مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

الأجدم يقتله ابن عمه على دجلة وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين ، وكان معز الدولة أقطع اليد ، قطعت يده للنكوص في الحرب ، وكان ابنه عز الدولة بختيار ، مترفاً صاحب لهو وشرب ، وقتله عضد الدولة فنّاخسرو ، ابن عمه ، بقصر الجص على دجلة في الحرب ، وسلبه ملكه ، فأمّا خلعهم للخلفاء فإنّ معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع ، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة ، خلع الطائع ورتب عوضه القادر ، وكانت مدة ملكهم كما أخبر به عليه‌السلام.

وكاخباره عليه‌السلام لعبد الله بن العباس رحمه‌الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده فإنّ علي بن عبد الله لما ولد ، أخرجه أبوه « عبد الله » إلى علي عليه‌السلام فأخذه وتفل في فيه وحنكه بتمرة ، قد لاكها ، ودفعه إليه وقال : خذ إليك أبا الأملاك ، هكذا الرواية الصحيحة وهي التي ذكرها أبو العباس المبرد في كتاب « الكامل » (١) وليست الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة ولا منقولة من كتاب معتمد عليه.

وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ، ممّا لو أردنا استقصاءه لكرّسنا له كراريس كثيرة ، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (٢).

١٣. قوله عليه‌السلام في خطبة تسمّى القاصعة ... ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟! فقال : هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير (٣).

قال الشارح الحديدي : روي عن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام قال كان

__________________

(١) الكامل ٢ : ٢١٧.

(٢) شرح النهج ج ٧ ص ٤٨ ـ ٥٠.

(٣) نهج البلاغة طبعة عبده ج ٢ ص ١٨٢ ـ ١٨٣.

٤٨١

علي عليه‌السلام يرى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت وقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصي نبي ووارثه بل أنت سيد الأوصياء وإمام الاتقياء » (١).

ولا دليل على حمل قوله : « انّك تسمع ما أسمع » على سماع خصوص رنّة الشيطان بل هو ظاهر في العموم حسب ما يظهر من الإمام الصادق عليه‌السلام.

١٤. مثل اخباره عن فتنة صاحب الزنج وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم من بني عبد القيس حيث جمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ في نواحي البصرة وخرج بهم على المهتدي العباسي في سنة خمسة وخمسين ومائتين واستفحل أمره وانتشر أصحابه في أطراف البلاد للسلب والنهب إلى أن قتله الموفق أخو الخليفة المعتمد سنة سبعين ومائتين.

« فتن كقطع الليل المظلم ، ولا تقوم لها قائمة ، ولا ترد لها راية ، تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها ويجدها راكبها أهلها قوم شديد كلبهم قليل سلبهم يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلّة عند المتكبرين ، في الأرض مجهولين وفي السماء معروفون ، فويل لك يا بصرة ، عند ذلك من جيش من نقم الله لا رهج له ولا حس وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر » (٢).

قال الشارح الحديدي فسّر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج ، وهو بعيد لأنّ جيشه كان ذا حس ورهج ولأنّه أنذر البصرة بهذا الجيش ألا تراه قال : « فويل لك يا بصرة » ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) الشرح الحديدي ج ١٣ ص ٢١٠.

(٢) نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة ٩٨.

(٣) شرح النهج ج ٧ ص ١٠٤.

٤٨٢

هذه أربعة عشر خبراً غيبياً من روائع نصوص الإمام تدل على وقوفه على ما غاب عن الحس بإذن من الله سبحانه. وقد نقل الشارح الحديدي كثيراً من أخباره الغيبية في أجزاء كتابه ، وقد نقلنا بعضها في ما تقدم فلاحظ بعضها في الجزء الثاني من شرحه ص ٢٨٦ ـ ٢٩٥ ترى فيه أخباراً غيبية كثيرة كيف وقد روي عنه عليه‌السلام إخبارات غيبية مبثوثة في كتب الحديث والتاريخ بحيث لو جمعها جامع لخرج بسفر جليل وضخم وفيما نقلناه كفاية للقارئ الكريم.

عثرة لا تقال :

هذا هو الحق الذي أحق أن يتبع ، وقد صدقه كتاب الله العزيز وأيّدته النصوص المستفيضة وأطبقت عليه الأعلام في العصور المختلفة.

غير أنّ هذه المسألة قد أثارت في عصرنا قلقاً واضطراباً في الأوساط الدينية فحامت حولها الشبهات ، واكتنفتها أجواء تثير السخط والاستياء ، من اُناس ابتلوا بعقدة النقص أو جنون العظمة ، مع أنّ كتاب الله بين ظهرانيهم والنصوص المتضافرة بين أيديهم ، فلو رجعوا إلى ذينك المصدرين ، بقلب سليم وفكر مستقيم لعرفوا الحق واتبعوه ، والحق أحق أن يتبع.

