رحلة الكابتن فلوير

المؤلف:

بن دغار


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٥

وفجأة كان هناك شيئا أمامنا على بعد خطوات ، اصطدام قوي وإرتجاج مع دوران سريع يفتت العظام ، ووجدنا أمام جمالنا جبلا رمليا ضخما ومرعبا ، كان علينا أن ننحني بشدة ونقبض على السرج حيث أن الجمل دائما يقف على رجليه الخلفيتين ليرتقي المكان المرتفع إذا كان هناك حملا ثقيلا. على أية حال الرجوع إلى الخلف أو التقدم سيكون صعبا ، لقد اندفعنا بحرارة إلى أسفل وكان عزاؤنا أن نلتقي بأصدقائنا في (جاسك).

وفجأة ، بغير توقع وجدنا أنفسنا بين الأشجار التي كانت تحيط بضفة نهر (جغين) ، فالأمر أصبح خطيرا حيث أن هذا النهر به بعض الأماكن بحوالي أربعون قدما صخريا ووعرا وأقدام الجمال لا تنغرز في تلك الأماكن. وهنا قررنا أن نتوقف لبعض الوقت وكان القمر منيرا وقد أدركنا أننا نتوقف الآن في مكان كانت فيه قبل لحظات قافلة.

١٢١

لقد توقعنا مشاكل أخرى مع الجمال ، ولكن نبات الطرفاء قد هدّأ من روعها ، صالح يمشي أولا لعمل مناورة عسكرية ليستكشف المنطقة. لقد اتجهنا إلى الضفة المقابلة فوجدنا بها عددا كبيرا من طائر البحر «المالك الحزين» ، بلونه الأبيض وهو يقف على المياه الضحلة.

إن بلدة (جغين) هي منطقة للصيد والقنص وقد توقفنا الآن ، وعلينا أن نؤدي العمل على أجزاء متفرقة حيث أن في النهر حفر خطيرة متفرقة.

لقد تقدمنا على أرض مالحة منبسطة فيها غابات صغيرة وعبرنا (يكدار) حيث جلسنا واسترحنا في حدود ١٠ دقائق تحت شجرة «الكنار» ، وأيضا على الجبال الرملية حتى رأينا غابات شجر النخيل لبلدة (شهرنه) حيث توقفنا لمدة عشر دقائق لنتعشي قليلا حيث كان هناك الكثير من التوت المليء بالعصير. بعد ذلك اتخذنا الطريق إلى البحر وقد جبنا الرأس البحري ل (حشدان). وفي الثالثة مساء رأينا (جاسك) وبعدها بساعة ونصف كنا نتصافح مع الرجل الأبيض وكانوا يباركون لنا على سلامة العودة.

لقد عاد الرجال والجمال إلى بلادهم خلال الأربعة أو الثلاثة أيام التالية وكانت أحزمتهم التي يلفونها حول الخصر قد امتلأت بالمال.

١٢٢

الجزء الخامس :

على الشمال في نهاية جزيرة هنجام توجد قرية صغيرة لصيادي السمك تحوي على مائتي عائلة من بني ياس من إمارة (دبي) وهي بجانب (الشارقة) ومعهم رجال جيدون بكل ما تعنيه الكلمة. لقد قمنا بجمع عينات من كل حشرة تقريبا في الجزيرة تصل إلى عدد ١٤٠ ، بالأولاد المحليين المرافقين معي أصبحوا خبيرين في جمع الحشرات وبهذا وفروا عليّ الجهد.

١٢٣
١٢٤

بقيت في (جاسك) بعض الوقت أجهز لأعمالي الرسمية ، عن حفر الآبار وزراعة الأشجار ، وشجر النخيل هنا قاحل مجدب ، وتوجد رمال كثيرة في مكان اقامتنا ولكن بعد ذلك بدأنا في الترتيبات لرحلة أخرى أطول والتي تتضمن قراءة في علم النبات ، والجولوجيا ، ودراسة علم الحشرات ، والاكتشافات الفلكية والأرصاد الجوية إلى آخره ، لقد حصلت على تحويلي إلى (هنجام) (١) وهي جزيرة صحراوية صغيرة في الخليج.

على أن أشكر المسئولين في السفينة الحربية الملكية والتى إسمها (عرب) لأنهم ساعدوني لأجل أخذ العينات والتوقف لجمعها ، وقد أعطوني الكتب المطلوبة ، وقد طلبت منهم آلة ملاحية (وهي آلة لقياس ارتفاع الشمس وتحديد مكان السفن) وقد حجزت آلتي التي عند ما وصلت لي من أوروبا كنت قد تمكنت من معرفتها وأصبحت بارعا في استعمالها.

