مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

تساؤلات

حول علم النبي بالغيب

السؤال الأول :

إنّ علمه سبحانه بالأشياء وإن كان مطلقاً ومرسلاً غير محدود وذاتياً له غير مفاض ، على ما دلّت عليه البراهين الكلامية والفلسفية إلاّ أنّ ذلك لا يصحح حمل الآيات على هذه المعاني البعيدة عن مستوى الافهام ، وكون علمه سبحانه عين ذاته وعلم غيره زائداً عليها أمر معلوم من الخارج ، ولا يكون مثل هذا العلم كقرينة على تفسير ما دلّ على اختصاص العلم بالغيب له سبحانه ، فكيف تحمل هذه الآيات على العلم الذاتي ، المحيط بكل شيء ، المرسل عن كل شيء ؟!

الجواب : انّ من لاحظ سياق الآيات والقرائن الحافة بها ، وسبر التاريخ والحديث يقف على أنّ المتبادر من « العلم بالغيب » في عصر الرسالة وبعده كان هو العلم الذاتي لا العرضي ولأجل ذلك كان الأئمة من أهل البيت مع ما اُخبروا من المغيبات ما لا يحصى يتحاشون عن توصيفهم بأنّهم عالمون بالغيب ناسبين علومهم ومعارفهم وما يخبرون به من ملاحم وأحداث وفتن ، إلى التعلّم من ذي علم (١) والوراثة من الرسول (٢) ويصف هشام بن الحكم الإمام الصادق وهو من أكابر أصحابه ، بأنّه يخبرنا بأخبار

__________________

(١) نهج البلاغة خطبة ١٢٤ وسيوافيك لفظ الإمام.

(٢) كما في الحديث عن الإمام الطاهر موسى الكاظم عليه‌السلام وسيوافيك لفظه.

٤٤١

السماء وراثة عن أب وجد ، وهذا أقوى دليل على أنّ المتبادر في عصر الرسالة وبعده ، من العلم بالغيب هو القسم اللائق بساحته سبحانه.

وكون العلم اكتسابياً أو غير اكتسابي ليس من المفاهيم الغامضة التي لا ينقدح في الافهام الوسطى فضلاً عن العليا ، فإنّ الانسان العارف بالله ، مهما تنازل وبعد عن المعارف ، يقف على أنّ هنا موجوداً غنياً من جميع الذات والغنى نفسه وذاته فوجوده وعلمه وقدرته وحياته ثابت له من دون استناد إلى غيرها ، وانّ هنا موجوداً فقيراً ومخلوقاً لغيره يعتمد في كل كمال وجمال إلى خالقه وبارئه ولا نعني من الذاتي والاكتسابي غير هذا.

وإلى ما ذكرنا يشير شيخ الاُمّة الشيخ المفيد رحمه‌الله بقوله :

« إنّ الأئمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد ، يعرفون ما يكون قبل كونه ، وليس بواجب في صفاته ولا شرطاً في إمامتهم وإنّما أكرمهم الله تعالى وأعلمهم إياه للطف في طاعتهم والتمسك بإمامتهم وليس ذلك بواجب عقلاً ولكنه وجب لهم من جهة السماع ، فأمّا اطلاق القول عليهم بأنّهم « يعلمون الغيب » ، فهو منكر بيّن الفساد ، لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقه من علم الأشياء بنفسه ، لا بعلم مستفاد وهذا لا يكون إلاّ لله عزّ وجلّ وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة إلاّ من شذ عنهم من المفوضة ومن انتمى إليهم من الغلاة » (١).

فالتوفيق بين قوله : « اطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب بيّن الفساد » وقوله عليه‌السلام : « بأنّهم يعلمون ما في الضمائر » لا يحصل إلاّ بما ذكرنا ، بل هو صريح كلامه لمن أمعن فيه النظر.

قال رشيد الدين محمد بن شهر آشوب (٢) : النبي والإمام يجب أن يعلما علوم

__________________

(١) أوائل المقالات ص ٣٨.

(٢) أحد أقطاب التفسير والحديث في القرن السادس توفّي عام ٥٨٨ ، وله المناقب وأسباب نزول القرآن ، ومتشابهات القرآن كما صرح به في معالمه.

٤٤٢

الدين والشريعة ولا يجب أن يعلما الغيب وما كان وما يكون لأنّ ذلك يؤدي إلى أنّهما مشاركان للقديم تعالى في جميع معلوماته التي لا تتناهى وإنّما يجب أن يكونا عالمين لأنفسهما (١) ، وقد ثبت أنّهما عالمان بعلم محدث ، والعلم لا يتعلّق على التفصيل إلاّ بمعلوم واحد. ولو علما ما لا يتناهى لوجب أن يعلما وجود ما لا يتناهى من المعلومات وذلك محال ، ويجوز أن يعلما الغائبات والكائنات الماضيات أو المستقبلات باعلام الله تعالى لهما شيئاً منها (٢).

فإنّ الظاهر من كلامه أنّ الشرك إنّما يلزم من أمرين : « الأوّل » القول بعدم تناهي علومهم ، « الثاني » كون علومهم مستندة إلى أنفسهما لا باعلام منه سبحانه والمنفي في كلامه هو العلم الذاتي غير المتناهي ، أما المتناهي المستند إلى الله عزّ وجلّ فهو ثابت لهم.

السؤال الثاني :

لو كان النبي عالماً بالغيب بعلم مستفاد ومفاض منه سبحانه لما مسّه السوء والشر مع أنّه كان يمسّه السوء بنص منه سبحانه حيث قال : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) ( الأعراف ـ ١٨٨ ) فإنّ الانسان إذا وقف على أنّ في ركوب أمر خطراً على نفسه وماله ، أو أنّ في هذا الغذاء سمّاً لاجتنب عنهما وتركهما بتاتاً سواء أوقف عليها من جانب نفسه أم باطلاع غيره فمس السوء وفوت الخير ، دليلان على عدم اطلاعه على الغيب لا من جانب نفسه ولا من ناحية غيره مطلقاً.

