مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

« إنّ الآية لا تدل على أنّ النبي كان اُمياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه ... ».

« ولو دلّت الآية على أنّه لم يكن يحسن الكتابة قبل الايحاء إليه ، لدلّت بالمفهوم على أنّه كان يحسنها بعد الايحاء إليه ، حتى يكون فرقاً بين الحالتين ولا يكون الاتيان بالقيد ـ قبله ـ لغواً » (١).

وفي ما أفاده مواقع للنظر :

أوّلاً : ففرق واضح بين من يحسن الكتابة ويتركها ، ومن لا يحسنها أصلاً ، فانّ من يحسن الكتابة ، لا يتركها دائماً ، بل يتركها مؤقتاً بسبب ظروف تلم به ولا يصح الاستدلال بتركه مؤقتاً ، على أنّه لا يحسنها ولا يستكشف حاله منه ، وأمّا من لم يكتب منذ نعومة أظفاره إلى أن بلغ الأربعين بل ناهز الخمسين كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيعد ذلك دليلاً عند العرف على أنّه لا يحسنها أصلاً وبتاتاً.

فالآية حسب ما يفهم منها عرفاً ، تدل على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان اُمياً لا يقدر على الكتابة ، وقوله سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) بالنظر إلى ذيله وهو رفع الشك عن قلوب المبطلين ، كناية عن كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان اُمّياً لا يحسن شيئاً من القراءة ، لا أنّه كان عارفاً بها ولكنّه تركها لمصلحة أو غيرها.

وثانياً : إنّ استفادة المفهوم من الآية ودلالة القيد ـ من قبله ـ عليه مشكلة جداً وإن قلنا بدلالته على المفهوم في مقام آخر ، وذلك أنّ دلالة القيد عليه إنّما هي إذا كان بقاء الحكم وعدمه عند ارتفاع القيد سواسية ، فعند ذلك يستدل بأخذ القيد في موضوع الحكم على دخله في الغرض وفي الحكم المذكور في القضية ويكون مرجعه إلى ارتفاع الحكم السابق بارتفاع القيد كما إذا قيل : أكل زيد قبل طلوع الشمس ، وأمّا إذا كان بقاء

__________________

(١) التبيان ج ٨ ص ٢١٦ ط لبنان ويظهر من الآلوسي في تفسيره الاعتماد على هذا الوجه.

٣٢١

الحكم عند ارتفاع القيد أولى في نظر السامع كما في المقام فلا يستنبط منه المفهوم فإنّ من بقى على اُميته حتى ناهز الأربعين بل الخمسين أولى بأن يبقى على تلك الحالة في ما بقي من عمره ، فإنّ الرجل إذا لم يحصل على ملكة الكتابة إلى أن ورد في العقد الخامس من عمره لا يحتمل في حقه عادة أن يعود إلى تحصيلها بعد هذه المراحل الطويلة ، وعلى ذلك فلا يمكن الاستدلال على رفع الحكم المستفاد من قوله : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ) وقوله : ( وَلا تَخُطُّهُ ) عند ارتفاع القيد ، أي لا يدل على أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد بعثته كما هو المقصود.

خلاصة القول : إنّ الآية غير دالة على وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بزوغ دعوته ولا يدل على شيء من الطرفين والتمسك بمفهوم القيد : ( مِن قَبْلِهِ ) إنّما يصح إذا سيق الكلام لأجل افادته والإيماء إلى اختلاف حاله في المقامين وأمّا إذا سيق الكلام لغير هذه الغاية فلا يدل على ما استظهره من المفهوم ، فانّ الغاية من الإتيان بالقيد هو الاستدلال باُمّيته قبل نزول الوحي عليه ، على صدق مقاله ودعوته فإنّ الاُمّي إذا أتى بكتاب أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الخطابة وسادات القوافي وملوك البيان بل أدهش بقوانينه اساطين القوانين والنظام ، يعد كتابه هذا بهذه الأوصاف والنعوت آية على كونه وحياً إلهياً خارجاً عن طوق القدرة البشرية ، وأمّا أنّه هل بقي على الاُمّية بعد ما صار نبيّاً يوحى إليه أو لا ؟ فخارج عن هدف هذه الآية وليست له صلة بمرماها ومقصدها وعلى ذلك نظائر في اللغة والعرف.

ولقد أحسن المرتضى ، فلم يجعل الآية دليلاً على تغيّر حاله بعد بعثته ، وسلك مسلكاً متوسطاً غير ما سلكه استاذه الشيخ المفيد وما قصده تلميذه شيخ الطائفة الطوسي ودونك نقل كلامه :

هذه الآية : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) تدل على أنّ النبي ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فالذي نعتقده في ذلك ، التجويز لكونه عالماً بالقراءة والكتابة ، والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع بأحد الأمرين وظاهر الآية يقتضي

٣٢٢

أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها ، ولأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة (١) لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون تعلّمها من جبرئيل بعد النبوّة (٢).

