قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المقدمة الرابعة

في تعيين ما فتح عنوة من الأرضين :

إعلم ، أن الذي ذكر الأصحاب من ذلك : « مكّة » زادها الله شرفاً ، والعراق والشام وخراسان وبعض الاقطار ببلاد العجم.

وقد تقدّم في بعض الأخبار السابقة أن البحرين من الأنفال. فأما « مكّة » فإنّ للأصحاب في كونها فتحت عنوة أو صلحاً خلافاً ، أشهره إنّها فتحت عنوةً.

قال الشيخ في « المبسوط » (١) :

ظاهر المذهب ( الأصحاب ) أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتح مكّة عنوة بالسيف ، ثمّ آمنهم بعد ذلك ، وإنما لم يقسّم الأرضين والدور لأنها لجميع المسلمين ، كما نقول في كلّ ما يفتح عنوة إذا لم يكن نقله إلى بلد الإسلام ، فإنه يكون للمسلمين قاطبة. ومنَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على رجال من المشركين فأطلقهم.

وعندنا : أنّ للإمام عليه‌السلام أن يفعل ذلك. وكذلك أموالهم ، من عليهم بها.

وقال العلامة في « التذكرة » (٢) :

__________________

(١) حقل : الجهاد / ص ٣٣ / ج ٢.

(٢) حقل : الجهاد / ص ٤٠٨ / ج ١.

٦١

وأمّا أرض مكّة فالظاهر من المذهب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتحها بالسيف ، ثمّ آمنهم بعد ذلك.

وكذا قال في « المنتهى » (١) ونحوه قال في « التحرير » (٢).

وشيخنا في « الدروس » لم يصرّح بشيء.

واحتجّ « العلامة » على ذلك بما رواه الجمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لأهل مكّة :

« ما تروني صانعاً بكم ؟ فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : أقول لكم كما قال أخي يوسف لاخوته : لا تثريب عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ الله لكُم وَهُوَ أرحَم الراحِمين إذهبوا فأنتم الطلقاء ».

ومن طريق الخاصّة : بما رواه الشيخ عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمَّد ابن أبي نصر ، قالا : « ذكرنا له الكوفة » إلى أن قال :

« إنّ أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر ، وإنّ أهل مكّة دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنوة وكان اُسراء في يده فأعتقهم ، وقال : اذهبوا أنتم الطلقاء ».

وأجاب عن حجة القائلين بأنها فتحت صلحاً حيث إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دخلها بأمان : لما ورد في قصّة العبّاس وأبي سفيان. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن » إلا جماعة معينين ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقسم أموالهم ولا أراضيهم :

بأنه على تقدير تسليم ذلك إنّما لم يقسم الأرضين والدور لأنها لجميع المسلمين لا يختصّ بها الغانمون ، على ما تقرر من الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين قاطبة ،

__________________

(١) حقل : الجهاد / ص ٩٣٧.

(٢) حقل : الجهاد / ص ١٤٢ ـ ١٤٣.

٦٢

والأموال والأنفس يجوز أن يمن عليهم بها مراعاة للمصلحة ، لأن للامام عليه‌السلام أن يفعل مثل ذلك.

وهذا قريب من كلام ظاهر « المبسوط ».

وأمّا أرض العراق التي تسمى ب‍ أرض السواد وهي المفتوحة من أرض الفُرس في أيّام الثاني فلا خلاف فيه أنّها فتحت عنوة وإنما سمّيت سواداً لأنّ الجيش لما خرجوا من البادية ورأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سمّوها السواد لذلك. كذا ذكره العلامة رحمه‌الله في « المنتهى » و « التذكرة ».