الجواب من وجوه : الجواب الأوّل :

إنّ السؤال موجه إذا قلنا بسعة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعامة الحوادث القادمة مع تفاصيلها وجزئياتها ، وأنّ علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغابر الاُمور وقادمها غير محدود بشيء من التحديد ،

__________________

(١) كذا في النسخة والصحيح لا لأنفسهما كما هو واضح لمن أمعن النظر.

(٢) متشابهات القرآن ومختلفه ج ١ ص ٢١١.

٤٤٣

غير كونه علماً إمكانياً مفاضاً ومستفاداً منه سبحانه ، فعند ذاك يتوجه السؤال ويقال :

بأنّه لو كان النبي عالماً بما سيقع من الحوادث كلّها ، يجب أن لا يمسّه السوء أبداً ويحترز من كل شر ، قبل إصابته وأمّا إذا حددناه بشيء من التحديد وقلنا إنّ علمه بالحوادث ليس بهذه المثابة كما يدل عليه قوله عليه‌السلام : « إنّ لله علمين : علم مخزون لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه » (١) ، وقوله عليه‌السلام : « لولا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة » فقلت أيّة آية؟ قال : « قول الله : ( يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) » (٢) فالسؤال غير وجيه جداً لأنّه إذا كان علمه بالحوادث المستقبلة ، محدوداً بشيء من هذه الحدود ، لا ينافيه مس السوء وعدم استكثار الخير في بعض الأحايين ، لإمكان أن يكون المورد من العلم المكنون الذي لم يطلع عليه أحد ، أو من الاُمور التي تحقق فيها البداء بمعناه الصحيح الذي نصّت عليه الأحاديث.

روى معمر بن خلاد قال : سأل أبا الحسن عليه‌السلام رجل من أهل فارس فقال له : أتعلمون الغيب ؟ فقال : قال أبو جعفر : يبسط لنا العلم فنعلم ، ويقبض عنّا فلا نعلم ، فقال : سرّ الله عزّ وجلّ أسرّه إلى جبرئيل ، وأسرّه جبرئيل إلى محمد وأسرّه محمد إلى من شاء الله (٣) ، وبهذا المضمون روايات وأحاديث ، واختاره لفيف من مشايخ الإمامية (٤).

نعم هذا الجواب ربّما لا يلائم ما دلّت عليه بعض الأحاديث التي نقلها الكليني في كافيه وعقد له باباً ب‍ « أنّهم عليهم‌السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنّه لا يخفى عليهم شيء ».

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٤٧ وتضافرت الروايات بهذا المضمون وقد جمعها العلامة المجلسي في بحاره في الباب الثاني من كتاب توحيده فراجع ج ٢ ص ٤٧ ـ ٩٢.

(٢) بحار الأنوار ج ٤ باب البداء والنسخ ص ١١٨ ، الحديث ٥٢.

(٣) الكافي ج ١ ص ٢٥٦.

(٤) كالشيخ الصدوق وأمين الإسلام الطبرسي وغيرهما ممّن لا يقولون بعموم علمهم بكل شيء.

٤٤٤

غير أنّ ابداء الرأي القاطع في سعة علومهم واطلاعهم على المغيبات يحتاج إلى امعان النظر في أحاديث الباب كلّها فإنّها ليست على صعيد واحد بل تختلف مضامينها وبما أنّ الاسهاب يوجب الخروج عن الهدف من هذا الفصل فنرجئ البحث عنه إلى مقام آخر.

الجواب الثاني :

لو كان علمهم عليهم‌السلام بالمغيبات علماً بالفعل بحضورها لديهم تفصيلاً بدقائقها وتفاصيلها فلا يجتمع ذاك مع مفاد الآية ، وأمّا إذا قلنا بأنّ علمهم بالغيب على حسب مشيئتهم بحيث لو شاؤوا علموا ، ولو لم يشاؤوا لم يعلموا (١) فينقطع الإشكال من أصله فإنّ مثلهم بالنسبة إلى الحوادث القادمة عليهم‌السلام كمثل الذي اُلقي عليه سؤال وبيده كتاب ، فيه جوابه لو رجع إليه علم ، وإذا لم يرجع إليه لم يعلم ، أو مثل الفقيه الذي له ملكة الاجتهاد ، واستنباط الأحكام عن أدلّتها ، أو الطبيب البارع الذي له قدرة التشخيص والعلاج ، أو العالم الرياضي القادر على حل المعادلات الجبرية فإنّهم إذا شاؤوا علموا وأجابوا عن السؤال ، ورفعوا الستار عن مجهولهم بالرجوع إلى ملكاتهم العلمية ، فلا ينافي عدم استحضارهم جواب السؤال ، مع امكان اطلاعهم عليه إذا شاؤوا ، وعلى ذلك فكل ما أصابهم شر وكل ما فاتهم خير فيمكن أن يكون ممّا لم يشاؤوا أن يعلموه.

قال العلاّمة الطباطبائي : « قد ورد في بعض الأخبار ، وسياق التفسير لسائرها أنّهم عليهم‌السلام إذا شاؤوا علموا ، وإذا لم يشاؤوا لم يعلموا ، ويتحصل منه أنّ لهم بحسب مقام نورانيتهم علماً بالفعل بكل شيء ، وأمّا بحسب الوجود العنصري الدنيوي فهم إذا شاؤوا علموا ، بفضل الاتصال بمقام النورانية باذن الله ، وأمّا إذا لم يشاؤوا لم يعلموا.

__________________

(١) وقد عقد الكليني باباً خاصاً لأحاديثه ، غير أنّ ما رواه في هذا الباب ضعيف السند لاحظ الكافي ج ١ ص ٢٥٨.

٤٤٥

وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض القصص والسير المأثورة عنهم ممّا ظاهره أنّهم ما كانوا على علم بما كان يستقبلهم من الحوادث فلا تغفل » (١).