وكلامه هذا يعرب عن توقفه في المسألة كما هو صريح قوله : « من غير قطع بأحد الأمرين » وما ذكره « ظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها » صحيح لو أراد بذلك نفي دلالة الآية على أحد الأمرين وأمّا لو أراد به دلالتها على كونه قارئاً وكاتباً بعد فموهون بما أوضحناه عند البحث عن كلام تلميذه الجليل شيخ الطائفة رحمه الله ، مع أنّه بعيد عن ظاهر كلامه.

وأمّا ما أفاده من « إنّ المبطلون إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلّق له بالريبة والتهمة » غير ثابت ولا ظاهر بل يمكن أن يتطرق الشك إلى نبوّته لو كان يحسنها بعد النبوّة إذا تظاهربها في مرآى ومسمع من الناس ، فلاحظ التعليقة السابقة.

٣. الاستدلال بقوله سبحانه : ( يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً )

استدل الدكتور عبد اللطيف الهندي بقوله سبحانه : ( رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) ( البينة : ٢ ـ ٣ ) قال : « إنّه يدل على تحقق التلاوة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيام رسالته وفي رحاب دعوته ».

لكنّه لا يدل على ما رامه فإنّ التلاوة كما تصدق على التلاوة عن الكتاب ، تصدق

__________________

(١) اختصاص التعليل بما قبل النبوّة غير ظاهر بل لو تظاهر النبي بالقراءة والكتابة بعد نبوته ، فهو وإن كان يعد معجزة ومفخرة له عند من خلصت نيته ، وطهر قلبه ، لكنّه يوجب تسلل الشك إلى اُمّيته قبل نبوته عند المبطلين والمشككين فيضلّون ويضلّون ، وينشرون الأوهام والأراجيف حول دعوته ورسالته ، نعم لو كان عارفاً بها غير متظاهر لصح اختصاص التعليل بما قبل النبوّة.

(٢) مجمع البيان ج ٨ ص ٢٨٧ ، مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٦١.

٣٢٣

على التلاوة عن ظهر القلب ، ويؤيده أنّه لم يرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيام رسالته أنّه تلا القرآن عن غير ظهر قلبه ، أضف إلى ذلك ما ذكره المفسرون في « صحف مطهرة » من الاحتمالات التي تخرجها عن محيط هذه الصحف المادية التي يرومها المستدل ومن شاء الاحاطة بها فليرجع إلى التفاسير.

ونظير ذلك قوله سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ) ( الأعلى : ٧ ـ ٨ ) إذ معناه : سنقرأ عليك القرآن فلا تنساه ونجعلك قارئاً باذن منه فلا تنسى ما تتلقاه من أمين الوحي ، إلاّ بمشيئة منه فإنّ الاقراء والانساء كليهما بيده سبحانه ، فلا يدل إلاّ على تلاوة القرآن وقراءته عن ظهر القلب فقط كما كان هو دأب النبي في تلاوة كل ما اُوحي إليه ، وهو غير ما يرومه الدكتور وأمثاله.

قال الزمخشري : بشّر الله تعالى باعطاء آية بيّنة وهي أن يقرأ عليه جبرئيل ما يقرأ عليه من الوحي وهو اُمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه.

وأمّا الاستثناء فلا يدل على تحقق الانساء منه سبحانه بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هو للتنبيه على أنّ الأمر كله بيده ، وإن منحت كرامة الحفظ إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس بمعنى تفويض الأمر إليه وخروجه عن يد الله سبحانه ، بل الأمر في كلا الحالين بيده ، فالله الذي جعله قارئاً لا ينسى ، قادر على أن يصيره ناسياً لا يحفظ شيئاً ، ولا يخطر على روعه شيء ، فوزان الاستثناء في هذه الآية وزان الاستثناء في قوله سبحانه : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ( هود ـ ١٠٨ ).

فلا يدل على تحقق المشيئة في المستقبل منه سبحانه حتى ينافي خلود المؤمنين في الجنة.

٤. الاستدلال بقوله سبحانه : ( اكْتَتَبَهَا )

استدل بعض الأعلام بقوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ) وفسّره في الكشّاف بقوله : اكتتبها : اكتتبها لنفسه

٣٢٤

وأخذها كما تقول : استكب الماء واصطبه : إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه (١) وكأنّه يريد أن يفهم أنّ زيادة التاء في « اكتتبها » للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه بخلاف المجرد عنها كقولنا « كتب فلان » فإنّه أعم من أن يكون ذلك لنفسه أو لغيره.

وقال الشيخ الطوسي : اكتتبها هو وانتسخها فهي تملى عليه حتى ينسخها (٢) وجه الاستدلال ، أنّ المشركين قالوا : إنّ القرآن أساطير كتبها محمد لا من تلقاء نفسه بل بالإملاء عليه من غير ، فقولهم : يكتب الأساطير بإملاء الغير عليه ، صريح في أنّه بعد الايحاء إليه كان كاتباً يكتب القرآن ، وبما أنّ الكتابة صفة كمال لا ينسبها إليه خصومه كذباً وافتراء فلا بد أن تكون ثابتة له في تلك الحال (٣).

