مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

* وينص أيضاً على أنّ المؤمنين بالله واليوم الآخر من جميع أهل الشرائع سينالون ثواب الله ، وأنّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

* فماذا يعني ذلك ؟

هل ذلك اعتراف من الإسلام بشريعة تلك الشرائع ، والسماح لها بالاستمرار إلى جانبه أو لا ؟

إذا كان الإسلام آخر شريعة في مسلسل الشرائع السماوية ، وكانت رسالته خاتمة الرسالات ، وناسخة الأديان ، فلماذا يعتبر القرآن كل من يؤمن بالله ، ويعمل صالحاً من أصحاب الديانات المسيحية أو اليهودية أو غيرهما مأجوراً عند الله ، وآمناً من عذابه ؟!

ألا يعني بهذا أنّ جميع الشرائع السماوية لا تزال تحتفظ بشرعيتها ، إلى جانب الإسلام ، وأنّ أتباعها ناجون شأنهم شأن من اعترف بالإسلام وصار تحت لوائه تماماً ، وكأنّ شريعة جديدة لم تأت وكأنّ أمراً ما لم يقع ؟ (١).

قبل اعطاء الإجابة الصحيحة على هذا السؤال يتحتم علينا أوّلاً أن نستعرض سريعاً ما يذكر في هذا الشأن من الآيات وهي ثلاث :

١. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة ـ ٦٢ ).

٢. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( المائدة ـ ٦٩ ).

٣. ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( الحج ـ ١٧ ).

قد يقفز إلى الذهن في النظرة الاُولى أنّ القرآن يكرّس شرعية الشرائع المذكورة

__________________

(١) قد شاع هذا النظر من جانب بعض المستشرقين.

٢٠١

ويعترف بحقها في أمان من عذاب الله ، وفي منجى من مؤاخذته ، بشرط أن يكونوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ، وأن يقدموا على ربّهم بعمل صالح ويكون نتيجة ذلك أنّ فكرة نسخ الإسلام للشرائع ادعاء فارغ لا أساس له ولا واقع ما دام الإسلام يعتبر أنّ كل الطرق تؤدي إلى الله ، وانّه ليس من الضروري على أصحاب الشرائع الاُخرى أن يعتزلوا شرائعهم ، وينضمّوا إلى صفوف الإسلام والمسلمين.

هذا هو ما نسمعه بين الحين والآخر من بعض الأفواه.

غير أنّه يجب أن نعرف أوّلاً : أنّ الأساس السليم في تفسير آية ما ، ليس هو أن نتجاهل أخواتها من الآيات أوّلاً ، وملابسات النزول ثانياً ، ومقتضى السياق القرآني ثالثاً ، لأنّنا في هذه الحالة سنقع في تخبط عريض لا أوّل له ولا آخر.

ثم إنّ علينا ـ قبل كل شيء ـ أن نلاحظ سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحاب الشرائع هل كان يأمرهم بالاعتزال عن دياناتهم ، والانضمام إلى صفوف المسلمين أو لا ؟ فإذا كان الجواب في المقام ايجابياً لكان ذلك الأمر قرينة على أنّ المقصود من الآيات المذكورة غير ما يتبادر منها في بدء الأمر.

وبعبارة واضحة : إذا كان الإسلام يعترف بشرعية الشرائع وحقها في الاستمرار والبقاء حتى بعد ظهور الإسلام ، فإنّ معنى ذلك هو أنّ الإسلام ينسف بنفسه مقوّمات وجوده ويعطل من ناحية اُخرى كل الاُسس الوجيهة التي قامت عليها دعوة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادة العالم آنذاك إلى شريعته ضمن رسائله ومكاتيبه المشهورة ، ويفند بالتالي دعوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه ( آخر الأنبياء وخاتم المرسلين ) وأنّ رسالته خاتمة الرسالات !!!

إنّ الرسائل الهامة التي وجهها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قادة وملوك زمانه وأيضاً جهاده المرير وجهاد المسلمين ضد أهل الكتاب سواء في عهده أو بعد ذلك ، مضافاً إلى مجموع ما وصل إلينا من تصريحات قادة الإسلام لدليل صارخ على أنّ الإسلام أعلن بظهوره ( نهاية ) عهد الشرائع بأسرها و ( بداية ) عهد جديد لا شريعة له سوى ( الإسلام ) ولا نبي له سوى ( محمد ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٠٢

الحديث يبيّن هدف الآية :

إنّ مفاد الآيات المذكورة ليس ـ في الواقع ـ سوى تقرير لحقيقة ثابتة ، وهي التي تتجلى ـ بوضوح ـ من خلال الآيات السابقة لهذه الآية من سورة البقرة.

فالآيات إنّما تتحدث عن مصير الماضين من اتباع الشرائع في عهود الأنبياء السابقين قبل ظهور الإسلام ممّن آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً.