الجواب الثالث :

ما تفضل به سيدنا العلاّمة الطباطبائي ( رضوان الله عليه ) عندما عرضنا عليه هذا السؤال ، فألّف في جوابه رسالة موجزة في ثمان صفحات على القطع الصغير باستدعاء منّا ، ونحن نقتطف منه مايلي بتصرّف يسير :

لما كان علمهم عليهم‌السلام هذا بالحوادث علماً بها بما أنّها واجبة التحقق ، ضرورية الوقوع ، لا تقبل بداء ، ولا تحتمل تخلفاً ، كما في الأخبار ، فلا تأثير لهذا العلم الذي هذا شأنه في فعل الانسان ، وتوضيحه يكون ببيان اُمور :

١. انّ من المقرر عقلاً ، وقد صدقه الكتاب والسنّة ، أنّ كل ظاهرة وحادثة تحتاج في تحققها إلى علّة ، ثمّ إنّ العلّة التي يتوقّف عليها وجود الشيء ، تنقسم إلى ناقصة وتامة ، والتامة منها ما يتوقف عليه وجود الشيء ، بحيث يجب وجوده بوجودها ، وعدمه بعدمها ، والناقصة منها ، وإن كان يتوقف عليه وجود الشيء أيضاً ، ويجب عدمه بعدمها ، إلاّ أنّه لا يجب وجود الشيء بوجودها.

٢. إنّ الحادثة لا تتحقق إلاّ وهي موجبة بإيجاب علّتها التامة ومحتمة بحتمية منها ، وكذا الكلام في علتها حتى ينتهي إلى الواجب بالذات تبارك وتعالى. فالعالم مؤلّف من سلسلة من الحوادث ، كل حلقة من حلقاتها واجبة الوجود ، بعلّة تسبقها وإن كانت ممكنة بالقياس إلى أحد أجزاء علّتها العرضية أو أحد عللها الطولية.

٣. هذه الوجوبات المترتبة ، الواقعة في سلسلة الحوادث هي نظام القضاء الحتمي الذي ينسبه الله سبحانه إلى نفسه ويقول : ( لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً ) ( الأنفال ـ ٤٢ ) ، وقال : ( وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) ( مريم ـ ٢١ ).

__________________

(١) عن رسالة خطية له رحمه‌الله نحتفظ بنسخة منها.

٤٤٦

٤. إنّ للعلم أثراً في انتخاب أحد الأمرين من الفعل والترك وجلب النفع ودفع الضرر ، فالانسان الفاعل بالعلم والإرادة ، إنّما يقصد ما علم أنّه يفيده ، ويهرب ممّا علم أنّه يضره ، فللعلم تأثير في انتخاب أحد الفعلين وفي فعل شيء أو تركه.

٥. علم الانسان بالخير والنفع وكذا علمه بالشر والضرر في الحوادث المستقبلة إنّما يؤثّر إذا تعلّق بأمر ممكن غير مقضي ، وذلك مثل أن يعلم الانسان أنّه لو حضر مكاناً كذا ، في ساعة كذا ، من يوم كذا ، قتل قطعاً ، فلهذا العلم تأثير خاص في ترك الحضور في المكان المعين ، تحرّزاً من القتل ، وأمّا إذا تعلّق العلم بالضرر مثلاً من جهة كونه ضروري الوقوع واجب التحقق ، كما إذا علم أنّه في مكان كذا ، ساعة كذا ، من يوم كذا ، مقتول لا محالة بحيث لا ينفع في دفع القتل عنه عمل ، ولا تحول دونه حيلة ، فإنّ مثل هذا العلم ، لا يؤثر في الانسان شيئاً ولا يبعثه إلى نوع من التحرز والالتقاء لفرض علمه بأنّه لا ينفع فيه شيء من العمل فهذا الانسان مع علمه بالضرر المستقبل ، يجري في العمل مجرى الجاهل بالضرر.

إذا علمت ذلك ثمّ راجعت الأخبار الناصة على أنّ الذي علمهم الله تعالى من العلم بالحوادث التي لا بداء فيه ولا تخلف ، ظهر لك اندفاع ما أورد على القول بعلمهم بعامة الحوادث ، من أنّه لو كان لهم علم بذلك لاحترزوا مما وقعوا فيه من الشر ، كالشهادة قتلاً بالسيف أو بالسم ، لحرمة إلقاء النفس في التهلكة.

وجه الاندفاع أنّ علمهم بالحوادث علم بها من جهة ضرورتها كما هو صريح نفي البداء عن علمهم (١) والعلم الذي هذا شأنه لا أثر له في فعل الانسان ببعثه إلى نوع من التحرز ، وإذا كان الشر بحيث لا يقبل الدفع بوجه من الوجوه ، فالابتلاء به وقوع في التهلكة لا القاء فيها ، قال تعالى : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ

__________________

(١) يشير رحمه‌الله إلى ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام : العلم علمان فعلم مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله فما علّمه ملائكته ورسله ، فإنّه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء الكافي باب البداء ج ١ ص ١٤٨.

٤٤٧

الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران ـ ١٥٤ ).

ولما كان ما ذكره في مقام الاجابة موجزاً كمال الايجاز أوضحنا ما أفاده بأمرين :

١. ما سمعناه منه رضوان الله عليه شفاهاً.

٢. ما حرّره بقلمه حول السؤال في رسالة فارسية فها نحن نقدم ما سمعناه منه شفاهاً ثم نتبعه بما جاء في رسالته الخاصة.

أمّا الأوّل فنقول :

إنّ علم النبي بالمغيبات لو كان من عند نفسه يجب أن يكون مستنداً إلى امارات وقرائن تثير في نفسه القطع والعلم بأنّه لو شرب هذا السم يهلك قطعاً فالعلم في هذا القسم يتعلق بقضية شرطية ، بحيث لو تحقق الشرط لتحقق الجزاء ، فإذا وقف الانسان على علم هذا شأنه ، لاحترز عن اقترافه بحكم الغريزة الانسانية وليدفع عن نفسه السوء والشر ، فأصبح خلوّاً من كلّ مكروه.

