مفاهيم القرآن - ج ٣

الشيخ جعفر السبحاني

مفاهيم القرآن - ج ٣

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٤٣

لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادعى بعده نبوّة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه (١) وقد نقلنا الحديث بطوله لما فيه من الفوائد.

١٠٣. عن الفضل بن شاذان قال : سأل المأمون علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار فكتب عليه‌السلام له : أنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ... وأنّ محمداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه وسيد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين لا نبي بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته وأنّ جميع ما جاء به محمد بن عبد الله هو الحق المبين والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل الله وأنبيائه وحججه والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وأنّه المهيمن على الكتب كلّها وأنّه حق من فاتحته إلى خاتمته ... (٢).

١٠٤. وعنه عليه‌السلام في حديث : حتى انتهت رسالته إلى محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فختم به النبيين وفي نسخة ( المرسلين ) وقفى به على آثار المرسلين وبعثه رحمة للعالمين ... (٣).

١٠٥. صورة ما كان على ظهر العهد الذي عهده المأمون إليه بخطه عليه‌السلام : الحمد لله الفعّال لما يشاء ... وصلواته على نبيّه محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر ... (٤).

١٠٦. روى الصدوق مسنداً عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن فاطمة بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما حملت بالحسن وولدته ... ثم هبط جبرئيل فقال : يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام ، ويقول : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولا نبي

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٨٠.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٥٤.

(٤) المناقب للمازندراني ٤ / ٣٦٤ ـ كشف الغمة ٣ / ١٧٧.

١٦١

بعدك ، سم ابنك باسم ولد هارون ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما اسم ابن هارون ؟ قال شبّر ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لساني عربي ، قال جبرئيل : سمّه الحسن (١).

تنصيص الإمام أبي محمد الجواد عليه‌السلام على الخاتمية

١٠٧. جاء في بعض دعواته : بسم الله قوي الشأن عظيم البرهان شديد السلطان ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أشهد أنّ نوحاً رسول الله وانّ إبراهيم خليل الله وانّ موسى كليم الله ونجيّه وأنّ عيسى ابن مريم روح الله وكلمته صلوات الله عليه وعليهم أجمعين وأنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده (٢).

تنصيص الإمام الهادي عليه‌السلام على الخاتمية

١٠٨. عن عبد العظيم الحسني قال : دخلت على سيدي علي بن محمد عليهما‌السلام فلمّا أبصرني قال لي : مرحباً يا أبا القاسم أنت وليّنا حقاً قال : فقلت له : يا بن رسول الله انّي اُريد أن أعرض عليك ديني ... أنّي أقول : إنّ الله واحد ليس كمثله شيء ... وأنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده ورسوله خاتم النبيين ولا نبي بعده إلى يوم القيامة وأنّ شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة ... (٣).

١٠٩. عن علي بن محمد الهادي عليهما‌السلام في زيارته التي زار بها علياً عليه‌السلام في يوم الغدير في السنة التي أشخصه المعتصم ... السلام على محمد رسول الله خاتم النبيين وسيّد المرسلين وصفوة ربّ العالمين ... والخاتم لما سبق والفاتح لما استقبل ... (٤).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ب ١ ص ٢٥.

(٢) مهج الدعوات ص ٤٠ ـ بحار الأنوار ٩٤ / ٣٥٩.

(٣) اكمال الدين ص ٢١٤ الطبع الحجري.

(٤) بحار الأنوار ١٠٠ / ٣٦٠.

١٦٢

تنصيص الإمام العسكري عليه‌السلام على الخاتمية

١١٠. عن الإمام العسكري عليه‌السلام قال : لقد رامت الفجرة ليلة العقبة قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العقبة ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب فما قدروا مغالبة ربّهم ، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي عليه‌السلام لمّا فخم من أمره وعظم من شأنه من ذلك أنّه لما خرج من المدينة وقد كان خلفه عليها ... قال أكثر المنافقين ملّه وسأمه وكره صحبته ، فتبعه علي عليه‌السلام حتى لحقه ... فقال له : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ... (١).

تنصيص الحجّة القائم عليه‌السلام على الخاتمية

١١١. قال عليه‌السلام في الصلوات المروية عنه التي خرجت إلى أبي الحسن الضراب الاصبهاني بمكة : بسم الله الرحمن الرحيم اللّهمّ صلّ على محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وحجة ربّ العالمين ... (٢).

١١٢. وفي دعائه الذي قرأه في شهر رجب في مسجد السهلة : يا أسمع السامعين ويا أبصر المبصرين ويا أنظر الناظرين ويا أسرع الحاسبين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين صلّ على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطاهرين الأخيار ... (٣).

١١٣. وفي جوابه لكتاب أحمد بن اسحاق : بسم الله الرحمن الرحيم أتاني كتابك أبقاك الله ... ثمّ بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمة للعالمين وتمّم به نعمته وختم به أنبياءه وأرسله إلى الناس كافة وأظهر من صدقه ما أظهر وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن ثم قبضه الله إليه حميداً فقيداً سعيداً ... (٤).

