فتوح البلدان

أبوالحسن البلاذري

فتوح البلدان

المؤلف:

أبوالحسن البلاذري


المحقق: لجنة تحقيق التراث
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

ما كان خارجا فقدم عمر فأجاز ذلك ثم رجع إلى المدينة. وحدثني هشام بن عمار ، عن الوليد عن الأوزاعى : أن أبا عبيدة فتح قنسرين وكورها سنة ست عشرة ثم أتى فلسطين فنزل إيليا فسألوه أن يصالحهم فصالحهم فى سنة سبع عشرة على أن يقدم عمر رحمه‌الله فينفذ ذلك ويكتب لهم به.

حدثني هشام بن عمار ، قال : حدثني الوليد بن مسلم عن تميم بن عطية عن عبد الله بن قيس ، قال : كنت فيمن يلقى عمر مع أبى عبيدة مقدمه الشام فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلسون من أهل أذرعات بالسيوف والريحان ، فقال عمر : مه امنعوهم فقال أبو عبيد: يا أمير المؤمنين هذه سنتهم ـ أو كلمة نحوها ـ وإنك إن منعتهم منها يروا أن فى نفسك نقضا لعهدهم فقال دعوهم. قال : فكان طاعون عمواس سنة ثمان عشرة فتوفى فيه خلق من المسلمين منهم أبو عبيدة بن الجراح مات وله ثمان وخمسين سنة ، وهو أمير ومعاذ ابن جبل أحد بنى سلمة من الخزرج ، ويكنى أبا عبد الرحمن توفى بناحية الأقحوانة من الأردن وله ثمان وثلاثين سنة ، وكان أبو عبيدة لما احتضر استخلفه ، ويقال استخلف عياض بن غنم الفهري ، ويقال : بل استخلف عمرو بن العاصي فاستخلف عمرو ابنه ومضى إلى مصر والفضل بن العباس ابن عبد المطلب ويكنى أبا محمد ، وقوم يقولون أنه استشهد باجنادين والثبت أنه توفى فى طاعون عمواس ، وشرحبيل بن حسنة ويكنى أبا عبد الله مات وهو ابن تسع وستين سنة ، وسهيل بن عمرو أحد بنى عامر بن لؤي ويكنى أبا يزيد ، والحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي ، وقيل : أنه استشهد يوم اجنادين.

قالوا : ولما أتت عمر بن الخطاب وفاة أبى عبيدة كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بولاية الشام مكانه وأمره أن يغزو قيسارية. وقال قوم : إن عمر إنما ولى يزيد الأردن وفلسطين ، وأنه ولى دمشق أبا الدرداء ، وولى حمص عبادة

١٤١

ابن الصامت وحدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني الواقدي ، قال : اختلف علينا فى أمر قيسارية (١) فقال قائلون : فتحها معاوية ، وقال آخرون : بل فتحها عياض بن غنم بعد وفاة أبى عبيدة وهو خليفته ، وقال قائلون : بل فتحها عمرو بن العاصي. وقال قائلون : خرج عمرو بن العاصي إلى مصر وخلف ابنه عبد الله فكان الثبت من ذلك ، والذي اجتمع عليه العلماء : أن أول الناس الذي حاصرها عمرو بن العاصي نزل عليها فى جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة فكان يقيم عليها ما أقام ، فإذا كان للمسلمين اجتماع فى أمر عدوهم سار إليهم فشهد أجنادين وفحل والمرج ودمشق واليرموك ثم رجع إلى فلسطين فحاصرها بعد إيلياء ثم خرج إلى مصر من قيسارية ، وولى يزيد ابن أبى سفيان بعد أبى عبيدة فوكل أخاه معاوية بمحاصرتها وتوجه إلى دمشق مطعونا فمات بها.

وقال غير الواقدي : ولى عمر يزيد بن أبى سفيان فلسطين مع ما ولاه من أجناد الشام وكتب إليه يأمره بغزو قيسارية ، وقد كانت حوصرت قبل ذلك فنهض إليها فى سبعة عشر ألفا فقاتله أهلها ثم حصرهم ومرض فى آخر سنة ثماني عشرة فمضى إلى دمشق واستخلف على قيسارية أخاه معاوية ابن سفيان ففتحها وكتب إليه بفتحها فكتب به يزيد إلى عمر. ولما توفى يزيد بن أبى سفيان كتب عمر إلى معاوية بتوليته ما كان يتولاه فشكر أبو سفيان ذلك له وقال : وصلتك يا أمير المؤمنين رحم.

وحدثني هشام بن عمار ، قال : حدثني الوليد بن مسلم عن تميم بن عطية قال : ولى عمر معاوية بن أبى سفيان الشام بعد يزيد ، وولى معه رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة والقضاء : فولى أبا الدرداء قضاء دمشق والأردن وصلاتهما. وولى عبادة قضاء حمص وقنسرين وصلاتهما

__________________

(١) تقع مدينة قيسارية بين عكا ويافا على ساحل البحر.

١٤٢

وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي فى اسناده قال : لما ولى عمر بن الخطاب معاوية الشام حاصر قيسارية حتى فتحها ، وقد كانت حوصرت نحوا من سبع سنين وكان فتحها فى شوال سنة تسع عشرة. وحدثني محمد بن سعد عن محمد ابن عمر عن عبد الله بن عامر فى اسناده قال : حاصر معاوية قيسارية حتى يئس من فتحها ، وكان عمرو بن العاصي وابنه حاصراها ففتحها معاوية قسرا فوجد بها من المرتزفة سبعمائة ألف ، ومن السامرة ثلاثين ألفا ، ومن اليهود مائتي ألف ، ووجد بها ثلاثمائة سوق قائمة كلها ، وكان يحرسها فى كل ليلة على سورها مائة ألف.