وإن شئت قلت إنّ العلم في هذا النوع يتعلّق بالحوادث من جهة امكانها لا من جهة ضرورتها ، كما مثل به رحمه‌الله : « من أنّه لو حضر مكاناً كذا ، في ساعة كذا من يوم كذا لقتل » وعند ذاك يختار ترك الحضور أخذاً بواحد من طرفي الامكان وهو الذي فيه نجاته ونجاحه.

وأمّا إذا كان علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفاضاً ومستفاداً من جانبه سبحانه فبما أنّ ما علمهم الله لا بداء فيه ولا تخلف ، وهو ممّا يتحقق قطعاً فلا محالة يسير النبي حسب ما أوحى الله إليه ولا يقدر أن يتخلّف عنه قدر شعرة فيصيبه من الخير والشر ما قضي عليه بضرورة وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) من عند نفسي ( لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ ) واخترت أنفع الاُمور وأصلحها ( وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ) واحترزت عن اقتراف المضار ، بحكم الغريزة الانسانية التي تدعو إلى صيانة النفس عما يضرّها ويؤذيها ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ ) فأسير ، حسب ما اُوحي إليّ ، وهو ليس خبراً

٤٤٨

يقبل الكذب أو الخطأ ، بل هو خبر قطعي الثبوت فيصيبني من الخير والشر ما قضى وقدر (١).

وعلى ذلك ، لا يكون ، مس السوء دليلاً على عدم علمه بالغيب ، فإنّه لا أثر للعلم وعدمه في هذا النوع في الاجتناب والاتقاء.

غير أنّ القارئ الكريم بعد ما أمعن النظر في هذا الجواب يجب عليه أن يلاحظ أمرين :

١. أنّ العلم العادي كما يمكن أن يتعلق بالقضية من ناحية امكانها ـ فيصح فعل الشيء وتركه ـ كذلك يمكن أن يتعلق بها من جهة ضرورتها ، كأن ينكشف له بأحد الأسباب بأنّه يموت في وقت كذا ، ويهلك في زمن كذا فلا ينحصر العلم غير المفاض على قسم واحد ولعله رحمه الله يلتزم بذلك.

٢. إنّ القول بأنّ علمهم بالحوادث ممّا لا بداء فيه ولا تخلف ، وإن دلّت عليه بعض الأحاديث ولكن يظهر من كثير منها وقوع البداء في ما وصل إليهم علمه أيضاً.

ثم إنّ الاستاذ عمل رسالة خاصة باللغة الفارسية قد أوضح فيها ما قصده من الجواب ونحن نقتطف منها ما يمس بالمقام :

١. إنّ علم الإمام الخاص ليس له أثر في أعماله ولا يرتبط بتكاليفه الخاصة لأنّ كل شيء تعلّق به القضاء الحتمي ، وكان ضروري الوقوع لا يتعلق به الأمر والنهي ولا الإرادة والقصد من تلك الجهة ، نعم يكون هذا الشيء الذي تعلق به القضاء الحتم مورداً لرضا العبد بهذا القضاء الالهي وذلك كما قال الحسين عليه‌السلام في اللحظات الأخيرة من حياته وهو صريع على الأرض ، مضمّخ بالدم : « رضى بقضائك وتسليماً لأمرك لا معبود سواك » وكما قال عليه‌السلام حين أراد الخروج من مكة : « رضا الله رضانا أهل البيت الخ ».

٢. من الممكن أن يتصور البعض بأنّ العلم القطعي بالحوادث التي لا تقبل

__________________

(١) ما أوضحناه به كلامه ، سمعناه منه شفاهاً.

٤٤٩

التغيير والتبديل يستلزم القول بالجبر في الأفعال ، فلو فرض أنّ الإمام عليه‌السلام علم أنّ شخصاً معيناً سيقتله في ظرف معين ، بحيث لا يقبل هذا الحدث التغيير أبداً ، فلازم هذا الفرض أن لا يكون للقاتل اختياراً على تر ك القتل ، فهو إذن مجبور على قتل هذا الإمام ، فلا تكليف ولا عقاب حينئذ على هذا القاتل ، ولكن هذا التصور باطل لما يلي :

أ. إنّ هذا الإشكال في الواقع ليس إلاّ إشكالاً على شمول القضاء الالهي لأفعال الانسان الاختيارية أيضاً ، وليس هو إشكالاً على علم الإمام بالغيب ، ولأجل ذلك الإشكال منع المعتزلة شمول القضاء الالهي للأفعال الاختيارية للانسان زاعمين أنّ الانسان هو الذي يخلق أفعاله استقلالاً وبالتالي فهو خالق لأفعاله والله تعالى خالق بقية الأشياء ، في حين نجد النص القرآني والأخبار المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت تعتبر كل الموجودات وكل الحوادث الكونية بلا استثناء مشمولة لقضاء الله وقدره ، كما أنّ هذا الأمر ثابت من طريق العمل أيضاً ، وإن كنّا لا نستطيع بحثه في هذا المقال المختصر لسعة أطرافه.

والذي نستطيع أن نقوله بإجمال هو : أنّه لا يوجد شيء في هذا الكون إلاّ بمشيئة الله تعالى وإذنه ، وحتى أفعال الانسان الاختيارية تعلّقت بها المشيئة على أن تصدر بإرادة نفس الانسان واختياره ، فمثلاً : انّ الله أراد أن يصدر فعل معين من انسان مخصوص ولكنّه تعالى أراد في نفس الوقت صدور هذا الفعل المعيّن من الانسان المخصوص باختيار من الانسان وإرادة ، ومن البديهي أنّ هذا الفعل المعيّن مع وصفه الخاص ضروري الوقوع ، رغم أنّه اختياري للانسان لأنّه لو لم يكن اختيارياً لتخلفت إرادته تعالى عن مرادها : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ).