__________________

(١) جزيرة هنجام : جزيرة في مدخل الخليج (انظر الخريطة) .. كانت تحكم بواسطة مملكة (هرمز) العربية ثم حكمتها القبائل العربية وأصبحت لقبائل (بني ياس) الرئاسة والحكومة بها ومن حكامها «آل مكتوم» وهم فرع من حكام إمارة دبي الحاليين.

١٢٥

إن «صالح» المطوّع العربي قد تبعنا لوضع خطة الرحلة و «جلال» كان معنا كمتعهد الطعام. وقد كانت جزيرة (هنجام) قاحلة ومجدبة وعلينا أن نبحث عن شاة أو أي طائر ، إمّا دجاجة أو ديك وممكن أن نجد هذا في الجزيرة القريبة منها وهي (قشم).

إن «جوجي» الطبّاخ البرتغالي قد حضر وهو يشكو ويتذمّر كيف له أن يذهب إلى مكان ليس به سمن أو دهن ، وكذلك «غلام شاه» وامرأتان عجوزتان تطحنان الذرة وغيرهم بدءا في إكمال القصة.

في جزيرة (هنجام) ليس هناك أي شيء لنفعله ولكنها جزيرة حية. وهي حوالي خمسة أميال في ثلاثة أميال فيها جبال رثة والتي نراها للوهلة الأولى قاحلة ولكنها تمتليء بالنباتات في شهري مارس وأبريل لمئات الأصناف من الزرع ومنها أحدها التي دخلت مصنف النباتات الزراعية.

في الماضي كان لهذه الجزيرة تاريخ مختلف وكان فيها آلاف الأكواخ البالية المصنوعة من الحجارة تخص السكان الأولين الذين ليس لهم أثر

١٢٦

اليوم. لقد صقلت خزانات الماء الكبيرة في الخارج من حجر الكلس القوية وكسيت بالأسمنت (١) ، إن المناطق في التجاويف بين الجبال قد تجمعّت فيها التربة منذ نحو ٣٠٠ أو ٤٠٠ سنة كانت الأمطار أكثر من الآن وكان السكان لا يستطيعون جمع التمر والفول وحليب الماعز ، لذلك لم يتخلوا عن طعامهم المكوّن من السمك المجفف. في الجهة الشمالية على نهاية الجزيرة توجد بقايا بلدة فيها مسجدان فاخران.

إن دمار هذه البلدة تأتي من تاريخها المتناقل ؛ فالمباني وواجهاتها دلالة على أنها كانت مستوطنة فارسية ولكنها دمرت بواسطة حملة (نهب) من العرب (٢).

على الشمال في نهاية الجزيرة توجد قرية صغيرة لصيادي السمك تحوي على مائتي عائلة في بني ياس من إمارة (دبي) (٣) وهي بجانب (الشارقة) ومعهم رجال جيدون بكل ما تعنيه الكلمة. لقد قمنا بجمع عينات من كل حشرة تقريبا في الجزيرة تصل إلى عدد ١٤٠ ، بالأولاد المحليين المرافقين معي أصبحوا خبيرين في جمع الحشرات وبهذا وفروا عليّ الجهد.

أما الكهوف الضخمة فبدت عجيبة الشكل ، وكان هناك واحدا أيضا في وسط الجزيرة ، وإذا ما دخلت من الجانب الشرقي فإنك ترى أنه ينقسم إلى

__________________

(١) هذه خزانات الماء كانت منتشرة في وقت قريب في نفس المنطقة وفي المناطق القريبة منها مثل (كمزار) و (الفيلم) و (خصب) في رأس مسندم بسلطنة عمان.

(٢) هذا غير صحيح ـ هنجام كانت منطقة عربية أكما يذكر المؤلف نفسه لا حقا عن حكامها ـ ولكن تأثير العمارة القائمة بها في بعض جوانبها فارسية ـ وفترة الحملات العربية عليها قد تكون في فترة وصول النفوذ الصفوي إليها أو فترة حكم «نادر شاه» الذي حاول بناء قوة بحرية فارسية ولكنها فشلت بعد اصطدامها بالقوة البحرية العربية بها.

(٣) ومن حكام (هنجام) المعروفين كان «أحمد بن عبد الله بن جمعة آل مكتوم الياسي» وانتهى الحكم العربي أيضا مع بدايات ظهور «رضا شاه بهلوي» في الخليج.

١٢٧

نصفين وأمامك حائطا من الحصى الرملي مغطى بكلس أصفر اللون.

وإذا ما تسلقت إلى الجانب المفتوح فإنك تجد كومة من الحديد وهذا حطام معدني وحجارة كبيرة خضراء لامعة ، وأخرى صفراء. إن المعدن ثقيل جدا وقد كان يستعمله غطاسي اللؤلؤ. وفي الأسفل نجد الكهف الواسع تحت الجبل ولا أحد يشعر أنه ربما يكون أحد الكهوف الجميلة التي تستعمل لليالي العربية. على بعد ٢٠٠ قدم يوجد كهف آخر جميل ليس فقط فيه الصخور المتكونة من الملح ، ولكن السقف والحائط مغطى بملح جميل الشكل كأنه الثلج.