فالقرآن يخبرنا بأنّ هؤلاء ناجون بسبب إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح والتزامهم بتعاليم شرائعهم دون من حاد عن طر يق الإيمان ولم يأت بعمل صالح وانحرف عن جادة التوحيد الخالص ، وهم الفرقة التي عبدت العجل مرة (١) وبلغ بها الوقاحة أن طلبت من موسى أن يريها الله (٢) ذلك الطلب الوقح الذي صار سبباً لأن يحل غضب الله على بني اسرائيل.

لقد أراد الله هنا أن يزيل الغموض أو الاشتباه حول مصير الفريق المؤمن من أهل الكتاب حتى لا يختلط أمرهم بأمر ذلك الفريق الكافر المعاند فأخبر بأنّ من آمن من أهل الكتاب بالله عن اخلاص ، وآمن باليوم الآخر عن صدق وعمل صالحاً ، فإنّه لا خوف عليهم يوم القيامة ولا حزن ولا عقاب ، بل جنّة وثواب ورضوان من الله.

في هذه الصورة يمكن اعتبار الآية مرتبطة بذلك الفريق المؤمن من أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون في العصور الماضية السابقة على الإسلام دون أن يكون لها أي ارتباط بعصر الرسالة الإسلامية وما بعده.

ونأتي بشأن نزول هذه الآية ليلقي ضوء أكثر على هذا الموضوع ، ويؤيّده تأييداً كاملاً.

فهذا هو الطبري ينقل عن السدّي قوله : نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان

__________________

(١) راجع البقرة الآيات : ٥١ ، ٥٤ ، ٩٢ ، ٩٣ ، والنساء : ١٥٣ ، والأعراف : ١٥٢.

(٢) راجع البقرة : ٥٥.

٢٠٣

الفارسي حيث ذكر أصحابه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له نبي الله : هم من أهل النار ، فأنزل الله هذه الآية : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ... ) (١).

في هذه الصورة لا تجد أي ارتباط للآية بزعم اُولئك الذين يدعون أنّ هذه الآية لا تعني سوى ( الوفاق الإسلامي المسيحي اليهودي ) ويزعمون أنّ الإسلام يقرّر في هذه الآيات ( أمان ) المعتنقين لغير الإسلام من عذاب الله وعقابه.

هذا مضافاً إلى أنّنا لا نرى أي علاقة بين الآية الثالثة ( وهي الآية ١٧ من سورة الحج ) وبين ما يزعم هؤلاء .. حيث أنّ مفاد هذه الآية لا يعني سوى الإخبار بأنّ الله هو الحاكم بين الطوائف المختلفة ، يوم القيامة فهو الذي ينتقم من طائفة وينتصر لطائفة اُخرى ، وليس يعني ذلك مطلقاً أنّ أصحاب الشرائع الاُخرى على حق ، وأنّهم ناجون يوم الحساب !

جواب آخر :

ولنا ـ هنا ـ إجابة ثانية على السؤال المطروح ، ولكن قبل أن ندخل في صميم هذه الاجابة نرى من الضروري أن نشير إلى بعض هذه الاُمور :

فكرة الشعب المختار :

التاريخ يحدثنا أنّ اليهود والنصارى كانوا كثيراً ما يستعلون على المسلمين بل العالم بادعاء فكرة ( الشعب المختار ) ، فكل واحدة من هاتين الطائفتين : اليهود والنصارى ، كانت تدّعي أنّها أرقى أنواع البشر !!

وكانت اليهود خاصة أكثر تمسكاً بهذا الزعم ، حتى أنّهم كانوا يدّعون أنّهم ( شعب الله المختار ).

__________________

(١) تفسير الطبري ج ١ ص ٢٥٦ ، والحديث طويل وقد أخذنا موضع الحاجة منه ، والظاهر أنّه منقول بالمعنى وفي بعض عباراته خلل.

٢٠٤

وقد ذكر القرآن في إحدى آياته هذا الزعم الباطل ، وذكر أنّ النصارى هم أيضاً يدّعون هذا الإدّعاء الفارغ عندما يقول :

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ) ( المائدة ـ ١٨ ).

والقرآن جاء يفنّد هذا الزعم بكل قوّة عندما يقول : ( فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ) وقد بلغت أنانية اليهود ، واستعلائهم الزائف حداً بالغاً ، وكأنّهم قد أخذوا على الله عهداً بأن يستخلصهم ، ويختارهم حيث قالوا :

( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ) ( البقرة ـ ٨٠ ).

ولكن القرآن نسف بقوة هذا الزعم حيث قال في شكل إستفهام انكاري :

( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة ـ ٨٠ ).