وكان سبب فتحها إن يهوديا يقال له يوسف أتى المسلمين ليلا فدلهم على طريق فى سرب فيه الماء إلى حقو الرجل على أن أمنوه وأهله وأنفذ معاوية ذلك ودخلها المسلمون فى الليل وكبروا فيها فأراد الروم أن يهربوا من السرب فوجدوا المسلمين عليه ، وفتح المسلمون الباب فدخل معاوية ومن معه وكان بها خلق من العرب ، وكانت فيهم شقراء التي يقول فيها حسان بن ثابت :

تقول شقراء لو صحوت عن الخمر

لأصبحت مثرى العدد

ويقال : أن اسمها شعثاء. وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي فى اسناده أن سبى قيسارية بلغوا أربعة آلاف رأس ، فلما بعث به معاوية إلى عمر بن الخطاب أمر بهم فأنزلوا الجرف ثم قسمهم على يتامى الأنصار وجعل بعضهم فى الكتاب والأعمال للمسلمين ، وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه أخدم بنات أبى أمامة أسعد بن زرارة خادمين من سبى عين التمر فماتا فأعطاهن عمر مكانهما من سبى قيسارية.

قالوا : ووجه معاوية بالفتح مع رجلين من جذام ثم خاف ضعفهما

١٤٣

عن المسير فوجه رجلا من خثعم ، فكان الخثعمي يجهد نفسه فى السير والسرى وهو يقول :

أرق عيني أخو جذام

أخى جشم وأخو حرام

كيف أنام وهما أمامى

إذ يرحلان والهجير طام

فسبقهما ودخل على عمر فكبر عمر. وحدثني هشام بن عمار فى إسناد له لم أحفظه أن قيسارية فتحت قسرا فى سنة تسع عشرة فلما بلغ عمر فتحها نادى أن قيسارية فتحت قسرا وكبر وكبر المسلمون ، وكانت حوصرت سبع سنين وفتحها معاوية.

قالوا : وكان موت يزيد بن أبى سفيان فى آخر سنة ثمان عشرة بدمشق فمن قال : أن معاوية فتح قيسارية فى حياة أخيه قال : إنما فتحت فى آخر سنة ثمان عشرة ومن قال : أنه فتحها فى ولايته الشام قال. فتحت فى سنة تسع عشرة وذلك الثبت. وقال بعض الرواة أنها فتحت فى أول سنة عشرين.

قالوا. وكتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين ففتح عسقلان صلحا بعد كيد. ويقال. إن عمر بن العاصي كان فتحها ثم نقض أهلها وأمدهم الروم ففتحها معاوية وأسكنها الروابط وكل بها الحفظة.

وحدثني بكر بن الهيثم قال : سمعت محمد بن يوسف الفريابي يحدث عن مشايخ من أهل عسقلان أن الروم أخربت عسقلان وأجلت أهلها عنها فى أيام من الزبير ، فلما ولى عبد الملك بن مروان بناها وحصنها ورم أيضا قيسارية. وحدثني محمد بن مصفى ، قال حدثني أبو سليمان الرملي عن أبيه أن الروم خرجت فى أيام ابن الزبير إلى قيسارية فشعثتها وهدمت مسجدها ، فلما استقام لعبد الملك بن مروان الأمر رم قيسارية وأعاد مسجدها وأشحنها

١٤٤

بالرجال وبنى صور وعكا الخارجة ، وكانت سبيلهما مثل سبيل قيسارية.

وحدثني جماعة من أهل العلم بأمر الشام ، قالوا : ولى الوليد بن عبد الملك سليمان بن عبد الملك جند فلسطين فنزل لد ، ثم أحدث مدينة الرملة ومصرها وكان أول ما بنى منها قصره والدار التي تعرف بدار الصباغين ، وجعل فى الدار صهريجا متوسطا لهائم اختط للمسجد خطة وبناه ، فولى الخلافة قبل استتمامه ثم بنى فيه بعد فى خلافته ، ثم أتمه عمر بن عبد العزيز ونقص من الخطة ، وقال : أهل الرملة يكتفون بهذا المقدار الذي اقتصرت بهم عليه.

ولما بنى سليمان لنفسه أذن للناس فى البناء فبنوا ، واحتفر لأهل الرملة قناتهم التي تدعى بردة واحتفر آبارا وولى النفقة على بنائها بالرملة ومسجد الجماعة كاتبا له نصرانيا من أهل لد يقال له البطريق بن النكا ، ولم تكن مدينة الرملة قبل سليمان ، وكان موضعها رملة.

قالوا : وقد صارت دار الصباغين لورثة صالح بن على بن عبد الله بن العباس لأنها قبضت مع أموال بنى أمية قالوا : وكان بنو أمية ينفقون على آبار الرملة وقناتها بعد سليمان بن عبد الملك فلما استخلف بنو العباس أنفقوا عليها ، وكان الأمر فى تلك النفقة يخرج فى كل سنة من خليفة بعد خليفة ، فلما استخلف أمير المؤمنين أبو إسحاق المعتصم بالله اسجل بتلك النفقة سجلا فانقطع الاستثمار وصارت جارية يحتسب بها العمال فيحسب لهم قالوا : وبفلسطين فروز بسجلات من الخلفاء مفردة من خراج العامة ، وبها التخفيف والردود ، وذاك إن ضباعا رفضت فى خلافة الرشيد وتركها أهلها فوجه أمير المؤمنين الرشيد هرثمة بن أعين لعمارتها ، فدعا قوما من مزارعيها وأكرتها إلى الرجوع إليها على أن يخفف عنهم من خراجهم ولين معاملتهم فرجعوا ، فأولئك

١٤٥

أصحاب التخافيف ، وجاء قوم منهم بعد فردت عليهم أرضهم على مثل ما كانوا عليه فهم أصحاب الردود.