إن مسؤولين في إحدى السفن قد رافقاني إلى أسفل هذا الكهف وأثناء رجوعهما كانا يتحدثان بصوت عال عن جمال ذلك الكهف ، ورجلان آخران قد كانا متحمسين ، معهما فوانيسهما ليقوما بدخول مفاجئ إلى الكهف ، على كل كان لديهما فكرة خاطئة عن حجم الكهف وكانا سيختنقان بمحاولة اطلاق الضوء الأزرق فيه ، بعكس ما في قرية صيادي اللؤلؤ فيوجد فقط ثلاثة آبار في الجزيرة عميقة جدا ونادرا ما كانت تحتوي على أكثر من دلو من الماء الغير عذب.

وعلى الساحل في الجهة الغربية الجنوبية كان هناك شيئا أكثر أهمية للاستطلاع. إنه ماء ذو نكهة قوية تشبه رائحة القطران ، في مكان ذو فوهة ضيقة للغاية ، وعند ما تتعود عيناك على الظلام وتحدّق النظر على عمق ١٢٠ قدما في القاع سوف تندهش حيث أنك ستجد في المكان الكثير من طير اليمام. إنني قد اكتشفت هذا البئر قبل أن أرحل من البلدة ، إنه تقريبا متصل بمنحدر البحر بحوالي ٢ ياردة وفيه شرخ لفتحة كبيرة حيث أن اليمام يجد له مدخلا من خلالها.

قبل أن نترك بلدة (هنجام) علينا أن نذكر هذه الظاهرة الغريبة والتي

١٢٨

تدعى «تحجر أشجار النخيل» في بعض الشواطئ التي فيها تربة مالحة متكلّسة وفيها أعمدة من الطين الثقيل القوي ، إنني لم أصدق بأن تلك الأعمدة هي أشجار حقيقية متحجرة ، وقد اقتلعت شجرة واحدة أرسلتها إلى الوكيل السياسي في مسقط ، وبقينا في الظلام طوال تلك الليلة ، إن الجو الحار في (هنجام) كان مخيفا وكان لدي ما لا يقل عن خمسة أفرشة للنوم في أماكن مختلفة في الجزيرة تعدّل لأي جوّ محتمل فيها ، وربما الأكثر استعمالا هو

الذي بجانب البحر والآخر الذي على حافة الساحل الصخري ، وقد كان عملا متعبا كنت أحاول بعده أن أنام ولكن كانت الرطوبة ثقيلة والجو مسمّم برائحة الطحلب البحري الذي يتعفن في الأمواج البطيئة الحركة.

على كل ، إنني أتذكر في أغسطس ١٨٧٦ م بعد أن استلمت «الكونوميتر» وهي ساعة دقيقة جدا تستعمل لتحديد خط الطول وقد أرسلت

١٢٩

من لندن في نفس الوقت الذي استلمت فيه تعليمات بالمغادرة إلى (بوشهر) بأنني قد تعجبت لأن هذه الجزيرة قد بيعت ، فقمنا بتحميل الأشياء على الجمال بعد أن أرسل جلال إلى جزيرة (قشم) لإحضار الجمال.

إن أهالي (هنجام) لهم طريقة غريبة لعبور المضيق مع الجمال فيأخذون اثنين بسرعة ويجبرونها على الركوع أرضا بجانب بعضهما ويقومون بربط أرجلها معا ويضعون القارب على الساحل ويدفعونهما بشدة ويربطونها بالقارب من الخارج ويبدأون في الإبحار. وهكذا تسافر الجمال لساعات وهي دائما ما تتعرض للغرق في الماء بسبب ثقل الأمواج.

إن سطح جزيرة (قشم) يتكون من سهول مالحة تقسمها أخاديد من حجر الكلس. وهي الآن أشبه ما تكون قد ظهرت لتوّها من البحر ، ولا يستطيع المسافر أن يعبرها في شهر أغسطس بدون خيمة ، في هذا الوقت من السنة أيضا يذهب السكان بين غابات النخيل في (ميناب) ليقيمون هناك في الأرض الأصلية.

في الليلة العشرين كنت قد عبرت المضيق ، وبعد سير حوالي ثلاثة أو أربعة أميال في الظلام الدامس وعلى طريق وعر عثرت على مخيمنا على ربوة صغيرة بجانب قرية (ديريستان) وقد لاحظت بأن الكثير من سائقي الجمال العابسين لدينا أدوا إلى تعرضنا البعوض والثعالب.