وقد وقفت بعدما كتبت هذا الفصل على « كتيب » لبعض من يضمر لأئمّة أهل البيت حقداً وعداءاً ، ويحارب كل فضيلة تثبتها النصوص لهم ، ويمتلئ صدره بالتعصب المقيت وقد أعاد فيه ما ذكره ابن تيمية ونظراؤه من الذين أكل عليهم الدهر وشرب حيث أنكر علم النبي وأوصياؤه بالغيب على وجه الاطلاق وعزاه إلى جمهور الإمامية وفطاحلهم ، قائلاً بأنّ فكرة علمهم بالغيب ، اسطورة حدثت في الآونة الأخيرة بيد الغلاة. واستشهد على ذلك بما ذكره أمين الإسلام في كتابه ، حيث قال في تفسير قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ )

٤٨٣

( المائدة ـ ١٠٩ ) ما هذا لفظه :

وذكر الحاكم أبو سعيد في تفسيره : انّها تدل على بطلان قول الإمامية : إنّ الأئمّة يعلمون الغيب وأقول : إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم ، فإنّا لا نعلم أحداً منهم بل أحداً من أهل الإسلام يصف أحداً من الناس بعلم الغيب ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين ، والشيعة الإمامية براء من هذا القول ومن نسبهم إلى ذلك فالله ما بينه وبينهم (١).

غير أنّه عزب عن هذا المسكين أنّ ما ذكره « أمين الإسلام » لا يمثّل رأي الشيعة الإمامية في الموضوع ، وإنّما هو رأي واحد منهم ولا يمثّل رأي الجميع ولا يؤخذ الجمع بفعل الواحد ورأيه.

أضف إلى ذلك : أنّ ما ذكره أمين الإسلام لا يهدف إلاّ إلى ما ذكرناه ، وانّ الممنوع توصيفهم باطلاعهم على الغيب على غرار علمه سبحانه ، بشهادة قوله : « ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين » إذ أي صلة بين مفارقة الدين والقول بأنّ الله سبحانه أظهر غيبه لأحد أوليائه ، واطلع هو على الغيب من تلك الناحية وتعرف بتعليم منه سبحانه.

ولو رجع الكاتب إلى موضع آخر من كتابه ولم يقصر نظره على موضع واحد منه ، لوقف على مغزى ما رامه فإنّه قدّس الله سرّه قد حقّق المسألة في موضع آخر من كتابه.

قال في تفسير قوله سبحانه : ( وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود ـ ١٢٣ ) ما هذا لفظه : وجدت بعض المشايخ ممّن يتّسم بالعدوان والتشنيع قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره فقال : « هذا يدلّ على أنّ الله سبحانه يختص بعلم الغيب خلافاً لما تقول الرافضة : إنّ الأئمّة يعلمون الغيب » ولا شك أنّه عنى بذلك من يقول بإمامة

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٢٦١ ط صيدا.

٤٨٤

الاثنى عشر ويدين بأنّهم أفضل الانام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ هذا دأبه وديدنه فيهم ، يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم ، وينسب الفضائح والقبائح إليهم ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، فإنّما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد ، وهذه صفة القديم سبحانه ، العالم لذاته لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين ومن اعتقد أنّ غير الله سبحانه يشاركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملّة الإسلام.

فأمّا ما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ورواه عنه الخاص والعام من الأخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل قوله وهو يومي به إلى صاحب الزنج ، كأنّي يا أحنف وقد سار بالجيش الذي ليس له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النعام.

وقوله يشير إلى مروان أمّا أنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقي الاُمّة منه ومن ولده موتاً أحمر ، وما نقل من هذا الفن عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام من أولاده مثل ما قاله أبو عبد الله عليه‌السلام لعبد الله بن الحسن وقد اجتمع هو وجماعة من العلوية والعباسية ليبايعوا ابنه محمداً ، والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهم وأشار إلى العباسيين وأنّ ابنيك لمقتولان ، ثمّ نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال له : أرأيت صاحب الرداء الأصفر ؟ ـ يعني أبا جعفر المنصور ـ قال : نعم ، فقال : إنّا والله نجده يقتله. فكان كما قال.

ومثل قول الرضا عليه‌السلام : بورك قبر طوس وقبران ببغداد ، فقيل له : قد عرفنا واحداً فما الآخر ؟ قال : ستعرفونه ، ثمّ قال : قبري وقبر هارون هكذا ـ وضم أصبعيه ـ (١) وقوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي وقد ناوله قبضة من التمر لو زادك رسول

__________________

(١) نظير قوله لموسى بن مهران في مسجد المدينة عندما كان هارون يخطب : أترونني وإياه ندفن في بيت واحد ، عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٢٦.

٤٨٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزدناك ، وقوله من حديث علي بن أحمد الوشاء حين قدم مرو من الكوفة : « معك حلّة في السفط الفلاني دفعتها إليك ابنتك وقالت اشتر لي بثمنها فيروزجاً » والحديث مشهور إلى غير ذلك ممّا روي عنهم عليهم‌السلام. فإنّ ذلك متلقّى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا أطلعه الله عليه ، فلا معنى لنسبة من روي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب ، وهل هذا إلاّ سب قبيح وتضليل لهم بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير والله يحكم بينه وبينهم وإليه المصير (١).

هل استأثر الله بعلم هذه الاُمور ؟

قد اشتهر بين المفسّرين أنّ هناك اُمور خمسة استأثر الله بعلمها وحده ، لا يجليها لغيره واستندوا في ذلك إلى قوله تعالى :

( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان ـ ٣٤ ) ويؤيده ما روي من اختصاص العلم بهذه الاُمور الخمسة بالله تعالى وأنّ غيره لا يطلع عليها أبداً وقد جرت مشيئة الله على كتمان العلم بهذه الاُمور عن خلقه.

