هناك أي أثر لمسلك ما ، وعلينا أن نجلس وننتظر في هذا المكان.

في فجر اليوم التالي تقريبا غادرنا المكان حتى وصلنا (بندر عباس) في الحادية عشر وبهذا قد أنهينا واحدة من أطول الرحلات سيرا على الأقدام حتى الآن ، وكان المتبقي منها بعد ٥١ ميلا. أما سائق الحمار الصغير الذي لا يتعدى عمره الحادية عشر ومعه اثنان آخران قد استعدا للعودة ثانية وقد أعطيتهم أجرا أكثر من ألاجر المضاعف لهم ليقوموا بشراء وجبة شهية. ولكنهم سوف لا ينفقون أكثر من اللازم بشرائهم قليلا من التمر.

في صباح اليوم التالي كنت أبحر في الخليج على سفينة بخارية من الدرجة الأولى إنجليزية الصنع. وكانت بلدة (لنجه) (١) أول مكان نتوقف فيه ، فبدت بيوتها متراصة وشجر النخيل موازية للشاطئ بطول ٢ ميل ، وخلفها جبال (بستانه) الضخمة ، وقد كانت مغطاة بسحب بيضاء ككتل من الصوف. وقد علمت بأن البلدة هي تحت حكم الشيخ «مذكور» وهو رجل شرس عنيف ومولع بالخصام. وابنه الآن هو المسيطر عليها ، كما أن حكومة الفرس في (بندر عبّاس) تشعر الآن أن طريقته قد عرفت بالإخضاع

__________________

(١) لنجه : مدينة كانت مركزا لحكم القواسم في إيران الحالية ـ وهم فرع لأسرة القواسم في رأس الخيمة والشارقة.

١٤٦

في تنظيمه لمسألة الضريبة في هذه المنطقة.

إنني أعتقد بأنه لا يوجد أي مسافر أوروبي قد اجتاز المنطقة من (بوشهر) حتى (لنجه). وقد ذكر السكان بأنها قاحلة بدون ماء ، ودائما يسرح فيها اللصوص الشرسون من قبيلة «بهلون» الذين هم من أصل عربي ويقتلون حتى الدراويش. معلومات السكان ذات قيمة للذين هم في أغلب الظن يعلمون ذلك أكثر مني ، وحسب خبرتي أن هذه المعلومات نادرا ما يعوّل عليها ولكن سوف يكون لدينا الكثير عن ذلك الموضوع فيما بعد.

إن أصحاب السفن التجارية هنا قد أقنعوا «ملا حسين» ليعمل كمأمور بالبريد قبل سنتين ، فوظيفته كوكيل تجعل من الضرورة له أن يأتي إلى كل سفينة ، لذلك فإن البريد الخاص بصاحبة الجلالة (أي ملكة بريطانيا أو البريد البريطاني) بدلا من أن يرسل بالقارب بواسطة المسؤول البريطاني ، فإنه يسلم إلى مكتب «الملا حسين».

إن جميع الذين يتوقعون رسائل لهم كانوا متواجدين هنا هم مسئولين للبحث عنها. حيث يقول لهم مسؤول البريد وهو يؤشر عليها : «إنها هناك ـ عليك أن تجدها» ويغطس في حقيبة الرسائل ويقول وهو يصيح «يوجد هنا رسالة إلى «خاجا عبد الله» وعليه أن يدفع ثمانية آنات (١). إذا دفع الثمانية آنس سيستلم «خاجا» رسالته ، ولكن إذا تجرأ وقال بأن الرسالة عليها الطوابع الكافية ، أو إذا ساوم على المبلغ فإنها ستمزّق بسرعة وتلقى جانبا. يحدث هذا وهو يقف في مكتبه وهو يعلن بسذاجة أن هذا هو أفضل نوع من الدخل لمكتب البريد حيث أنه يتقاضى لقاء ذلك مبلغا ضئيلا كمكافأة وهو خمسون روبية شهريا.