في صباح اليوم التالي أرسلت القافلة في الساعة السادسة وبدأت في السير ولكني تقريبا قد ضللت الطريق. ولكن بعد جهد من السير وصلت إلى غابة جميلة من أشجار النخيل وكانت ملك (شيخ حاجي أحمد) ، وقد رحّب بي كثيرا وأعطاني حصيرة تحت شجرة «الكافور» فغططت في النوم. كان هناك بئر وحوض لا يبعد أكثر من عشرون قدما من هنا وعند الظهيرة كنت أرى الطيور والحيوانات والوحوش تحوم وهي عطشى. إنه لأمر

١٣٠

غريب وأنت تراقبها فكل نوع من هذه الحيوانات يأتي وكأنه يتكلم في الوقت المحدد له. أولا حلقة الحمام ، بعد ذلك البلابل وأخيرا الديوك. وكم هو مضحك عند ما ترى كل نوع يروح ويجيء في حركة مستعجلة وهو منهمك على ما يبدو. بسرعة كان هناك رجالا مسنين يلفون في محاولة للفّ عمامتهم على وسطهم وبدأوا واحدا واحدا ينزلون إلى الماء على أسلوب الكتاب المقدس. وعند ما ظهرت البقرة سارت على نفس طريقة الرجال ولم يستطيعون التحكم في الأمر بدون نزاع.

كان هناك رجلا مسنا بقى بعد رفاقه ولم يكن شيئا ظاهرا من الماء غير رأسه المحلوق تماما. ربما كان غارقا في التفكير أو نصف نائم ، بعد لحظات ظهر ثور كان يقود قطيعا من الماشية ، تقدّم من البحيرة بهدوء تام ووضع فمه في الماء ليشرب وفجأة رأى ثمرة جوز الهند في الماء فصاح ووضع فمه وأنفه وغطس بشدة ، تلك الصيحة قد جعلت الرجل العجوز يهرب غطسا تحت الماء ، ثم بدأ يظهر في الجانب الآخر من البحيرة وهو يسعل وبدأ يبصق على الثور ويسبّه بلغة مفزعة قائلا : «اوه» ربما سيمزقك الذئب إلى قطع وكنت أرقب ذلك وأنا أقهقه. والآن ظهر رجل فارسي طويل القامة وهو يرتدي قميصا نظيفا وكان يحمل صينية كبيرة من النحاس بها الإفطار الخاص بي ، وهو طبقا من الكاري كالمعتاد ، ودجاجة مطبوخة بإتقان وزبد وقشدة اللبن ، وتمر طازج وسكر ، وزبيب ، وقطع من الرقاق يستعمل كطبق للأكل. عند ما فرغوا جميعهم من أعمالهم كان الخادم جالسا على الأرض فصرفوه خارجا بأسلوب مهذب حيث لا أشعر به ، حينها كنت جائعا بشدة. وربما كان وجهي يعبّر عن النوم بسبب الفوضى التي قمت بها وقت الطعام ، وكان الرجل يؤكد لي بهيبة بأنني لم آكل بما فيه الكفاية حتى بالقدر الذي يحتاجه طفل لغذائه.

لقد انتهى الإفطار وكنت اتمدد تحت الشجرة وأنا أكتب هذه المذكرات

١٣١

على قبعتي ، حيث قد نسيت دفتر المذكرات ، بعض الأوقات كنت أتكاسل في اشعال الغليون بعد أن أنفخه نفختان وأنا أراقب النمل يحمل نواة التمر التي رميتها ، وكنت مسرورا عند ما استيقظت على صوت ثرثرة ومزاح وضحك بصوت عال وعند ما التفت وجدت فتيات يقفن حول البئر وحوض الماء وعلى ما يبدو أنهن يريدن الاستحمام. وكان هناك جدال حادّ بينهن وكنت أتابعهن بتمعن وذكاء وقد أخذت فكرة عن معنى حديثهن ، لقد قطعت عليهن الحديث بأن أكدت لهن أنني سوف أنتقل إلى شجرة أخرى عند ما أجد سترتي ، وقد شكرنني وهن يضحكن بسرور على تلك المغامرة. حملت بندقيتي وأخذت أمشي ببطء تحت ظل الأشجار في الحديقة حيث وجدت صاحب الدعوة وكان قد استيقظ من نومه لتوه ، وأخذنا نتناقش عن المحاصيل والضرائب ، وأشياء أخرى ، وكان القمح في نبتته الأولى ملوثا ، وكان التبغ نادرا ما يستعمل. خلال فصل الشتاء ، تصبح الحدائق جرداء وجميع السكان يذهبون إلى المدن أو القرى المبنية من الطوب. إن مضيفي شديد الذكاء وقد أعطاني معلومات كثيرة.