ولقائل أن يقول : لا محيص عن صحة ما ذكروه في الأربعة التالية : علم الساعة ، العلم بما في الأرحام ، العلم بما يكسبه الانسان في مستقبل أيامه ، وعلمه بالأرض التي يموت فيها الانسان ، وأمّا اختصاص العلم بوقت نزول الغيث به سبحانه فلا تفيده الآية إذ أنّه تعالى يقول : ( وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ) ، ولم يقل : وعنده علم نزول الغيث.

ويدفع بأنّ العلم بوقت نزول الغيث لو لم يكن مثل الأربعة الباقية لكان الاتيان

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ٢٠٥ وقوله للمأمون عندما ذاكره بقوله : ندخل بغداد إن شاء الله فنعمل كذا وكذا ، فقال له الرضا : تدخل أنت بغداد يا أمير المؤمنين ، ثم سأله أحد أصحابه عن ذلك ، فقال : ( وما أنا وبغداد ؟! لا أرى بغداد ولا تراني ) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٢٥.

٤٨٦

به عندئذ اقتضاباً بلا جهة وعطفاً بلا مناسبة فلأي وجه أورده في هذه الآية في عداد الاُمور التي سلّمنا اختصاص علمها به سبحانه وليس هو منها ، فلأجل الالتزام بوجود المناسبة بين المتعاطفات لا مفر من القول باختصاص علمه به سبحانه أيضاً.

دفع شبهة :

ربّما يتخيل بل يقال : كيف استأثر الله بعلم هذه الاُمور ، والنشرات الجوية ، لدائرة الأنواء الجوية تعيّن أوقات نزول الغيث والوفر والاختبارات الطبية تبين وضع الجنين وأنّه ذكر أو اُنثى ، ولكنّها مدفوعة بما يلي :

١. إنّ الله سبحانه واقف على وضع الجنين من بدء تكونه في رحم اُمّه ، حينما يكون خليّة فيها ، ليس لها من الصور المعتورة عليه شيء ، إلى أن تضعه اُمّه ، فهو سبحانه يعلم حين ما هو خليّة في رحمها ، أنّه ذكر أو اُنثى ، وليس ذلك مقدوراً للبشر وإن أطل بنظره عليها بأشعة قوية كهربائية أو باختبارات طبية ، فالعلم بذكورة الجنين أو اُنوثته ، من بدء وجوده إلى ختامه ، مخصوص به سبحانه ، ولا يشاركه في هذا الحد الوسيع أحد من البشر.

٢. إنّ تخصيص قوله سبحانه : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ) بأحد الوصفين المذكورين ( الذكورة والانوثة ) مخالف لاطلاق كلامه ، فإنّ الظاهر منه أنّه سبحانه يعلم جميع حالات ما في الأرحام ، وأنّه ذكر أو اُنثى ، قبيح أو جميل ، سخي أو بخيل ، شجاع أو جبان ، سعيد أو شقي ، مرافق النبيين في الجنان أو حطب لنار جهنّم إلى غير ذلك من الصفات والروحيات التي لا يتمكّن البشر من الوقوف عليها عندما كان صاحب الصفات جنيناً في رحم اُمّه ، وهذا التعميم وشمول الآية للصفات الظاهرية والباطنية صريح كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة (١).

__________________

(١) راجع نهج البلاغة الخطبة ١٢٦.

٤٨٧

وأمّا النشرات الجوية التي تصدرها دائرة الأنواء الجوية الدارجة في الحضارة الفعلية ، فهي أنباء ظنية على اُصول وتجارب واستطلاع على أوضاع تكتسبها دائرة الأنواء الجوية من مختلف البلدان قريبها وبعيدها ـ ومع ذلك ـ فلا تخرج عن دائرة الحدس والظن ، وليست مصونة عن الخطأ كما هو الشاهد لكل من يصغي إليها ثمّ يرجع إلى فسيح الكون ويطبّقها عليه.

توضيحه : أنّ لكل من الاُمم عبر الأجيال والقرون ، تجارب في هذا الباب كانوا يستكشفون بها على سبيل الظن والتخرّص ، مواقع نزول المطر والثلج ، حتى أنّ القرويين والبدو ، كانوا يستطيعون التنبّؤ بحالة الطقس المقبلة من صحو أو مطر ، وما أشبه ذلك من بعض الظواهر الجوية كإتجاه الريح مثلاً. بل كانوا يستكشفون بغير ذلك من نزول الكلب من سطح البيت إلى داخله وقد حكي أنّ نصير الدين الطوسي ( ذلك الفلكي العظيم ) نزل في بعض أسفاره على طحان له طاحونة خارج بعض البلاد فلمّا دخل المنزل صعد السطح لحرارة الهواء ، فقال له صاحب البيت : أنزل ونم في داخل البيت لأجل نزول المطر فنظر « نصير الدين » إلى الأوضاع الفلكية ، فلم ير شيئاً يورث الظن بنزول المطر ، فقال له الطحّان : أنّ لي كلباً ينزل في كل ليلة يحس بأنّ المطر سينزل فيها إلى البيت ، فلم يقبل ذلك منه المحقّق ، وبات فوق السطح فأدركه المطر أثناء الليل وتعجّب المحقق الطوسي (١).