ب. ومع غض النظر عمّا تقدم الآن فإنّ الله تعالى ـ كما نعلم جميعاً ـ خلق لوحاً محفوظاً أثبت فيه جميع الحوادث الماضية والقادمة للعالم ولا مجال للتغيير فيه أبداً ، فإذا كان علم الله تعالى السابق بهذه الحوادث كما أثبتها اللوح المحفوظ لا تستلزم أن يكون الانسان مجبوراً في أفعاله ، فكيف يكون علم الإمام السابق ببعض هذه الحوادث أو

٤٥٠

بجميعها مستلزماً لأن يكون الانسان مجبوراً في أفعاله الاختيارية والتي منها عملية قتل الإمام المعينة مثلاً ؟

٣. بعض الأعمال التي تصدر من الإمام وهي موافقة للأسباب الظاهرية لا يمكن أن نعتبرها دليلاً على جهل الإمام بالواقع وفقدانه لموهبة العلم التي أثبتناها له كأن يقال :

لو كان الحسين عليه‌السلام يعلم حقاً مستقبل أمره فلماذا بعث مسلماً إلى الكوفة رسولاً عنه ؟

ولماذا أرسل مع الصيداوي كتاباً إلى أهل الكوفة ؟ ولماذا خرج من مكة متوجهاً نحو الكوفة ؟ ولماذا ألقى بنفسه في التهلكة ؟ والله تعالى يقول : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ولماذا ؟ والخ.

وتتضح الاجابة عن كل علائم الاستفهام هذه بالحقيقة التي ذكرناها قبل لحظات وهي : أنّ الإمام لم يعمل في هذه المواضع ونظائرها إلاّ بالعلم الذي يحصل لديه بالوسائل العادية وعن طريق الأدلة والشواهد الظاهرية ، فلم يبذل أي جهد لدفع الخطر الواقعي المعلوم عن نفسه لأنّه علم أنّ أي جهد من هذا القبيل هو عبث لأنّ القضاء الحتمي قد تعلق بهذا الأمر كما يقول تعالى في سورة آل عمران في شأن اولئك الذين قالوا في حق أصحابهم يوم اُحد : ( لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ) ( آل عمران ـ ١٥٦ ) يقول الله في حقهم : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران ـ ١٥٤ ).

القسم الثاني من علم الإمام ـ العلم العادي :

إنّ النبي أو الإمام من العترة الطاهرة ليسوا إلاّ بشراً حسب نص القرآن الكريم والأعمال التي تصدر من الإمام هي كالأعمال التي تصدر من غيره من الناس تستند إلى اختياره وعلى أساس علمه العادي ، أنّ الإمام كغيره يميّز الخير والشر ، ومدى النفع والضرر في الأعمال عن طريق الأسباب الطبيعية والوسائل العادية ثم تحدث عنده إرادة

٤٥١

العمل الذي يراه صالحاً ونافعاً ، ثم يسعى للقيام به وتحقيقه ، فحين تكون العوامل الخارجية مساعدة ، ومنسجمة مع بعضها يستطيع تحقيق الأمر الذي يريده ، وبغير ذلك يخفق في تحقيق الهدف الذي يريده ( وقد مرّ أنّ وقوف الإمام على جميع الحوادث الجزئية ما مضى منها وما يأتي باذن الله لا تؤثّر في مجرى أعماله الاختيارية ) أنّ الإمام كسائر الناس العاديين عند الله وهو مثلهم مكلّف بالتكاليف الدينية من قبل الله تعالى ونظراً لمنصبه القيادي الذي اُعطى من قبل الله يجب عليه أن يعمل بتكاليفه المقررة عليه من قبل الله كإمام ، وفقاً للموازين العادية للبشر ، ويبذل كل ما في وسعه لإحياء كلمة الحق واقامة منهج الدين والعدل.

الجواب الرابع :

إنّ الأنبياء والأئمة مع تميّزهم عن الغير بشخصياتهم الربّانية وقوّة الولاية التي منحت لهم ( ذلك أنّ شطراً من شخصياتهم قائمة على المواهب الالهية والشطر الآخر حصل نتيجة الجهود التي بذلوها للقرب من المولى تعالى ) أنّهم مع ذلك كانوا يعملون وفقاً لعلومهم العادية حيث يواجهون حوادث الحياة المختلفة ، على صعيد شخصي ، أو على صعيد اجتماعي كمسائل القضاء والحكم بين الناس مثلاً ، أنّهم مع علمهم الكامل بالحوادث الجزئية في ظلال موهبة الولاية ، ومعرفتهم بعلل الحوادث وتفاصيلها لارتباطهم بما وراء الطبيعة ، أقول : إنّهم مع ذلك لم يستفيدوا من علومهم تلك في قضاياهم الشخصية ولا في الاُمور التي ترتبط بالمجتمع وذلك لمصالح وحكم خاصة.

وبتعبير آخر : لم يحل النبي والإمام مشاكلهما الحياتية عن طريق الانتفاع من سلاح الغيب ، ولم يقطعا دابر الحوادث المرّة بالقضاء على عللها التي اطلعوا عليها عن طريق الغيب ، كذلك ولم يحلاّ خلافات الناس وخصوماتهم بالعلم الغيبي ، لقد اُخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المسجد عن شدة مرض ابنه العزيز إبراهيم فعاد إلى البيت ليحتضن

٤٥٢

ولده العزيز ويحدق في وجهه النظر قائلاً : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون (١).

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يملك ثلاثة ألوان من سلاح الغيب في كل أدوار رسالته وكان يتمكن بواسطتها من تغيير الوضع كيفما يريد ، عند مواجهته للمصاعب ، وعند حدوث اللحظات الخطيرة ولكنّه لم يستعمل هذا السلاح في أغلب الأوقات ، وكانت ألوان السلاح الغيبي متمثلة في الاُمور التالية : ١. المعجزة. ٢. استجابة دعائه. ٣. علم الغيب.

