فتوح البلدان

أبوالحسن البلاذري

فتوح البلدان

المؤلف:

أبوالحسن البلاذري


المحقق: لجنة تحقيق التراث
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٩

أن يبيعه إياها فأبى المعطى ذلك عليه فنقل هشام الصناعة إلى صور واتخذ بصور فندقا ومستغلا.

وقال الواقدي : لم تزل المراكب بعكا حتى ولى بنو مروان فنقلوها إلى صور فهي بصور إلى اليوم وأمر أمير المؤمنين المتوكل على الله فى سنة سبع وأربعين ومائتين بترتيب المراكب بعكا وجميع السواحل وشحنها بالمقاتلة.

يوم مرج الصفر

قالوا : ثم اجتمعت الروم جمعا عظيما وأمدهم هرقل بمدد فلقيهم المسلمون بمرج الصفر وهم متوجهون إلى دمشق وذلك لهلال المحرم سنة أربع عشرة فاقتتلوا. قتالا شديدا حتى جرت الدماء فى الماء وطحنت بها الطاحونة وجرح من المسلمين زهاء أربعة آلاف ثم ولى الكفرة منهزمين مفلولين لا يلوون على شيء حتى أتوا دمشق وبيت المقدس واستشهد يومئذ خالد بن سعيد بن العاصي بن أمية ، ويكنى أبا سعيد ، وكان قد أعرس فى الليلة التي كانت الواقعة فى صبيحتها بأم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومي امرأة عكرمة ابن أبى جهل ، فلما بلغها مصابه : انتزعت عمود الفسطاط فقاتلت به ، فيقال : انها قتلت يومئذ سبعة نفر وأن بها لردع الخلوق.

وفى رواية أبى مخنف أن وقعة المرج بعد أجنادين بعشرين ليلة وأن فتح مدينة دمشق بعدها ثم بعد فتح مدينة دمشق وقعة فحل ، ورواية الواقدي أثبت ، وفى يوم المرج يقول خالد بن سعيد بن العاصي :

من فارس كره الطعان يعيرني

رمحا إذا نزلوا بمرج الصفر

وقال عبد الله بن كامل بن حبيب بن عميرة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم :

شهدت قبائل مالك وتغيبت

عنى عميرة يوم مرج الصفر

١٢١

يعنى مالك بن خفاف ، وقال هشام بن محمد الكلبي : استشهد خالد بن سعيد يوم المرج وفى عنقه الصمصامة سيفه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجهه إلى اليمن عاملا فمر برهط عمرو بن معدى كرب الزبيدي من مذحج فأغار عليهم فسبى امرأة عمرو وعدة من قومه فعرض عليه عمرو أن يمن عليهم ويسلموا ففعل وفعلوا فوهب له عمرو سيفه الصمصامة وقال :

خليل لم أهبه من قلاه

ولكن المواهب للكرام

خليل لم أخنه ولم يخنى

كذلك ما خلالى أو ندامى

حبوت به كريما من قريش

فسر به وصين عن اللئام

قال : فأخذ معاوية السيف من عنق خالد يوم المرج حين استشهد فكان عنده ، ثم نازعه فيه سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية فقضى له به عثمان فلم يزل عنده ، فلما كان يوم الدار وضرب مروان على قفاه وضرب سعيد فسقط صريعا أخذ الصمصامة منه رجل من جهينة فكان عنده ، ثم أنه دفعه إلى صيقل ليجلوه فأنكر الصيقل أن يكون للجهنى مثله فأتى به مروان ابن الحكم وهو والى المدينة فسأل الجهني عنه فحدثه حديثه ، فقال : أما والله لقد سلبت سيفي يوم الدار وسلب سعيد بن العاصي سيفه ، فجاء سعيد فعرف السيف فأخذه وختم عليه وبعث به إلى عمرو بن سعيد الأشدق وهو على مكة فهلك سعيد فبقى السيف عند عمرو بن سعيد ، ثم أصيب عمرو بن سعيد بدمشق وانتهت متاعه فأخذ السيف محمد بن سعيد أخو عمرو لأبيه ، ثم صار إلى يحيى ابن سعيد ، ثم مات فصار إلى عنبسة بن سعيد بن العاصي ، ثم إلى سعيد بن عمرو بن سعيد ، ثم هلك فصار إلى محمد بن عبد الله بن سعيد وولده ينزلون ببارق ثم صار إلى أبان بن يحيى بن سعيد فحلاه بحلية ذهب فكان عند أم ولد له ، ثم أن أيوب بن أبى أيوب بن سعيد بن عمرو بن سعيد باعه من المهدى أمير المؤمنين بنيف وثمانين ألفا فرد المهدى حيلته عليه ، ولما صار

١٢٢

الصمصامة إلى موسى الهادي أمير المؤمنين أعجب به وأمر الشاعر ـ وهو أبو الهول ـ أن ينعته فقال :

حاز صمصامة الزبيدي عمرو

خير هذا الأنام موسى الأمين

سيف عمرو وكان فيما علمنا

خير ما أطبقت عليه الجفون

أخضر اللون بين حديه برد

من زعاف تميس فيه المنون

فإذا ما سللته بهر الشم

س ضياء فلم تكد تستبين

ما يبالى إذا الضريبة حانت

أشمال سطت به أم يمين

نعم مخراق ذى الحفيظة فى الهيجا يعصا به ونعم القرين ثم أن أمير المؤمنين الواثق بالله دعا له بصيقل وأمره أن يسقنه فلما فعل ذلك تغير.