نعم الأدوات الحديثة لتعيين درجة الحرارة في الجو وارتباط مختلف البلدان بعضها ببعض ، بواسطة أجهزة البرق السلكية واللاسلكية ، وتبادل المعلومات فيما بينها عن الحالة الجوية ساعة فساعة ، هذه الأدوات احتلّت مكان التجارب السالفة وساعد على امكان التنبّؤ بتقلّبات الطقس بالاستنتاج والتخمين.

ومع ذلك فإنّ استنتاجات دائرة الأنواء الجوية لا تكون صائبة دائماً فكثيراً ما

__________________

(١) مكاسب الشيخ الأنصاري ص ٢٥.

٤٨٨

تخطئ في تخمينها ، ولا تخبر عما تخبر إلاّ بالظن والترديد ، بل على نحو الاجمال في جانب والاهمال في جانب آخر ، ولاتستطيع أن تحدد وقت نزول المطر ومحال نزوله دقيقاً ، وأنّه في أي ساعة أو على أي مكان من الأرض العظيمة ينزل.

وأعجب منه أنّه إذا شوهد منها التخلف حتى في مجمل ما أخبرته تراها تتمسّك باعذار كاشفة عن قصور باعها وعدم احاطتها بما في الجو الفسيح ، من الأحوال والأوضاع.

وأمّا الاختبارات الطبّية ، فاعطف نظرك إلى بعض ما ذكره بعض الاخصائيين في المقام لتقف على أنّ تحديد نوع المولود يرجع في جوهره إلى الصدفة ، أو إلى الاحتمالات التي يعجز العلم عن التنبّؤ بها قال (١) :

توجد في كل فرد غدتان تناسليتان وتختلف الغدد الذكرية عن الغدد الاُنثوية في مكانها التشريحي بالجسم ، وفي وظائفها الأوّلية والثانوية وفي تأثيرها على شخصية الفرد. وتؤثر هذه الغدد ، بهرموناتها المختلفة في التفرقة بين الذكر والاُنثى ، ولهذه الفروق الجنسية أثر قوي في سرعة النمو ، وفي تباين اختلاف مظاهره.

هذا وتنشأ الاختلافات الجنسية منذ اللحظة الاُولى التي تتكوّن فيها البويضة المخصبة أي عندما تلتقي الصبغيات الذكرية بالصبغيات الاُنثوية في نواة البويضة وتتميز البويضة بأنّها تحتوي على صبغة خاصة بالجنس ، توجد دائماً بصورة واحدة نرمز لها بالرمز (س) ويتميّز الحي المنوي بوجود صبغى خاص بالجنس يوجد أحياناً ، بصورة تماثل صورة الصبغة الاُنثوية ولذلك يرمز لها بالرمز (س) أيضاً ويوجد أحياناً بصورة اُخرى يرمز لها بالرمز (ص) فإذا احتوت البويضة المخصبة على الصبغيين ( س س ) كان الجنين اُنثى. وإذا احتوت على الصبغيين ( س ص ) كان الجنين ذكراً ، وهكذا يتحدد الجنس منذ اللحظة الاُولى في تكوين البويضة المخصبة وبذلك يسيطر الحي المنوي على

__________________

(١) الاُسس النفسية للنمو تأليف الدكتور فؤاد البهي مدرّس علم النفس بجامعة عين الشمس.

٤٨٩

نوع الجنس ، أي أنّ الجنس ذكراً كان أم اُنثى يرجع في جوهره إلى الرجل لا إلى المرأة وإذا عرفنا أنّ عدد الحيوانات المنوية الذكرية في كل نطفة يربو على ٠٠٠/٠٠٠/٢٠٠ حي ذكري عرفنا بعد ذلك أنّ تحديد نوع المولود يرجع في جوهره إلى الصدفة أو الاحتمالات التي يعجز العلم عن التنبّؤ بها.

نظرنا في الموضوع :

إلى هنا جرينا على مسلك المفسّرين في تفسير الآية ودفعنا عنهم ما اُشكل عليهم وقد أرسلوه إرسال المسلّمات وأيّدوها بروايات سوف نوضّح حالها ، ومدى صحتها ، غير أنّ هنا احتمالاً آخر ، ربّما يكون أقرب إلى ظاهر الآية ممّا ذكروه ودونك بيانه :

انّ لسان الآية في بيان علمه سبحانه بهذه الأشياء الخمسة ، ليس على نسق واحد بل على وجوه ثلاثة :

١. لسان الحصر : وهذا يختص بالعلم بوقت الساعة من الاُمور الخمسة ، فتراه يقول : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) بتقديم الظرف على المبتدأ وهو يفيد الحصر ولا تجد هذا السياق من الكلام في الأربعة الباقية ، ولأجل ذلك تراه غير أسلوب الكلام عندما أراد أن يبيّن تعلّق علمه بغير الساعة وقال : ( وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَ ... ).

وعلى هذا لا بأس بما ذكروه في هذا القسم ، فإنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ العلم بوقت الساعة مختص به سبحانه لا يعدو غيره.