ولكن ما أقامه من الدليل موهون جداً فإنّ الكتابة وإن كانت صفة كمال إلاّ أنّ شهادة الخصم إنّما تدل على اتصافه بها إذا كانت الشهادة صادرة عن خلوص وصفاء وأمّا إذا جعلها ذريعة لإنكار نبوّته ، فلا يعد رميه بها دليلاً على صدق النسبة فإنّ القوم لما عجزوا عن الوقيعة في قرآنه ولم يتمكنوا من معارضته ومباراته دخلوا من باب آخر ، حتى يفتحوا بذلك باب الريب على نبوّته وكتابه وقالوا إنّ هنا من يملي عليه القرآن بكرة وأصيلاً ، وهو يكتب ما يملى عليه ولا هدف لهم من تلك الفرية إلاّ التشكيك في نبوّته ونزول الوحي عليه ولولا ذلك لما وصفوه بها ولا بغيرها من الصفات ، فإنّ التوصيف ، بأدنى مراتب الكمال ، يخالف ما يرمون إليه من انتقاصة.

على أنّ هنا في لفظة « اكتتبها » احتمالاً آخر وهو أنّه أمر بالكتابة والاستنساخ ، احتمله الرازي بل اختاره وقال : معنى « اكتتب » ههنا ، أنّه أمر أن يكتب له كما يقال : « احتجم » و « افتصد » إذا أمر بذلك (٤).

إلى هنا تم ما وقفنا عليه من الأدلّة القرآنية التي أقامها القائلون على أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً بعد نزول الوحي عليه ، وقد عرفناك وهن الجميع ، ووقفت على ما فيها من

__________________

(١) الكشاف ج ٢ ص ٤٠٠.

(٢) التبيان ج ٧ ص ٤٧٢.

(٣) تفسير الآيات المتشابهات ص ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) مفاتيح الغيب ج ٦ ص ٣٥٣.

٣٢٥

المناقشات.

نعم هناك وجوه عقلية واستحسانات ، اعتمد عليها بعض من اختار هذا النظر ، ونحن نأتي بها.

٥. الاستدلال بالأولوية :

استدل بها المجلسي وقال إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قادراً على التلاوة والكتابة بالاعجاز وكيف لا يعلم من كان عالماً بعلوم الأوّلين والآخرين ، انّ هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف ، ومن كان قادراً باذن الله على شق القمر وأكبر منه ، كيف لا يقدر على نقش الحروف والكلمات على الصحائف والألواح والله تعالى يعلم (١).

وما ذكره لا يخرج عن حدود الاستحسان إذ من الممكن أن لا يمكنه الله من القراءة والكتابة لمصلحة هو أعلم بها ، أو لأجل رفع الريب والشك عن جانب نبوّته كما هو غير بعيد حتى بالنسبة إلى ما بعد النبوّة ، إذا تظاهر بالقراءة والكتابة.

٦. التجارة تتوقّف على الكتابة :

قال بعض من عاصرناه : « إنّ المشركين رموه بالكذب والسحر والجنون والفرية ولم ينسبوه إلى الاُمية مع كونها صفة نقص لا سيما للتجار ذوي رحلة الشتاء والصيف ، فإذا لم يعيبوه بالاُمّية كان ذلك دليلاً على أنّه كان بعد النبوّة قارئاً وكاتباً » (٢).

ونناقش ما أفاده :

أوّلاً : إنّ عدم رميه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاُمّية ، فلعدم كونها عيباً عندهم ، كيف والقوم كانوا جماعة اُمّية وكانت تلك الصفة هي السائدة عليهم ، وكان الرامي بها والمرمى إليها في هذا الوصف سواسية.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٦ ص ١٣٦.

(٢) تفسير الآيات المتشابهات ص ٥٠.

٣٢٦

ثانياً : إنّ التجارة وإن كانت تتوقف على القراءة والكتابة في الأوساط المدنية غير أنّ الدارج في البيئات البعيدة عن الحضارات كان غير ذلك ، خصوصاً قريش الذين كانت لهم رحلة الشتاء والصيف ، فكانوا يبيعون أو يشترون ، ويرجعون ، من دون أن يبقى لهم أو عليهم شيء.

هذا ما لدى القائلين من الأدلّة على كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قارئاً وكاتباً بعد بزوغ نبوّته ، هلم معي ندرس بعض ما وقفنا لهم في المقام من كلمات تؤكد من نقلناه عنهم.

قال الشيخ : « إنّ الحاكم يجب أن يكون عالماً بالكتابة والنبي عليه وآله السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوّة وإنّما لم يحسنها قبل البعثة » (١).

وتبعه ابن ادريس الحلي في باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وجاء بعين ما نقلناه عن الشيخ (٢).

واختاره العلامة الحلي في كتاب النكاح عن تذكرته عند البحث عن مختصات النبي الأكرم حيث قال : كان يحرم عليه الخط والشعر تأكيداً لحجته وبياناً لمعجزته قال الله تعالى : ( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) وقال تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) ( يس ـ ٦٩ ).

وقد اختلف في أنّه هل كان يحسنها أو لا : وأصح قولي الشافعي الثاني وإنّما يتجه التحريم عل الأول (٣) أي على القول بأنّه كان يحسن الكتابة إذ على فرض عدم عرفانه بها ، فالتحريم يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل.