هكذا نستكشف من خلال هذه المزاعم وردودها أنّ اليهود كانوا يعدّون أنفسهم صفوة البشرية ونخبة الشعوب وكانوا يحاولون بمثل هذه المزاعم فرض كيانهم على العالم كأرقى نوع بشري انتخبه الله على سائر البشر ، حتى كأنّهم أبناء الله المدلّلون.

٢. الأسماء لا تنقذ انساناً :

إنّ اليهود والنصارى كما كانوا يحاولون الاستعلاء الباطل عن طريق بث ( فكرة الشعب المختار ) كانوا من ناحية ثانية يعتبرون الأسماء ، أو الانتساب إلى اليهودية والمسيحية سبباً آخر من أسباب التفوّق في الدنيا ، والنجاة في الآخرة والفوز بالثواب الجزيل.

فقد كان في تصورهم أنّ الجنّة هي نصيب كل من ينتسب إلى بني اسرائيل أو يسمّى مسيحياً ليس إلاّ ، وكأنّه بإمكان الأسماء أو الانتساب أن تصبح يوماً ما سبيلاً إلى

٢٠٥

الهداية ، أو مفاتيح للجنّة !!

ولكن هذا الزعم ـ على رغم سخافته ـ اُمنية لهم كسائر أمانيهم كما يحدثنا القرآن :

( وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ) ( البقرة ـ ١١١ ).

غير أنّ القرآن كان بالمرصاد لهذه الدعاوي الباطلة أيضاً ، عندما ذكر بأنّ الوسيلة الوحيدة لامتلاك الجنّة العريضة هي : ( الإيمان الصادق ) و ( العمل الصالح ) وليست الأسماء ، أو مجرد الانتساب إلى عقيدة سماوية مهما كانت. فقال :

( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة : ١١١ ـ ١١٢ ).

ولا شك أنّه واضح جداً أنّ جملة ( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ ) إنّما تعني الإيمان الخالص والتسليم الصادق لله ، وجملة ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) إنّما تعني العمل وفق ذلك الإيمان أي العمل بالشريعة التي يؤمن الشخص بها ، وكلتا الجملتين تدلاّن على أنّ السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة إنّما هو : الإيمان والعمل ، وليس اسم اليهودي أو النصراني فليست المسألة مسألة أسماء وإنّما هي مسألة إيمان صادق ، وعمل صالح.

٣. ليست الهداية في اعتناق اليهودية والمسيحية :

يشير القرآن ـ أيضاً ـ إلى دعوى اُخرى لهم باطلة كأخواتها ، فارغة كمثيلاتها وهي قولهم بأنّ الهدى الحقيقي إنّما هو في اعتناق اليهودية أو المسيحية !!

( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ) ( البقرة ـ ١٣٥ ).

ولكنّ القرآن يرد ـ أيضاً ـ هذا الزعم الواهي بقوله :

( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( البقرة ـ ١٣٥ ).

فالهدى الحقيقي هو في الاقتداء بملّة إبراهيم واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة.

٢٠٦

وفي آيات اُخرى في القرآن نجد كيف أنّ اليهود والنصارى حاولوا اضفاء طابع اليهودية والمسيحية على إبراهيم ، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهم ويضفوا الشرعية على مسلكهم ، غير أنّ القرآن مضى يفنّد ـ بكل قاطعية وعنف ـ هذه الاكذوبة بقوله :

( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران ـ ٦٧ ).

نستخلص من كل هذه الآيات كيف أنّ اليهود والمسيحيين والقدامى منهم خاصة كانوا يحاولون ـ بهذه الأفكار الواهية ـ التفوّق على البشر ، والتمرّد على تعاليم الله ، والتخلص بصورة خاصة من الإنضواء تحت لواء الإسلام ، مرة بافتعال اكذوبة ( الشعب المختار ) الذي لا ينبغي أن يخضع لأي تكليف ، ومرة اُخرى بافتعال خرافة ( الأسماء والانتساب ) وادعاء النجاة بسبب ذلك والحصول على مغفرة الله وجنّته وثوابه. ومرة ثالثة بتخصيص ( الهداية ) وحصرها في الانتساب إلى إحدى الطائفتين بينما نجد أنّه كلّما مرّ القرآن على ذكر هذه المزاعم الخرافية أعلن بكل صراحة وتأكيد : أنّه لا فرق بين انسان وانسان إلاّ بتقوى الله فإنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ..

وأمّا النجاة والجنّة فمن نصيب من يؤمن بالله ، ويعمل بأوامره دونما نقصان لا غير ، وهو بهذا يقصد تفنيد مزاعم اليهود والنصارى الجوفاء.