وحدثني بكر بن الهيثم ، قال : لقيت رجلا من العرب بعسقلان فأخبرنى أن جده ممن أسكنه إياها عبد الملك وأقطعه بها قطيعة مع من أقطع من المرابطة قال ، وأرانى أرضا فقال : هذه من قطائع عثمان بن عفان. قال بكر : وسمعت محمد بن يوسف الفريابي يقول بعسقلان ههنا قطائع أقطعت بأمر عمر وعثمان لو دخل فيها رجل لم أجد بذلك بأسا.

أمر جند قنسرين والمدن

التي تدعى العواصم

قالوا : سار أبو عبيدة بن الجراح بعد فراغه من أرض اليرموك إلى حمص فاستقراها ، ثم أتى قنسرين وعلى مقدمته خالد بن الوليد فقاتله أهل مدينة قنسرين ، ثم لجأوا إلى حصنهم وطلبوا الصلح فصالحهم أبو عبيدة على مثل صلح حمص وغلب المسلمون على أرضها وقراها ، وكان حاضر قنسرين لتنوخ مذ أول ما تنخوا بالشام نزلوه وهم فى خيم الشعر ، ثم ابتنوا به المنازل : فدعاهم أبو عبيدة إلى الإسلام فأسلم بعضهم وأقام على النصرانية بنو سليح بن حلوان ابن عمران ابن الحاف بن قضاعة ، فحدثني بعض ولد يزيد بن حنين الطائي الأنطاكى عن أشياخهم : ان جماعة من أهل ذلك الحاضر أسلموا فى خلافة أمير المؤمنين المهدى فكتب على أيديهم بالحضرة قنسرين ، ثم سار أبو عبيدة يريد حلب فبلغه أن أهل قنسرين قد نقضوا وغدروا فوجه إليهم السمط بن الأسود الكندي فحصرهم ثم فتحها.

حدثني هشام بن عمار الدمشقي ، قال : حدثنا يحيى بن حمزة عن أبى عبد العزيز عن عبادة بن نسى عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : رابطنا مدينة قنسرين مع

١٤٦

السمط ـ أو قال شرحبيل بن السمط ـ فلما فتحها أصاب فيها بقرا وغنما ، فقسم فينا طائفة وجعل بقيتها فى المغنم ، وكان حاضر طيء قديما نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزلوا الجبلين من نزل منهم وتفرق باقوهم فى البلاد ، فلما ورد أبو عبيده عليهم أسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك بيسير إلا من شذ عن جماعتهم ، وكان بقرب مدينة حلب حاضر تدعى حاضر حلب يجمع أصنافا من العرب من تنوخ وغيرهم فصالحهم أبو عبيدة على الجزية ، ثم أنهم أسلموا بعد ذلك فكانوا مقيمين وأعقابهم به إلى بعيد وفاة أمير المؤمنين الرشيد ، ثم إن أهل ذلك الحاضر حاربوا أهل مدينة حلب وأرادوا إخراجهم عنها ، فكتب الهاشميون من أهلها إلى جميع من حولهم من قبائل العرب يستنجدونهم فكان أسبقهم إلى انجادهم وإغاثتهم العباس ابن زفر بن عاصم الهلالي بالخؤولة ، لأن أم عبد الله ابن العباس لبابة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن الهزم هلالية ، فلم يكن لأهل ذلك الحاضر به وبمعن معه طافة فأجلوهم عن حاضرهم وأخربوه ، وذلك فى أيام فتنة محمد بن الرشيد ، فانتقلوا إلى قنسرين فتلقاهم أهلها بالأطعمة والكسى فلما دخلوها أرادوا التغلب عليها فأخرجوهم عنها فتفرقوا فى البلاد ، فمنهم قوم بتكريت قد رأيتهم ومنهم قوم بأرمينية وفى بلدان كثيرة متباينة.

وأخبرنى أمير المؤمنين المتوكل رحمه‌الله قال : سمعت شيخا من مشايخ بنى صالح بن على بن عبد الله بن عباس يحدث أمير المؤمنين المعتصم بالله رحمه‌الله سنة غزا عمورية ، قال لما ورد العباس بن زفر الهلالي حلب لاغاثة الهاشمين ناداه نسوة منهم : يا خال نحن بالله ثم بك ، فقال : لا خوف عليكم إن شاء الله خذلنى الله إن خذلتكم ، قال : وكان حيار بنى القعقاع بلدا معروفا قبل الإسلام ، وبه كان مقيل المنذر بن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة فنزله

١٤٧

بنو القعقاع بن خليد بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعه بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض أوطنوه لنسب إليهم.