فتح مدينة دمشق وأرضها

قالوا : لما فرغ المسلمون من قتال من اجتمع لهم بالمرج أقاموا خمس عشرة ليلة ثم رجعوا إلى مدينة دمشق لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة أربع عشرة فأخذوا الغوطة وكنائسها عنوة وتحصن أهل المدينة وأغلقوا بابها فنزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي فى زهاء خمسة آلاف ضمهم إليه أبو عبيدة وقوم يقولون : أن خالدا كان أميرا وإنما أتاه عزله وهم محاصرون دمشق ، سمى الدير الذي نزل عنده خالد دير خالد. ونزل عمرو بن العاصي على باب توما ونزل شرحبيل على باب الفراديس ، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية ، ونزل يزيد بن أبى سفيان على الباب الصغير إلى الباب الذي يعرف بكيسان ، وجعل أبو الدرداء عويمر بن عامر الخزرجي على مسلحة ببرزة ، وكان الأسقف الذي أقام لخالد النزل فى بدأته ربما وقف على السور فدعا له خالد

١٢٣

فإذا أتى سلم عليه وحادثه ، فقال له ذات يوم : يا أبا سليمان أن أمركم مقبل ولى عليك عده فصالحنى عن هذه المدينة فدعا خالد بدواة وقرطاس فكتب.

بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء والمؤمنين لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.

ثم أن بعض أصحاب الأسقف أتى خالدا فى ليلة من الليالي فأعلمه أنها ليلة عيد لأهل المدينة وأنهم فى شغل وأن الباب الشرقي قد ردم بالحجارة وترك وأشار عليه أن يلتمس سلما ، فأتاه قوم من أهل الدير الذي عند عسكره بسلمين فرقى جماعة من المسلمين عليهما إلى أعلى السور ونزلوا إلى الباب وليس عليه إلا رجل أو رجلان فتعاونوا عليه وفتحوه وذلك عند طلوع الشمس ، وقد كان أبو عبيدة بن الجراح عانى فتح باب الجابية وأصعد جماعة من المسلمين على حائطه فأنصب مقاتلة الروم إلى ناحيته فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا ، ثم أنهم ولوا مدبرين ، وفتح أبو عبيدة والمسلمون معه باب الجابية عنوة ودخلوا منه ، فالتقى أبو عبيدة وخالد بن الوليد بالمقسلاط ، وهو موضع النحاسين بدمشق ، وهو البريص الذي ذكره حسان بن ثابت فى شعره حين يقول :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفق بالرحيق السلسل

وقد روى أن الروم أخرجوا ميتا لهم من باب الجابية ليلا وقد أحاط بجنازته خلق من شجعانهم وكماتهم وأنصب سائرهم إلى الباب فوقفوا عليه ليمنعوا المسلمين من فتحه ودخوله إلى رجوع أصحابهم من دفن الميت وطمعوا فى غفلة المسلمين عنهم وأن المسلمين نذروا بهم فقاتلوهم على الباب أشد قتال

١٢٤

وأبرحه حتى فتحوه فى وقت طلوع الشمس. فلما رأى الأسقف أن أبا عبيدة قد قارب دخول المدينة بدر إلى خالد فصالحه وفتح له الباب الشرقي فدخل والأسقف معه ناشرا كتابه الذي كتبه له ، فقال بعض المسلمين : والله ما خالد بأمير فكيف يجوز صلحه ، فقال أبو عبيدة : أنه يجيز على المسلمين أدناهم ، وأجاز صلحه وأمضاه ولم يلتفت إلى ما فتح عنوة فصارت دمشق صلحا كلها ، وكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمرو أنفذه ، وفتحت أبواب المدينة فالتقى القوم جميعا وفى رواية أبى مخنف وغيره أن خالدا دخل دمشق بقتال ، وأن أبا عبيدة دخلها بصلح فالتقيا بالزياتين والخبر الأول أثبت.

وزعم الهيثم بن عدى أن أهل دمشق صولحوا على انصاف منازلهم وكنائسهم ، وقال محمد بن سعد قال أبو عبد الله الواقدي : قرأت كتاب خالد ابن الوليد لأهل دمشق فلم أر فيه أنصاف المنازل والكنائس ، وقد روى ذلك ولا أدرى من أين جاء به من رواه ، ولكن دمشق لما فتحت لحق بشر كثير من أهلها بهرقل وهو بأنطاكية فكثرت فضول منازلها فنزلها المسلمون ، وقد روى قوم أن أبا عبيدة كان بالباب الشرقي وان خالدا كان بباب الجابية وهذا غلط (١).