بهذا البحث حول الآيات الثلاث ( المذكورة في مطلع البحث ) نكتشف بطلان الرأي القائل بأنّ الإسلام أقر ـ في هذه الآيات ـ مبدأ ( الوفاق الإسلامي المسيحي واليهودي ) تمهيداً لإنكار عالمية الرسالة الإسلامية ، بينما نجد أنّ غاية ما يتوخّاه القرآن ـ في هذه الآيات ـ إنّما هو فقط نسف وإبطال اليهود والنصارى وليعلن مكانه بأنّ النجاة إنّما هي بالإيمان الصادق والعمل الصالح.

فلا استعلاء ، ولا تفوّق لطائفة على غيرها من البشر مطلقاً ، كما أنّ هذا التشبّث الفارغ بالأسماء والدعاوي ليس إلاّ من نتائج العناد والاستكبار عن الحق.

٢٠٧

فليست الأسماء ، ولا الانتساب هي التي تنجي أحداً في العالم الآخر ، وإنّما هو الإيمان والعمل الصالح ، وهذا الباب مفتوح على وجه كل انسان يهودياً كان أو نصرانياً مجوسياً أو غيرهم.

ويوضح المراد من هذه الآية قوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ( المائدة ـ ٦٥ ).

فتصرّح الآية بانفتاح هذا الباب بمصراعيه في وجه البشر كافة من غير فرق بين جماعة دون جماعة حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون لقبلنا إيمانهم وكفّرنا عنهم سيئاتهم.

هذا هو كل ما كان يريد القرآن بيانه من خلال هذه الآيات ، وليس أي شيء آخر.

إذن فلا دلالة لهذه الآيات الثلاثة على إقرار الإسلام لشرعية الشرائع بعد ظهوره .. وإنّما تدل على أنّ القرآن يحاول بها إبطال بعض المزاعم.

يبقى أن تعرف أنّ هنا آيات اُخرى تؤيد بصراحة ما ذهبنا إليه من انحصار النجاة في الإيمان والعمل ، وذلك كسورة ( والعصر ) :

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) ( العصر : ١ ـ ٣ ).

كما أنّ تكرار كلمة ( الإيمان ) في الآيات الثلاث تأكيداً آخر لما قلناه حيث قال في مطلع الآيات : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) ثم قال : ( ... مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) وهو يقصد بمن ( آمنوا ) الاُولى ، الذين اعتنقوا الإسلام في الظاهر ، دون أن يتسرب الإيمان إلى قلوبهم ، وينعكس على تصرفاتهم ، ويقصد بمن ( آمن ) الثانية الإيمان الصادق المقرون بالعمل.

وبعبارة اُخرى : انّ المراد من قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) هم المسلمون لوقوعه في مقابل اليهود والنصارى ، ويشهد على ذلك قوله سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً

٢٠٨

لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ) ( المائدة : ٨٢ ) فقد جعل لفظ « آمنوا » في مقابل اليهود.

وحينئذ فالمراد من قوله : ( آمَنُوا ) في صدر الآية هو من أظهر الإيمان بالله ورسالة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّ المراد من قوله : ( مَن يُؤْمِنُ ) هو الإيمان الحقيقي الراسخ في القلب.

ونظيره قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ) ( النساء ـ ١٣٦ ).

ثمّ إنّي بعد ما كتبت هذا وقفت على ما كتبه الكاتب الإسلامي أبو الأعلى المودودي حول الآية ، وكان متقارباً لما قلناه ، وحررناه ، ولأجل اتمام الفائدة نأتي بإجمال ما كتبه :

والحقيقة انّ هذا التحريف قد اسدى إلى روح الضلالة خدمة كان قد عجز عن مثلها أكابر أئمّة الضلال والكفر على بعد نظرهم ، ومكرهم في التضليل ، إذ هو يزوّد ـ في جانب ـ غير المسلمين بدليل من القرآن نفسه على عدم احتياجهم إلى قبول الحق ، ويأخذ ـ في جانب آخر ـ بيد المنافقين والدخلاء على الجماعة الإسلامية من الذين يتلملمون دائماً للتنصل من قيود الإسلام وحدوده حتى ينالوا الرخصة بلسان القرآن نفسه في ازالة الحاجز القائم بين الكفر والإسلام ، ويزلزل ـ في الجانب الثالث ـ إيمان المؤمنين المتّبعين للقرآن والسنّة في داخل الجماعة الإسلامية حتى ليساورهم الشك بأنّ الانسان ما دام من الممكن له أن يستحق النجاة ولو بانكار القرآن والسنّة النبوية وبغير حاجة إلى الإيمان بكتاب ولا برسالة ، فمن العبث أن يتقيّد بحدود الإسلام إذ لا فرق ـ البتة ـ بين كونه مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً أو صابئياً أو هندوكياً أو غيره.

ثم شرع الكاتب في تفسير جمل الآية وقال :

إنّ المراد ب‍ : ( الَّذِينَ آمَنُوا ) هم طائفة أهل الإسلام وإنّ المراد من : ( مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) اُولئك الذين هم متصفون في حقيقة الأمر بصفة الإيمان الصحيح الكامل.