قال في المبسوط (١) وهذه عبارته :

« وأمّا أرض السواد : فهي المغنومة من الفرس التي فتحها عمر ، وهي سواد العراق ، فلمّا فتحت بعث عمر عمّار بن ياسر أميراً ، وابن مسعود قاضياً وولياً على بيت المال ، وعثمان بن حنيف ماسحاً ، فمسح عثمان الأرض ، واختلفوا في مبلغها ، فقال الساجي (٢) : اثنان وثلاثون ألف جريب ، وقال أبو عبيدة : ستة وثلاثون ألف جريب ، وهي ما بين عبادان وموصل طولاً ، وبين القادسية و حلوان عرضاً. ثمّ ضرب على كلّ جريب نخل ثمانية دراهم ، والرطبة ستة ، والشجرة كذلك ، والحنطة أربعة ، والشعير درهمين. وكتب إلى عمر فأمضاه.

وروي أن ارتفاعها كانت في عهد عمر ، مائة وستين ألف ألف درهم ، فلمّا كان في زمن الحجّاج ، رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف ، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز رجع إلى ثلاثين ألف ألف درهم في أوّل سنة ، وفي السنة الثانية بلغ ستين ألف ألف ، فقال : لو عشت سنة أخرى لرددتها إلى ما كان في أيّام عمر ، فمات في تلك السنة. وكذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام لما أفضى الأمر إليه ، امضى ذلك لأنّه لم يمكنه أن يخالف ويحكم بما عنده.

__________________

(١) حقل : الجهاد / ص ٣٣ ـ ٣٤ / ج ٢.

(٢) الساعي ( ب ).

٦٣

والذي يقتضيه المذهب : أنّ هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فُتحت عنوة يكون خمسها لأهل الخمس ، وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة الغانمين وغير الغانمين في ذلك سواء. ويكون للامام النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء » هذه عبارته بحروفها.

وقال في « المنتهى » (١) وهذه عبارته :

« أرض السواد هي الأرض المفتوحة عنوة من الفرس التي فتحها عمر بن الخطّاب ، وهي سواد العراق. وحدّه في العرض : من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسيّة المتصل بعذيب من أرض العرب ، ومن تخوم الموصل طولاً إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة. فأمّا الغربي الذي تليه البصرة فإنّما هو اسلامي ، مثل شط عثمان بن أبي العاص ». إلى أن قال :

« وهذه الأرض فتحت عنوة ، فتحها عمر بن الخطّاب ، ثمّ بعث إليها بعد فتحه ثلاثة أنفس : عمّار بن ياسر على صلاتهم أميراً ، وابن مسعود قاضياً ، ووالياً على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. وفرض لهم في كلّ يوم شاة ، شطرها مع السواقط لعمار ، وشطرها للآخرين ، وقال : ما أرى قرية يؤخذ منها كلّ يوم شاة إلا سرع في خرابها. ومسح عثمان أرض الخراج ، واختلفوا في مبلغها ، فقال الساجي (٢) : اثنان وثلاثون ألف جريب ، وقال أبو عبيدة : ستة وثلاثون ألف ألف. ثمّ ضرب على كلّ جريب نخل عشرة دراهم ، وعلى الكرم ثمانية دراهم وعلى الحنطة أربعة دراهم ، وعلى الشعير درهمين. ثمّ كتب بذلك إلى عمر فأمضاه. وروي أنّ ارتفاعها كان في عهد عمر مائة وستين ألف ألف درهم ، فلمّا كان في زمان الحجّاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف ، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز » ... ثمّ ساق باقي كلام الشيخ بحروفه ما زاد ولا نقص ، وكذا

__________________

(١) حقل : الجهاد / ص ٩٣٧.

(٢) الساعي ( ب ).

٦٤

أو نحوه صنع في « التذكرة » في باب الجهاد بحروفه.

وأعاد القول بفتح السواد عنوة في باب « إحياء الموات ».

ولم يحضرني وقت كتابة هذه الرسالة هذا الموضع من كتاب « السرائر » لابن إدريس رحمه‌الله لأحكي ما فيه. لكنه في باب ( أحكام الأرضين ) (١) من كتاب الزكاة ذكر : أنّ أرض العراق مفتوحة عنوة ، وذكر في أحكامها قريبا من كلام الأصحاب الذي حكيناه.