__________________

(١) يقول محمد بن عساكر قد اعتمد المؤلف على الرواية فى فتح دمشق من باب الجاببة عنوة بيد أبى عيدة رضى الله عنه وأكد ذلك بقوله هنا «والخبر الأول أثبت» وهو على الحقيقة أضعف الروايات فى فتح دمشق ، والصحيح الثابت بالأخبار والآثار أن خالدا رضى الله عنه دخلها من الباب الشرقي قسرا ، ودخلها أبو عبيدة سلما من باب الجابية هذا من حيث صحة الأخبار ، وأما من حيث دلالة الآثار فان جامع دمشق لم يكن بيد المسلمين منه قبل عمارته إلا الجانب الشرقي بحكم السيف ودليلنا أن المقصور التي تنسب إلى الصحابة والسبع القراء به أيضا ولم تزل الكنيسة من غربه إلى أن هدمها الوليد بن عبد الملك لما عزم على بنائه فى خلافته ، وفى رواية المؤلف أولا ـ

١٢٥

قال الواقدي : وكان فتح مدينة دمشق فى رجب سنة أربع عشرة وتاريخ كتاب خالد بصلحها فى شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وذلك أن خالدا كتب الكتاب بغير تاريخ فلما اجتمع المسلمون للنهوض إلى من تجمع لهم باليرموك أتى الأسقف خالدا فسأله أن يجدد له كتابا ويشهد عليه أبا عبيدة والمسلمين ففعل وأثبت فى الكتاب شهادة أبى عبيدة ويزيد بن أبى سفيان وشرحبيل بن حسنة وغيرهم فأرخه بالوقت الذي جدده.

وحدثني القاسم بن سلام ، قال. حدثنا أبو مسهر ، عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال. دخل يزيد دمشق من الباب الشرقي صلحا فالتقيا بالمقسلاط فأمضيت كلها على الصلح.

وحدثني القاسم ، قال. حدثنا أبو مسهر عن يحيى بن حمزة عن أبى الملهب الصنعاني ، عن أبى الأشعث الصنعاني أو أبى عثمان الصنعاني أن أبا عبيدة أقام بباب الجابية محاصرا لهم أربعة أشهر.

حدثني أبو عبيد ، قال ، حدثنا نعيم بن حماد عن ضمرة بن ربيعة عن رجاء ابن أبى سلمة ، قال. خاصم حسان بن مالك عجم أهل دمشق إلى عمر بن عبد العزيز فى كنيسة كان رجل من الأمراء اقطعه إياها ، فقال عمران كانت من الخمس عشرة كنيسة التي فى عهدهم فلا سبيل لك عليها ، قال ضمرة عن على بن أبى حملة خاصمنا عجم أهل دمشق إلى عمر بن عبد العزيز فى كنيسة كان فلان قطعها لبنى نصر بدمشق. فأخرجنا عمر عنها وردها إلى النصارى ، فلما ولى يزيد بن عبد الملك ردها إلى بنى نصر.

حدثني أبو عبيد ، قال حدثنا هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم عن

__________________

ـ من أن خالدا أتى بسلمين من الدير المجاور لعسكره فرقى أصحابه فيهما إلى سور الباب الشرقي دليل يقوى ما ذكرناه ههنا والله أعلم بالصواب.

١٢٦

الأوزاعى ، أنه قال كانت الجزية بالشام فى بدء الأمر جريبا ودينارا على كل جمجمة ، ثم وضعها عمر بن الخطاب على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهما ، وجعلهم طبقات لغنى الغنى ، وإقلال المقل ، وتوسط المتوسط قال هشام : وسمعت مشايخنا يذكرون أن اليهود كانوا كالذمة للنصارى يؤدون إليهم الخراج فدخلوا معهم فى الصلح.

وقد ذكر بعض الرواة : أن خالد بن الوليد صالح أهل دمشق فيما صالحهم عليه على أن ألزم كل رجل من الجزية دينارا وجريب حنطة وخلا وزيتا لقوت المسلمين.

حدثنا عمرو الناقد قال : حدثنا عبد الله بن وهب المصري ، عن عمر بن محمد عن نافع عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يضربوا الجزية على كل من جرت عليه الموسى ، وأن يجعلوها على أهل الورق على كل رجل أربعين درهما ، وعلى أهل الذهب أربعة دنانير ، وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدان حنطة ، وثلاثة أقساط زيتا كل شهر لكل انسان بالشام والجزيرة وجعل عليهم ودكا عسلا لا وأدرى كم هو ، وجعل لكل انسان بمصر فى كل شهر أردبا وكسوة وضيافة ثلاثة أيام.

وحدثنا عمرو بن حماد بن أبى حنيفة قال : حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن أسلم أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام.

وحدثني مصعب عن أبيه عن مالك عن نافع عن أسلم بمثله ، قالوا : ولما ولى معاوية بن أبى سفيان أراد أن يزيد كنيسة يوحنا فى المسجد بدمشق فأبى النصارى ذلك فأمسك ، ثم طلبها عبد الملك بن مروان فى أيامه للزيادة فى المسجد وبذل لهم مالا فأبوا أن يسلموها إليه ، ثم إن الوليد بن عبد الملك جمعهم

١٢٧

فى أيامه وبذل لهم مالا عظيما على أن يعطوه إياها فأبوا ، فقال : لئن لم تفعلوا لأهدمنها ، فقال بعضهم : يا أمير المؤمنين إن من هدم كنيسة جن وأصابته عاهة فاحفظه قوله ودعا بمعول وجعل يهدم بعض حيطانها بيده وعليه قباء خز أصفر ثم جمع الفعلة والنقاضين فهدموها وأدخلها فى المسجد. فلما استخلف عمر ابن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم فى كنيستهم ، فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده فى المسجد عليهم فكره أهل دمشق ذلك وقالوا : نهدم مسجدنا بعد أن أذنا فيه وصلينا ويرد بيعة ، وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أخذت عنوة وصارت فى أيدى المسلمين على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها فرضوا بذلك وأعجبهم ، فكتب به إلى عمر فسره وأمضاه ، وبمسجد دمشق فى الرواق القبلي مما يلي المئذنة كتاب فى رخامة بقرب السقف مما أمر ببنيانه أمير المؤمنين الوليد سنة ست وثمانين ، وسمعت هشام بن عمار يقول : لم يزل سور مدينة دمشق قائما حتى هدمه عبد الله بن على بن عبد الله بن العباس بعد انقضاء أمر مروان وبنى أمية.