١١٤. وفي الزيارة الخارجة من الناحية إلى أحد الأبواب الأربعة : السلام على آدم

__________________

(١) غاية المرام ١٥١.

(٢) مصباح المتهجد ص ٢٨٤.

(٣) الاقبال ص ٦٤٥.

(٤) مكاتيب الأئمة ٢ / ٢٧٦.

١٦٣

صفوة الله من خليقته ... السلام على ابن خاتم الأنبياء السلام على ابن سيد الأوصياء (١).

وفيها أيضاً : اللّهمّ إنّي أتوسّل إليك يا أسرع الحاسبين ويا أكرم الأكرمين ويا أحكم الحاكمين بمحمد خاتم النبيين ورسولك إلى العالمين أجمعين ... (٢).

روايات اُخرى

١١٥. في رواية قال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فعلمت أنّه ليس أحد أعظم قدراً عندك ممّن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه : وعزّتي وجلالي أنّه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه لما خلقتك (٣).

١١٦. وفي دعاء السمات : وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعترته الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً (٤).

١١٧. قال الله تعالى لآدم عليه‌السلام : أنت يا آدم أوّل الأنبياء والرسل وابنك محمد خاتم الأنبياء والرسل ... (٥).

١١٨. ومما أوحى الله إلى آدم : من ولدك إبراهيم أجري على يده عمارة بيتي تعمّره الاُمم حتى ينتهي إلى نبي يقال له خاتم النبيين أجعله من سكانه وولاته (٦).

١١٩. في التوراة عن الله تبارك وتعالى : إنّي باعث في الاُمّيين من ولد إسماعيل رسولاً انزل عليه كتابي وأبعثه بالشريعة القيّمة إلى جميع خلقي ، اُوتيه حكمتي ، وأيّدته بملائكتي وجنودي ... اُكمل بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبما أرسله به من بلاغ وحكمة ديني وأختم به أنبيائي ورسلي فعلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واُمّته تقوم الساعة (٧).

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠١ / ٣١٨ ـ الصحيفة الهادية والتحفة المهدية ص ٢٠٣.

(٢) بحار الأنوار ١٠١ / ٣٢٣ ـ الصحيفة الهادية والتحفة المهدية ص ٢١٧.

(٣) ينابيع المودة ص ١٧ ـ ١٨.

(٤) بحار الأنوار ٩٠ / ١٠١.

(٥) اثبات الهداة ١ / ٣١٨.

(٦) اثبات الهداة ١ / ٤٠٠.

(٧) الاقبال ص ٥٠٩.

١٦٤

١٢٠. وفي حديث بحيراء الراهب : أنت سيد ولد آدم وسيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين ... (١).

١٢١. وجاء في دعاء يوم الخميس : وصلّى الله على محمد خاتم النبيين وآله الطيبين والأخيار الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (٢).

١٢٢. وجاء في تسبيح يوم الخميس : وصلّى الله على رسوله محمد خاتم النبيين وآله أجمعين (٣).

١٢٣. وفي دعاء يوم الجمعة : اللّهم صلّ على محمد وآل محمد نبي الرحمة وقائد الخير وإمام الهدى والداعي إلى سبيل الإسلام ورسولك يا ربّ العالمين وخاتم النبيين وسيد المرسلين (٤).

١٢٤. وفي دعاء أيام شهر رجب : يا أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأسرع الحاسبين يا ذا القوّة المتين صلّ على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته (٥).

١٢٥. وفي دعاء ليلة النصف من شعبان : وصلّى الله على محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى أهل بيته الصادقين وعترته الناطقين (٦).

١٢٦. عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم وآخرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين نبي. المرسل ( الرسل ) منهم ثلاثمائة وخمسة ، وخمسة منهم اُولوا العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، وخمسة منهم العرب هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٧).

١٢٧. قال الطبرسي رحمه‌الله : وإذا أراد الرجوع إلى بيته فليقل حين يدخل بسم الله وبالله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ثم

__________________

(١) اثبات الهداة ١ / ٣٤٥.

(٢) مصباح المتهجد ص ٣٤.

(٣) مصباح المتهجد ص ٣٤١.

(٤) مصباح المتهجد ص ٣٤٥.

(٥) مصباح المتهجد ص ٥٥٨.

(٦) مصباح المتهجد ص ٥٨٦.

(٧) الاختصاص ص ٢٦٤ ـ بحار الأنوار ١١ / ٤٣.

١٦٥

يسلّم على أهله إن كان في البيت أحد فإن لم يكن في البيت أحد فليقل بعد الشهادتين السلام على محمد بن عبد الله خاتم النبيين السلام على الأئمّة الهادين المهديين السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (١).