__________________

(١) آنه وجمعها آنات : عملة هندية و «مائة آنة» تساوي روبية هندية واحدة ، وكانت تستخدم في منطقة الخليج والإمارات حتى نهاية الستينات.

١٤٧

عند مغادرتنا لبلدة (لنجه) توجهنا إلى (البحرين) وهي أهم مكان لصيد اللؤلؤ. في (البحرين) منازل قليلة واسعة ، تجد بينها بيت واحد في حالة جيدة ، هذا البيت هو بيت الوكيل الإنجليزي ولكن يسكنه الآن مسؤول البريد الفارسي ووكيل السفن.

في المساء ذهبنا لنرى ذلك الرجل ، وقد أخذنا طريقنا بين فنائين بارتفاع عشرون قدما من صدف اللؤلؤ. وصعدنا إلى الغرفة العلوية. فوجدنا ونحن متعجّبين جدا بأن السطح مغطى بالجنود الأتراك في أوضاع مختلفة وتبين بأنهم حراس الضرائب التي أرسلت من حاكم (القطيف) لأخذها بالسفينة إلى (البصرة). بعدها قمنا بتأجير بعض الحمير الكبيرة من (البحرين) حيث بدأنا كخيّالة مرحين خلال الليل في الجو البارد وتحت القمر اللامع. وما قد حدث معنا من ضوء الشمس اللامع إلى ضوء القمر البارد قد ساعدنا فعلا كإضاءة لمسيرتنا.

ذهبنا بطريقة لائقة لمقابلة السيد / بي المسؤول الأول وشكله كالبّحار ، أما «السيد / أف» كان طول سرج حماره لا يزيد عن ستة بوصات لذلك رفض ركوبه وكان عنده يقين بأن حزام السرج يمسك فقط ببعض الأجزاء من ثيابه. ولكن الأمر على كل حال ، لم يكن تحت سيطرته ، وما حدث معه هو بأن السلاسل والحديد والأربطة التي تمثل لجام الحمار قد خرجت من فم الحمار عند ما كان يحاول دفعه ، وكان هذا واضحا وهو يمشي بثبات بجانب الحمار ويضع يده على ظهره الذي كان يكفي من «السيد / بي» الذي كانت سرعته تعتمد حتى الآن على تجاهله للمناقشات المناسبة لعدم فهم حماره.

وبعد دقيقة كنا جميعا نطير مسرعين على طول السهل فقط لنجد بركة ماء. فجأة ظهرت عين ماء قوية من بين أحجار الكلس وكانت مكانا جميلا للاستحمام. عند ما وصلنا إليها كانت مليئة بالنساء والرجال والأطفال الذين

١٤٨

يقضون معظم هذه الليالي الجميلة في الماء كفرس النهر. أولا لم يكن لهم الرغبة لافساح المكان لنا ولكن بعد ذلك استطعنا أن نأخذ حماما جميلا للغاية.

في اليوم التالي كنا نبحر إلى (بوشهر) ، ونحن في طريقنا عبرنا بين حوالي ثلاثمائة مركب لصيد اللؤلؤ. كل سفينة لها مرساة «هلب» وفيها حوالي اثنى عشر مجدافا مثبتا في النصف على حافة المركب من الجانبين. وكل مجداف فيه حبل يتدلّى من آخره ، وبهذه الحبال يمسك الغطاسون عادة. وعند ما مررنا بجانبهم كنا نرى أحيانا العشرة غطاسين محلوقي الرأس ، سمر البشرة وهم يعلون ويهبطون في الماء في طرف الحبال المعلقة. فيغطس الأول وبعده الثاني وهكذا ، ويبدأون في الظهور ثانية وهم يرفعون أكياس اللؤلؤ إلى اعلى بأيديهم ويستعدون للغطس مرة أخرى ، لقد راقبت الغطاسين والوقت الذي يستغرقونه في الغطس ، فوجدت أن ما قاله السيد «إيمانويل» من مدة الغطاس في الماء مبالغ فيها. لأنني لم أرى شخصا يتمكن من الغطس تحت الماء لأكثر من دقيقة واحدة وإن ظل إلى خمسة وأربعون ثانية ، فعلا إنه لغطاس ماهر. وهؤلاء يعملون بجهد كبير وبتقاضون قليلا من الأجر.