تناولنا غداءنا في الخامسة وكانت الشمس ساخنة قليلا ، وعليّ أن أسير ١٢ ميلا ، فسرت مع أحد الرجال ليدلّني على الطريق الصحيح إلى (سوزه).

خرجنا من الحدائق وسرنا تحت الشمس الحارقة ، إن بلدة (قشم) في أغسطس تكون قاحلة. وقد عبرنا الأخدود الكلسي مرة ثانية وهذا الذي عبرته الصباح بالخطأ عن طريق غريب. بعد ذلك قطعنا أميالا ونحن نتسلق الصخور ونسير في السهول. إن رحلة كهذه التي نحن فيها الآن مستحيلة ، لو لا وجود خزانات المياه المغطاه بالقبب.

إن المرة الأولى التي رأيت فيها هذه الخزانات لا تنسى فقد بدأنا السير مبكرين جدا في المساء ، وبعد حوالي ساعة فقد مرشدي الطريق وكان دمي

١٣٢

يغلي وعقلي كاد ينفجر. لقد أمرت أن أتوقف كل مائة ياردة للحماية من ضربة الشمس هذا قد عرفته من خبراتي بالسفر. أخيرا وجدت الماء فهجمت إلى حوض الماء العميق بأيادي ترتجف أخذت وعاء الماء المصنوع من الطين الذي يسحب به الماء. وهل يصدّق أن الحبل كان قديما وبال حيث أن هذا قد أدى إلى وقوع الوعاء إلى الأرض وكسره. كم من الأيدي قد هزت هذا الوعاء ، فشرب الماء هذا يشبه تدفق الماء في قرية يابسة في مكان ما بجانبي. كانت الجرعة الأولى أفضل ، وبعد ثالث جرعة ماء جلست وأنا شبه أبكي وأنا مسرور ، وقد قمت بربط الحبل ، وبكل شجاعة ملأت الوعاء كاملا. كل ذلك لا يمكن أن ينسى ، لأنني إذا كنت قد سقطت في هذا المكان فهذا يعني أن الذئب وابن آوى لن يعرفا مكاني لمدة ثلاثة أيام على الأقل.

لقد كان الظلام حالكا عند ما وصلت قرية الصيادين في (سوزه) ووجدت معسكرنا هناك ، فقدّم لي «غلام شاه» كوبا من الشاي. ولكن سائقي الجمال قد امتنعوا تماما عن إحضار الحطب أو الماء ، وكان لا بد من حل عاجل بعد أن قمت بسؤال الرجال أنفسهم وقمت فصلهم بدون أي أجر.

فذهبوا وهم يهددون ويتوعدون. وأمرهم المسؤول عنهم ليأتوا إلى (سوزه) ليأخذونه وعائلته إلى مكان إقامتهم ، وقد تعهدوا أيضا لأخذي إلى (قشم) وليكونوا تحت تصرف مسؤولهم في اليوم التالي.

وفي اليوم التالي كنت أجلس تحت ظل شجرة تين قاحلة وهذا كان هو الظل الوحيد في المنطقة ، فقد كانت القرية مهجورة من جميع السكان ، حيث ذهبوا إلى الحصاد في (ميناب) وقد كان رجالي يتعجبون عن الاستفسارات بخصوص الجمال. ولكني علمت بوجود رجل كبير السن ترك في القرية فطلبته وبعد مناقشات وعدني بالجمال بعد ٣ ساعات.

وفي حوالي الساعة ١٠ مساء قررت أن أقوم بتحرياتي الخاصة.

١٣٣

وأخذت مصباحين بدأت بالمشي بين المنازل وقفز ثعبان أثناء مرورنا حتى وصلت إلى منزل مسؤول البلدة. ولم أدع له مجالا فذهب بنا إلى حوش داخلي حيث وجدنا جمالنا الثلاثة التي وعدنا بها.

وتبين أن العجوز قد تأخر في جلبها لنا حتى يحصل على أجرة إضافية. ولكنه وجد رجلا أجن منه حيث أمرت أن يتم وضع الأمتعة على جمالنا وبسرعة ، وبدأنا بالتحرك في الساعة ٤٥ : ١٠ مساء ، ولم نتوقف حتى وصلنا إلى (قشم) في صباح اليوم الثاني الساعة ٣٠ : ٨ صباحا. ولم يكن الشيخ الذي أعطانا الجمال مرتاحا حيث لاحظت عليه أنه طرد حماره الذي يركبه من الحوش.

كان الطريق مخيفا مع الظلام الدامس وكان لدينا مصباحا في العربة وآخر في الخلف وكنت في النصف مع عصاة بيدي ، وكان لا بد لنا من التحرك.

واقترح الرجال أن تتم رحلتنا على ثلاثة مراحل إلى (قشم) ولكن لم نتوقف خلال الرحلة كلها.