والمراد من : ( وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ ... ) اُولئك الذين يعدون من طوائف

٢٠٩

اليهود والنصارى ، وليس المراد بهم ، اُولئك الذين اختاروا عقيدة اليهود ، وانتهجوا نهجهم في حقيقة الأمر ، أو الذين يعتقدون النصرانية في واقع الأمر حسب ما ذكر في جملة : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ).

ثمّ أفاد في رفع الستار عن هدف الآية ، وقال :

إنّ التصورات الطائفية التي كانت شائعة في عهد نزول القرآن هي بعينها شائعة في العصر الحاضر أيضاً.

فلهذا لا يصعب علينا أن ندرك أنّ القرآن إنّما يفرّق في هذه الآية بين الذين هم مؤمنون لمجرد انتسابهم إلى طائفة أهل الإيمان وبين الذين هم مؤمنون واقعيون متصفون بصفة الإيمان ، ومتمثّلون لحقيقته في الواقع.

فكما أنّنا نشاهد في هذا الزمان أنّ الدنيا تميّز بين الأفراد من وجهة الطائفية فيقال لرجل : مؤمن ، أو مسلم ، لمجرد أنّه من جماعة المسلمين على حسب انقسام أفراد البشرية بين مختلف الجماعات بصرف النظر عمّا إذا كان هو مسلماً في واقع الأمر أم لا ، ويقال لفرد من اليهود والنصارى والبوذيين : يهودي أو نصراني أو بوذي ، باعتبار انتسابه إلى ديانة من تلك الديانات وبصرف النظر عمّا إذا كان مؤمناً بمبادئ طائفته في واقع الأمر أم لا ، كذلك كان النوع البشري في عهد نزول القرآن موزّعاً بين عدد من الطوائف على حسب الظواهر بدون اعتبار الواقع ، فكان يميّز بين مختلف الأشخاص والجماعات باعتبار أنّ فلاناً من جماعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفلاناً من طائفة اليهود ، وفلان من طائفة النصارى وهلمّ جرا.

ومن هنا كان المنافقون يعدّون من جماعة المسلمين ـ الذين آمنوا ـ مع أنّهم لم يكونوا مسلمين في حقيقة الأمر.

والحقيقة انّ الله سبحانه وتعالى يريد بهذا الجزء من الآية أن يفنّد الفكرة السائدة عند الناس عامة وهي أنّ الناس سيحشرون في الآخرة بموجب التصنيف الطائفي ، وباعتبار أنسابهم وأسمائهم الصورية في الدنيا ، فيعتقد اليهودي أنّ النجاة خالصة لمن

٢١٠

هو معدود في طائفة اليهود دون سائر الناس ، ويظن النصراني أنّ الدخول في النصرانية دخول في أهل الحق ، وكل من هو خارج عن هذه الدائرة يكون على الباطل ، وكذلك قد بدأ المسلمون يظنون أنّ من هو داخل في جماعتهم على اعتبار اسمه واسرته ومولده فهو مسلم وله الشرف والفضيلة على كل من ليس بداخل في جماعتهم بموجب تلك الاعتبارات.

فتفنيداً لهذه الفكرة الخاطئة يقول سبحانه وتعالى إنّ الفرق الحقيقي بين الانسان والانسان ليس على حسب الطائفية الظاهرية ، بل الذي عليه المدار هو الإيمان والعمل الصالح ، وليس كل من تسمّى بأسماء المسلمين مع خلوّه من الإيمان وابتعاده عن العمل الصالح بالمؤمن في واقع الأمر ، ولن يكون في عاقبته مثل المؤمنين الحقيقيين ، وكذلك ليس كل من ينتسب إلى اليهودية والنصرانية أو الصابئة يهودياً أو نصرانياً أو صابئاً إذا كان متجرداً من هذه الصفات. فكما أنّ الاعتداد في جماعة المسلمين لا يغني عن الانسان شيئاً كذلك اعتباره من اليهود وإلنصارى والصابئيين لا يرجع عليه بالفائدة في الآخرة.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر بعض ما قدمنا من الآيات من مزاعم اليهود والنصارى من كون الجنّة مختصة بهم ، أو أنّ النار لا تمسّهم إلاّ أياماً معدودة ، أو أنّهم أبناء الله واحباؤه ، قال إنّ كل هذه الآيات إنّما تكشف عن حقيقة بعينها هي أنّ الله عزّ وجلّ ليست عليه دالّة لطائفة في الأرض ، ولا أنّ طائفة خاصة مستأثرة بالنجاة عنده ، فليس من حق أحد من الناس أن يعامل بصفة خاصة بناء على أنّه ولد في اُمّة معيّنة أو ينتمي إلى جماعة خاصة ، بل الجميع من حيث هم أفراد الجنس البشري ، لا فرق بينهم البتة في نظر الله ، لأنّ الاعتبار الحقيقي عند الله ما هو الانتسابات أو القوميات ، بل هو للمبادئ والحقائق فإن آمنتم بصدق قلوبكم وعملتم الصالحات نلتم جزاءً حسناً عند الله ، وإن بقيتم على غير شيء من الإيمان والعمل الصالح فلا شيء ينقذكم من العقاب والعذاب الأليم ، ولو إلى أي طائفة أو جنس كنتم تنتسبون ، والله تعالى قد صرّح بهذه الحقيقة في موضع آخر من كتابه حيث يقول ـ مخاطباً المسلمين ـ : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ

٢١١

مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) ( النساء ١٢٣ ـ ١٢٤ ) (١).

وأنت إذا لاحظت ما ذكره المؤلّف وما قد حررناه من قبل تجد الجوابين متوافقي المضمون ، متشاكلي المعنى.

وإذا وقفت على هدف الآية ومرماه فلندخل في صميم الإجابة الثانية حتى نثبت أنّها لا تمتّ بصلة إلى مدّعى القائل ، إذ الآية تسوقنا إلى أنّ الاعتبار في النجاة هي ( الحقائق والمسمّيات والمعاني ) دون الصور والأسماء والقشور.

وأمّا ما هو حقيقة الإيمان بالله وما هو شرطه ، وما المقصود في العمل الصالح وكيف يتقبل.

فالآية ساكتة عن بيانها ومنصرفة عن توضيحها ، وإنّما تطلب هذه الشروط والقيود من سائر الآيات ولأجل ذلك يجب أن ينضم إلى الآية سائر ما ورد من الآيات الورادة في باب الإيمان بالله والإتيان بالعمل الصالح حتى نقف على مرمى القرآن.

فنقول : ليس معنى الإيمان بالله أن يقر الانسان بوجود الله ، ويعترف بوحدانيته بل المراد هو التسليم لله ، كما في قوله سبحانه :

( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة ـ ١١٢ ).

وقد دلّت الآيات القرآنية على أنّ الإيمان بالله لا ينفك عن الإيمان بأنبيائه ورسله حيث قال سبحانه :

( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ

__________________

(١) الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة طبعة دار القلم ص ١٩٠ ـ ١٩٦ وهو من أنفع كتب المؤلّف غير أنّه يعتمد في المسائل الفقهية على رأي كلّ صحابي أو تابعي ، وينقل آراء أصحاب المذاهب الأربعة ولا ينقل رأي واحد من أئمة أهل البيت غير الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢١٢

وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( البقرة ـ ١٣٦ ).

كما دلّت على أنّ الإيمان بأنبيائه ورسله لا تنفك عن الإيمان بنبّيه الخاتم حيث قال سبحانه : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) ( البقرة ـ ١٣٧ ).

والقرآن يعترف بأنّ تكفير نبي واحد تكفير بجميع الأنبياء بل تكفير بالله سبحانه كما قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلاً * أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) ( النساء : ١٥٠ ـ ١٥١ ).

كيف وقد عدّ الإيمان بنبيّه الخاتم من أركان الإيمان وقال :

( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) ( النور ـ ٦٢ ).

وقال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحجرات ـ ١٥ ).

وليس المراد من الإيمان بالرسول هو الاعتراف بعظمة الرسل وجلالة مكانتهم بل المراد هو الطاعة العملية حيث قال سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) ( النساء ـ ٦٤ ).

وقال سبحانه :

( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) ( النساء ـ ١١٥ ).

وقال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا ) ( الأحزاب ـ ٣٦ ).

٢١٣

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في شأن الأنبياء وخصوص شأن الرسول الأكرم.

وعلى ذلك فالإيمان بالله الذي تعتبره الآية وسيلة للنجاة لا ينفك عن الإيمان برسله وكتبه ، وعن الإيمان برسوله الخاتم ، ولا ينفك الإيمان بهم وبه عن الإيمان بطاعته ، وامتثال أوامره والانزجار عن نواهيه ، ولا يتم ذلك إلاّ بالعمل بالقرآن وشريعته وأوامره وزواجره ، سننه وفرائضه وليس يراد من المسلم إلاّ ذاك ، ولا تخالف بين الآية وغيرها من الآيات في الهدف والمرمى.

نعم كل من أراد أن يستخرج من الآية ما هو كفاية رسوخ اليهودي في يهوديته والنصراني في نصرانيته .. فقد غضّ بصره عن سائر الآيات شأن كل من يختار مذهباً أوّلاً ثمّ يرجع إلى القرآن حتى يجد له دليلاً ثانياً.

إنّ الله يأمر نبيّه أن يعلن ويقول :

( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( الأنعام ـ ١٥٣ ).