وكان عبد الملك بن مروان أقطع القعقاع به قطيعة وأقطع عمه العباس ابن جزء بن الحارث قطائع أوغرها له إلى اليمن فأوغرت بعده ، وكانت أو أكثرها موانا ، وكانت ولادة بنت العباس بن جزء عند عبد الملك فولدت له الوليد وسليمان. قالوا ورحل أبو عبيدة إلى حلب وعلى مقدمته عياض ابن غنم الفهري ، وكان أبوه يسمى عبد غنم ، فلما أسلم عياض كره أن يقال عبد غنم فقال : أنا عياض بن غنم فوجد أهلها قد تحصنوا فنزل عليها فلم يلبثوا أن طلبوا الصلح والأمان على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم ومنازلهم والحصن الذي بها فأعطوا ذلك فاستثنى عليهم موضع المسجد ، وكان الذي صالحهم عليه عياض فأنفذ أبو عبيدة صلحه ، وزعم بعض الرواة أنهم صالحوا على حقن دمائهم وأن يقاسموا أنصاف منازلهم وكنائسهم ، وقال بعضهم : أن أبا عبيدة لم يصادف بحلب أحدا وذلك أن أهلها انتقلوا إلى انطاكية وأنهم إنما صالحوه عن مدينتهم وهم بأنطاكية راسلوه فى ذلك فلما تم صلحهم رجعوا إلى حلب ، قالوا : وسار أبو عبيدة من حلب إلى انطاكية وقد تحصن بها خلق من أهل جند قنسرين فلما صار بمهروية وهي على قريب فرسخين من مدينة انطاكية لقيه جمع للعدو ففضهم وألجأهم إلى المدينة وحاصر أهلها من جميع أبوابها ، وكان معظم الجيش على باب فارس والباب الذي يدعى باب البحر ، ثم أنهم صالحوه على الجزية والجلاء فجلا بعضهم وأقام بعضهم فأمنهم ووضع على كل حالم منهم دينارا وجريبا ثم نقضوا العهد فوجه إليهم أبو عبيدة عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول ، ويقال : بل نقضوا بعد رجوعه إلى فلسطين فوجه عمرو بن

١٤٨

العاصي من إيليا ففتحها ثم رجع فمكث يسيرا حتى طلب أهل إيليا الأمان والصلح والله أعلم.

وحدثني محمد بن سهم الأنطاكى ، عن أبى صالح الفراء قال ، قال مخلد بن الحسين سمعت مشايخ الثغر يقولون : كانت انطاكية عظيمة الذكر والأمر عند عمر وعثمان فلما فتحت : كتب عمر إلى أبى عبيدة أن رتب بأنطاكية جماعة من المسلمين أهل نيات وحسبة وأجعلهم بها مرابطة ولا تحبس عنهم العطاء ، ثم لما ولى معاوية كتب إليه بمثل ذلك ثم أن عثمان كتب إليه يأمره أن يلزمها قوما وأن يقطع قطائع ففعل ، قال ابن سهم : وكنت واقفا على جسر انطاكية على الأرنط فسمعت شيخا مسنا من أهل انطاكية وأنا يومئذ غلام يقول : هذه الأرض قطيعة من عثمان لقوم كانوا فى بعث أبى عبيدة أقطعهم إياها أيام ولاية عثمان معاوية الشام ، قالوا : ونقل معاوية ابن أبى سفيان إلى انطاكية فى سنة اثنتين وأربعين جماعة من الفرس وأهل بعلبك وحمص ومن المصرين فكان منهم مسلم بن عبد الله جد عبد الله بن حبيب بن النعمان بن مسلم الأنطاكي وكان مسلم قتل على باب من أبواب انطاكية يعرف اليوم بباب مسلم ، وذلك أن الروم خرجت من الساحل فأناخت على انطاكية فكان مسلم على السور فرماه علج بحجر فقتله.

وحدثني جماعة من مشايخ أهل انطاكية منهم ابن برد الفقيه. أن الوليد ابن عبد الملك أقطع جندا بأنطاكية أرض سلوقية عند الساحل وصير الفلثر وهو الجريب ـ بدينار ومدى قمح فعمروها ، وجرى ذلك لهم وبنى حصن سلوقية ، قالوا : وكانت أرض بغرلمس لمسلمة بن عبد الملك فوقفها فى سبيل البر ، وكانت عين السلور وبحيرتها له ايضا ، وكانت الاسكندرية له ثم صارت لرجاء مولى المهدى اقطاعا يورثه منصور وإبراهيم ابنا المهدى ، ثم صارت لإبراهيم ابن سعيد الجوهري ، ثم لأحمد بن أبى داود الإيادي ابتياعا ، ثم

١٤٩

انتقل مليكها إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله رحمه‌الله فحدثني ابن برد الأنطاكى وغيره قالوا : أقطع مسلمة بن عبد الملك قوما من ربيعة قطائع فقبضت وصارت بعد للمأمون وجرى أمرها على يد صالح الخازن صاحب الدار بأنطاكية ، قالوا : وبلغ أبا عبيدة أن جمعا للروم بين معرة مصرين وحلب فلقيهم وقتل عدة بطارقة وفض ذلك الجيش وسبى وغنم وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين ومرتحوان وتيزين وصالحوا أهل دير طايا ودير الفسيلة على أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ، وأتاه نصارى خناصرة فصالحهم وفتح أبو عبيدة جميع أرض قنسرين وانطاكية.

حدثني العباس بن هشام عن أبيه ، قال : خناصرة نسبت إلى خناصر بن عمرو بن الحارث الكلبي : ثم الكناني ، وكان صاحبها وبطنان حبيب نسب إلى حبيب بن مسلمة الفهري ، وذلك أن أبا عبيدة أو عياض بن غنم وجهه من حلب ففتح حصنا بها فنسب إليه ، قالوا : وسار أبو عبيدة يريد قورس وقدم أمامه عياضا فتلقاه راهب من رهبانها يسأل الصلح عن أهلها ، فبعث به إلى أبى عبيدة وهو بين جبرين وتل أعزاز فصالحه ثم أتى قورس فعقد لأهلها عهدا وأعطاهم مثل الذي أعطى انطاكية وكتب للراهب كتابا فى قرية له تدعى شرقينا وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس إلى آخر حد نقابلس ، قالوا : وكانت قورس كالمسلحة لانطاكية يأتيها فى كل عام طالعة من جند انطاكية ومقاتلتها ثم حول إليها ربع من أرباع انطاكية وقطعت الطوالع عنها ويقال : أن سليمان بن ربيعة الباهلي كان فى جيش أبى عبيدة مع أبى أمامة الصدى بن عجلان صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل حصنا بقورس فنسب إليه وهو يعرف بحصن سلمان ، ثم قفل من الشام فيمن أمد به سعد بن أبى وقاص وهو بالعراق ، وقيل : سلمان بن ربيعة كان غزا

١٥٠

الروم بعد فتح العراق وقبل شخوصه إلى أرمينية فعسكر عند هذا الحصن وقد خرج من ناحية مرعش فنسب إليه ، وسلمان وزياد من الصقالبة الذين رتبهم مروان بن محمد فى الثغور ، وسمعت من يذحر أن سلمان هذا رجل من الصقالبة نسب إليه الحصن والله أعلم.