كان النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتمكن عن طريق الاعجاز والولاية التكوينية التي ملكها من قبل الله تعالى أن يهب السلامة والعافية لولده العزيز إبراهيم ( وذلك كالولاية التكوينية التي ملكها عيسى عليه‌السلام وكان بها يحي الميت ويبرئ الأكمه والأبرص ) وكان يستطيع أيضاً ببركة دعائه المستجاب الذي منح له من قبل الله تعالى أن يدعو الله ويغيّر حالة ولده ، وينقذه من الموت ، وكان يقدر كذلك ـ عن طريق معرفته بالغيب ـ أن يمنع من عوامل المرض قبل أن تتسرب إلى جسم ولده العزيز لئلاّ يبتلى ولده بالمرض ، أو يختار لولده الأدوية الناجعة لتخليصه من المرض وذلك عن طريق اطلاعه على الغيب. كان يتمكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا ومثله ولكنّه رغم ذاك لم يستفد من هذه الأسلحة الغيبية التي كانت في يده لدفع الأضرار المرتقبة عنه وعن اسرته ولم يخط إلاّ في ظل المجاري الطبيعية للحياة ، ذلك لأنّ هذه الأسلحة ، أو الأسباب الغيبية إنّما اُعطيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستفيد منها في اثبات رسالته وولايته الالهية حين يقتضي الأمر ذلك ، وإمّا الاستفادة منها في غير ذلك المجال فغير مأذون.

ومن المحتمل أن يكون أحد الأسباب التي تمنع النبي أو الإمام من الانتفاع من هذه السبل لجلب الخير أو لدفع الشر هو : أنّ استعمال هذه الأسباب الغيبية يقضي على الآثار العملية لدعوتهم ، لأنّه لا شك أنّ حياة القادة بما تحمل في طياتها من صبر وتحمّل

__________________

(١) راجع بحار الأنوار ج ٢٢ ص ١٥٧ والسيرة الحلبية ج ٣.

٤٥٣

للمشاق ، واستقامة وفداء في ساحة الجهاد ، منار ساطع لأتباعهم.

فإذا افترضنا أنّ النبي أو الإمام يدفع عن نفسه وعن اسرته الأخطار في معترك الحوادث بواسطة الإعجاز أو الدعوة المستجابة أو معرفته بما وراء الطبيعة ، فيهب السلامة لولده ـ مثلاً ـ عن طريق الإعجاز أو يستفيد من دعائه المستجاب أو معرفته الغيبية لاعادة السلامة إلى ولده ، فإنّه حينئذ لا يستطيع أن يمنح الآخرين من أتباعه النصح على تحمل المصائب والتسليم لقضاء الله تعالى ، ولو أنّه استفاد من هذه الأسباب الغيبية في ساحة الجهاد في سبيل الله فحصّن نفسه عن وصول سهام العدو إليه وأبعد كل خطر مرتقب عن نفسه وعن أهل بيته المقرّبين بواسطة تلكم الأسباب فحينذاك لا يمكنه أن يدعو الناس إلى تحمل الألم والعناء في سبيل الله لأنّهم ـ حتماً ـ سيعرضون عليه قائلين : إنّ الشخص الذي يدعونا إلى هذه المناهج الخلاّقة والمبدعة يجب أن يكون نفسه مثالاً رائعاً لهذه المناهج الرائعة. انّ الشخص الذي لا مفهوم عنده للألم والعناء ، ولا تمسّه الكوارث طيلة حياته لا يستطيع أن يكون قدوة الاُمم ومنار الحياة للآخرين.

ولهذا ـ ولجهات اُخرى ليس هنا مجال عرضها ـ نجد أنّ الشخصيات الالهية كغيرهم يبذلون شتى الوسائل الطبيعية ، ويسعون جاهدين لدفع الأخطار والمصائب عن أنفسهم ، عند ما يواجهونها ، وقد يخفقون في سعيهم بسبب عدم وجود الوسائل الطبيعية بالقدر المطلوب. إنّنا حين نرى عدم الاختلاف بين سلوك المعصومين في الحياة وسلوك الناس العاديين ، أي أنّهم كانوا حين يمرضون يستعملون الدواء للعلاج ولاعادة السلامة كالآخرين ، ويستعملون كل الوسائل الطبيعية والعلوم العادية في القضايا الاجتماعية وفي ساحة الجهاد كغيرهم ، ويعينون أشخاصاً لنقل مختلف الأخبار إليهم وإلى غير ذلك. كل ذلك لأنّ الأسباب الغيبية ما كان يجوز لهم استعمالها إلاّ في مواضع خاصة.

وهناك شواهد تؤيّد ما قلناه ، فقد روي أنّ عبيد الله بن أبي رافع كان مديراً لبيت المال أيام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وحين أرسل الإمام عليه‌السلام ( أبا موسى

٤٥٤

الأشعري ) إلى دومة الجندل للحكم في ق ـ ضية الحكمين يوم صفّين أوصاه الإمام عليه‌السلام قائلاً : « احكم بكتاب الله ولا تجاوزه » ، فلمّا أدبر قال عليه‌السلام : « وكأنّي به وقد خدع ». يقول ابن أبي رافع : قلت للإمام عليه‌السلام : فلمَ توجهه وأنت تعلم أنّه مخدوع ؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام قائلاً : يا بني لو عمل الله في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل (١) أنّه تعالى كان يعلم أنّ طائفة من الناس يستوي عندهم بعث الأنبياء وعدم بعثهم ، أنّهم لا يؤمنون سواء أأرسل إليهم رسول أم لا ومع ذلك فقد أرسل إليهم أنبياء. انّ الإمام عليه‌السلام حين يشير في جوابه هذا إلى علم الله غير القابل للخطأ كأنّه يبيّن هذه النقطة وهي : على أن أعمل في الحياة بمقتضى العلل والعوامل الطبيعية ، ولست أعمل وفقاً لما أعلمه من الغيب.