غير أنّ دلالة الآية على حرمة الكتابة عليه ، مبني على كون « لا » في قوله : ( وَلا تَخُطُّهُ ) ناهية وهو خلاف الظاهر ، خصوصاً بملاحظة سياق الآية أي قوله تعالى : ( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فإنّه جملة خبرية وهو يقتضي أن تكون الجملة التالية لها أيضاً خبرية لا انشائية.

__________________

(١) المبسوط : كتاب القضاء ج ٨ ص ١٢٠.

(٢) السرائر : باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وهو غير مرقم.

(٣) تذكرة الفقهاء ج ٢ ص ٥٦٦ الطبعة الجديدة المرقمة.

٣٢٧

وقد اقتفى في ذلك قول الشيخ في مبسوطه حيث قال : « وقد خصّ الله نبيّه محمداً بأشياء وميّزه بها عن خلقه أربعة : واجب ، ومحظور ، ومباح ، وكراهة ـ إلى أن قال : ـ وأمّا المحظورات فحظرت عليه الكتابة وقول الشعر وتعليم الشعر » (١).

اُمّية النبي في الأحاديث :

لقد بان الحق وظهرت الحقيقة من هذا البحث الضافي حول هذه الآيات ، فلم نجد آية تدل على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بزوغ دعوته ، صار قارئاً أو كاتباً.

نعم وردت أحاديث وروايات ، رواها الفريقان ، ربّما يركن إلى بعضها ، ويستدل به على تمكنه من القراءة والكتابة بعد بعثته ، بإعجاز منه سبحانه ، وإن كان الكل لا يخلو من اشكال ونحن نورد هنا تلكم الأحاديث :

منها : حديث بدء الوحي

ررى أصحاب السير والتفسير :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً حتى إذا كان الشهر الذي بعثه الله سبحانه فيه خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حراء حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ، جاءه جبرئيل بأمر الله ، ولنترك وصف ذلك إلى ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

« فجاءني جبرئيل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ ؟ قلت : ما أقرأ ؟ فغتني به (٢) حتى ظننت أنّه الموت ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ ؟ قال : قلت : ما أقرأ ؟ قال : فغتني

__________________

(١) راجع المبسوط أوائل كتاب النكاح ج ٤ ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٢) كذا في جامع الاُصول والطبري والغت : حبس النفس ، وفي صحيح البخاري والمواهب « غطني » وهي بمعنى الغت أيضاً.

٣٢٨

به حتى ظننت أنّه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ؟ قال : قلت : ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلاّ افتداءاً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) قال : فقرأتها ثمّ انتهى ، فانصرف ، وهببت من نومي ، فكأنّما كتبت في قلبي ، قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوت من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل ، قال : فرفعت رأسي إلى السماء انظر فإذا بجبرئيل في صورة رجل صف قدميه في افق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل ».

ويظهر من البخاري من صحيحه أنّ جبرئيل نزل بسورة العلق حينما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقضاً لا نائماً ، وأنّه تحمّل بدء الوحي في حال اليقظة حيث قال : فجاءه الملك فقال : اقرأ ؟ ما أنا بقارئ (١) قال : فأخذني فغطني حتى بلغ منّي الجهد ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ ؟ قلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ؟ فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثمّ أرسلني فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ).

كلمة حول سند الحديث :

إنّ سند الحديث ينتهي إلى أشخاص ثلاثة يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودونك أسمائهم.

١. عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ، أخرج الحديث عنه ابن هشام في سيرته ج ١ ص ٢٣٥ ، والطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦٢ ، وتاريخه ج ٢ ص ٣٠٠ ، وقد ترجم الرجل ابن الاثير في اُسد الغابة ج ٣ص ٣٥٣ ، وقال ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي ، وهو معدود في كبار التابعين يروي عن عمر وغيره من

__________________

(١) وهذا شاهد على أنّ الملك لم يرد أن يلقنه الآيات ليتابعه في القراءة فإنّ ذلك أمر مقدور للقارئ والاُمّي ، ولو أراد هذا كان المناسب أن يقول ماذا أقرأ ، بل أراد أن يقرأه النبي بنفسه بلا متابعة.

٣٢٩

الصحابة.

٢. عبد الله بن شداد ، أخرج الحديث عنه الطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦٢ وفي تاريخه ج ٢ص ٢٩٩. ترجمه ابن الأثير في اُسد الغابة ج ٤ ص ١٨٣. وقال ولد على عهد النبي روى عن أبيه وعن عمر وعلي.

وعلى ذين السندين فالحديث مرسل غير موصول السند إلى النبي الأكرم إذ من البعيد أن يرويا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه.

٣. عائشة اُمّ المؤمنين ، أخرج البخاري عنها الحديث في صحيحه ج ١ص ٣ وج ٣ ص ١٧٣ في تفسير سورة العلق والطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦١. وعلى ذلك فقد تفردت هي بنقل هذا الحديث ، ومن البعيد جداً أن لا يحدث النبي هذا الحديث بغيرها ، مع اشتياق غيرها إلى سماع أمثال هذه الأحاديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعند ذلك يشكل الاستدلال بالحديث جداً.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري كما في البحار ج ١٨ ص ٢٠٦ لكن كون التفسير من الإمام فيه كل الشك والريب ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه ج ١ص ٤٠ ـ ٤٤ ، والمجلسي في بحاره ج ١٨ ص ١٩٦.