إن بلدة (بوشهر) أو أبو المدن ـ هي أكبر المدن على الخليج ، ولكن القذارة في البلدة كانت تفوق مساحتها أكثر من أي مدينة أخرى ، فالطرق كانت تستعمل كبالوعات. والمدينة تبدو وكأنها منطقة حديثة ويقال بأنها شبه جزيرة خرجت أو ظهرت من البحر. وللأرمن هنا وجود قوي وتجارتهم قوية وتجارها الأغنياء لهم منازل تبعد حوالي ستة أميال عن المدينة ، وخلال المجاعة من المحتمل أنه قد تم فتح طرق فيها حوالي اثنين أو ثلاث لهذه المسافة ليتمكنوا من السفر للتجارة. كما أن بلدة (بوشهر) هي ميناء ل (شيراز) و (أصفهان) وكانت ترسل كميات من الأفيون

١٤٩

أو شجر الخشخاش إلى الصين ، وكان السكر يستوردونه من بتافيا (جاكرتا في أندونيسيا) والتي ينطقها السكان المحليون (باتوا).

هنا قد استلمت باقي أجهزتي وسترة ثقيلة وغطاء من انجلترا ، بعد ذلك غادرت من (بوشهر) إلى (جاسك) للإنضمام إلى محطتي في (مكران) وكنت طوال الطريق إلى هناك أقوم بقياس المسافات بالنظر بعد ذلك واستعملت «السدسية» وهي آلة تستعمل لقياس ارتفاع الشمس وتحديد مكان السفن» بعد ذلك وصلنا إلى بلدة (جاسك) لتجديد صداقاتي مع العديد من أصدقائي القدامى.

١٥٠

الجزء السادس :

في صباح اليوم التالي وبعد جولة صيد فاشلة بدأنا سيرنا إلى أعلى (نهر شريفي) المتفرع من نهر (جاكين) كان القاع هنا محصورا وفيه كثير من الصخور الضخمة ، بسعادة غامرة تسلقنا هذا الصخر الشديد الإنحدار وعبرنا السهل المنبسط الذي تقطعه المنحنيات الكثيرة.

١٥١
١٥٢

خلال وقت قصير كانت جميع أجهزتي جاهزة للسفر ، وفي يوم ٢٩ / ١٠ / ١٨٧٦ ، غادرت (جاسك) إلى (گيگن) (١) بعشرة جمال واستأجرتها باتفاقية للذهاب إلى بلدة (أنغهوران) عاصمة (باشكارد). في البداية توقفنا وخيّمنا بجانب (گيگن) في مكان جميل يقع بين شجر السنط. وهو نبات مزدهر يدعى فيموزا ـ وكان هناك منحدر (گيگن) الضخم.

بقينا في هذا المكان يومين ، شاهدنا فيه احتفالا غريبا للبلوش ، فقد قاموا بذبح شاة كقربان لبداية موسم الزرع وفاء ـ كنذر لله ـ ولكني لم أتمكن من معرفة مصدر هذه العقيدة. بعد ذلك سرنا حول المنحدر وخيّمنا تحت بعض الأشجار في وادي بجانب نهر (گيگن) ولقد قضينا هنا معظم الوقت في العمل حيث أننا كنا نقوم بقياس وتقدير المسافات حسب خبراتنا. بعد ذلك قمنا بشراء جمال للسفر ، وبعد المناقشات والاستفسارات

__________________

(١) گيگن : بلدة قريبة من (جاسك) تسكنها قبائل الشيهاني ومعظم وزراء أمراء آل دغار منها وأشهرهم الوزير «مهابة» والذي عاصر الأمير (عبد النبي بن محمد) وكان من كبار وزرائة حتي وفاته عام ١٨٩٥.