وحدثني أبو حفص الدمشقي ، عن سعيد بن عبد العزيز عن مؤذن مسجد دمشق وغيره قالوا : اجتمع المسلمون عند قدوم خالد على بصرى ففتحوها صلحا وانبثوا فى أرض حوران جميعا فغلبوا عليها ، وأتاهم صاحب أذرعات فطلب الصلح على مثل ما صولح عليه أهل بصرى على أن جميع أرض البثنية أرض خراج فأجابوهم إلى ذلك ومضى يزيد بن أبى سفيان حتى دخلها وعقد لأهلها وكان المسلمون يتصرفون بكورتى حوران والبثنية ، ثم مضوا إلى فلسطين والأردن وغزوا ما لم يكن فتح ، وسار يزيد إلى عمان ففتحها فتحا يسيرا بصلح على مثل صلح بصرى وغلب على أرض البلقاء وولى أبو عبيدة

١٢٨

وقد فتح هذا كله فكان أمير الناس حين فتحت دمشق إلا أن الصلح كان لخالد وأجاز صلحه ، وتوجه يزيد بن أبى سفيان فى ولاية أبى عبيدة ففتح عرندل صلحا وغلب على أرض الشراة وجبالها ، قال : وقال سعيد بن عبد العزيز :

أخبرنى الوضين أن يزيد أتى بعد فتح مدينة دمشق صيدا وعرقة وجبيل وبيروت وهي سواحل ، وعلى مقدمته أخوه معاوية ففتحها فتحا يسير وجلا كثيرا من أهلها وتولى فتح عرقة معاوية نفسه فى ولاية يزيد ، ثم أن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل فى آخر خلافة عمر بن الخطاب أو أول خلافة عثمان بن عفان فقصد لهم معاوية حتى فتحها ثم رمها وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع ، قالوا : فلما استخلف عثمان وولى معاوية الشام وجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدى إلى طرابلس ، وهي ثلاثة مدن مجتمعة فبنى فى مرج على أميال منها حصنا سمى حصن سفيان وقطع المادة عن أهلها من البحر وغيره وحاصرهم فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا فى أحد الحصون الثلاثة وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى ما قبله فوجه إليهم بمراكب كثيرة فركبوها ليلا وهربوا ، فلما أصبح سفيان ، وكان يبيت كل ليلة فى حصنه ويحصن المسلمين فيه ثم يغدو على العدو وجد الحصن الذي كانوا فيه خاليا فدخله وكتب بالفتح إلى معاوية فأسكنه معاوية جماعة كبيرة من اليهود ، وهو الذي فيه الميناء اليوم ، ثم أن عبد الملك بناه بعد وحصنه ، قالوا : وكان معاوية يوجه فى كل عام إلى طرابلس جماعة كثيفة من الجند يشحنها بهم ويوليها عاملا فإذا انغلق البحر قفل وبقي العامل فى جمعية منهم يسيرة فلم يزل الأمر فيها جاريا على ذلك حتى ولى عبد الملك فقدم فى أيامه بطريق من بطارقة الروم ومعه بشر منهم كثير فسأل أن يعطى الأمان على أن يقيم بها ويؤدى الخراج فأجيب

١٢٩

إلى مسألته ، فلم يلبث إلا سنتين أو أكثر منهما بأشهر حتى تحين قفول الجند عن المدينة ثم أغلق بابها وقتل عاملها وأسر من معه من الجند وعدة من اليهود ولحق وأصحابه بأرض الروم ، فقدر المسلمون بعد ذلك عليه فى البحر وهو متوجه إلى ساحل للمسلمين فى مراكب كثيرة فقتلوه ، ويقال : بل أسروه وبعثوا به إلى عبد الملك فقتله وصلبه ، وسمعت من يذكر أن عبد الملك بعث إليه من حصره بطرابلس ثم أخذه سلمان وحمله إليه فقتله وصلبه وهرب من أصحابه جماعة فلحقوا ببلاد الروم ، وقال على بن محمد المدائني قال عتاب بن ابراهيم : فتح طرابلس سفيان بن مجيب ثم نقض أهلها أيام عبد الملك ففتحها الوليد بن عبد الملك فى زمانه.

وحدثني أبو حفص الشامي عن سعيد عن الوضين ، قال : كان يزيد بن أبى سفيان وجه معاوية إلى سواحل دمشق سوى طرابلس فإنه لم يكن يطمع فيها فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة فربما قوتل قتالا غير شديد وربما رمى ففتحها ، قال : وكان المسلمون كلما فتحوا مدينة ظاهرة أو عند ساحل رتبوا فيها قدر من يحتاج لها إليه من المسلمين فإن حدث فى شيء منها حدث من قبل العدو سربوا إليها الأمداد ، فلما استخلف عثمان بن عفان رضى عنه كتب إلى معاوية يأمره بتحصين السواحل وشحنتها وإقطاع من ينزله إياها القطائع ففعل.