١٢٨. وفي زيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السلام عليك يا خاتم النبيين أشهد أنّك قد بلغت الرسالة ... (٢).

١٢٩. وأيضاً في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السلام عليك يا نجيب الله السلام عليك يا خاتم النبيين السلام عليك يا سيد المرسلين (٣).

١٣٠. وأيضاً في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السلام عليك يا حجة الله على الأوّلين والآخرين السابق في طاعة ربّ العالمين والمهيمن على رسله والخاتم لأنبيائه والشاهد على خلقه والشفيع إليه (٤).

١٣١. وأيضاً في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوّل النبيين ميثاقاً وآخرهم مبعثاً الذي غمسه في بحر الفضيلة ... (٥).

١٣٢. في زيارة إبراهيم ابن رسول الله : السلام على محمد بن عبد الله سيد الأنبياء وخاتم الرسل ... (٦).

١٣٣. وفي زيارة عاشوراء : السلام عليك ياوارث آدم صفوة الله ... وسبط خاتم المرسلين (٧).

١٣٤. وفي زيارة الحسين عليه‌السلام في أوّل شهر رجب : السلام عليك يابن

__________________

(١) مكارم الأخلاق ١٨٨.

(٢) بحار الأنوار ١٠٠ / ١٦١.

(٣) بحار الأنوار ١٠٠ / ١٨٣ ـ زاد المعاد ص ٣٣٤.

(٤) بحار الأنوار ١٠٠ / ١٨٤ ـ زاد المعاد ص ٣٣٥.

(٥) بحار الأنوار ١٠٠ / ١٨٥ ـ زاد المعاد ص ٣٣٧.

(٦) بحار الأنوار ١٠٠ / ٢١٧ ـ هدية الزائرين ص ٢٦٢ نقلاً عن المفيد وابن طاووس والشهيد.

(٧) بحار الأنوار ١٠١ / ٣١٣.

١٦٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلام عليك يا بن خاتم النبيين (١).

١٣٥. روي في الاختصاص ، عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم وآخرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي ، المرسل منهم ثلاثمائة ، خمسة منهم اُولوا العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، وخمسة من العرب هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

هذه جملة ما وقفت عليه من آثار النبوّة والمأثورات عن أئمة أهل البيت (٣) ولعلّ ما لم أظفر به أكثر ممّا ظفرت به ، كل ذلك يؤيد ما هو المنصوص في القرآن الحكيم ، وأنّ الله أوصد باب النبوّة ورسالة السماء إلى الأرض ، ببعث نبيّه وآخر سفرائه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس بعده نبي ولا شريعة ولا كتاب ولا ... هذا وقد أغناهم تصريح الكتاب بالموضوع عن افاضة القول فيه ، كما هو شأن كلّ موضوع فيه نص في القرآن الكريم.

شبهات حول الخاتمية :

لقد حصحص الحق مما سردناه من الأدلّة والدلائل الناصعة ، على خاتمية الرسول فلم يبق مقول لقائل ولا مصول لصائل ، وما سردناه من الأدلّة يفيد القطع واليقين بالخاتمية للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكل من آمن بقرآنه وسنّته القطعية ، والاجماع المسلم بين الاُمّة المدعم بالضرورة والبداهة بين المسلمين.

غير أنّ شرذمة قليلة ممّن أصابهم مس من الالحاد والمادية ، أخذوا يلقون حبالاً وعصياً في سبيل الضعفاء من المسلمين ، يخدعون بها الهمج الرعاع والبسطاء من الناس فجاءوا بشكوك وشبهات لفّقوها من هنا وهناك لا تقل عن شبهات السوفسطائية تّجاه

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠١ / ٣٣٦.

(٢) الاختصاص وبحار الأنوار ج ١١ ص ٤٣.

(٣) لا يخفى على القارئ الكريم ما عانيته من الجهود في جمع تلكم الأحاديث المأثورة عن النبي وآله من مصادرها المختلفة.

١٦٧

البديهة.

وقد اتخذت تلك الشرذمة الضئيلة انكار الخاتمية اداة للفتنة وسبيل إلى هدم الإسلام ، وإضلال المؤمنين بها وتمهيداً لأهدافهم وأغراضهم الرجعية. تلك الشبهات توقفنا على مبلغ علمهم بالكتاب والسنّة ومدى إلمامهم بالأدب العربي وتوقفنا على أنّه لا هدف لهم في اختلاق هذه الشكوك ، إلاّ خدمة الاستعمار وتفريق الكلمة وهدم الصفوف الإسلامية ، وقد عرفتهم الاُمّة الإسلامية ، وعرفت نواياهم وضمائرهم كما عرفت قيمة شبهاتهم التي تتضاءل عند كل من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة وتجعلها في معرض البطلان.

ولإسكات ما أحدثته هده الشبهات من جلبة وتركاض وصخب وهياج ولإماطة اللثام عن حقائق ناصعة ، خفيت على من اختلقها. عقدنا هذا الفصل حتى يتجلى للقارئ الحق بأجلى مظاهره ولا يبقى للأفّاكين المتخرصين مجال للبحث والتشكيك.