وهكذا نرى الأئمّة عليهم‌السلام في الأحاديث المنقولة عنهم يؤكدون على أنّ طريق قضائهم وحكمهم بين الناس هي الأسباب العادية كالشهادة واليمين لا علومهم الغيبية وذلك كما يروي الإمام الصادق عليه‌السلام عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » ، وأمّا ما ورد في بعض الروايات من جواز أن يحكم الإمام بعلمه في مجال اجراء الحدود فالمقصود منه هو العلم الذي يحصل عليه من الطرق العادية والأسباب الظاهرية كأن يرى الإمام بعينه شخصاً يشرب الخمر ، لا حظوا الرواية التالية : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب خمراً أن يقيم عليه الحد ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره لأنّه أمين الله في خلقه » (٢) هذه الرواية تدلّ على أنّ المقصود من عمل الإمام بعلمه هو علمه العادي والطبيعي كما دلّت عليه لفظة « نظر » في الرواية. وإذا لاحظنا أيضاً المسائل القضائية التي وقعت في عصر الإمام أمير المؤمنين لرأينا بوضوح أنّ الإمام عليه‌السلام لم يحكم بين الناس استناداً إلى علمه الخاص عن القضية أبداً بل

__________________

(١) المناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ٢٦١.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٤٤ ، نعم للإمام أن يحكم بعلمه العادي في الحقوق الالهية فقط ويقيم الحد على مرتكب الجريمة ، ولا يجوز له العمل بعلمه في حقوق الناس كأن يرى شخصاً يسرق من آخر والمسألة معنونة في الفقه فراجع الجواهر.

٤٥٥

كان يسعى سعياً حثيثاً معداً بعض المقدّمات التي تجعل الخصمين المدّعي والمنكر يعترفان بالواقع أمامه ثم يقضي بينهما.

ويقول السيد الطباطبائي في ( ملحقات العروة الوثقى ) حين يقول : يجوز للقاضي أن يعمل بعلمه في حل دعاوى المتخاصمين نقصد بذلك العلم الحاصل عن الطرق العادية لا العلم الحاصل عن طريق الرمل والجفر وغيرهما (١).

ولكن الذي يستفاد من الروايات أنّ الإمام المهدي ( عج ) هو الذي يحكم بين الناس بعلمه حين ظهوره فقط وذلك كما حكم نبي الله داود عليه‌السلام ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام في هذا الصدد : « إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود عليه‌السلام لا يسأل عن بيّنة » (٢).

هذا وقد طال بنا الوقوف في المقام وذلك لقلع جذور الشبهة عن أذهان الشباب ، وإن كان أعداء آل البيت يبثّون كل يوم جذور الشك ولكن نور المعرفة لا يفتأ متبلجاً ، والحقائق الراهنة لا تزال متأرجة وسحب الشبه وإن أطلّت على الاُمّة ردحاً من الزمن ، لكنّها تكتسح بشمس المعرفة.

أراها وإن طالت علينا فإنّها

سحابة صيف عن قليل تقشع

نعم قام لفيف من علمائنا بتأليف كتب ثمينة حول علم النبي والإمام سدوا بها الفراغ بعض السد ودونك ما وقفنا عليه :

١. المعارف السلمانية بمراتب الخلفاء الرحمانية ، طبع بإيران على الحجر عام ١٣١٣ هجرية قمرية للعلاّمة السيّد عبد الحسين النجفي الشيرازي ( قدّس الله سرّه ) له ترجمة ضافية في طبقات أعلام الشيعة ج ٣ ص ١٠٤٨.

٢. الالهام في علم الإمام ، للعلاّمة الشيخ محمد علي الحائري السنقري طبع في

__________________

(١) ملحقات العروة ج ٢ ص ٣١.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٦٨.

٤٥٦

النجف عام ١٣٧٠.

٣. علم الإمام ، للعلاّمة الحجة المغفور له الشيخ محمد الحسين المظفر طبع بالنجف ١٣٨٠ ه‍ أضف إلى ذلك ما أفاده العلامة المجلسي في بحاره في غير موضع من مباحث الإمامة ، شكر الله مساعيهم.

٤. رسالة فارسية في علم الإمام ، صنّفها المفكّر الإسلامي السيد محمد حسين الطباطبائي وانتشر سنة ١٣٩١ ه‍ وله رسالة عربية صغيرة في هذا الموضوع أيضاً مخطوطة نحتفظ منها بنسخة.

السؤال الثالث :

مشكلة المشاركة مع الله :

تمسك بهذه الشبهة في سلب العلم بالغيب من غيره سبحانه « عبد الله القصيمي » فقال رداً على عقيدة الشيعة في علم الأئمّة بالغيب : « فالأئمّة يشاركون الله في هذه الصفة صفة علم الغيب وعلم ما كان وما سيكون ، وأنّه لا يخفى عليهم شيء والمسلمون كلهم يعلمون أنّ الأنبياء والمرسلين أنفسهم لم يكونوا يشاركون الله في هذه الصفة والنصوص في الكتاب والسنّة وعن الأئمّة في أنّه لا يعلم الغيب إلاّ الله متواترة لا يستطاع حصرها في كتاب ، وهذا غني عن الإدلاء بشواهده ، ومن المؤسف المخجل لعمر الله أن يزعموا أنّ الأئمّة يعلمون الغيب » (١).

الجواب :

هذه شبهة تافهة لا تستحق الرد والبحث ، وكتابه هذا مملوء بالسب والطعن لأعلام الشيعة بما ينزه اليراع عن نقله ونحن نمرّ عليه مرّ الكرام وخفي عليه أنّ بين العلمين بوناً شاسعاً فإنّ الله سبحانه عالم بالغيب بذاته ، وغيره مطلع عليه باظهار منه

__________________

(١) الصراع بين الإسلام والوثنية ج ١ اُنظر المقدمة.

٤٥٧

وأي تجانس بين العرضي والذاتي والمحدود وغير المحدود وأي صلة بين الأصيل في علمه ، المرسل في إدراكه وبين المتدلي في ذاته وعلمه ، الفقير في كلّ شأن من شؤونه حتى في علمه هذا فلو استلزم ذلك شركاً لزم أن يكون توصيف الممكن بالحياة والقدرة والسمع والبصر مما يجري على الله سبحانه أيضاً شركاً.