١٥٣

قررّت بأنه من الأفضل أن أقوم باختيار ستة جمال لي خير من تأجيرها. وعليه كنت أساوم لامتلاكها. كان لنا جميعا سمعة طيبة لقيامنا برحلات موفقة لم يسبق لها مثيل. هذا لأننا كنا ننهي رحلاتنا وأنا محب ومخلص لجمالي. والتي أختارها كانت نماذج رائعة من نوعها ، وقد كانت متوفرة بسلالات مختلفة أكثر من الجياد. شكلها يثير الإعجاب ، فهي ضخمة الجثة وأرجلها الأمامية كبيرة الحجم ذات شعر لامع بني اللون ، أول هذه الجمال في القافلة كان «جامايتي» جمل كبير في السن ولكن له المقدرة على السير والتحمل.

بعد ذلك جاء «مهري» الجميل وعمره ثلاث سنوات ونصف وأصغر جمل في المجموعة ، ذكي بانتباهه دائما لتفقده خيمتي مساء ولشمّه أكياس التمر. بعدها يأتي «جاسكي» الكبير الذي يحمل علب الطعام الثقيلة ، فكان

١٥٤

يتأرجح بخطى واسعة تقريبا حوالي قدم واحد لكل خطوة ، عيبه الوحيد كان في كسر ناب من فمه ، إلا أنه ما زال ذو قوة ومقدرة على التحمل والصبر. أما بالنسبة للثلاث جمال الأخرى لم تكن هناك نقطة معينة عنها ، ولكن جميعها كانت تؤدي عملها على نحو رائع.

إن رجال فريقنا الصغير جديرون بالوصف فأولهم «إبراهيم محمد» هو حارس الخط التلغرافي للحكومة ، وقد منح أجازة ليصاحبني في تلك الرحلة. لقد كان رجلا أنيقا طويل القامة ، ولقد تعاون مع الرجال وخدمني ، ولكن للأسف هذا الشخص أو الرفيق لم يرجع أبدا إلى بلده لأنه قد توفى بعيدا ودفن في أرض غريبة ، وكان عليّ أن أراه قبل أن يموت حتى أتأكد من أنه لم يعد يتذكر أي من معاملتي القاسية معه عند ما كان يغيظني في تأخيره ، وعدم إطاعته لي ، ولمرضه ولأحداث أخرى أثناء الرحلة. ولكن يمكنني أن أصفه بصورة أوضح ـ «جاجو» وهذا اسمه ، رجلا عريض الأكتاف ضخم القدمين ، ساذج ولكن دمث الأخلاق ولديه استعدادا للمزاح والضحك من كل قلبه. عموما ، هكذا كان قدرنا سيئا. فقد كان لي «جاجو» ، برغم شراسته المرحة عونا لي ضد الرجال الذين لم يعرفوا عن الطريق شيئا ، وكان بلغته العربية المكسورة يداعبنا لينال قطعة من اللحم أو قليل من الكاري ، كما أنه كان فخورا بإرشادي خلال الرحلة لأنه كان قد سافر معنا من قبل وأصبح يعرف الطريق وأوضاعنا تماما أكثر من أي شخص آخر.

يأتي بعد ذلك «إبراهيم خميس» (١) و «داد الرحيم» ، فقد كانا من عائلة

__________________

(١) هو «إبراهيم خميس السويدي» والسودان أصولهم في أغلبيتهم من الشارقة في بلدة (الخان) وهاجروا إلى مكران في بدايات القرن التاسع عشر ، وهم أنساب للأمير بركت حيث تزوج «كلثم السويدي» ، وبني عمومتهم هم «أبناء جرش السويدي» في الخان بالشارقة ،

١٥٥

طيبة ورفيعة المقام مثل عائلة «جيمادار إبراهيم». في الحقيقة إن «جيمادار إبراهيم» أقنعهما بأن يصبحا أصدقائه ، وقد قامت بينهما المشاكل نظرا لصغر سنهما ، وقد توفى المسكين «داد الرحيم» أيضا ودفن قريبا من «إبراهيم محمد».