لقد حسب هؤلاء المغترّون أنّ ما لفّقوه من الأوهام سينطلي على عقول أبناء الأجيال الصاعدة ، ويتقبّلونه بصدر رحب ، إلاّ أنّه خفى عنهم ، أنّ الوعي الذي تمتعت به هذه الأجيال أخذ يرد عليهم خرافتهم الباطلة ، وأنّ المستقبل الكشّاف سيكشف عن سوأتهم.

ومن جهة اُخرى أنّ بعض هذه الأوهام التي جمعوها وطلوها ربّما يخيّل للبسطاء من الناس أنّها مسائل مستحدثة ، أو دلائل جديدة إلاّ أنّها ليست إلاّ نسائج قديمة أكل عليها الدهر وشرب ، وذكرت في كتب التفسير والحديث بشكل أسئلة اُجيبت عليها بأجوبة مقنعة ناجعة ... ولكنّهم من أجل ايقاع السذج والبسطاء في حبائلهم أخذوا بالأسئلة ، وتركوا أجوبتها.

وها نحن نقف تّجاه هذه الشبهات وقفة ، نجعلها في مدحرة البطلان ونقطع الطريق على هذه العصابات المجرمة وإن طال بنا الكلام ، واتسع مقامنا مع القرّاء الكرام.

١٦٨

الفصل الثالث

شبهات

حول الخاتمية

لما حاول الاستعمار الغاشم الاستيلاء على الشرق الأوسط ومناطقه الخصبة وربوعه المعمورة ومعادنه الغالية وما يسيل تحت أراضيه من الذهب الأسود ( البترول ) إلى غير ذلك من الثروات الطائلة ، قام بكل ما يملك من حول وقوة بشن الغارات عليه بصورة استفزازية مزرية.

نعم للاستعمار أساليب وتخطيطات وألوان مختلفة ، تختلف حسب طبائع الأجيال والأمكنة والتخطيط الأصيل له والحجر الإساسي الذي ترتكز عليه مخططات المستعمرين هو أصل « فرّق تسد » فاُولئك هم وليدوا ذلك الأصل ، وهم المبتدعون له ( على وجه غير دائر ) فالتفريق بين قطاعات الشعب في المبدأ والعقيدة عامل هدام يبدد قوى الشعب ، وسيل كاسح جارف ، يخرب كل حاجز دون نواياهم ، ويزعزع كل سد دون أهدافهم ، فلا شيء أضر بحال الشعب وأنفع للعدو من إشاعة القلق والفوضى في المجتمع واختلاف الكلمة والتشتت في التوجيه والدعوة بين أفراده ، فهي ضربة قاضية

١٦٩

تنصبّ على وجوده وتحول دون اتحاد أبنائه وتضامنهم ووقوفهم صفاً واحداً في وجه العدو وجرائمه المخزية وأعماله الاجرامية.

فها هي ذي بلادنا « إيران » كان يضرب المثل منذ زمن بعيد ، باتحاد شعبها وتضامن أبنائها وقد اعتنق الإسلام كثير منهم في عهد الخلافة ، وتفيأوا في ظلاله قروناً متطاولة ، غير أنّ الاستعمار الغادر لم يرض باتحادهم وإتفاق كلمتهم ، فطفق يديف السم في الدسم ، يفرق كلمتهم في المبدأ والعقيدة ، ببعث رجال التبشير والإنذار وإختلاق احزاب سياسية ، مطبوعة بطابع الدين ، ومصبوغة بصبغة المذهب ، وليس فيها شيء يمت إلى الدين بصلة ولا مرمى لهم في ذلك ، إلاّ تضليل عقيدة الشعب وتدمير أخلاقه وتحطيم كرامته حتى يعود مرتداً متحلّلاً ، فاقد الكرامة ، مسلوب الإرادة ، لا يلتزم بمبدأ ولا يؤمن بدين ، ولا يعرف هدفاً يسعى إليه ، سوى الاستهتار التام.

وعند ذلك يسهل للعدو تعكير الصفو وتمزيق الوحدة وضرب الشعب بعضه ببعض وتهون له الإغارة على الثروات الطائلة في أيديهم وما احتوته أراضيهم من معادن ومنابع.

هذا القلق الديني والفوضى المذهبية ، اللذين نشاهدهما في الشرق الأوسط بل والعالم الإسلامي إنّما هما وليدا هذا الاستعمار الغاشم ، وليدا تكتيكه الأصيل ( فرّق تسد ) وقد فتح هذا الاختلاف في وجه الشعب أبواباً من الأزمات الكثيرة في نواحي مختلفة.