قالوا : وأتى أبو عبيدة حلب الساجور وقدم عياضا إلى منبج ثم لحقه وقد صالح أهلها على مثل صلح أنطاكية فأنفذ أبو عبيدة ذلك وبعث عياض ابن غنم إلى ناحية دلوك ورعبان فصالحه أهلها على مثل صلح منبج واشترط عليهم أن يبحثوا عن أخبار الروم ويكاتبوا بها المسلمين وولى أبو عبيدة كل كورة فتحها عاملا وضم إليه جماعة من المسلمين وشحن النواحي المخوفة ، قالوا : ثم سار أبو عبيدة حتى نزل عراجين وقدم مقدمته إلى بالس ، وبعث جيشا عليه حبيب بن مسلمة إلى قاصرين وكانت بالس وقاصرين لأخوين من أشراف الروم أقطعا القرى التي بالقرب منهما وجعلا حافظين لما بينهما من مدن الروم بالشام ، فلما نزل المسلمون بها صالحهم أهلها على الجزية والجلاء فجلا أكثرهم إلى بلاد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبح ، ولم يكن الجسر يومئذ إنما اتخذ فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه للصوائف ، ويقال : بل كان له رسم قديم قالوا : ورتب أبو عبيدة ببالس جماعة من المقاتلة وأسكنها قوما من العرب الذين كانوا بالشام فأسلموا بعد قدوم المسلمين الشام وقوما لم يكونوا من البعوث نزعوا من البوادي من قيس وأسكن قاصرين قوما ثم رفضوها أو أعقابهم وبلع أبو عبيدة الفرات ثم رجع إلى فلسطين وكانت بالس والقرى المنسوبة إليها فى حدها الأعلى والأوسط والأسفل اعذاء عشرية.

فلما كان مسلمة بن عبد الملك بن مروان : توجه غازيا للووم من نحو الثعور الجزرية عسكر ببالس فأتاه أهلها وأهله بوبلس وقاصرين وعابدين

١٥١

وصفين ، وهي قرى منسوبة إليها فأتاه أهل الحد الأعلى فسألوه جميعا أن يحفر لهم نهرا من الفرات يسقى أرضهم على أن يجعلوا له الثلث من غلاتهم بعد عشر السلطان الذي كان يأخذه ففعل فحفر النهر المعروف بنهر مسلمة ووفوا له بالشرط ورم سور المدينة وأحكمه.

ويقال : بل كان ابتداء الغرض من مسلمة وأنه دعاهم إلى هذه المعاملة فلما مات مسلمة صارت بالس وقراها لورثته فلم تزل فى أيديهم إلى أن جاءت الدولة المباركة وقبض عبد الله بن على أموال بنى أمية فدخلت فيها فأقطعها أمير المؤمنين أبو العباس سليمان بن على بن عبد الله بن العباس فصارت لابنه محمد بن سليمان ، وكان جعفر بن سليمان أخوه يسعى به إلى أمير المؤمنين الرشيد رحمه‌الله ويكتب إليه فيعلمه أنه لا مال له ولا ضيعة إلا وقد اجتاز أضعاف قيمته وأنفقه فيما يرشح له نفسه وعلى من اتخذ من الخول وأن أمواله حل طلق لأمير المؤمنين ، وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه ، فلما توفى محمد بن سليمان أخرجت كتبه إلى جعفر واحتج عليه بها ولم يكن لمحمد أخ لأبيه وأمه غيره فأقر بها وصارت أمواله للرشيد فأقطع بالس وقراها المأمون رحمه‌الله فصارت لولده من بعده.

حدثني هشام بن عمار ، قال : حدثنا يحيى بن حمزة عن تميم بن عطية عن عبد الله بن قيس الهمداني ، قال : قدم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين لأنها فتحت عنوة ، فقال معاذ بن جبل : والله لأن قسمتها ليكونن ما نكره ويصير الشيء الكثير فى أيدى القوم ثم يبيدون فيبقى ذلك لواحد ثم يأتى من بعدهم قوم يسدون الإسلام مسدا فلا يجدون شيئا فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم فصار إلى قول معاذ.

حدثني الحسين بن على بن الأسود العجلى ، عن يحيى بن آدم عن مشايخ

١٥٢

من الجزريين عن سليمان بن عطاء عن سلمة الجهني عن عمه أن صاحب بصرى ذكر أنه كان صالح المسلمين على طعام وزيت وخل فسأل عمر أن يكتب له بذلك وكذبه أبو عبيدة ، وقال إنما صالحناه على شيء يتبع به المسلمون لمشتاهم ففرض عليهم الجزية على الطبقات والخراج على الأرض.