توضيح مفاد الرواية :

إنّنا مهما جهلنا بشيء من الأشياء ، فلا يمكن أن نجهل بأنّ النبوّة منصب الهي لا يتحمله إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس ، ولا يقوم بأعبائها إلاّ من عمر قلبه بالإيمان ، وزود بالخلوص والصفاء وغمره الطهر والقداسة ، واُعطي مقدرة روحية عظيمة لا يتهيب حين ما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه ، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه ، وتلك المقدرة لا تفاض من الله على عبد إلاّ بعد معدّات ومقدّمات :

منها : شموخ أصلاب آبائه وطهارة أرحام اُمّهاته ، حتى ينتقل من صلب شامخ إلى صلب آخر مثله ، ومن رحم طيبة إلى اُخرى مثلها.

٣٣٠

منها : البخوع للعبادة ، والعكوف على المجاهدات النفسانية والرياضات التي لا تنازع الفطرة ، بل تعدل الميول والغرائز وتهديها سبيل الرشاد والسلام.

منها : التفكير في آثار صنعه وعجائب خلقه وبدائع كونه بتعمّق وتدبّر حتى يهديه التفكير في جمال الطبيعة إلى معرفة بارئها معرفة تامة تليق بحال نبيّه.

منها : أن يكون في رعاية أكبر ملك يهديه إلى طرق المكارم ومحاسن الأخلاق كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة : « لقد قرن به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن ان كان فطيماً ، أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير ، وأنّك لعلى خير » (١).

هذا البيان الضافي من أمير الإسلام والبيان عليه‌السلام يؤمي إلى كثير مما ذكرناه من المقدمات ، ويرسم لنا صورة اجمالية من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأكرم قبل بعثته وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ نعومة أظفاره ، ومنذ أن فطم من الرضاع ، وقع تحت كفالة أكبر ملك يسلك به طريق المكارم ، ويرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال ، ويصونه طيلة حياته من طفولته إلى شبابه وإلى كهولته من كل سوء.

هذا البيان يفيدنا بأنّ نفس أي انسان لا تستعد لقبول الوحي إلاّ بعد اقتحام عقبات وطي مراحل ، وأنّ الملك الأكبر لم يزل يواصل نبي الإسلام ليله ونهاره حتى استعدت نفسه لقبول الوحي ، وتمثّل أمينه بين يديه ، والقاء كلام ربّه إليه ووعيه له منه ، بانطباعه في لوح نفسه ، وإذا اقتحم تلكم العقبات وتحققت تلكم المقدمات والمعدات

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة القاصعة ص ٣٧٤ طبع عبده.

٣٣١

وتم الاستعداد ، ارتقت نفسه إلى ذلك الحد الأسمى فانحسرت عن قلبه الأغطية وارتفعت عنه الحجب ، حيث أخذ يعاين الأشياء على ما هي عليه ، ويقف على الحقائق على النحو الذي يليق به ويقدر على تلاوة ما لم يكن قادراً عليها.

وقد تحققت تلك الغاية وبلغت نفسه الشريفة إلى ذلك الحد في الشهر الذي اختاره الله تعالى فيه رسولاً إلى الناس ، فجاءه أمين الوحي بلوح برزخي يحتوي على آيات من القرآن الكريم فعرضه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبه منه أن يقرأه فأبى وتجافى عن قراءته قائلاً بأنّه اُمّي لا يقرأ ولا يكتب ، وأنّه ماقرأ وما كتب طيلة عمره فغطه الأمين ثلاث مرات فإذا به يقرأ.

نحن لا نعلم كنه هذا الغط ولا نستطيع إدراكه ، وليس هو إلاّ أثراً مادّياً لأمر معنوي كاماطة الستر عن روحه وقلبه ، وهذا أمر طبيعي في مثل هذا الموقف العظيم الجليل الذي تنوء به أجسام وأرواح البشر ، فإنّ لكل عمل روحي ولا سيما لمثل كشف الغطاء أثراً خاصاً في أبداننا ، والأثر البارز المادي لكشف الغطاء عن قلب النبي ونفسه ، هو الغط الذي أحسّه في ذلك الحين ، وإلاّ فالغط المادي لا مدخلية له في القدرة على القراءة والتلاوة.

هكذا كانت هذه اللحظة الحاسمة من حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منعطفاً رائعاً إلى مرحلة جديدة ، فكشف عنه الغطاء آن الغط ، فقدر على قراءة ما لم يقدر عليه فعرف الحروف والنقوش ، بل الحقائق فصار أكمل إنسان يطأ الأرض بقدميه ، ويعيش في اديمها ويتظلّل بسمائها.