السؤال الرابع :

إنّ ما تقدم من الآيات لا تدل على أكثر من اطلاع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الغيب ، فما الدليل على اطلاع غيره على الغيب ؟

الجواب :

انّ هناك روايات متضافرة تدلّ على أنّ لأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام حظاً وافراً في هذا المجال ، ويدل على ذلك :

أوّلاً : الأخبار الغيبية التي وردت في نهج البلاغة وسيوافيك بعضها في هذه الصحائف وهي تدل بوضوح على معرفة علي عليه‌السلام واطلاعه على الغيب.

ثانياً : الأخبار الغيبية الواردة عن أئمّة أهل البيت التي ملأت كتب علمائنا الأبرار فهذا هو الشيخ الحرّ العاملي أتى في كتابه القيم « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » كثيراً من الأخبار الغيبية المروية عن الأئمّة عليهم‌السلام ، ودونك احصاء ما نقله عن الحسن السبط المجتبى وغيره من الأئمّة حتى ينتهي إلى الإمام الثاني عشر فقد نقل عن الحسن بن علي المجتبى عليه‌السلام أزيد من عشرة أحاديث ومثله عن الإمام السبط الحسين عليه‌السلام ، ونقل عن الإمام سيد الساجدين عشرين حديثاً وعن الإمام الباقر عليه‌السلام خمسين حديثاً ، وعن الإمام الصادق عليه‌السلام مائة وخمسين حديثاً ، وعن الإمام الكاظم عليه‌السلام ثمانين حديثاً ، وعن الإمام الرضا عليه‌السلام مائة وثلاثين حديثاً ، وعن الإمام الجواد عليه‌السلام أزيد من ثلاثين حديثاً ، وعن الإمام الهادي

٤٥٨

عليه‌السلام قرابة خمسين حديثاً ، وعن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام أزيد من ثمانين حديثاً ، وعن الإمام القائم عليه‌السلام أزيد من مائة حديث.

نعم لقد تكرر مضمون بعض الروايات ومع ذلك فإنّ الباقي يشكل مجموعة كبيرة من الإخبارات الغيبية التي فيها الكفاية لمن تأمّل.

ثالثاً : إنّ الروايات تضافرت عنهم عليهم‌السلام بأنّ الأئمّة ورثوا علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجميع الأنبياء والأوصياء الذين سبقوهم (١).

وأنت إذا لاحظت كتاب الحجة من الكافي في مختلف أبوابها تقف على أنّ الأئمّة عليهم‌السلام وقفوا على علوم غيبية لم يعرفها غيرهم فلاحظ الأبواب التالية :

١. انّ الأئمّة شهداء الله على خلقه.

٢. انّ الأئمّة قد اُوتوا العلم واُثبت في صدورهم.

٣. انّ الأئمّة اصطفاهم الله من عباده وأورثهم كتابه.

٤. انّ الأئمّة معدن العلم وشجرة النبوّة.

٥. انّ الأئمّة ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً العلم.

٦. انّ الأئمّة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم إلى غير ذلك من الأبواب التي وردت فيها كيفية علومهم وكميتها.

فعلى القارئ الكريم أن يرجع إلى هذه الأبواب.

السؤال الخامس :

لا شك أنّ النبي الأعظم والأئمّة من أهل البيت ، قد تنبّأوا بكثير من المغيبات التي كانت الفراسة والتكهن تقتضيان خلافها ، غير انّا نراهم في بعض المقامات يتحاشون عن نسبة العلم بالغيب إليهم ، فما وجه ذلك ؟

__________________

(١) لاحظ الكافي ج ١ ص ٢٢٣ ـ ٢٢٦.

٤٥٩

الجواب :

انّ الناظر في هذه الروايات يقف على أنّ المتبادر من العلم بالغيب في تلك العصور كان هو العلم الاستقلالي الذاتي الذي يختص بالله سبحانه ، فهم عليهم‌السلام لصيانة شيعتهم عن الغلو والشرك ، أو لدفع أعدائهم ، صرّحوا بأنّ ما يخبرون عنه من الفتن وملاحم أحداث ليس بعلم غيب بل وراثة من رسول الله أو تعلّم من ذي علم إلى غير ذلك ممّا لا ينافي ما أثبتناه من تحقق اطلاعهم على الغيب بعلم مفاض واعلام منه سبحانه ، ودونك ما وقفنا عليه من تلكم الروايات :

١. هذا أمير المؤمنين ، قد أماط الستر عن المسألة ، وعن علمه وعلم الأئمّة من بعده بالغيب ، وقد أخبر عن ملاحم (١) تحدث بالبصرة ، فاعترض بعض أصحابه وقال : « لقد اُعيطت يا أمير المؤمنين علم الغيب » ؟ فضحك عليه‌السلام وقال للرجل ـ وكان كلبياً ـ : « يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب علم الساعة ، وما عدده الله بقوله : ( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... ) الآية.

فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر واُنثى وقبيح وجميل ، وسخي وبخيل ، وشقي وسعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيين مرافقاً ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوى ذلك ، فعلم علّمه الله تعالى نبيّه ، فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي » (٢).

وهذا البيان من مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يدع لقائل شبهة ، ويعطي أنّ العلم بالمغيبات ، إذا كان على وجه التعلّم من الغير ليس هو علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله بل ليس علماً بالغيب وإنّما هو إظهار من الغير.

٢. هذا الإمام الطاهر موسى الكاظم عليه‌السلام قد كشف النقاب عن وجه الحقيقة حينما سأله يحيى بن عبد الله بن الحسن عن علمه بالغيب وقال : « جعلت فداك

__________________

(١) سوف يوافيك لفظه.

(٢) نهج البلاغة الخطبة ١٢٤.

٤٦٠