وحدثني أبو حفص عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : أدركت الناس وهم يتحدثون أن معاوية كتب إلى عمر بن الخطاب بعد موت أخيه يزيد يصف له حال السواحل ، فكتب إليه فى مرمة حصونها وترتيب المقاتلة فيها وإقامة الحرس على مناظرها واتخاذ المواقيد لها ، ولم يأذن له فى غزو البحر وأن معاوية لم يزل بعثمان حتى أذن له فى الغزو بحرا وأمره أن يعد فى السواحل إذا غزا أو أغزى جيوشا سوى من فيها من الرتب وأن يقطع

١٣٠

الرتب أرضين ويعطيهم ما جلا عنه أهله من المنازل ويبنى المساجد ويكبر ما كان ابتنى منها قبل خلافته ، قال الوضين : ثم أن الناس بعد انتقلوا إلى السواحل من كل ناحية.

حدثني العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جعفر بن كلاب الكلابي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ولى علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص ابن جعفر بن كلاب حوران وجعل ولايته من قبل معاوية فمات بها وله يقول الحطيئة العبسي وخرج إليه فكان موته قبل وصوله وبلغه أنه فى الطريق يريده فأوصى له بمثل سهم من سهام ولده :

فما كان بيني لو لقيتك سالما

وبين الغنى إلا ليال قلائل

وحدثني عدة من أهل العلم منهم جار لهشام بن عمار ، أنه كانت لأبى سفيان بن حرب أيام تجارته إلى الشام فى الجاهلية ضيعة بالبقاء تدعى بقبش فصارت لمعاوية وولده ثم قبضت فى أول الدولة وصارت لبعض ولد أمير المؤمنين المهدى رضى الله عنه ثم صارت لقوم من الزياتين يعرفون ببني نعيم من أهل الكوفة.

وحدثنا عباس بن هشام عن أبيه عن جده قال : وفد تميم بن أوس أحد بنى الدار بن هانئ بن حبيب من لحم ويكنى أبا رقية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أخوه نعيم بن أوس فأقطعهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبرى وبيت عينون ومسجد ابراهيم عليه‌السلام فكتب بذلك كتابا ، فلما افتتح الشام دفع ذلك إليهما فكان سليمان بن عبد الملك إذا مر بهذه القطعة لم يعرج ، وقال : أخاف أن يصيبني دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحدثني هشام بن عمار. أنه سمع المشايخ يذكرون أن عمر بن الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذمين من النصارى فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجرى عليهم القوت ، وقال هشام : سمت الوليد

١٣١

ابن مسلم يذكر أن خالد بن الوليد شرط لأهل الدير الذي يعرف بدير خالد شرطا فى خراجهم بالتخفيف عنهم حين أعطوه سلما صعد عليه فأنفذه لهم أبو عبيدة ، ولما فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك ، فطلب أهلها الأمان والصلح فصالحهم على أن أمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم.

بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب أمان لفلان بن فلان ، وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها ، على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم ، داخل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم ، وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلا ، ولا ينزلوا قرية عامرة ، فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاءوا ، ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا ، ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها ، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج شهد الله وكفى بالله شهيدا.

أمر حمص

حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن أبى مخنف : أن أبا عبيدة بن الجراح لما فرغ من دمشق ، قدم أمامه خالد بن الوليد ، وملحان بن زياد الطائي ، ثم اتبعهما فلما توافوا بحمص قاتلهم أهلها ثم لجأوا إلى المدينة وطلبوا الأمان والصلح فصالحوه على مائة ألف وسبعين دينار ، قال الواقدي وغيره : بينا المسلمون على أبواب مدينة دمشق إذ أقبلت خيل للعدو كثيفة فخرجت إليهم جماعة من المسلمين فلقوهم بين بيت لهيا والثنية فولوا منهزمين نحو حمص على طريق قارا واتبعوهم حتى وافوا حمص فألقوهم قد عدلوا عنها ورآهم الحمصيون وكانوا منخوبين لهرب هرقل عنهم وما كان يبلغهم من قوة كيد المسلمين

١٣٢

وبأسهم وظفرهم فأعطوا بأيديهم وهتفوا بطلب الأمان فأمنهم المسلمون وكفوا أيديهم عنهم فأخرجوا إليهم العلف والطعام وأقاموا على الأرند «يريد الأرند» ـ وهو النهر الذي يأتى انطاكية ثم يصب فى البحر بساحلها ـ وكان على المسلمين السمط بن الأسود الكندي ، فلما فرغ أبو عبيدة من أمر دمشق : استخلف عليها يزيد بن أبى سفيان ثم قدم حمص على طريق بلعبك فنزل بباب الرستن فصالحه أهل حمص على أن أمنهم على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وارحائهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا للمسجد واشترط الخراج على من أقام منهم.

وذكر بعض الرواة أن السمط بن الأسود الكندي كان صالح أهل حمص ، فلما قدم أبو عبيدة أمضى صلحه وأن السمط قسم حمص خططا بين المسلمين حتى نزلوها وأسكنهم فى كل مرفوض جلا أهله أو ساحة متروكة.