بعد ذلك يأتي «عبد الله دادوك» هو الرجل الثاني ، كان فضوليا له أنف كالمنجل منعكف وله عينان سودوان تتلألآن ولحية سوداء مجعدة. كان مثابرا في عمله ولكن له لسان سليط.

ثم يأتي «حسن» ، كان رجلا طويل القامة قويا ومن عائلة بسيطة جدا ، أسلوبه خشن وغير مهذّب ، لكنه كان من أفضل سائقي الجمال ، وله ميزة في صوته الغريب الغير عادي ، ولا يزال يحمل اسما كنت قد سميته به «حسن كراوازي» أو «حسن صوت الحمار».

أما «قاسم» فهو رجل كبير في السن وكأنه جسم مقطع من قطعة خشب لأن يداه وساقاه بنفس الحجم وحتى الطول. وكان غريبا في قوله : «إني اعتقد بأمانة بأننا قد قطعنا مسافة ٢٥٤ ميلا في خمسة أيام».

و «علي شاه» الفضولي كان قصير القامة رفيعا متينا على شكل الكرة ، ولا يتمتع بأية ذرة من عزة النفس أو دماثة الأخلاق من أي نوع. كان نبيها جدا عند حراسته للطريق ولكن لسانه لا يكف عن الكلام والضحك والغناء ، وحتى الكذب من الصباح حتى المساء.

و «غلام شاه» بوجهه البني اللون الذي بدا في هذه اللحظة مكشرا في وجهي وينظر إليّ وأنا أكتب هذا عنه. له رأس قوي ، متعاون ، ويبلغ من

__________________

وكان «علي السويدي» و «إبراهيم السويدي» من الرجال المقربين للأمير «بركت» والمرافقين الخواص له بعد أن تزوج شقيقتهم ، وسلالتهم متوزعة اليوم بين مكران ودولة الإمارات.

١٥٦

العمر أربعة عشر إلى ستة عشر سنة ، وهو من عائلة بلوشية جيدة ، قضى طفولته في التجوال على البلاد التي في (رودبار) و (بامبور). لقد اكتسب بعض أفكاره من تجواله هذا ، لأنه قد صحبني في رحلة دامت حوالي سبعة شهور ، وكنا قد عبرنا جبال الثلج الشامخة في (كردستان) خلال فصل الشتاء. في ذلك الوقت كان يقوم بإعداد جميع وجبات الطعام لي ويفرّغ ويعلب وينظم جميع معداتي كل يوم ، وكان مسؤلا عن «الكرونوميتر» خلال غيابي عن الخيمة. خلال أعماله هذه لم يكسر أيّ شيء كما أنه لم يترك أو ينسى أي شيء خلفه ، وكان صارما ، لا يكل من الجهد ولا يخاف.

هؤلاء جميعا كانوا الموظفين الدائمين في رحلتنا ، لقد اكتسبت خبرة في هذه المنطقة ، وإذا كان عليّ أن أكرر هذه الرحلة فلن اغيّر أي رجل من الذين ذكرتهم. إن صديقي «جلال» من (بامبور) قد قرّر في الدقيقة الأخيرة ألا يأتي معنا. فالصراع بين إخلاصه لي ورغبته في مشاركتي رحلة كهذه كان في كفة وزوجته وابنه في الكفة الأخرى ، وعند ما بدأنا رحلتنا بدونه أصبح كالمجنون يضرب الذين نصحوه بعدم السفر بعنف حتى ابنه المدلل.