وهذا البيان منضمّاً إلى ما سمعته من حديث بدء الوحي يدفعنا إلى القول بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد انقلبت حاله بعد البعثة بإعجاز من الله سبحانه واقدار منه تعالى. غير أنّ ما ذكرنا مبني على صحة الحديث واتصال سنده إلى النبي ولكنّك عرفت أنّ الحديث مقطوع غير موصول بالنبي الأكرم فلاحظ.

٣٣٢

منها : حديث المطالبة بالقلم والدواة :

أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ونقلها أهل السير والأخبار كافة ويكفيك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال : لما حضر رسول الله وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا ، فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم (١).

أخذ المستدل بظاهر الحديث وقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب أن يكتب كتاباً ، وظاهره كون الكاتب نفسه لا غير ، لكنّه نسى أو تناسى أنّ في الإسناد مجازاً وأنّه من باب كتب الأمير ، أو كتب الملك وليس معناه أنّه كتب بنفسه ، بل السيرة على أنّ الملك أو الأمير يمليان والكاتب يكتب وينفّذانه بخاتمهما ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يملي والكاتب يكتب ولا يكتب بيده ، وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده ، ما كانوا يكتبون إلاّ في مواقف خاصة.

منها قصة الحديبية :

ملخّصه : لما اعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب ، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : لا نقر بهذا ، لو نعلم أنّك رسول لله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله ، فقال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، ثمّ قال لعلي عليه‌السلام :

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٢ ص ٢٢ كتاب العلم ، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا في صحيحه ج ٢ ص ١٤ ، وأحمد في مسنده ج ١ ص ٣٢٥ وغيرهم من أعلام الاُمّة.

٣٣٣

امح رسول الله ، قال علي : لا والله لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدخل مكة السلاح إلاّ السيف في القراب الخ (١).

وقد تمسك بظاهر الرواية « أبو الوليد الباجي » فادّعى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يكتب ، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة وانّ الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم :

برئت ممّن شرى دنيا بآخرة

وقال إنّ رسول الله قد كتبا

فجمعهم الأمير فاستظهر « الباجي » عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير : هذا لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن ، لأنّه قيد النفي بما قبل ورود القرآن ، فقال : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) وبعد أن تحققت اُمنيته وتقررت بذلك معجزته ، وأمن الارتياب في ذلك ، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة اُخرى.

وذكر « ابن دحية » أنّ جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك منهم شيخه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد ، عن عون بن عبد الله ، قال : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى كتب وقرأ ، قال مجاهد : فذكرته للشعبي فقال : صدق قد سمعت من يذكر ذلك (٢).

الجواب عن الاستدلال بالرواية :

إنّ ما رواه البخاري وغيره ممّن جنح إليه على خلاف ما يرتئيه المستدل أدل ، فإنّ

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٥ باب عمرة القضاء ص ١٤١ ، الكامل ج ٢ ص ١٣٨ ، مسند أحمد ج ٤ ص ٢٩٨ ولفظه هكذا : فكتب مكان رسول الله ، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ألاّ يدخل مكة السلاح إلاّ في القراب.

(٢) فتح الباري ج ٩ ص ٤٤ وأضاف الباجي بأنّ في معرفة الكتاب بعد اُمّيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزة اُخرى لكونها من غير تعليم ، لاحظ مناهل العرفان ج ١ ص ٣٥٨.

٣٣٤

قوله : « وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » أصدق شاهد على اُميته.

أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الروايات من قول النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : « أرني إيّاها » أو قوله : « فضع يدي عليها » فهو شاهد صدق على بقائه على ما كان عليه من الاُمّية.

ولأعلام الحديث والتاريخ كلمات ضافية حول الرواية تميط الستر عن وجه الحقيقة ، فلنأت بما وقفنا عليه.

١. قال ابن حجر : إنّ النكتة في قوله : « فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » هو بيان قوله : « أرني إيّاها » فإنّه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي عليه‌السلام من محوها ، إلاّ لكونه لا يحسن الكتابة.

على أنّ قوله بعد ذلك « فكتب » فيه حذف تقدير ، أي فمحاها لعلي فكتب وبهذا جزم ابن التين وأطلق « كتب » بمعنى أمر بالكتابة ، وهو كثير كقوله : كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى.

وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة ، أن يصير عالماً بالكتابة ويخرج عن كونه اُمّياً فإنّ كثيراً ممّن لا يحسن الكتابة ، يعرف تصوير بعض الكلمات ، ويحسن وضعها بيده وخصوصاً الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً.

واحتمل أن يكون المراد : جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج الكتاب على وفق المراد ، فيكون معجزة اُخرى في ذلك الوقت خاصة ، ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمّة الاُصول من الأشاعرة وتبعه « ابن الجوزي » وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأنّ هذا وإن كان ممكناً ويكون آية اُخرى لكنّه يناقض كونه اُمّياً لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وان حسمت الشبهة ، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة ، وقال السهيلي والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً ، والحق أنّ معنى قوله فكتب : أي أمر علياً

٣٣٥

أن يكتب (١).

٢. قال الحلبي : تمسك بعضهم بظاهر الحديث وقال : إنّ النبي كتب بيده يوم الحديبية معجزة له ، مع أنّه لا يقرأ ولا يكتب وجرى على ذلك أبو الوليد الباجي المالكي فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه وقالوا : هذا مخالف للقرآن.