وتؤيّده آيات اُخر ، وردت في هذا المضمار قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ) ( الأعراف ـ ١٨٧ ) وقال : ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ ) ( الأحزاب ـ ٦٣ ) وقال تعالى : ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ) ( فصلت : ٤٧ ) ترى أنّه سبحانه في هذه الآية الأخيرة عندما أنهى غرضه عن

٤٩٠

رد علم الساعة إليه ، غيّر اُسلوب كلامه من الحصر ، إلى اُسلوب لا يفيد سوى علمه بهذه الاُمور ، وأنّه لا تخرج ثمرة من أوعيتها وغلفها ، ولا تحمل اُنثى ، ولا تضع اُنثى ، إلاّ في الوقت الذي يعلم سبحانه أنّه تخرج منها أو تحمل وتضع فيه.

ونظيره قوله سبحانه : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( الزخرف ـ ٨٥ ) وقوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ) ( النازعات : ٤٢ ـ ٤٤ ) وقد فسّر الطبرسي قوله : ( فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ) بقوله : أي لست في شيء من علمها وذكراها.

ولأجل اختصاص علمه بالله سبحانه ، لما سئل عن وقت الساعة وتعيين تاريخها أعرض سبحانه عنه ، وأخذ ببيان علائمها وأشراطها كما في قوله سبحانه : ( يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ ) ( القيامة : ٦ ـ ١٠ ).

فإذا أمعنا النظر في هذه الآيات وما فيها من السياق الواحد المفيد للحصر والقصر ، لا نشك في صحة ما ذكره المفسّرون في جريان مشيئته سبحانه على كتمان العلم بوقتها عن غيره ولعلّ هنا من يفرّق بين قوله : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) وقوله : ( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ ) حيث حملنا الثاني على العلم الأزلي الذاتي ، وقلنا إنّ المختص بالله سبحانه ، هو هذا القسم دون العلم المستفاد المفاض منه ، سبحانه إلى عباده ، وأنّ الآية لا تشمل ما كان من العلم اكتسابياً ، وعلى فرض عمومه لكلا القسمين ، يمكن تخصيصها بما دلّ على اطلاع الرسول على الغيب نظير قوله سبحانه : ( فَلا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) ( الجن : ٢٦ ـ ٢٧ ).

وأمّا قوله سبحانه : ( وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) فلأنّ تضافر الآيات على حصر خصوص العلم بالساعة به سبحانه والتصريح به في كل مورد تحدث عنه ، باسلوب يغاير اسلوب ما عداه كما عرفت فيما تقدم من الآيات ، ربّما يؤكد نظر المفسرين من أنّه

٤٩١

ممّا استأثر بعلمه لنفسه ، نعم امكان اطلاع النبي على وقتها بمكان من الامكان إلاّ أنّ البحث في وقوعه لا في امكانه (١).

هذا كله راجع إلى صدر الآية وهو القسم الأوّل من سياقها وإليك بيان الثاني والثالث منه.

الثاني : اثبات علمه بوقت نزول الغيث وما في الأرحام من دون قصر العلم بهما عليه سبحانه.

الثالث : التصريح بجهل البشر بما يكسب غداً وبالأرض التي فيها تموت ولكن استفادة الاستئثار من هذين القسمين ، لا يخلو من غموض وخفاء بل لا يدل عليه فإنّ أقصى ما يستفاد منها عدم اطلاع البشر عليها من عند نفسه ، وهذا لا ينافي اطلاعه عليها بتعليم من الله سبحانه كسائر الاُمور الغيبية ، وتخصيص هذه الموارد بالذكر مع كون الجميع كذلك ، للحث على علم الواجب سبحانه بجلائل الاُمور ودقائقها وجهل البشر بما يهمّه ولا يدل على جريان مشيئة الله على كتمانها عن كل بشر وعدم اعلامها لأحد.

بل يمكن أن يقال : إنّ نفي العلم عن الانسان بهذه الاُمور الأربعة كما لا ينافي امكان اطلاعه عليها بإذن الله واعلامه ، فهكذا لا ينافي امكان وقوف البشر عليها في ظل النواميس الكونية التي تم اكتشافها ، والأدوات العلمية التي تم اختراعها ، فإنّ مثل هذا العلم خارج عن مرمى الآية على احتمال قوي ، بل هي ناظرة إلى أنّ البشر ، بما هو هو من غير أن يستعين بشيء لا يتمكن من الوقوف على هذه الاُمور. وهذا لا ينافي امكان اطلاعه عليها بتعليمه سبحانه أو باتصاله بعوالم روحية أو باستخدام وسائل وأدوات

__________________

(١) ومع ذلك كلّه فيمكن أن يقال : إنّه لو لم يكن هنا سوى قوله سبحانه : ( وعنده علم الساعة ) لم يصح لنا الحكم البات بأنّه ممّا استأثر بعلمه لنفسه ، وإنّما يصح الحكم بعد ملاحظة ما ورد في المقام من الآيات التي عرفتها فلاحظ.

٤٩٢

تورث الظن أو العلم بأوضاعها.

انّ الطبيب ربّما يحدس أو يخبر على سبيل القطع عن حال مريضه ، وأنّ الموت سوف ينشب أظفاره في وقت كذا ، ويصيب في اخباره هذا ، فكما أنّ هذا النحو من العلم لاستناده إلى الامارات والعلائم والأدوات الطبية ، المورثة للظن أو العلم ، خارج عن مفاد الآية ، فهكذا ما يستند إليه الانسان في كشف المغيبات من الوسائل والاختبارات.

ولأجل ذلك نرى النبي والخلفاء من بعده ، تنبّأوا بمستقبل أحوالهم ، وما يحل بهم من نعمة ونقمة وعن زمان موتهم ومكانه.