وفي ١٤ نوفمبر تخلصت من مؤونتي وأرسلت جملين محمّلين ثم ودعت جميع مرضاي ومنهم طفلة كنت قد قمت بعلاج عينيها واستعادت عافيتها وهي ابنة أحد القناصين فقد كانت عيناها متعبتان للغاية وقد استعملت لها نترات الفضة أربعة مرات في اليوم ، لكنها في البداية لم تعطي أية نتيجة ، ولكني أخبرتها أنه عند ما تبدأ بالشعور بحرقة في عينيها فهذا يدل على أنها ستشفى. وفي اليوم الرابع طرأ تحسن على عينيها وفورا قمت بوضع نقط من المحلول في عينيها وبدأت تصيح «مارو أسوجي» «مارو أسوجي» ويعني ذلك بأنها تحرقها ، وبدأت تضع يديها حول عنقي وهي شبه غائبة عن الوعي ومتهاوية على الأرض ، ولكن بعد حين هي

١٥٧

ووالدتها أخذتا يشكرانني كثيرا عند شعورها بالتحسن بعد ذلك ، كلّفت مساعدي الطبي «غلام شاه» لتكملة علاجها. ثم قمت اليوم كذلك بشراء الجمل الأخير من العم «إبراهيم» ، وكان حوارنا المميّز كما يلي لإنهاء عملية الشراء.

البائع : «هل قبلت أن تأخذ هذا الجمل الآن بخمسة وثلاثون قرشا»؟

(٨ جنيهات)

المشتري : «لقد قبلت»

البائع : «وإنني أقسم بالله أن هذا الجمل ليس به أي عيب وإنه حيوان قوي

وبهذا فإنني لم أخفي عنك أي شيء.

ثم تابع قوله : «إنه ليس أعمى ولا أعرج .. الخ».

«ويمكنك من وضع سبعون رجلا على ظهره». بعدها صافحني الرجل وانصرفت.

عند ما أردت أن أرسل مبلغا من المال إلى (جاسك) أشار إليّ «إبراهيم» بأن هناك رجلا سيذهب الآن وسيأخذ النقود معه. ثم ذهب خارجا ليلحق به ، اختفى بين الشجيرات الصغيرة. بعد ذلك عاد هذا الشخص وأرسل النقود على الوجه المطلوب ، وعند ما لمّحت ل «إبراهيم» بسري بأنني أشك في أمانته ، فجاءني جوابه بنبرة صوت شديدة «إنه بلوشي» ، وهذا ما جعلني أشعر بالخجل لقولي هذا ، استنادا لأنني أعلم بأن إحدى قبائل البلوش هنا تقوم بسلب ونهب بعضها إذا وجدوا الفرصة سانحة لذلك.

لم نلاقي صعوبة في وجود مرشد لنا ، لقد زودنا «جمال» بأحد رفاقه الأمينين ، ويدعى «جازو» وهو شخص غريب الأطوار متقلب ، يأخذ الأمور

١٥٨

بشكل هادئ ويبدو ظريفا في الأوقات الصعبة. عند المساء كل شيء كان منظما ، فتوجهت إلى النوم وأنا مقتنع تماما بأحاسيسي المفرحة.

صباح اليوم الثاني لا يمكن أن ينسى ، حيث نهضت من النوم ووضعت قبعتي على رأسي وحملت بندقيتي. وبرغم أني لست خبيرا بالأحاسيس السارة ، إلا أن ذلك الجو البارد والأشجار المغطاة بالندى ، وخيوط العناكب الناعمة اللامعة أكثر من عقد اللؤلؤ في كل مكان ، وطائر الحجل مبتهج وإحساسي بالاستقلالية التامة مع العزلة التامة عند ما كنت أشاهد سقف خيمتي مع شعوري بأنني المالك لأمري وكنت أرى صف جمالي منساقة لتشرب ، ومفكرا بأنني سأمر ببلاد أخرى جديدة خلال أشهر قادمة ، بلاد لم يزرها أي شخص أبيض من قبل ، كل ذلك جعلني لا أستطيع أن أصف سعادتي في صباح ذلك اليوم ، إنها سعادة يشعر بها المكتشفون فقط.