وعندئذ لا يمكن له أن يعترف بصحة الطرق المختلفة الاُخرى وأنّها أيضاً طرق مستقيمة.

خاتمة المطاف :

بقيت هنا كلمة وهي أنّه ربّما يستدل (١) على الخاتمية بمثل قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) ( سبأ ـ ٢٨ ).

وقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف ـ ١٥٨ ) والاُولى الاستدلال بها على عالمية الرسالة الإسلامية لا خاتميتها.

وما ربّما يقال : بأنّ الناس ربّما يطلق ويراد منه جماعة من الناس مثل قوله سبحانه

__________________

(١) اللوامع الالهية ص ٢٢٥.

٢١٤

في قصة موسى وفرعون : ( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ) ( الشعراء ـ ٣٩ ).

وقوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) ( الفتح ـ ٢٠ ).

والمقصود من الناس هم المشركون خاصة وعلى ذلك فليست هذه الآية ونظائرها دالة على سعة رسالته فضلاً عن خاتميتها.

والجواب عن الشبهة واضح وذلك لأنّ استعمال كلمة ( الناس ) في الجماعة الخاصة في الآيات المتقدمة إنّما هو لوجود القرائن الحافة بالكلام ولولاها لما صح استعمال الكلمة التي وضعت للعموم في جماعة خاصة.

هذه شبهات الخاتمية التي اختلقها القوم ولم تكن إلاّ شبهات سوفسطائية أو أشواكاً في طريق الحقيقة ، وبقيت شبهات ضئيلة اُخرى للقوم ، أرى التعرّض لها ضياعاً للوقت الثمين.

أجل هناك أسئلة حول الخاتمية جديرة بالبحث والتحليل ، فلا بد من التعرض لها وما يمكن أن يجاب به حولها ، ولأجل ذلك عقدنا الفصل التالي وهو من الفصول المفيدة جداً.

٢١٥
٢١٦

الفصل الرابع

أسئلة

حول الخاتمية

أنّ من شيم العصر الإلحادي الحاضر ، كثرة السؤال والتشكيك في كل شيء ، خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد ، والمعارف الغيبية أي المسائل الراجعة إلى ما وراء الطبيعة ، ولم تسلم مسألة خاتمية الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه التشكيكات ، فقد كثر السؤال وطال الحوار والنقاش حولها ، ونحن نذكر تلكم الأسئلة الدارجة في الأذهان والأفهام ونعترف بأنّ بعضها أو كثيراً منها جدير بالبحث والتمحيص أكثر ، مما بحثنا عنه.

السؤال الأول :

وحاصله : هب أنّه ختمت النبوّة التشريعية ، فلماذا ختمت التبليغية منها ؟

توضيحه : أنّ النبي إذا بعث بشريعة جديدة وجاء بكتاب جديد ، فالنبوّة تشريعية وأمّا إذا بعث لغاية الدعوة والإرشاد إلى أحكام وقوانين سنّها الله سبحانه على لسان نبيه المتقدم ، فالنبوّة تبليغية.

٢١٧

والقسم الأوّل من الرسل ، قد أنحصر في خمسة ، ذكرت أسماؤهم في القرآن والنصوص المأثورة ، أمّا الأكثرية منهم ، فكانوا من القسم الثاني وقد بعثوا لترويج الدين النازل على أحد هؤلاء فكانت نبوّتهم تبليغية (١).

حينئذ فقد يسأل سائل ويقول : هب أنّ نبي الإسلام جاء بأكمل الشرائع وأتمها وأجمعها للصلاح وجاء بكل ما يحتاج إليه الإنسان ، في معاشه ومعاده ، إلى يوم القيامة ولم يبق لمصلح رأي ولمفكّر نظر ، في اُصول الإصلاح واُسسه ، لأنّ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أتى بصحيح الرأي وأتقنه وأصلحه في كافة شؤون الحياة ومجالاتها ولأجل ذلك الإكتمال اُوصد باب النبوّة التشريعية.

ولكن لماذا اُوصد باب النبوّة التبليغية التي منحها الله للاُمم السالفة فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال والتمام لا تستغني عمّن يقوم بنشرها وجلائها وتجديدها ، لكي لا تندرس ويتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأسلوب صحيح ، فلماذا أوصد الله هذا الباب بعد ما كان مفتوحاً في وجه الاُمم الماضية ، ولماذا منح الله سبحانه هذه النعمة على السالف من الاُمم وبعث فيهم أنبياء مبلغين ومنذرين وحرم الخلف الصالح من الاُمم منها ؟.