ضع يدك على هذه الفرق المنحوتة ، والدعوات السياسية المتولدة في القرن الأخير ، واقرأ اُصولها وفروعها ، وتأمّل في غاياتها المتوخّاة منها وطالع صحائف من حياة مؤسسيها ومبتكريها ، تجدهم عمد الاستعمار وأذنابه ، فمن شيخية إلى بابية ، ومن أزلية إلى بهائية ، ومن قاديانية إلى أحمدية وكلّها وليدة الاستعمار الغاشم ، وليدة رجال العيث والفساد ، وليدة الأفّاكين الذين عرفتهم الاُمّة ، وعرفت نواياهم وسرائرهم وأهدافهم.

فدونك البهائية من هذه الفرق السياسية وقد اختلقها زعيمها « الميرزا حسين علي المازندراني » في إيران ، لتراه يدعو تارة إلى الوهية نفسه ويقول : « إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا ،

١٧٠

كما قال النقطة الاولى من قبل بعينه يقوله ، من يأتي من بعد » (١) ويدعو إلى نبوّته ورسالته تارة اُخرى ، وأنّه نبي كسائر الأنبياء ، وأنّ باب النبوّة مفتوح إلى يوم القيامة ، لم يوصد بعد نبي الإسلام ، ثم إنّ لهؤلاء الأقوام كُتّاباً مستأجرين استأجرهم الاستعمار لنصرة هذا الحزب المختلق بإسم الدين وطابع المذهب ، وقد جاءوا بشبهات تافهة في مسألة الخاتمية ، فدونك هذه الشبهات مع أجوبتها :

الشبهة الاُولى :

كيف يدّعي المسلمون انغلاق باب النبوّة والرسالة مع أنّ صريح كتابهم قاض بانفتاح بابه إلى يوم القيامة ، وذلك قوله سبحانه :

( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأعراف ـ ٣٥ ).

قال : فهذا الخطاب الوارد في القرآن الكريم ، النازل على قلب سيد المرسلين ينبئ عن مجيء الرسل بعد نبي الإسلام ، ويدل بظاهر قوله : ( يَأْتِيَنَّكُمْ ) الذي هو بصيغة المضارع ، على أنّ باب النبوّة لم يوصد وأنّه مفتوح بعد ، ومعه كيف يدعي المسلمون أنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين وآخرهم وكتابهم يشهد على خلافه (٢).

الجواب عن الشبهة :

هذه الشبهة الواهية حصلت من الجمود على نفس الآية والغض عمّا تقدمها من الآيات فإنّك إذا لاحظت سياقها تذعن بأنّها ليست إنشاء خطاب في ظرف نزول القرآن بل حكاية لخطاب خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة ، ولقد حكاه في القرآن بعد لأي من الدهر ، فكما أنّه سبحانه يحكي فيه الخطابات الدائرة بين رسله

__________________

(١) بديع ص ١٥٤.

(٢) الفرائد ص ٣١٤ ط مصر ١٣١٥ ه‍.

١٧١

وجبابرة عصورهم من فرعون وقارون من دون انشاء خطاب في زمن الرسول ، فهكذا يحكي في هذه الآية وما تقدمها ، الخطابات الصادرة منه سبحانه في بدء الخلقة ، وإن كنت في ريب مما ذكرناه ، فلاحظ الآيات الواردة في سياقها ودونك إجمالها.

ابتدأ سبحانه بقصة آدم في سورة الأعراف ، من الآية الحادية عشرة وختمها بما استنتج منها من العبر في الآية السابعة والثلاثين ، ودونك اجمال القصة ونتائجها بنقل الآيات.

( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) ( الأعراف ـ ١١ ـ ٢٥ ).

وعند ذلك ناسب أن يستنتج سبحانه من تلك القصة ويخاطب أبناء آدم بخطابات أربعة ، هادفة إلى لزوم طاعة الله سبحانه والتجافي عمّا يأمر به الشيطان ،

١٧٢

وإنّ لهم في قصة أبيهم واُمّهم لعبرة واضحة فقال سبحانه :

١. ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الأعراف ـ ٢٦ ).

٢. ( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف ـ ٢٧ ).

٣. ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف ـ ٣١ ).

ولا تجعل قوله سبحانه في ثنايا الخطابات الأربعة : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... ) دليلاً على كونها انشاء خطاب في عصر القرآن للمسلمين بقرينة ذكر المسجد ، لأنّه مردود بوجهين :

الأوّل : لوجود المسجد في الاُمم السابقة وعدم اختصاصه بعصر الرسالة كما يشهد عليه قوله سبحانه : ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) ( الكهف ـ ٢١ ).

الثاني : إنّ المراد من المسجد ليس البناء الخاص الدارج في البلاد الإسلامية بل هو كناية عن حالة الصلاة والعبادة التي أمر الله بها عباده في الاُمم جمعاء على اختلافها في الأجزاء والشرائط والصور ، كما يشهد عليه قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) ( مريم : ٥٤ ـ ٥٥ ).

وقوله سبحانه حاكياً عن المسيح : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) ( مريم ـ ٣١ ).