وقد رأينا بعض المخلصين من عباده ، تنبّأوا بزمان موتهم ومكانه ، وما يحل بهم من أزمة وأزمات ونقل ذلك أيضاً عن كثير من الصلحاء ، فكيف يمكن القول بأنّه سبحانه استأثر بهذه الاُمور ، أو ما أخبر يوسف عما يكسبه صاحباه غداً فقال : ( أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ) ( يوسف ـ ٤١ ) وأي فرق بين العلم بما يكسبه الانسان نفسه وما يكسبه الغير.

وما ربّما يقال : من تخصيص ظاهر الآية بما ثبت من تنبؤ بعض المعصومين بما يحل بهم ومكان موتهم وزمانه لا طائل تحته ، فإنّ لازم هذا التخصيص هو طرح تلكم الروايات لا تخصيصها لأنّه عندئذ ينتقض الاختصاص ولا يصدق الاستئثار أبداً فإنّ الاستئثار يتوقف على كتمان العلم بها عن كل أحد إلى يوم القيامة.

أضف إلى ذلك : أنّ من الممكن القريب أن تصبح الوسائل العلمية دقيقة فنطلع على مواقع نزول المطر ونعرف الجنين أهو ذكر أو اُنثى.

عرض وتحليل :

اعتمد المشهور في تفسير الآية على روايات لم يصح أكثرها ولم تثبت صحة اسنادها ودونك بيان ما وقفنا عليه :

٤٩٣

١. روى الصدوق في خصاله عن ابن الوليد ، عن الصفار ، عن ابن هاشم ، عن عبد الرحمان بن حماد ، عن إبراهيم بن عبد الحميد بن أبي اُسامة ، عن أبي عبد الله قال : قال لي أبي : ألا أخبرك بخمسة لم يطلع الله عليها أحداً من خلقه ؟ قلت : بلى ، قال : « إنّ الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ... » (١).

ورجال الحديث كلّهم ثقات غير عبد الرحمان بن حماد وعبد الحميد فإنّ الأوّل مهمل لم يتضح حاله بوثاقة أو ضعف ، وأمّا عبد الحميد بن أبي اُسامة فإنّه مختلف فيه وإن رجّح شيخنا العلاّمة التستري في قاموسه وثاقته.

٢. روى صاحب البصائر عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن أبي الجارود عن الأصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين يقول : إنّ لله علمين علم استأثر به في غيبه فلم يطّلع عليه نبيّاً من أنبيائه ولا ملكاً من ملائكته وذلك قول الله تعالى : ( إنّ الله عنده علم الساعة ... ) (٢) والحديث ضعيف الاسناد لأجل « محمد بن سنان » فقد ضعّفه كثير من علماء الرجال وأمّا أبو الجارود فهو زيدي.

٣. ما رواه القمي في تفسيره (٣) مرسلاً عن الصادق ومضمونه قريب ممّا رواه الصدوق في خصاله.

وأمّا ما رواه الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور عن عكرمة أنّ رجلاً جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد ؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غداً ؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ؟فنزلت الآية (٤) فلا ينطبق على ظاهر الآية

__________________

(١) الخصال ص ٢٩٠ طبع مكتبة الصدوق.

(٢) بصائر الدرجات ص ٣١.

(٣) تفسير علي بن إبراهيم القمي ص ٥١٠ وقد جمع أحاديث الباب العلامة المجلسي في بحاره راجع ج ٢٦ ص ١٠١ ـ ١٠٣.

(٤) الدر المنثور ج ٥ ص ١٦٩.

٤٩٤

فإنّ المتبادر من قوله : ( ويعلم ما في الأرحام ) هو العلم بخصوصية الجنين لا العلم بوقت ولادته كما هو ظاهر الحديث مضافاً إلى ما في سنده من الضعف الظاهر لانحراف عكرمة عن أمير المؤمنين ، وأخذه الحديث من اُناس لا خلاق لهم من الدين.

هذه الأحاديث لا يصح الاعتماد عليها إلاّ على ما نقله الرضي في نهج البلاغة عن الإمام عليه‌السلام من أنّ علم الغيب علم الساعة ، وما ذكره الله سبحانه بقوله : ( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله (١).

وهو مما يجب تأويله وتوجيهه على وجه لا ينافي ما تواتر من الروايات من تنبؤ المخلصين بزمان موتهم ومكانه ، وما يلم بهم من خير وشر خصوصاً إذا وقفنا على أنّ الإمام ألقى كلامه هذا تجاه النواصب والمخالفين الذين سمعوا من الإمام في البصرة من الأسرار ما لا يتحملون ، فاعترضوا عليه بأنّه تنبؤ بالغيب ، فأجابهم وصد اعتراضهم بأنّه ليس بعلم الغيب ، بل تعلم من ذي علم ، وإنّما الغيب هو الساعة ، وما عدده سبحانه ... ».

وبما أنّ الكلام ورد في مقام اسكات الخصم يمكن تأويله باحدى الوجوه التي ذكرها العلامة المجلسي في بحاره (٢).

وأوضحها : أن يكون العلم الحتمي بها مختصاً به تعالى وكل ما أخبر الله به من ذلك كان محتملاً للبداء والغرض من تخصيص هذه الموارد بالذكر مع أنّ الجميع كذلك لأجل الحث على جهل البشر بما يهمّه ، والله سبحانه هو العالم بحقائق كتابه.