ـ إلى أن قال ـ : والجمهور على أنّ الروايات التي فيها « أنّه أخذ الكتاب بيده فكتب » محمول على المجاز أي أمر أن يكتب الكاتب (٢).

أقول : إنّ لفظة « بيده » ليست في نسخ صحيح البخاري ونص على ذلك الحلبي أيضاً وقوله : « ليس يحسن أن يكتب » الوارد في صحيحه وغيره من المصادر الأصلية (٣) دال على ما نرتئيه في هذا المقال.

نعم رواه البخاري في كتاب الصلح بصورة اُخرى قال : « فلمّا كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : لا نقرّ بها فلو نعلم أنّك رسول الله ما منعناك ـ إلى أن قال ـ : ثم قال لعلي : امح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا والله لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكتاب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلاّ في القراب » (٤).

إنّ تلك الواقعة قد رويت بصورتين اُخريين ، رواهما أعلام السير والتاريخ.

الاُولى : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر علياً أن يمحو لفظ « رسول الله » فامتنع علي من محوه فقال رسول الله : أرنيه ، فأراه علي ، فمحاه بيده الشريفة ، ثم أمر علياً أن يكتب ودونك لفظ الرواية : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً أن يكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) فتح الباري ج ٩ ص ٤٥.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤ وسيرة زينى دحلان في هامش السيرة ج ٢ ص ٢١٤ ولكن اللفظ للأخير.

(٣) راجع الأموال ص ١٥٨ ونقله عن المجلسي في بحاره ج ٢٠ ص ٣٧١.

(٤) صحيح البخاري ج ٣ ص ١٨٥ فحذف قوله وليس يحسن يكتب.

٣٣٦

سهيل بن عمرو ، فقال : فعلى مَ نقاتل ؟ اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، فأمر بمحوها فعند ذلك كثر الضجيج واللغط وأشاروا إلى السيوف فقال علي عليه‌السلام ما أنا بالذي أمحوه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستدعى إلى هذا وأنت مضطهد مقهور (١) إلى أن قال : وضج المسلمون وارتفعت الأصوات وجعلوا يقولون لا نعطي هذه الدنية ، وجعل رسول الله يخفضهم ويومي بيده إليهم أن اسكتوا ثمّ قال : أرنيه ، فأراه علي عليه‌السلام فمحاه بيده الشريفة ثمّ أمر علياً أن يكتبه.

نعم يظهر من البخاري أنّ النبي محاه من دون أن يريه علي عليه‌السلام وربّما يستدل به على تمكّنه من القراءة ، فروى في كتاب الصلح : لما صالح رسول الله أهل الحديبية ـ إلى أن قال : ـ فقال لعلي : أمحه ، فقال علي : ما أنا بالذي أمحاه ، فمحاه رسول الله بيده وصالحهم على أن يدخل ... (٢).

ويحتمل أنّه تركه للاختصار ، اعتماداً على ما نقله في كتاب « الجزية والموادعة مع أهل الحرب » وقد نقل القصة فيه عن « البراء » هكذا ... فقالوا : لو علمنا أنّك رسول الله لم نمنعك ولبايعناك ولكن اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ـ إلى أن قال : ـ فقال لعلي : امح رسول الله ، فقال علي : لا أمحاه أبداً ، قال : فأرنيه؟ قال : فأراه إيّاه ، فمحاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده (٣).

ومع هذا التصريح لا يعبأ بما نقله من دون هذه الزيادة.

__________________

(١) هذا من أعلام النبوّة فلاقى علي أمير المؤمنين يوم صفين عندما رضوا بالحكمين ما لاقاه رسول الله في هذا اليوم ، روى أهل السير والتاريخ أنّ علياً أمر لكاتبه أن يكتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن أكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : صدق الله وصدق رسوله أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ثم كتب الكتاب ، راجع السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣.

(٢) صحيح البخاري كتاب الصلح ج ٣ ص ١٨٤.

(٣) صحيح البخاري كتاب الجزية ج ٤ ص ١٠٤.

٣٣٧

وروى الشيخ الأكبر المفيد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي : فضع يدي عليها ، فمحاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده وقال لأمير المؤمنين عليه‌السلام ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض ثم تمم أمير المؤمنين عليه‌السلام الكتاب (١).

وفي اعلام الورى : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : امحها يا علي ، فقال له : يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة. قال : فضع يدي عليها فمحاها رسول الله بيده وقال لعلي : ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض (٢).

روى أمين الإسلام الطبرسي القصة بطولها وقال : ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امح رسول الله ، فقال : يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمحاه ، ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله (٣).

وعلى هذه الصورة من الرواية : أنّ رسول الله نفسه محا لفظة رسول الله ، لكن علياً كتب الكتاب بأمره دون رسول الله.

الثانية : وهي تشترك مع الاُولى في التصريح بأنّ الكتاب كتبه علي عليه‌السلام من بدئه إلى ختمه بأمر رسول الله واملاء منه وتفترق عنها بأنّه ليس فيها عن محو لفظة رسول الله عين ولا أثر.