وعليه فالمراد أمّا خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة وألبسوا أجودها في حال

١٧٣

العبادة ، أو خذوا ما تسترون به عوراتكم حالها ، وعلى أي تقدير فهذا الحكم لا يختص بالاُمّة الإسلامية بل يعم الاُمم جمعاء.

٤. ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( الأعراف ـ ٣٥ ) ثم إنّه سبحانه في الآية السادسة والثلاثين والسابعة والثلاثين توعّد من كذّب بآياته واستكبر عنها ومن افترى على الله كذباً ، وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ).

وبعد ذلك ختم القصة مع ما استنتج منها لابناء آدم من عظات وعبر.

وأنت إذا احطت خبراً بهذه الآيات ، صدرها وذيلها وهدفها ومرماها ، لوقفت على أنّ الخطاب الأخير الحاكي عن بعث الرسل إلى بني آدم ليس انشاء خطاب في عهد الرسالة حتى ينافي صريح قوله الآخر : ( وَلَٰكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) بل هي حكاية لاحدى الخطابات التي ألقاها الله في بدء الخلقة ، عندما أخرج الشيطان أبانا من الجنة وأهبطه إلى الأرض ، وتعلقت مشيئته سبحانه بأن يستقر هو وأبناؤه في الأرض إلى حين ، فخاطب سبحانه أبناء آدم بلسان النصح وقال : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ... ) فصدّق الخبر الخبر وجاءت الرسل تترى ، مبشّرين ومنذرين ، تالين على بني آدم آيات الله.

وممّا يؤيد ما ذكرنا ( أنّ قوله سبحانه : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ ... ) حكاية للخطاب الذي ألقاه سبحانه في بدء الخلقة ، لا انشاء خطاب في عهد القرآن ) إنّ الله سبحانه حيث ما يذكر في موضع آخر من القرآن قصّة آدم على وجه التفصيل ، يذيّلها بمضمون هذه الآية وما بعدها من الآيتين (١) كما في سورتي البقرة وطه ، فإنّ

__________________

(١) الآية السادسة والثلاثون والسابعة والثلاثون.

١٧٤

مضمونهما موجود في ذيل القصة ، وإنّما الاختلاف في اللفظ والعبارة ، دون اللب والمعنى.

ودونك ما في سورة البقرة ، ترى أنّ الله سبحانه بعد ما ذكر قصة آدم ، وإنّ الشيطان أزلّهما ، يكرّر مضمون هذه الآية وما بعدهما من الآيتين حيث يقول : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *.وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة : ٣٨ ـ ٣٩ ).

فهاتان الآياتان في سورة البقرة ، يتحد مضمونهما مع مضمون ما ورد في سورة الأعراف غير أنّهما جاءتا في سورة الأعراف بلفظ « يا بني آدم » دون ما في سورة البقرة وهذا يؤيد أو يدل على أنّ الوارد في سورة الأعراف ليس إنشاء لخطاب في عهد الرسالة ، بل حكاية لخطاب سبق منه سبحانه في بدء الخلقة.

ونظير ذلك ما ورد في سورة طه ، حيث يقول فيها سبحانه : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ) ( طه : ١٢١ ـ ١٢٢ ).

( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَىٰ ) ( طه ـ ١٢٣ ).

( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) ( طه ـ ١٢٤ ).

فهاتان الآياتان تتحدان مع ما وردتا في سورة الأعراف معنى ومضموناً ، وإن اختلفتا معهما لفظاً وعبارة ، وبذلك يظهر صدق ما أوضحناه من كون الآيتين في سورة الأعراف قد وردتا حكاية عن خطاب الهي صدر منه بعد خروج آدم من الجنة ، لا خطاب ابتدائي صدر منه سبحانه إلى المسلمين.

ومما يشهد على أنّها من الخطابات الواردة في بدء الخلقة ، أنّه سبحانه يؤاخذ

١٧٥

الخليقة كلها يوم القيامة بنفس هذا الخطاب ويقول : ( يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ) ( الأنعام ـ ١٣٠ ).

فإذا نظرت إلى مضمون الآية ، ترى أنّ مادة الإحتجاج فيها هو عين ما ورد في سورة الأعراف وهذا دليل على أنّ الخطاب في هذه السورة من الخطابات الواردة في بدء الخلقة والله تعالى حكاها في القرآن للنبي الأكرم واُمّته ، فلاحظ.

دحض الشبهة بوجه آخر :

قد جمعنا وبعض البهائيين مجلس في سالف الأيام (١) في مدينة عبادان وسألني عن هذه الآية ودلالتها على مجيء الرسل بعد نبي الإسلام وأنّها تدل على أنّ باب النبوّة لم يوصد ، وكان في المجلس بعض الأعلام.