وحدثني أبو حفص الدمشقي عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : لما افتتح أبو عبيدة بن الجراح دمشق استخلف يزيد بن أبى سفيان على دمشق ، وعمرو بن العاصي على فلسطين ، وشرحبيل على الأردن ، وأتى حمص فصالح أهلها على نحو صلح بلعبك ، ثم خلف بحمص عبادة بن الصامت الأنصارى ، ومضى نحو حماة فتلقاه أهلها مذعنين فصالحهم على الجزية فى رؤسهم والخراج فى أرضهم ، فمضى نحو شيزر فخرجوا يكفرون ومعهم المقطسون ورضوا بمثل ما رضى به أهل حماه وبلغت خيله الزراعة والقسطل.

ومر أبو عبيدة بمعرة حمص ـ وهي التي تنسب إلى النعمان بن بشير فخرجوا يقلسون بين يديه ثم أتى فامية ففعل أهلها مثل ذلك وأذعنوا بالجزية والخراج واستتم أمر حمص فكانت حمص وقنسرين شيئا واحدا. وقد اختلفوا فى تسمية الأجناد ، فقال بعضهم : سمى المسلمون فلسطين جندا لأنه

١٣٣

جمع كورا ، وكذلك دمشق ، وكذلك الأردن ، وكذلك حمص مع قنسرين. وقال بعضهم : سميت كل ناحية لها جند يقبضون اطماعهم بها جندا وذكروا أن الجزيرة كانت إلى قنسرين فجندها عبد الملك بن مروان أى أفردها فصار جندها يأخذون اطماعهم بها من خراجها ، وأن محمد بن مروان كان سأل عبد الملك تجنيدها ففعل ، ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى حمص حتى كان يزيد بن معاوية فجعل قنسرين وأنطاكية ومنبج وزواتها جندا.

فلما استخلف أمير المؤمنين الرشيد هارون بن المهدى أفرد قنسرين بكورها فصير ذلك جندا واحدا ، وأفرد منبج ، ودلوك ، ورعبان وقورس وأنطاكية وتيزين ، وسماها العواصم لأن المسلمين يعتمون بها فتعصمهم وتمنعهم إذا انصرفوا من غزوهم وخرجوا من الثغر وجعل مدينة العواصم منبج فسكنها عبد الملك بن صالح بن على فى سنة ثلاث وسبعين ومائة وبنى بها أبنية.

وحدثني أبو حفص الدمشقي ، عن سعيد بن عبد العزيز : وحدثني موسى ابن ابراهيم التنوخي عن أبيه عن مشايخ من أهل حمص ، قال : استخلف أبو عبيدة عبادة بن الصامت الأنصارى على حمص ، فأتى اللاذقية. فقاتله أهلها فكان بها باب عظيم لا يفتحه إلا جماعة من الناس ، فلما رأى صعوبة مرامها عسكر على بعد من المدينة ثم أمر أن تحفر حفائر كالأسراب يستتر الرجل وفرسه فى الواحدة منها ، فاجتهد المسلمون فى حفرها حتى فرغوا منها ، ثم أنهم أظهروا القفول إلى حمص ، فلما جن عليهم الليل عادوا إلى معسكرهم وحفائرهم وأهل اللاذقية غارون يرون انهم قد انصرفوا عنهم ، فلما أصبحوا فتحوا بابهم وأخرجوا سرحهم فلم يرعهم إلا تصبيح المسلمين إياهم ودخولهم من باب المدينة ففتحت عنوة ، ودخل عبادة الحصن ثم علا حائطه فكبر عليه ، وهرب قوم من نصارى اللاذقية إلى

١٣٤

اليسيد ، ثم طلبوا الأمان على أن يتراجعوا إلى أرضهم فقوطعوا على خراج يؤدونه قلوا أو كثروا وتركت لهم كنيستهم ، وبنى المسلمون باللاذقية مسجدا جامعا بأمر عبادة ثم أنه وسع بعد.

وكانت الروم أغارت فى البحر على ساحل اللاذقية فهدموا مدينتها وسبوا أهلها وذلك فى خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مائة فأمر عمر ببنائها وتحصينها ووجه إلى الطاغية فى فداء من أسر من المسلمين فلم يتم ذلك حتى توفى عمر فى سنة أحد ومائة فأتم المدينة وشحنها يزيد بن عبد الملك.

وحدثني رجل من أهل اللاذقية قال : لم يمت عمر بن عبد العزيز حتى حرز مدينة اللاذقية وفرغ منها ، والذي أحدث يزيد بن عبد الملك فيها مرمة وزيادة فى الشحنة ، وحدثني أبو حفص الدمشقي ، قال : حدثني سعيد بن عبد العزيز ، وسعيد بن سليمان الحمصي ، قالا : ورد عبادة والمسلمون السواحل ففتحوا مدينة تعرف ببلدة على فرسخين من جبلة عنوة ، ثم إنها خربت وجلا عنها أهلها فأنشأ معاوية بن أبى سفيان جبلة وكانت حصنا للروم جلوا عنه عند فتح المسلمين حمص وشحنها. وحدثني سفيان بن محمد البهراني عن أشياخه قالوا : بنى معاوية لجبلة حصنا خارجا من الحصن الرومي القديم وكان سكان الحصن الرومي رهبانا وقوما يتعبدون فى دينهم. وحدثني سفيان ابن محمد ، قال حدثني أبى وأشياخنا ، قالوا : فتح عبادة المسلمون معه أنطرطوس : وكان حصنا ثم جلا عنه أهله فبنى معاوية أنطرطوس ومصرها وأقطع بها القطائع ، وكذلك فعل بمرقية وبلنياس.