بتاريخ الخامس من الشهر عند المساء عاد «إبراهيم» من (جاسك) ، فقد أرسل ببعض الرسائل وأحضر معه بعضا من الرسائل الإنجليزية ومعطفا من صديقي «بي» ، عودته كانت بمثابة إشارة لنا توجب علينا الرحيل. وفي خلال نصف ساعة أنزلنا الخيمة وبدأنا اتجاهنا إلى طريق وعر وأمامنا الجبال ، وبوجود النهر هناك ، يعني ذلك أننا سنمر بصعوبات وربما يتوجب علينا القفز فوق أكثر من هوة ، أثناء سيرنا اليوم تنبّهنا إلى ممر وعر ، ولا يمكن السير من خلاله بسبب الجو الذي كان ممطرا قبل أسبوع. برغم عدم وجود علامات للمطر بالإضافة لذلك فإننا قد تلقينا عدة تعليمات بالتوقف. جميع الممرات في (مكران) على طرق رئيسية. باتجاهنا إلى أعلى كان الطريق متعرجا من الجانبين ترتفع فيه صخور شديدة الانحدار بأشكال غريبة ، وقد وجدنا أنفسنا في المساء أننا ما زلنا نجاهد وشعرنا بأننا نودّ أن نغيّر مكان مخيمنا. أما الآن هناك غيوم كثيرة وصدى صوت قادم من

١٥٩

المنحدر «هاكال كون (استمرار)» أوه ، يا إخوان ، صرخ «جازو» من بعيد وهو يندفع إلى الأمام ويكرر «هاكال كون» ، إذ لم نتقدم عبر «تانجي دول» أولا ـ ولم يكمل لأن البديل للطريق مرعب له وكان اضطرابه واضحا من نبرة صوته.

الآن أصبحت السماء قاتمة ، فتوقفنا وبدأت قطرات المطر تهطل حتى أن الماء قد غمر أقدامنا لأن مجرى السيل كان كبيرا ويحتوي على حفر مائية بعمق قدم. ثم عمّ الظلام علينا بسرعة وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة ولم يكن هناك سوى باردة أمل بوجود مجرى صغير من الماء الذي سنعتمد عليه ليقودنا إلى الطريق. في ذلك الوقت كان الرعد عنيفا وعلى ضوء البرق مرتين شاهدنا بروزا عنيفا لصخرة مرتفة تحيطنا من الجهتين وكان الرجال والجمال مبتلون يجاهدون في سيرهم بسرعة النمل.

فجأة سمعنا صوتا أمامنا ينادي «مين مين» ، وفي لحظة حضرت على التوّ فوجدت جملي وقد غاص في حفرة من الطين المتحرك. وكان علينا أن نسرع. فورا جميع الرجال تركوا جمالهم وأخذوا في سحب الجمل بقوة ، «بسرعة يا أولادي» .. صاح «إبراهيم» ، وقد بدأ الرجال يفسحون مجالا للجمل بشده إلى الأمام وإلى الخلف ، يساعدون بعضهم البعض حتى وضعوه على الطريق الصحيح. ومع صياحنا لانقاذ الجمل قد نسينا العاصفة التي كانت بازدياد شديد حتى أننا لم ندرك بعد (تانجي دول) المخيفة. والآن قبل أن نلاحظ ذلك وصلنا إلى المدخل الذي لا يتجاوز عرضه خمسة عشر قدما والحيطان كانت من الحصى الرملي الناعم. وقبل أن ينفذ صبرنا دفعنا الجمال بدون تفكير لننتهي من هذا الممر.

وحسب معلومات مؤكدة من «جازو» بأنه في أية لحظة قد تصادفنا سيول من المياه التي قد تفقدنا الرجال والجمال. أخيرا وصلنا إلى (دول) ذاتها. وكان الخطر في الممر واضحا ، فقاع الجدول هنا هو مجرد شق

١٦٠