وإليك نص عبارته :

الأوّل : أن يكون المراد أنّ تلك الاُمور لا يعلمها على التعيين والخصوص إلاّ الله تعالى فإنّهم إذا اخبروا بموت شخص في اليوم الفلاني فيمكن أن لا يعلموا خصوص

__________________

(١) قد أسلفنا لفظ الحديث فراجع صفحة ٤٥٨ من كتابنا.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٦ ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

٤٩٥

الدقيقة التي تفارق الروح الجسد فيها مثلاً ، ويحتمل أن يكون ملك الموت أيضاً لا يعلم ذلك.

الثاني : انّ العلم الحتمي بها مختصاً به تعالى ، وكل ما اخبر الله به من ذلك كان محتملاً للبداء.

الثالث : أن يكون المراد عدم علم غيره تعالى بها إلاّ من قبله فيكون كسائر الغيوب ويكون التخصيص بها لظهور الأمر فيها أو لغيره.

الرابع : ما أومأنا إليه سابقاً وهو أنّ الله تعالى لم يطلع على تلك الاُمور كلية أحداً من الخلق على وجه لا بداء فيه ، بل يرسل علمها على وجه الحتم في زمان قريب من حصولها كليلة القدر أو أقرب من ذلك ، وهذا وجه قريب تدل عليه الأخبار الكثيرة إذ لابد من علم ملك الموت بخصوص الوقت كما ورد في الأخبار ، وكذا ملائكة السحاب والمطر بوقت نزول المطر ، وكذا المدبرات من الملائكة بأوقات وقوع الحوادث.

٤٩٦

الفصل الثامن

سيرة النبي الأعظم

وصفاته وأسماؤه

في القرآن الكريم

بالرغم من أنّ جوانب حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسعة المدى ، فسيحة الأرجاء ، متعددة الجهات ، مختلفة النواحي ، فقد عني المسلمون منذ فجر الإسلام وانبثاق الدعوى الالهية في ربوع العالم ، بضبط ما يرجع إلى حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا دق وجل من قول ولفظ ، وفعل وعمل ، وما في تاريخه من نوادر وطرائف ونقاط ، فما صدر منه كلام إلاّ نقلوه ، أو فعل إلاّ ضبطوه ، أو سنّة إلاّ سجلوها ، وقد بلغوا الغاية في ذلك حتى دوّنوا حياة أصحابه وتابعيه وما ينسب إليه وإليهم بأدنى مناسبة. فترى في غضون المعاجم والسير كثيراً ممّا يرجع إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاُمور التي قلّما تخطر على بال بشر أن يصفها أو يسجلها كتوصيف نعله ، وسواكه ، ومشطه ، ومكحلته ، ومرآته ، وقدحه ، وسيوفه ، ودروعه ، وتروسه ، ورماحه ، وسوطه ، ورايته ، ومغفره ، وأعلام خيوله ، وابله ، وبغلته ، وحماره ، ومنايحه من الغنم ، ومواليه وحجر أزواجه ، وفسطاطه ، وقصعته ، وقعبه ، وعمامته ، وخاتمه ، وأصناف لباسه ، وطولها ، وعرضها ، وشعره ، وشيبه ، وكيفية خضابه ، ونومه ، ومأكله والطعام الذي يعجبه ،

٤٩٧

حتى سجلوا الأبار التي شرب منها ، والخمرة التي كان يصلّي عليها ، إلى غير ذلك من نوادر الاُمور التي لا يهتم بذكرها وضبطها بالنسبة إلى البشر العاديين.

كل ذلك دليل على شدة ما كان يتمتع به النبي من ود وحب عريق ، إلى حد قيض همة ثلة جليلة من فطاحل المسلمين وأكابرهم لضبط وتسجيل كل ما يرجع إليه كبيراً أو صغيراً شرعياً أو عرفياً (١).

فألّفوا في كل ناحية من نواحي حياته كتباً زاخرة ورسائل طافحة أو عقدوا لها فصولاً في كتب السير والتاريخ ، ولقد زخرت المكتبة الإسلامية بأثار هذا النشاط بل زخرت مكتبات اُخرى في لغات واُمم اُخرى بكتب ورسائل في هذا المضمار إلى حد يقف العقل أمامها حائراً مشدوهاً يخالجه مزيج من الاعجاب والمهابة.

والعجب أنّ الركب بعد سائر لم يقف ، ولم يفتر ، وهذه الكتب مع كثرتها لم تشبع نهمتهم ، وما قضت وطرهم في تحليل حياة النبي ، حتى انّنا نرى الأكابر من العلماء في كل عصر وجيل إلى عصرنا هذا ، يكتبون كتباً زاخرة في حياة النبي ويؤلّفون رسائل طافحة بالتحقيق والتحليل ، حتى يغنوا بذلك الناشئ الجديد عن أساطين التاريخ وأفانين الرواية ورسائل المستشرقين ويقدمون له ما يسد جوعته ويجعل المسلم الحر يرتشف من المنهل العذب.

وعلى ضوء هذه الكتب والجهود الجبارة التي تحمّلها لفيف من علماء المسلمين بل فئة كبيرة منهم ، لم يتركوا في حياة النبي مبهمة إلاّ كشفوا أستارها ورفعوا النقاب عن وجهها ، أو جانباً مجهولاً إلاّ حدّدوه وعيّنوه بأدق وجه وأنصع بيان.