وبعد حوالي ١٨ ميلا أحد الرجال الثلاثة المرافقين لنا مع الجمال الثلاثة وقف يبكي على الطريق. وبعدها بقليل سقط الآخر معلنا أنه لا يستطيع الاستمرار لأنه على وشك الموت ولم يستطع حتى الرد على أحد الجمال.

إن رجال (قشم) هؤلاء يمشون مثل النساء العجائز ـ أما البلوش الذين معي والذين كانوا في (سوزه) بلا عمل جاد ـ كان لا بد لهم أن يتأقلموا مع هذه الظروف الجديدة وكانوا سعداء ؛ لأن هذه الظروف تغيرت. وكان قد بقى معي رجل واحد فسقط من الثلاثة واضطررت أن أتحمل ووضعته على ظهر حماري الذي لم أركبه قط. إن هذه الرحلة بينت معدن هؤلاء الرجال

١٣٤

وشخصياتهم. وقد يسافر الشخص لمسافة طويلة مع البلوش قبل أن يرى أحدهم يترك صديقه متعبا باكيا.

قبل الفجر واجهتنا مشكلة جديدة وذلك في وسط ظلام داكن لأننا قد وصلنا البحر وبدأنا بالمشي على ساحل طيني مستوى ومزحلق وزادت أثر سلبي على الجمال المحمولة وزاد الأمر سوءا أن المنطقة كانت تمر بها خيران نحيفة وعميقة.

كان منظرا مزعجا وكل هذه الأمور الصغيرة المزعجة نسيناها لأننا اقتربنا من الوصول لأجل عبور القناة إلى (قشم). وبدأ الرجال في دفع الجمال التي كانت تمشي وتدخل في عمق المياه المظلمة لدرجة أن أحسست أن الجمال بدأت تخرج من البحر عائدة للشاطئ ، ولم ينفعنا المصباحين بتاتا.

ولم أتمكن من معرفة حال المد والجزر ، ورغم ذلك وضعت ساعتي

١٣٥

في القبعة وثبت سلاحي في سرجه وبدأت مستعدا لأي طارئ. وبعد عشرة دقائق كنا قد عبرنا المكان حيث خفّ العمق وتبينا الشاطئ الرملي مرة أخرى. وقمنا بعدها بدفع الجمال إلى منطقة أخرى وحوالي شروق الشمس في الفجر وجدنا طريقنا في قرية مهجورة وبعدها بثلاثة أميال. وبعد ميلين عبرنا تلة عالية على يميننا وصلنا تحت شجرة السنط ـ كنا في قشم.

أما الآن فقد كنت أحاول أن أسمع من أين يصدر صوت الأمواج ويبدوا أنه هدير مياه حولنا ، وقد كنت مسرورا إن لم يكن هذا القلق قد حدث أيضا للرجال الذين معي ، فالتفكير قد أتعب عقلي ، لأنني لا أرى إشارة أو دليلا على الطريق الذي نسلكه. إن ما أفكر فيه الآن هو أن أضع الساعتين اللتين معي في عمامتي ، وبندقيتي في السرج لربما قد يحدث أي تغيير. على كل حال ، إننا كنا مشغولين لمعرفة مدى ترددنا في ذلك الوقت ، ولكن بعد مرور عشرة دقائق أصبحت المياه ضحلة وبلغنا الرمال ثانية. وأصبح أمامنا مرحلة أخرى من الطريق ، ولكن دم الرجال كان يغلي وكانوا يسوقون الجمال وكأنهم أصحابهم ، لم يكن أهالي (قشم) موجودون. وفي صباح اليوم التالي بعد مشقة من السير بين قرى مهجورة وعلى بعد ثلاثة أميال وصلنا إلى البحر ومررنا تحت ساحل صخري على الجانب الأيمن ، وبعد سير ٢ ميل جلسنا تحت شجرة «السنط» في (قشم) وكان السوق في قرية (قشم) فقير ولكنه نظيف ، وكان هناك منزل جميل «للشيخ صقر» الحاكم. والنوع الوحيد من الفواكه المتوفرة في البلدة هو ثمر اللوز ، وكان يطلق عليه اسم «جورومزانجي» الذي تؤكل قشرته المليئة بالماء وترمى النواة. كان لونه أحمر وطعمه كطعم الكمثرى. أما المانجو والبطيخ كانا يزرعان في واحة صغيرة وهي تشكل الجزء الذي فيه يعيش سكان الجزيرة. والقمح كما ذكرت سابقا يكون صغيرا. أما أوراق الشجر واسمه «مدرت» يعمل منه بودرة ويستعمل لعلاج الحمى.