الجواب :

أنّ انفتاح باب النبوّة التبليغية في وجه الاُمم السالفة وإيصاده بعد نبي الإسلام ليس معناه أنّ الاُمم السالفة استحقت هذ النعمة المعنوية ، لفضيلة تفردت بها ، دون الخلف الصالح من الاُمم ، أو أنّ الاُمّة الإسلامية حرّمت لكونّها أقل شأناً وأهون مكانة من الاُمم الخالية ـ كلا ـ بل الوجه أنّ الاُمم السالفة كانت محتاجة إليها دون الاُمّة الإسلامية ، فهي في غنى عن أي نبي مبلغ يروج شريعة نبي الإسلام.

وذلك أنّ المجتمعات تتتفاوت إدراكاً ورشداً ، فربّ مجتمع يكون في تخلقه كالفرد

__________________

(١) الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية هي كلمة « التبشير » ولكن كلمة « التبليغ » أولى وأليق بهذا المعنى ، فهي مقتبسة من القرآن ، ومدلولها اللغوي منطبق على المقصود كل الانطباق.

٢١٨

القاصر ، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه ، بل يضيعه كالطفل الذي يمزق كتابه ودفتره غير شاعر بقيمته.

وربّ مجتمع بلغ من القيم الفكريّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة ، شأواً بعيداً يحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه ، بل يستثمره استثماراً جيداً فهو عند ذاك غني عن كل مروج يروج دينه ، أو مبلغ يذكر منسيه أو مرب يرشده إلى القيم الأخلاقية ، أو معلم يعلمه معالم دينه ويوضح له ما أشكل من كتابه ، إلى غير ذلك من الشؤون ، فأفراد الاُمّة السالفة كانوا كالقصر ، غير بالغين في العقلية الاجتماعية فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم ، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي بكتابه بتحريفهم له وتأويله بما يتوافق مع أهوائهم ومشاربهم ، ولذا كان يحل بالشريعة ، إندراس بعد مضي القرون والأجيال ويستولي عليها الصدأ بعد حقبة من الزمان.

لهذا ولذلك كان على المولى سبحانه أن يبعث فيهم نبياً ، جيلاً بعد جيل ، ليذكرهم بدينهم الذي إرتضاه الله لهم ، ويجدد شريعة من قبله ويروج قوله وفعله ويزيل ما علق بها من شوائب بسبب أهواء الناس وتحريفاتهم. وأمّا المجتمع البشري بعد بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولحوقه بالرفيق الأعلى ، فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتح العقلي والرشد الاجتماعي شأواً يتمكن معه من حفظ تراث نبيه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع ، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى تصنيف أنواع التآليف في أحكامه وتفسيره وبلاغته ومفرداته وإعرابه وقرائته فإزدهرت تحت راية القرآن ضروب من العلوم والفنون.

فلأجل ذلك الرشد الفكري في المجتمع البشري ، جعلت وظيفة التبليغ والإنذار ، على كاهل نفس الاُمّة حتى تبوأت وظيفة الرسل من التربية والتبليغ ، واستغنت عن بعث نبي مجدد على طول الزمان يبلغ رسالة من قبله.

فإذا قدرت الاُمّة على حفظ ما ورثته عن نبيها ، ونشره بين الناس في الآفاق ، ومحو كل مطمع فيه وهدم كل خرافة تحدثها يد التحريف ، استغنت طبعاً عن قائم بهذا الأمر

٢١٩

سوى نفسها.

لقد ظهرت طلائع هذا التفويض من أوّل سورة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث خاطبه الله سبحانه ، في اليوم الذي بعثه رسولاً إلى الناس وهادياً لهم بقوله : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( العلق : ١ ـ ٥ ).

وهذا الخطاب يؤذن بأن دينه ، دين التلاوة والقرائة ، دين العلم والتعليم ، دين القلم والتحرير ، وأنّ هذا الدين سوف يربي اُمة مفكرة ، متحضرة ، عالمة بقيمة التراث الذي يصل إليها ، قادرة على حفظ هذا الدين في ضوء العلم والفكر ، مستعدة لنشر تعاليمه في أقطار العالم وأرجاء الدنيا ، بأساليب صحيحة.

وقد بلغت عناية الإسلام بالقلم والكتابة ، إلى حد أن أقسم سبحانه : ( وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) وأنزل سورة باسمه ، تمجيداً له وحثاً للاُمة على تقديره والعناية به ، ليكون رائداً للتقدم والحضارة والمعرفة ، ويصير أحسن ذريعة إلى حفظ التراث بلا حاجة إلى مبلغ سماوي.

ثم أنّه سبحانه ، صرح بهذا التفويض أي تفويض أمر التبليغ إلى نفس الاُمّة في غير موضع من كتابه ، منها قوله سبحانه : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة ـ ١٢٢ ).

ومنها قوله سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران ـ ١٠٤ ).

ومنها قوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران ـ ١١٠ ).

وفي السنن والأحاديث تصاريح بذلك ، نكتفي بما يلي :

قال الباقر عليها‌السلام : « أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، وفريضة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب وترد

٢٢٠