عناية القرآن ببيان صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ولم تكن عناية القرآن ببيان نواح من حياة النبي الجليلة وشؤونه الدقيقة بأقل من

__________________

(١) راجع الطبقات الكبرى ج ١ ص ٣٦٠ وتاريخ الطبري ج ١ ص ٤١٧ ـ ٤٢٨ وبحار الأنوار ج ١٦ ص ٨٢ ـ ٢٢٩ وغير ذلك من المجاميع التاريخية والحديثية.

٤٩٨

عناية المسلمين ضبطاً وتسجيلاً ، فإنّ القارئ يجد في مختلف السور والآيات ، صوراً واضحة رائعة من صفات النبي وفضائل أخلاقه وكرائم نعوته إلى حد يقف الانسان على روحياته ونفسياته ومختلف أقواله وأفعاله ، ويقدر مع التدبر التام فيما نزل في حقه من الآيات على الاحاطة بمراحل حياته منذ بعث بل منذ نعومة أظفاره إلى أن فارقها إلى الرفيق الأعلى ، ولعلنا نرجع إلى ذلك في مستقبل الأيام (١).

فالرجوع إلى نفس القرآن واستخراج سيرة النبي وصفاته ونفسياته وأفعاله من خلال آياته الكريمة ، أوثق وأسد الطرق لدراسة شخصية النبي الأعظم ، فالتدبر في هذا القسم من الآيات ، يعطي لنا صورة واضحة عن حياة النبي وشخصيته الفذة ، وعبقريته النادرة ، وما أودعه الله فيها من مواهب وقوى خلقية ونفسية وعقلية ، بلغت الذروة والروعة والعظمة ، ويغنينا عن المبالغات التي يعمد إليها بعض فرق المسلمين من غير سند وثيق.

إنّ تلكم الآيات تصلح أن تكون رداً حاسماً وقوياً على الموقف المنكر الذي يقفه المغرضون من المبشرين والمستشرقين من أخلاق النبي وفضائله ، إذ يتجاهلون أو يغفلون عن ما في القرآن من نصوص ، ويتمسكون دونها بالروايات التي ربّما تكون مخترعة أو مدسوسة ومزوّرة ، فينسبون إلى ساحة النبي الأكرم ما هو بري منه ، في حين أنّ في القرآن من الآيات ما فيه كل المقنع لمن لم يختم الله على قلبه بما كان عليه من الرحمة والصدق والبساطة والتجرد والزهد والاستغراق في الله والتحلّي بالمثل العليا واعطاءه القدوة الحسنى لذلك كله.

فقد أشار سبحانه إلى مكانته المرموقة ولزوم توقيره وتكريمه ، وأنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء بعضنا بعضاً بقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ

__________________

(١) وقد وقفنا بعد ما كتبنا هذا الفصل على ما ألفه « محمد عزة دروزة » في هذا المضمار وأسماه « سيرة الرسول » وهي صورة مقتبسة من القرآن الكريم وذكر في مقدمة الكتاب ، الحوافز التي دفعته إلى تأليف كتابه وقد طبع في مطبعة الاستقامة بالقاهرة في جزءين وقد راجعنا هذا الكتاب بعض المراجعة عند تقديم هذا الفصل إلى الطبع.

٤٩٩

النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ( الحجرات : ٢ ) وبقوله سبحانه : ( لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ) ( النور ـ ٦٣ ) ، وإلى حرمة التسرّع في ابداء الرأي والبدء في العمل بقوله عزّ وجلّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الحجرات ـ ١ ).

وإلى تأثّره وغمّه وهمّه وحزنه من عدم استجابة قومه لدعوته واهتدائهم بهداه بقوله سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الحَدِيثِ أَسَفًا ) ( الكهف ـ ٦ ) ، وبقوله : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( الشعراء ـ ٣ ) ، وإلى تحمسه وثباته في المعارك الطاحنة وما فيه من شجاعة وثبات جنان في مواقف الشدة وميادين الكفاح ، وإلى موقفه أمام العدو حين ما دارت الدائرة على المسلمين وانهزموا وتفرّق كثير من أعيانهم وأبطالهم ، ووقف النبي وثبت في ميدان المعركة ، ومعه من لا يتجاوز عدد الأصابع بقوله سبحانه : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران ـ ١٥٣ ).

فكان النبي قطب الرحى في هذا الموقف العصيب إذ ثبت ثبات الجبال ، رابط الجأش ، مطمئن النفس ، فصار اسوة حسنة للمؤمنين.

وإلى أنّه بلغ من الكمال إلى حد ، صار إماماً وقدوة للمؤمنين يتأسون به في قيمه الروحيه ومثله العليا بقوله : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) ( الأحزاب ـ ٢١ ).

وإلى أنّه قد رزق الكوثر والخير الكثير من كل جوانب الحياة ومظاهرها فرزقه الله من بنت واحدة ، ما ملأ الخافقين بقوله : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ( الكوثر ـ ١ ) وغيرها من الخيرات التي لا تعد ولا تحصى فلمّا رماه خصمه بأنّه الابتر ، فرمى شانئه بأنّه أولى بذلك لا نبي العظمة.

٥٠٠