١٣٦

لقد بقينا في (قشم) لمدة يومين ولم نحصل على قارب ، هنا البحر هادئ ويقال أنه من الصعب أن ترسو القوارب على شاطئ بندر عباس نسبة للأمواج الكثيرة التي ترتطم بالشاطئ. عادة كنت أقضي صباحي هائما في السوق والدردشة مع كابتن المركب التي سحبت إلى الرمال لعمل التصليحات بها.

إن هذا القارب كان يعاني من نقص الماء في رحلة من يومين إلى (بوشهر) ولقد حضروا فيها إلى (هنجام) لطلب أو سرقة الماء من حوض المياه الخاص بنا. كان الجو هادئا ، عند ما أتى بعض الرجال من الجزيرة لتفريغ السفينة على أن يدفعوا ثلث البضائع. بعد ذلك حضر الشيخ «عبد» من جزيرة صيد اللؤلؤ ومنع تفريغ الحمولة إلا إذا وافق قائد السفينة على دفع نصف البضائع. وفيما كان الموضوع يناقش وكادت السفينة تتحول إلى أنقاض لو لا تدخل الشيخ «صقر» ومنع تفريغ السفينة إلا بعد أن يستلم ثلثي البضائع.

وهكذا أصبحت هذه السفينة تابعة للملكية البريطانية ، وقائد السفينة كان رجلا عربيا يستحق التقدير مع لحيته البيضاء ، وقد أرسلت برقية بذلك إلى المسؤول السياسي في (بوشهر). بعد ذلك كان لدينا بحث قضائي عظيم وهو عبارة عن استشارته عن القائد ، وكان المترجم بين القائد و «الشيخ صقر» و «الشيخ عبد».

كذلك كان عليّ ترجمة ما كتبه القائد على البضائع التي كانت مسجلة هنا وهناك وفي كل مكان على مئات القطع الصغيرة من الورق القذر. ما هذا العمل؟ كان لديه مئات من الكتل الخشبية. كل واحدة تختلف عن الأخرى في الحجم ، بالمقياس ، والخامة والنوع ، وهناك أيضا ٦٨٠ قفصا من التمر الهندي ، والفلفل ، والبنجر ، وثمر الكوكا وكل قفص له مرسل ومرسال ، كذلك تختلف أوزان هذه الأقفاص عن أية أقفاص أخرى. وكان

١٣٧

البحر مغطى بثمر الكوكا ، عموما كان أمامنا ساعات من العمل الشاق.

وحيث أن هذا الموضوع حتما سيعرض أمام الشيخ «صقر» وعليّ أن أقلد بقوة وجدية قائد السفينة في سلوكه ، وربما يتخيل إليّ أنه لا يهتم ليريني حسن ضيافته عند مجيئي ، وقد بقيت تحت شجرتي كل الوقت حيث أنني لا أريد أن أقبل ضيافة من أي شخص مرؤوس أقل مستوى.

على كل إنه لا يوجد أفضل من النوم في ظل شجرة التين القاحلة في (سوزه) حيث أن الظل قليل حتى إنه عند ما انتصف النهار أخذ أحد الرجال يلكزني حتى هبطت الشمس.

إن الشيخ «صقر» نائم (هو ليس في البيت) وعند ما طلبت من قصره الذي بدى بمظهر غريب كان هناك سلما من حديد والزهر الأصفر اللون يضم بيتان مبنيان من الطين. في المساء كنت مع صديقي والقائد نجلس في المجلس في مربع مغطى بالسجاد. بجانب الشاطئ حيث كان يجلس أيضا «الشيخ صقر» وكان لي أن أؤيد الحديث بثلاث لغات في الحال.

كان الحديث عن صيد اللؤلؤ والملح الذي يأخذونه إلى مسقط ، وبدلا عنه يجلبون الحرير ، والثمن المرجّح لذلك أو ذاك كان الرجل يدفعه لذلك أو ذاك الاحتكار.

إن أربعة من التجار قد استنفذوا أموالهم في صناعة السفن ، سفن البغلة أو البوم. لقد أرسل الشيخ «صقر» أمرا بأن الضريبة العادية هي ٣٠٠ قران أو ١٢٥ جنيها يجب أن تدفع قبل أخذ إذن العمل ، بعد مساومات لمدة أسبوع بواسطة القوم في المجلس وافق التجار على ذلك. ولكن لم تأخذ المساومة الوقت الكافي ليعبّروا للشيخ «صقر» بما فيه الكفاية عن فقرهم ، لذلك فقد أصبحت الضريبة مبلغ ٠٠٠ ، ٤ قران ، ثم ارتفع المبلغ ليصل إلى ٠٠٠ ، ١٠ قران.