فقلت : إنّ لفظة « إمّا » مركبة من « إن » و « ما » الزائدة ، وكأنّه سبحانه قال : إن يأتينّكم ... وهو فعل الشرط ، والجزاء قوله : فمن اتقى ، ولكنّها مجردان عن الدلالة على الزمان ( الحال والاستقبال ) ، لأنّ الآية سيقت لبيان أصل الملازمة بين الشرط والجزاء ، غير مقيّد بزمان دون زمان ، بمعنى أنّ سنّة الله جرت على انقاذ من أطاع رسله ، واتقى محارمه ، وأصلح حاله ، وانّ من كان حاله كذا ، فلا خوف عليه ولا حزن ، وهذه عادة الله في الاُمم السالفة والحاضرة والمستقبلة.

وليس الخطاب مقيداً بزمان الحال حتى لا يعم الخطاب الاُمم السالفة ، ويختص بالاُمّة الحاضرة والتالية لها ويدل بالدلالة الالتزامية على مجيء الرسل في مستقبل الأيام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو بيان لحكم قطعي جرت مشيئة الله عليه ، على وجه الاطلاق ، غير مقيّد بزمان.

وإن شئت قلت : إنّ الهدف من الآية ليس الإخبار عن مجيء الرسل بعد رسول

__________________

(١) عام ١٣٧٩ ه‍ ق.

١٧٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلاّ لكان اللازم أن يخرجها عن صورة الشرط ، ويلقيها على وجه الإخبار بل الهدف والذي سيق لأجله الكلام ، هو بيان الملازمة ، وأنّ السنّة جرت عليها في الأدوار كلّها ، من دون أن يكون بصدد الإخبار عن وقوع الشرط في زمان.

وهذا كقول المعلم لتلاميذه : لا صلة ولا قرابة بيني وبين أحد منكم ، من جد في درسه واتقن كتابته وخرج عن عهدة التكاليف الواجبة عليه فهو الناجح ، يعني بذلك أنّ السنّة الجارية في المدرسة والكليات والجامعات هي هذه من غير فرق بين هذا الصف والصف الآخر ، وهذه المدرسة والمدرسة الاُخرى ، وهذا الزمان أو غيره من الأجيال السالفة والتالية.

وأدل دليل على أنّ الآية ليست بصدد الإخبار عن مجيء رسل آخرين غير رسول الله هو استعمال كلمة « إن » الدالة على الشك والترديد في وقوع تاليها ، دون « إذا » الدالة على القطع واليقين ، فلو كان الهدف الإخبار عن مجيئهم لكان له الإخبار عن ذلك بكلمة تدلّ على القطع والجزم ، لأنّ الرسل ومجيئهم من مهمات الاُمور وعظائمها ، فلا يصح الإخبار عنه بهذه الجملة الدالة على الشك والترديد ، إلاّ إذا سيقت الآية لبيان الملازمة فقط ، لا الإخبار عن وقوع الشرط ولذلك ترى أنّه سبحانه يأتي في معرض الدلالة على الاُمور القطعية بعبارة مؤكدة كما في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ) ( سبأ ـ ٣ ).

وقوله سبحانه : ( ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا ) ( النمل ـ ٣٧ ).

وحصيلة البحث أنَّ الآية بصدد بيان أنّ الفلاح والرشاد لمن يقتدي بهدى نبيّه ويقتفي أثره ولا يتخطى الخطوط التي يرسمها له رسوله في معاشه ومعاده سواء أكان الرسول رسول الإسلام أم غيره ، وليست ناظرة إلى بيان مجيء الرسل بعد عصر نزول الآية كما هو مرمى المستدل.

ونظير المقام قوله : ( مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ

١٧٧

وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَىٰ بِاللهِ حَسِيبًا ) ( الأحزاب : ٣٨ ـ ٣٩ ).

فإنّ قوله : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ ) وإن كان بصيغة المضارع ، إلاّ أنّه مجرد عن الدلالة على الحال والاستقبال ، بدليل أنّه صفة لقوله سبحانه : ( الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ) فلو كانت الدلالة على الزمان مقصودة لوجب أن يقال : الذين بلغوا رسالات الله ، تطبيقاً للوصف على الموصوف ، ولما كان المقصود قيام الرسل الذين خلوا من قبل بنفس أمر التبليغ من غير دلالة على زمان القيام واستمراره ، صح توصيفه بالمضارع.

نقل كلام عن العلمين :

ثم إنّي وقفت بعد فترة من الزمان على سؤال وجّهه بعض الأجلّة (١) إلى العلمين الشيخ محمد جواد البلاغي (٢) والسيد هبة الدين الشهرستاني (٣) يسألهما عن تلك الشبهة الضئيلة ، وقد وافاه الجواب منهما ، وبعث السائل السؤال والجواب إلى مجلة العرفان (٤) فنشرهما مدير المجلة على صفحاتها (٥) فراقنا نقل الجوابين على وجه الاجمال ، لكون مضمونهما قريباً مما ذكرناه.