وحدثني أبو حفص الدمشقي ، عن أشياخه قالوا : افتتح أبو عبيدة اللاذقية وجبلة وأنطرطوس على يدي عبادة بن الصامت ، وكان يوكل بها حفظة إلى انغلاق البحر ، فلما كانت شحنة معاوية السواحل وتحصينه إياها شحنها وحصنها

١٣٥

وأمضى أمرها على ما أمضى عليه أمر السواحل. وحدثني شيخ من أهل حمص قال : بقرب سلمية مدينة تدعى المؤتفكة وانقلبت بأهلها فلم يسلم منهم إلا مائة نفس فبنوا مائة منزل وسكنوها فسميت حوزتهم التي بنوا فيها سلم مائة ، ثم حرف الناس اسمها فقالوا سليمة ، ثم أن صالح بن على بن عبد الله بن عباس اتخذها وبنى وولده فيها ومصروها ونزلها قوم من ولده. وقال ابن سهم الأنطاكى : سلمية اسم رومي قديم. وحدثني محمد بن مصفى الحمصي ، قال : هدم مروان بن محمد سور حمص ، وذلك أنهم كانوا خالفوا عليه فلما مر بأهلها هاربا من أهل خراسان اقتطعوا بعض ثقله وماله وخزائن سلاحه.

وكانت مدينة حمص مفروشة بالصخر ، فلما كانت أيام أحمد بن محمد بن أبى إسحاق المعتصم بالله شغبوا على عاملهم الفضل بن قارن الطبري أخى مايزديار بن قارن فأمر بقلع ذلك الفرش فقلع ثم أنهم أظهروا المعصية وأعادوا ذلك الفرش وحاربوا الفضل بن قارن حتى قدروا عليه ونهبوا ماله ونساءه وأخذوه فقتلوه وصلبوه فوجه أحمد بن محمد إليهم موسى بن بغا الكبير مولى أمير المؤمنين المعتصم بالله فحاربوه وفيهم خلق من نصارى المدينة ويهودها فقتل منهم مقتلة عظيمة وهزم باقيهم حتى ألحقهم بالمدينة ودخلها عنوة وذلك فى سنة خمسين ومائتين وبحمص هرى يرده قمح وزيت من السواحل وغيرها مما قوطع أهله عليه ، وأسجلت لهم السجلات بمقاطعتهم.

يوم اليرموك

قالوا : جمع هرقل جموعا كثيرة من الروم وأهل الشام وأهل الجزيرة وأرمينية تكون زهاء مائتي ألف وولى عليهم رجلا من خاصته ، وبعث على مقدمته جبلة بن الأيهم الغساني فى مستعربة الشام من لخم وجذام وغيرهم ، وعزم على محاربة المسلمين فإن ظهروا وإلا دخل بلاد الروم ، فأقام

١٣٦

بالقسطنطينية واجتمع المسلمون فرجعوا إليهم فاقتتلوا على اليرموك أشد قتالا وأبرحه واليرموك نهر ـ وكان المسلمون يومئذ أربعة وعشرين ألفا وتسلسلت الروم وأتباعهم يومئذ لئلا يطعموا أنفسهم فى الهرب ، فقتل الله منهم زهاء سبعين ألفا وهرب فلهم فلحقوا بفلسطين وأنطاكية وحلب والجزيرة وأرمينية. وقاتل يوم اليرموك نساء من نساء المسلمين قتالا شديدا ، وجعلت هند بنت عتبة أم معاوية بن أبى سفيان تقول : عضدوا الغلفان بسيوفكم.

وكان زوجها أبو سفيان خرج إلى الشام تطوعا وأحب مع ذلك أن يرى ولده وحملها معه ، ثم أنه قدم المدينة فمات بها سنة إحدى وثلاثين وهو ابن ثمان وثمانين سنة ، ويقال : إنه مات بالشام فلما أتى أم حبيبة بنته نعيه دعت فى اليوم الثالث بصفرة فمسحت بها ذراعيها وعارضتها ، وقالت : لقد كنت عن هذا غنية لو لا أنى سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لاتحد امرأة على ميت سوى زوجها أكثر من ثلاث» ويقال : إنها فعلت هذا الفعل حين أتاها نعى أخيها يزيد والله أعلم.

وكان أبو سفيان بن حرب أحد العوران ذهبت عينه يوم الطائف ، قالوا : وذهبت يوم اليرموك عين الأشعث بن قيس ، وعين هاشم بن عتبة ابن أبى وقاص الزهري ، وهو المرقال : وعين قيس بن مكشوح. واستشهد عامر بن أبى وقاص الزهري ، وهو الذي كان قدم الشام بكتاب عمر بن الخطاب إلى أبى عبيدة بولايته الشام ، ويقال : بل مات فى الطاعون ، وقال بعض الرواة استشهد يوم أجنادين وليس ذلك بثبت.