١٣٨

في مساء اليوم التالي وجدت قاربا بواسطة قائد السفينة ، ولكن استطاع «الشيخ صقر» أن يقنع ثلاثة من رجالي بعدم الرحيل في الدقائق الأخيرة. وكان الجو معتدلا وكنا أقوياء بما فيه الكفاية لمواجهة الإبحار الطويل ، لذلك قررت أن نبدأ. وقد أرسلت كلمة إلى الشيخ «صقر» أخبرته بأنني سأسافر الآن للقيام بعمل لصالح الحكومة البريطانية ، وهكذا سأتحمل المسؤولية لأي حادثة أتعرض لها. وبالجهد وصلنا إلى جزيرة (هرمز) وحيث أن الجو معتدل تابعنا حتى وصلنا في المساء إلى بندر عباس. إن الأمواج كانت عالية وكان رسو السفينة غير ممكن ولكن السفينة التي أنتظرها إلى (بوشهر) ستصل غدا.

وبالرغم من الصعوبات التي وجدناها وبالرغم من أن الجميع كانوا مرضى إلا أننا قد تمكنّا من الرسو بجانب ثلاث سفن كانت كانت أيضا تنتظر السفينة القادمة.

لقد كانت ليلة مضطربة. فقد سحبنا الهلب وأبحرنا بين الأمواج بحرا بعد بحر وقد ابتّل جميع الطعام معنا وملابسنا أيضا ، وفجأة سمعنا صوتا في الظلام وفي الدقيقة التالية اصطدمنا بسفينة أخرى ولكننا بعد ذلك تفاديناها ولكن كيف ، لا ادري؟ ومرة أخرى وجدنا أنفسنا نندفع إلى خارج البحر. وبالرغم من نقص طاقم السفينة إلا أنه كان هناك شجاعة ونشاط ونحن الآن بجانب الثلاث سفن مرة ثانية ، وقد كنا في انتظار السفينة التجارية التي تقلّنا إلى البلد التي نقصدها.

كان الوقت حوالي الساعة العاشرة. في الحال رفعت مراكب الشحن خطاطيفها وبدأت بالإبحار. أما بالنسبة لنا وبسبب وجود تلف في مركبنا فلم نتمكن من الإبحار ، سمعنا صوت خشخشة جهاز الإرسال للسفينة البخارية ولكننا لن نتمكن من اللحاق بها. إن مسؤول الرسائل البريدية قد مرّ من أمامنا ومعه البريد ، وقد قمنا جميعا لمخاطبته. ولكننا لم ننجح. في

١٣٩

عودته كان أقرب إلى مركبنا من المرة الأولى وقد حاولنا مرة أخرى أن نحييّه ولكننا أيضا لم ننجح ، فرفعت قبعتي على قلاع المركب ولكنه قد تركنا خلفه وذهب.

في الساعة الثانية عشر والنصف وحسب ما أعلم جلس هؤلاء الأشخاص على السفينة البخارية لتناول غداء فاخرا على مائدة نظيفة باستعمال أطباق وأكواب نظيفة أيضا ، ولأننا نحن في غاية الإرهاق والجوع لم نتمكن من الإبحار ثلاثمائة أو أربعمائة ياردة.

لقد جلسنا لتصليح العطل ، ورفع «غلام شاه» رأسه قليلا وهو يقول «هذه هي طريقة التمتع» برحلة ممتعة في المساء بدأنا الإبحار إلى ساحل (سورو) وهنا قد تأخرنا حوالي ثلاثة أميال عن الشاطئ ، نصف المسافة قد خضناها في الماء والنصف الآخر سباحة وباقي المسافة كانت طين وماء ، منطقة غير واضحة. وكان عدد طيورها كبيرا جدا وفي البداية كانت تبدو وكأننا الساكن الوحيد لتلك المنطقة. إنها منطقة منبسطة رملية بها غابات من شجر النخيل ، سرنا وحيدين فيها وكانت ملابسنا وأحذيتنا مبتلة بالعرق والطين وملح البحر وفجأة رأينا عشة بجانبها رجل مسن منهمك في تقسيم كومة من التمر إلى ثلاثة أقسام لبيعها في السوق.

لقد علمنا أننا قد وصلنا إلى منطقة أخرى تبعد حوالي ثلاثة أميال عن بلدة (سورو) فكانت قرية صغيرة بها أغنى التجّار من (بندر عباس) وكان عدد هؤلاء التجار تسعة تجار ، بعد أن أكلنا كمية من التمر وشربنا الماء البارد ، وبعد أن حصلنا على الجمال بدأنا سيرنا نحو بندر عباس ، وحوالي منتصف الليل قوبلنا مقابلة فخمة من السادة «جرى باول» بالميناء.

كانت (بندر عباس) توصف دائما ، وإليك وصفا كاملا عنها ، فكما هو جار في البلاد الشرقية كقاعدة مسّلم بها بأن فيها كل شيء بال ، رث ،

١٤٠