خلاصتها : أنّه عندما أحسّ الهدوء وانخفضت الأصوات بإيماء منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر رسول الله علياً أن يكتب هذا ما صالح أو قاضى عليه محمد بن عبد الله ... فكتب على حسب ما املاه عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودونك نقل ما رواه الطبري في تاريخه.

قال سهيل : لو شهدت أنّك رسول الله لم اقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤ وسيرة زيني دحلان ج ٢ ص ٢١٢ ، والارشاد ص ٦ واللفظ للأخير.

(٢) اعلام الورى ص ١٠٦.

(٣) مجمع البيان ج ٩ ص ١١٨ راجع تفسير القمي ص ٦٣٤.

٣٣٨

وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب (١) وقريب منه ما رواه البخاري نفسه في موضع آخر (٢) واليعقوبي في تاريخه (٣) والواقدي في مغازيه (٤) وابن هشام في سيرته (٥) وغيرهم من أساطين التاريخ والحديث (٦) ويقرب منه ما رواه الكليني في روضته حيث قال : قال رسول الله لعلي : اكتب : هذا ما قاضى رسول الله وسهيل بن عمرو ، فقال سهيل : فعلى مَ نقاتلك يا محمد ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، فقال له الناس أنت رسول الله ، قال : اكتب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، فقال له الناس : أنت رسول الله (٧).

فبعد هذا الاتفاق والاصفاق من أعلام التاريخ والحديث والتفسير على أنّ الكتاب كتبه علي باملاء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوّله إلى آخره فهل يصح الركون إلى ما تفرد به البخاري وأحمد واعتمد عليهما الجزري في كامله ، مع أنّ البخاري نقض ما نقله في باب « عمرة القضاء » في كتاب الصلح على ما عرّفناك.

على أنّ التضارب الصريح الذي نشاهده في نقل البخاري في المقام يمنع النفس عن الركون إليه ، فقد اضطرب نقله وكلامه من وجوه :

١. تراه أنّه نقل القصة في موضع هكذا « أخذ رسول الله الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله » (٨) ، وفي الوقت نفسه ساقها في موضع آخر من كتابه بنفس اللفظ السابق ، ولكنه حذف قوله : « وليس يحسن يكتب » (٩).

٢. تراه أنّه يصرح بأنّ النبي أمحا لقبه بإراءة علي عليه‌السلام حيث يقول : فقال لعلي : امحه ، فقال علي عليه‌السلام لا أمحاه أبداً ، قال : فأرينه ؟ قال : فأراه إيّاه فمحاه النبي بيده (١٠).

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٨١.

(٢) صحيح البخاري كتاب الصلح ج ٣ ص ١٩٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥.

(٤) المغازي ج ٢ ص ٦١٠.

(٥) السيرة ج ٢ ص ٣١٧.

(٦) راجع صحيح مسلم ج ٥ ص ١٧٤.

(٧) روضة الكافي ص ٣٢٦.

(٨) صحيح البخاري ج ٥ ص ١٤١.

(٩) نفس المصدر ج ٣ ص ١٨٥.

(١٠) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٠٤.

٣٣٩

ومع ذلك تراه ينقل امحاء النبي ، من دون أن يشير بأنّه كان بإراءة من علي حيث قال : « فقال لعلي : امح رسول الله ، فقال : ما أنا بالذي امحاه ، فمحاه رسول الله بيده » (١).

٣. يظهر منه في موضع أنّ علياً هو الذي كتب اسم النبي بعد امحائه ما امحاه حيث قال : « فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني ، اكتب محمد بن عبد الله » (٢).

منها كتاب النبي إلى العذار :

روى البخاري عن العذار بن خالد قال كتب لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا ما اشترى محمد رسول الله من العذار بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة (٣).

ودلالته على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كتب الكتاب بنفسه ضعيفة ، لا يمكن الركون إليه في هذه المسألة إذ كثيراً ما يسند الفعل إلى الاُمراء والملوك ويراد منه التسبيب لا المباشرة.

كما أنّ الاستدلال على بقاء النبي على ما كانت عليه قبل الدعوة بقوله في الحديث المروي : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب ، ليس بسديد إذ يكفي في صدق مضمونه كون أكثر من بعث إليه اُمّيون لا يكتبون ولا يحسنون.

فذلكة البحث :

ما سردناه لك من الأحاديث في هذه الصحائف ، قد رواه الجمهور في صحاحهم ، وقد وافاك عدم دلالة كثير منها على ما نرتئيه ، غير حديث بدء الوحي ولو صح سنده واعتمدنا على ما تفردت بنقله « عائشة » فإنّما يدل على أنّه سبحانه مكّن عبده من قراءة اللوح الذي كان بيد أمين الوحي ، ولم يكن ذاك اللوح ، لوحاً مادياً

__________________

(١) المصدر السابق ج ٣ ص ١٨٥.

(٢) راجع المصدر السابق ج ٣ ص ١٩٥.

(٣) صحيح البخاري ج ٣ ص ٧.

٣٤٠