وحدثني الحسين قال : حدثنا محمد بن الأحدب ، قال : أخبرنا عبد الله ابن عمر عن نافع عن أسلم مولى عمر أن عمر كتب إلى أمراء الجزية أن لا يضربوها إلا على من جرت عليه الموسى وجعلها على أهل الذهب أربعة دنانير وجعل عليهم لأرزاق المسلمين من الحنطة لكل رجل مدين ومن الزيت ثلاثة أقساط بالشام والجزيرة مع إضافة من نزل بهم ثلاثا. وحدثني أبو حفص الشامي ، عن محمد بن راشد عن مكحول ، قال : كل عشري بالشام فهو مما جلا عنه أهله فأقطعه المسلمون فأحيوه وكان مواتا لا حق فيه لأحد فأحيوه بإذن الولاة.

أمر قبرص

قالوا الواقدي وغيره : غزا معاوية بن أبى سفيان فى البحر غزوة قبرس الأولى ، ولم يركب المسلمون بحر الروم قبلها وكان معاوية استأذن عمر فى غزو البحر فلم يأذن له ، فلما ولى عثمان بن عفان كتب إليه يستأذنه فى غزوة قبرس ويعلمه قربها وسهولة الأمر فيها ، فكتب إليه أن قد شهدت مارد عليك عمر ـ رحمه‌الله ـ حين استأمرته فى غزو البحر. فلما دخلت سنة سبع وعشرين كتب إليه يهون عليه ركوب البحر إلى قبرس ، فكتب إليه عثمان ، فإن ركبت البحر ومعك امرأتك فأركبه مأذونا لك وإلا فلا ، فركب البحر من عكا ومعه مراكب كثيرة وحمل امرأته فاختة بنت قرظة بن عبد

١٥٣

عمرو بن نوفل بن عبد مناف ابن قصى وحمل عبادة بن الصامت امرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية وذلك فى سنة ثمان وعشرين بعد انحسار الشتاء ويقال فى سنة تسع وعشرين فلما صار المسلمون إلى قبرس فأرقوا إلى ساحلها ـ وهي جزيرة فى البحر يكون فيما يقال ثمانين فرسخا فى مثلها ـ بعث إليهم أركونها يطلب الصلح وقد أذعن أهلها به فصالحهم على سبعة آلاف ومائتي دينار يؤدونها فى كل عام ، وصالحهم الروم على مثل ذلك فهم يؤدون خراجين واشترطوا أن لا يمنعهم المسلمون أداء الصلح إلى الروم واشترط عليهم المسلمون أن لا يقاتلوا عنهم من أرادهم من ورائهم وأن يؤذنوا المسلمين بسير عدوهم من الروم ، فكان المسلمون إذا ركبوا البحر لم يعرضوا لهم ولم ينصرهم أهل قبرس ولم ينصروا عليهم.

فلما كان سنة اثنتين وثلاثين أعانوا الروم على الغزاة فى البحر بمراكب أعطوهم إياها فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين فى خمسمائة مركب ففتح قبرس عنوة فقتل وسبى ، ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليها باثنى عشر ألفا كلهم أهل ديوان فبنوا بها المساجد ، ونقل إليها جماعة من بعلبك وبنى بها مدينة وأقاموا يعطون الأعطية إلى أن توفى معاوية وولى بعده ابنه يزيد فاقفل ذلك البعث وأمر بهدم المدينة وبعض الرواة يزعم أن غزوة معاوية الثانية قبرس فى سنة خمس وثلاثين.

وحدثني محمد بن مصفى الحمصي عن الوليد ، قال : بلغنا أن يزيد بن معاوية رشا مالا عظيما ذا قدر حتى أقفل جند قبرس ، فلما قفلوا هدم أهل قبرس مدينتهم ومساجدهم. وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن عبد السلام بن موسى عن أبيه ، قال : لما غزيت قبرس الغزوة الأولى ركبت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت فلما انتهوا إلى قبرس خرجت من المركب وقدمت إليها دابة لتركبها فعثرت بها فقتلتها فقبرها بقبرس يدعى قبر المرأة

١٥٤

الصالحة ، قالوا : وغزا مع معاوية ، أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصارى وأبو الدرداء ، وأبو ذر الغفاري ، وعبادة بن الصامت ، وفضالة بن عبيد الأنصارى وعمير بن سعد بن عبيد الأنصارى ، وواثلة بن الأسقع الكناني وعبد الله بن بشر المازني ، وشداد بن أوس بن ثابت ، وهو ابن أخى حسان ابن ثابت ، والمقداد ، وكعب الحبر بن ماتع ، وجبير بن نفير الحضرمي.

وحدثني هشام بن عمار الدمشقي ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان ابن عمرو : أن معاوية بن أبى سفيان غزا قبرس بنفسه ومعه امرأته ففتحها الله فتحا عظيما وغنم المسلمين غنما حسنا ، ثم لم يزل المسلمون يغزونهم حتى صالحهم معاوية فى أيامه صلحا دائما على سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين وإنذارهم عدوهم من الروم هذا أو نحوه. قالوا : وكان الوليد بن يزيد بن عبد الملك أجلى منهم خلقا إلى الشام لأمر اتهمهم به فأنكر الناس ذلك فزدهم يزيد بن الوليد بن عبد الملك إلى بلدهم وكان حميد معيوف الهمداني غزاهم فى خلافة الرشيد لحدث أحدثوه فأسر منهم بشرا ، ثم أنهم استقاموا للمسلمين فأمر الرشيد برد من أسر منهم فردوا.

حدثني محمد بن سعد عن الواقدي فى اسناده ، قال : لم يزل أهل قبرس على صلح معاوية حتى ولى عبد الملك بن مروان فزاد عليهم ألف دينار فجرى ذلك إلى خلافة عمر بن عبد العزيز فحطها عنهم ، ثم لما ولى هشام بن عبد الملك ردها فجرى ذلك إلى خلافة أبى جعفر المنصور ، فقال : نحن أحق من أنصفهم ولم نتكثر بظلمهم فردهم إلى صلح معاوية.