قال : وعقد أبو عبيدة لحبيب بن مسلمة الفهري على خيل الطلب فجعل يقتل من أدرك ، وانحاز جبلة بن الأيهم إلى الأنصار فقال : أنتم إخوتنا

١٣٧

وبنو أبينا وأظهر الإسلام ، فلما قدم عمر بن الخطاب رضى الله عنه الشام سنة سبع عشرة لاحى جلة رجلا من مزينة فلطم عينه فأمره عمر بالاقتصاص منه ، فقال : أو عينه مثل عيني والله لا أقيم ببلد على به سلطان ، فدخل بلاد الروم مرتدا ، وكان جبلة ملك غسان بعد الحارث بن أبى شمر ، وروى أيضا أن جبلة أتى عمر بن الخطاب وهو على نصرانيته فعرض عمر عليه الإسلام وأداء الصدقة فأبى ذلك وقال : أقيم على ديني وأؤدى الصدقة.

فقال عمر : إن أقمت على دينك فأد الجزية فانف منها ، فقال عمر : ما عندنا لك إلا واحدة من ثلاث ، أما الإسلام ، وأما أداء الجزية ، وأما الذهاب إلى حيث شئت : فدخل بلاد الروم فى ثلاثين ألفا ، فلما بلغ ذلك عمر ندم وعاتبه عبادة بن الصامت فقال لو قبلت منه الصدقة ثم تألفته لأسلم ، وأن عمر رضى الله عنه وجه فى سنة إحدى وعشرين عمير بن سعد الأنصارى إلى بلاد الروم فى جيش عظيم وولاه الصائفة ـ وهي أول صائفة كانت ـ وأمره أن يتلطف لجبلة بن الأيهم ويستعطفه بالقرابة بينهما ويدعوه إلى الرجوع إلى بلاد الإسلام على أن يؤدى ما كان بذل من الصدقة ويقيم على دينه ، فسار عمير حتى دخل بلاد الروم وعرض على جبلة ما أمره عمر بعرضه عليه فأبى إلا المقام فى بلاد الروم ، وانتهى عمير إلى موضع يعرف بالحمار ، وهو واد فأوقع بأهله ، وأخربه فقيل أخرب من جوف حمار.

قالوا : ولما بلغ هرقل خبر أهل اليرموك وإيقاع المسلمين بجنده هرب من انطاكية إلى قسطنطينية ، فلما جاوز الدرب قال : عليك يا سورية السلام ونعم البلد هذا للعدو يعنى أرض الشام لكثرة مراعيها. وكانت وقعة اليرموك فى رجب سنة خمس عشرة. قال هشام بن الكلبي : شهد اليرموك حباس بن قيس القشيري فقتل من العلوج خلقا وقطعت رجله وهو لا يشعر ، ثم جعل ينشدها

١٣٨

فقال سوار بن أوفى :

ومنا ابن عتاب وناشد رجله

ومنا الذي أدى إلى الحي حاجبا

يعنى ذا الرقيبة. وحدثني أبو حفص الدمشقي قال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص : لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عملكم ونهض اليهود فقالوا. والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود ، وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد ، فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدوا الخراج ، وسار أبو عبيدة إلى جند قنسرين وأنطاكية ففتحها.

وحدثني العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده ، قال. أبلى السمط ابن الأسود الكندي بالشام وبحمص خاصة وفى يوم اليرموك وهو الذي قسم منازل حمص بين أهلها ، وكان ابنه شرحبيل بن السمط بالكوفة مقاوما للأشعث بن قيس الكندي فى الرياسة فوفد السمط إلى عمر ، فقال له : يا أمير المؤمنين إنك لا تفرق بين السبي ، وقد فرقت بيني وبين ولدي فحوله إلى الشام أو حولنى إلى الكوفة فقال : بل أحوله إلى الشام فنزل حمص مع أبيه.

* * *

١٣٩

أمر فلسطين

حدثني أبو حفص الدمشقي ، عن سعيد بن عبد العزيز عن أشياخه ، وعن بقية بن الوليد عن مشايخ من أهل العلم ، قالوا : كانت أول وقعة واقعها المسلمون الروم فى خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه أرض فلسطين ، وعلى الناس عمرو بن العاصي ، ثم أن عمروا بن العاصي فتح غزة فى خلافه أبى بكر رضى الله عنه ، ثم فتح بعد ذلك سبسطية ونابلس على أن أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومنازلهم وعلى أن الجزية على رقابهم والخراج على أرضهم ، ثم فتح مدينة لد وارضها ثم فتح يبنى وعمواس ويبت جبرين واتخذ بها ضيعة تدعى عجلان باسم مولى له ، وفتح يافا ويقال. فتحها معاوية ، وفتح عمرو رفح على مثل ذلك. وقدم عليه أبو عبيدة بعد ان فتح قنسرين ونواحيها وذلك فى سنة ست عشرة وهو محاصر إيلياء ، وإيلياء مدينة بيت المقدس ، فيقال : إنه وجهه إلى انطاكية من إيلياء وقد غدر أهلها ففتحها ، ثم عاد فأقام يومين أو ثلاثة ثم طلب أهل إيلياء من أبى عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على ان يكون المتولى للعقد لهم عمر بن الخطاب نفسه ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق ثم صار إلى إيلياء فأنفذ صلح أهلها وكتب لهم به ، وكان فتح إيلياء فى سنة سبع عشرة.

وقد روى فى فتح إيليا وجه آخر. حدثني القاسم بن سلام ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن يزيد بن ابى حبيب ان عمر بن الخطاب بعث خالد بن ثابت الفهمي إلى بيت المقدس فى جيش وهو يومئذ بالجابية فقاتلهم فأعطوه على ما أحاط به حصنهم شيئا يؤدونه ويكون للمسلمين

١٤٠