قال العلاّمة البلاغي : لابد من بيان أمرين :

الأوّل : إنّ تلك الطائفة لا يعرفون اللغة العربية وخواصها ، فإنّ الفعل المضارع غير مختص في المحاورات بالاستقبال ، بل يؤتى به منسلخاً عن خصوصيات الزمان للدلالة على الدوام والثبات كقولهم : زيد يكرم الضيف ، ويفك العاني ومن ذلك قول

__________________

(١) العلامة الچرندابي المغفور له كان آية في التتبع ، وله أشواط بعيدة وخدمات ومواقف مشكورة.

(٢) كان علماً من أعلام الاُمّة وفطاحلها ، قد أفنى عمره في الذب عن حريم التوحيد والرسالة ، توفّي عام ١٣٥٢.

(٣) نادرة الزمان ونابغة العراق ، توفّي في ٢٥ من شهر شوال عام ١٣٨٦.

(٤) مجلة علمية أدبية سياسية شيعية ، تصدر في مدينة صيدا ، من لبنان الجنوبي ، أسّسها الشيخ أحمد عارف الزين عام ١٣٢٧ وهي لم تزل تصدر إلى الآن.

(٥) المجلد السادس والثلاثون ص ٧٦٧ ـ ٧٧١.

١٧٨

اليشكري في المعلّقة :

يدهدون الرؤوس كما تدهدى

مزاورة بأبطحها الكرينا

وقوله أيضاً :

علينا البيض واليلب اليماني

وأسباب يقمن وينحنينا

وقوله سبحانه :

( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ) ( سبأ ـ ٣ ).

الثاني : إنّ الجملة الشرطية كثيراً ما تجيء غير ناظرة إلى الزمان ، بل لمجرد ملازمة الجزاء للشرط وترتبه عليه في أي زمان وقع الشرط ، بمعنى أنّه لابد من وقوعه عند وقوع الشرط في أي زمان ، ومنه قول القائل :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشر بالشر عند الله سيان

ومن قوله سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة ٧ ـ ٨ ).

ومنه قول زهير في معلّقته :

ومن لم يصانع في اُمور كثيرة

يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

ومثله قوله الآخر :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

إذا تقرر هذا : فلا خفاء في أنّ حاصل الآية : أنّه مهما آتى بني آدم رسل ، يعني رسل حق ، يأتون بآيات الله ووحيه ويقصّونها في التبليغ ، فمن اتقى حسب ما جاء في الآيات ولم يعص الله بالمخالفة به وأصلح وجعل أعماله صالحة ، فلا خوف عليهم ولا يحزنون.

١٧٩

فجيء بالشرط بصيغة المضارع ، للدلالة على ثبوت الاتيان بتكرره ، بحسب الحكمة ، وأنّ الجزاء لازم لهذا الشرط ، دون نظر إلى الزمان الخاص ، والواقعة الخاصة ، وليس نظره إلى خصوص الزمان الماضي ولا خصوص المستقبل. لكن القرآن الكريم بين أنّ هذا الشرط لا يقع في المستقبل وذلك بقوله سبحانه : ( وَلَٰكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، فكان هذا البيان من المحكمات التي هي اُم الكتاب.

قال العلامة الشهرستاني : « إما » لفظة مركبة من « إن » الشرطية ، و « ما » الكافة عن العمل ، وعليه كفت المضارع عن الجزم ، وقرنته بنون التأكيد الثقيلة وجردته عن الدلالة على زمان خاص بالحال والاستقبال ، كما أنّ الصيغ التالية لها ( فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ ) ، ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا ) تجردت أجمع عن الدلالة الخاصة بالماضي والمفهوم من المجموع قضية طبيعية عامة السير في الاُمم ، وهي توجه رسل الهداية إلى أقوام البشر لغاية الوعظ والانذار بآيات الله وبيّناته.

وإن شئت قلت : انّ الغاية في الآية عبرة الانسان بتاريخ الانسان ، حتى يترك اغتراره بالحال الحاضر ، وهذا لا يكون إلاّ من درس تاريخ السلف ، ولا معنى للعبر بالمستقبل. نعم المعتبرون هم الجيل الحاضر والمستقبل ، ولكن المعتبر به حال السلف والحوادث النافعة ، وأمّا مادة الوعظ ، أي المعتبر به ، هي القصص الماضية ( دون سواها ) ورسلها ورسالاتها وعواقب أمرها ومعرفة مصير المتقين ومصير المكذّبين.

فبأي لفظة من الآية يستدل هؤلاء على صحة الرسالة من بعد محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! أبلفظ « يأتينّكم » وقد تبيّن أنّها تجردت عن اختصاصها بالحال والاستقبال ، كما تجردت لفظة أتقى وأصلح ، عن الاختصاص بالماضي.

أم يستدلون بلفظة « الرسل » وقد تبيّن أنّهم وقصصهم وآياتهم ذكرت في الآية ، لغاية الموعظة والعبرة ، ومثله لابد وأن يكون من الجيل الماضي إذ لا معنى للعبرة من المستقبل.

أم بلفظة « يا بني آدم » وانّه خطاب للجيل الحاضر أو المستقبل ، نعم انّ

١٨٠