وحدثني بعض أهل العلم من الشاميين وأبو عبيد القاسم بن سلام ، قالوا : أحدث أهل قبرس حدثا فى ولاية عبد الملك بن صالح بن على بن عبد الله ابن عباس الثغور فأراد نقض صلحهم والفقهاء متوافرون : فكتب إلى الليث

١٥٥

ابن سعد ، ومالك بن أنس ، وسفيان بن عيينة ، وموسى بن أعين ، وإسماعيل بن عياش ، ويحيى بن حمزة ، وأبى إسحاق الفزاري ، ومخلد بن الحسين فى أمرهم فأجابوه ، وكان فيما كتب به الليث بن سعد : أن أهل قبرس قوم لم نزل نتهمهم بغش أهل الإسلام ومناصحة أعداء الله الروم ، وقد قال الله تعالى (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) ولم يقل لا تنبذ إليهم حتى تستيقن خيانتهم ، وإنى أرى أن تنبذ إليهم وينظروا سنة يأتمرون ، فمن أحب منهم اللحاق ببلاد المسلمين على أن يكون ذمة يؤدى الخراج قبلت ذلك منه ، ومن أراد أن ينتحى إلى بلاد الروم فعل ، ومن أراد المقام بقبرس على الحرب أقام فكانوا عدوا يقاتلون ويغزون ، فإن فى إنظار سنة قطعا لحجتهم ووفاء بعهدهم.

وكان فيما كتب به مالك بن أنس : أن أمان أهل قبرس كان قديما متظاهرا من الولاة لهم ، وذلك لأنهم رأوا أن إقرارهم على حالهم ذل وصغار لهم وقوة للمسلمين عليهم بما يأخذون من جزيتهم ويصيبون به من الفرصة فى عدوهم ، ولم أجد أحدا من الولاة نقض صلحهم ولا أخرجناهم عن بلدهم ، وأنا أرى : أن لا تعجل بنقض عهدهم ومنابذتهم حتى تتجه الحجة عليهم ، فإن الله يقول (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) فإن هم لم يستقيموا بعد ذلك ويدعوا غشهم ورأيت أن العذر ثابت منهم أوقعت بهم ، فكان ذلك بعد الأعذار فرزقت النصر ، وكان بهم الذل والخزي إن شاء الله تعالى.

وكتب سفيان بن عيينة : أنا لا نعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاهد قوما فنقضوا العهد إلا استحل قتلهم غير أهل مكة فإنه من عليهم وكان نقضهم أنهم نصروا حلفاءهم على حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خزاعة ، وكان فيما أخذ على أهل نجران أن لا يأكلوا الربا فحكم فيهم عمر ـ رحمه‌الله ـ حين أكلوه باجلائهم فإجماع القوم أنه من نقض عهدا فلا ذمة له.

١٥٦

وكتب موسى بن أعين : قد كان يكون مثل هذا فيما خلا فيعمل الولاة فيه النظر ، ولم أر أحدا ممن مضى نقض عهد أهل قبرس ولا غيرها ولعل عامتهم وجماعتهم لم يمالئوا على ما كان من خاصتهم ، وأنا أرى الوفاء لهم والتمام على شرطهم وإن كان منهم الذي كان ، وقد سمعت الأوزاعى يقول فى قوم صالحوا المسلمين ثم أخبروا المشركين بعورتهم ودلوهم عليها : إنهم إن كانوا ذمة فقد نقضوا عهدهم وخرجوا من ذمتهم ، فإن شاء الوالي قتل وصلب ، وإن كانوا صلحا لم يدخلوا فى ذمة المسلمين نبذ إليهم الوالي على سواء (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ).

وكتب إسماعيل بن عياش : أهل قبرس أذلاء مقهورون يغلبهم الروم على أنفسهم ونسائهم فقد يحق علينا أن نمنعهم ونحميهم.

وقد كتب حبيب بن مسلمة لأهل تفليس فى عهده أنه إن عرض للمسلمين شغل عنكم وقهركم عدوكم فإن ذلك غير ناقض عهدكم بعد أن تفوا للمسلمين وأنا أرى أن يقروا على عهدهم وذمتهم ، فإن الوليد بن يزيد قد كان أجلاهم إلى الشام فاستقطع ذلك المسلمون واستعظمه الفقهاء ، فلما ولى يزيد بن الوليد بن عبد الملك ردهم إلى قبرس فاستحسن المسلمون ذلك من فعله ورأوه عدلا.

وكتب يحيى بن حمزة : إن أمر قبرس كأمر عربسوس فإن فيها قدوة حسنة وسنة متبعة وكان من أمرها أن عمير بن سعد قال لعمر بن الخطاب وقدم عليه : إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها عربسوس ، وأنهم يخبرون عدونا بعوراتنا ولا يظهرونا على عورات عدونا ، فقال عمر : فإذا قدمت فخيرهم أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين ، ومكان كل بقرة بقرتين ، ومكان كل شيء شيئين فإذا رضوا بذلك فأعطهم إياه وأجلهم وأخربها فإن أبوا فانبذ إليهم وأجلهم سنة ثم أخربها ، فانتهى عمير إلى ذلك فأبوا فأجلهم سنة ثم أخربها ، وكان لهم

١٥٧

عهد كعهد أهل قبرس وترك أهل قبرس على صلحهم والاستعانة بما يؤدون على أمور المسلمين أفضل ، وكل أهل عهد لا يقاتل المسلمون من ورائهم ويجرون عليهم أحكامهم فى دارهم فليسوا بذمة ولكنهم أهل فدية يكف عنهم ما كفوا ويوفى لهم بعهدهم ما وفوا ورضوا ويقبل عفوهم ما أدوا.

وقد روى عن معاذ بن جبل : أنه كره أن يصالح أحد من العدو على شيء معلوم إلا أن يكون المسلمون مضطرين إلى صلحهم لأنه لا يدرى لعل صلحهم نفع وعز للمسلمين.

وكتب أبو إسحاق الفزاري ، ومخلد بن الحسين : إنا لم نر شيئا أشبه بأمر قبرس من أمر عربسوس وما حكم به فيها عمر بن الخطاب فانه عرض عليهم ضعف ما لهم على أن يخرجوا منها أو نظرة سنة بعد نبذ عهدهم إليهم فأبوا الأولى فأنظروا ثم أخربت ، وقد كان الأوزاعى يحدث : أن قبرس فتحت فتركوا على حالهم وصولحوا على أربعة عشر ألف دينار ، سبعة آلاف للمسلمين ، وسبعة آلاف للروم على أن لا يكتموا الروم أمر المسلمين ، وكان يقول : ما وفى لنا أهل قبرس قط وإنا لنرى أنهم أهل عهد وأن صلحهم وقع على شيء فيه شرط لهم وشرط عليهم ولا يستقيم نقضه الا بأمر يعرف فيه غدرهم ونكثهم.

أمر السامرة

حدثني هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو : أن أبا عبيدة بن الجراح صالح السامرة بالأردن وفلسطين ، وكانوا عيونا وأدلاء للمسلمين على جزية رؤوسهم وأطعمهم أرضهم فلما كان يزيد بن معاوية وضع الخراج على أرضهم.

١٥٨

وأخبرنى قوم من أهل المعرفة بأمر جندي الأردن وفلسطين : أن يزيد ابن معاوية وضع الخراج على أراضى السامرة بالأردن وجعل على رأس كل امرئ منهم دينارين ووضع الخراج أيضا على أرضهم بفلسطين وجعل على رأس كل امرئ منهم خمسة دنانير. والسامرة يهود وهم صنفان يقال لهم : الدستان وصنف يقال لهم : الكوشان.

قالوا : وكان بفلسطين فى أول خلافة أمير المؤمنين الرشيد ـ رحمه‌الله ـ طاعون جارف ربما أتى على جميع أهل البيت فخربت أرضهم وتعطلت فوكل السلطان بها من عمرها وتألف الأكرة والمزارعين إليها فصارت ضياعا للخلافة وبها السامرة فلما كانت سنة ست وأربعين ومائتين رفع أهل قرية من تلك الضياع تدعى بيت ماما من كورة نابلس وهم سامرة يشكون ضعفهم وعجزهم عن أداء الخراج على خمسة دنانير فأمر المتوكل على الله بردهم الى ثلاثة دنانير ثلاثة دنانير.

حدثني هشام بن عمار ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو وسعيد بن عبد العزيز : أن الروم صالحت معاوية على أن يؤدى إليهم مالا وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك ، ثم أن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من فى أيديهم من رهنهم وخلوا سبيلهم ، وقالوا : وفاء بغدر خير من غدر بغدر ، قال هشام : وهو قول العلماء الأوزاعى وغيره.

أمر الجراجمة

حدثني مشايخ من أهل انطاكية : ان الجراجمة من مدينة على جبل اللكام عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقا ، يقال لها الجرجومة وأن أمرهم كان فى أيام استيلاء الروم على الشام وانطاكية إلى بطريق انطاكية

١٥٩

وواليها ، فلما قدم أبو عبيدة انطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم إذ خافوا على أنفسهم ، فلم ينتبه المسلمون لهم ولم ينبههم عليهم ، ثم أن أهل انطاكية نقصوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح فصالحوه على أن يكونوا أعوانا للمسلمين ، وعيونا ومسالح فى جبل اللكام وأن لا يؤخذوا بالجزية وان ينفلوا أسلاب من يقتلون من عدو المسلمين إذا حضروا معهم حربا فى مغازيهم ودخل من كان فى مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى فى هذا الصلح فسموا الرواديف لأنهم تلوهم وليسوا منهم ، ويقال : أنهم جاءوا إلى عسكر المسلمين وهم أرداف لهم فسموا رواديف فكان الجراجمة يستقيمون للولاة مرة ويعرجون أخرى فيكاتبون الروم ويمالئونهم ، فلما كانت أيام ابن الزبير وموت مروان بن الحكم وطلب عبد الملك الخلافة بعده لتوليته إياه عهده واستعداده للشخوص إلى العراق لمحاربة المصعب ابن الزبير خرجت خيل للروم إلى جبل اللكام ، وعليها قائد من قوادهم ثم صارت إلى لبنان وقد ضوت إليها جماعة كثيرة من الجراجمة وأنباط وعبيد أباق من عبيد المسلمين فاضطر عبد الملك إلى أن صالحهم على ألف دينار فى كل جمعة ، وصالح طاغية الروم على مال يؤديه إليه لشغله عن محاربته وتخوفه أن يخرج إلى الشام فيغلب عليه ، واقتدى فى صلحه بمعاوية حين شغل بحرب أهل العراق فإنه صالحهم على أن يؤدى إليهم مالا وارتهن منهم رهناء (١) وضعهم ببعلبك ووافق ذلك أيضا طلب عمرو بن سعيد بن العاصي الخلافة وإغلاقه أبواب دمشق حين خرج عبد الملك عنها فازداد شغلا وذلك فى سنة سبعين (١) ثم أن عبد الملك وجه إلى الرومي سحيم بن المهاجر

__________________

(١) من المعروف تاريخيا أن المنتصر فى الحروب قد يأخذ الرهائن ليأمن جانب المنكسر خشية أن ينقلب ـ

١٦٠