وروى الشيخ بإسناده عن مصعب بن يزيد الأنصاري ، وأورده ابن إدريس في « السرائر » ، و « العلامة » في « المنتهى » قال : (٢)

« استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام على أربعة رساتيق : المدائن : البهقباذات ، ونهر سير ، ونهر جوير ، ونهر الملك ، وأمرني أن أضع على كلّ جريب زرع غليظ درهماً ونصفاً ، وعلى كلّ جريب وسط درهماً ، وعلى كلّ جريب زرع رقيق ثلثي درهم ، وعلى كلّ جريب كرم عشرة دراهم. وأمرني أن ألقي على كلّ نخل شاذ عن القرى لمارة الطريق وابن السبيل ولا أخذ منه شيئا. وأمرني أن أضع الدهاقين الذين يركبون البراذين ويتختّمون بالذهب على كلّ رجل منهم ثمانية وأربعين درهماً ، وعلى أوساطهم والتجار منهم على كلّ رجل أربعة وعشرين درهماً ، وعلى سفلتهم وفقرائهم على كلّ إنسان منهم قال : وجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة ».

قال الشيخ :

توظيف الجزية في هذا الخبر لا ينافي ما ذكرناه من أن ذلك منوط بما يراه الإمام عليه‌السلام من المصلحة ، فلا يمنع أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام رأى المصلحة في ذلك الوقت ، ووضع هذا المقدار. وإذا تغيّرت المصلحة إلى

__________________

(١) أنظر / ص ١١١.

(٢) التهذيب / حقل : الخراج / ص ١١٩ ـ ١٢٠ / ج ٤ / ح ٣٤٣.

٦٥

زيادة ونقصان غيّره ، وإنما يكون منافيا لو وضع ذلك عليهم ونفى الزيادة عليه والنقصان عنه في جميع الأحوال ، وليس ذلك في الخبر.

قلت : ومثله القول في توظيف الخراج وأنّه منوط بالمصلحة وعُرف الزمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وهذا التقدير ليس على سبيل التوظيف بل بحسب مصلحة الوقت.

واعلم ، أنّ الذي أوردته من لفظ الحديث هو ما أورده الشيخ في « التهذيب » ولكن وجدت نسخته مختلفة العبارة في ايراد الرساتيق المذكورة ، ففي بعضها « نهر سيريا » و « نهر جوير » ، وفي بعضها نهر « بسر » بالباء الموحّدة ، والسين المهملة المكسورة ، ونهر « جَوين » بالنون والجيم المفتوحة والياء المثناة من تحت بعد الواو المكسورة ، وفي بعضها « جوبر » بالجيم والباء الموحّدة بعد الواو.

وقال ابن إدريس بعد أن أورد الحديث في « السرائر » بعطف البهقباذات على المدائن بالواو :

ونهر ( بسر ) بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة والسين غير المعجمة ، هي : « المدائن ».

والدليل على ذلك أن الراوي قال : استعملني على أربعة رساتيق ، ثمّ عدّد خمسة فذكر المدائن ثمّ ذكر من جملة الخمسة نهر « سير » فعطف على اللفظ دون المعنى ، ثمّ شرع في بيان جواز مثل هذا العطف إلى أن قال :

« فأما البهقباذات فهي ثلاثة : البهقباذ الأعلى وهو ستة طساسيج ، ثمّ ذكر أسماءها ، والبهقباذات الأوسط : أربعة طساسيج ، ثمّ ذكر أسماءها ، والبهقباذ الأوسط : أربعة طساسيج ، وذكر أسماءها ، والبهقباذ الأسفل : خمسة طساسيج ، وصنع مثل ذلك.

والذي وجدته في نسخ « التهذيب » : المدائن البهقباذات بغير واو ، كما وجدته في « المنتهى » حيث أورد الحديث بلفظه.

٦٦

وروى الشيخ في الصحيح عن محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

« سألته عن سيرة الإمام عليه‌السلام في الأرض التي فتحت عنوة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد سار في أهل العراق بسيرة ، فهي إمام لسائر الأرضين » (١).

فإن قلت : أليس قد قال الشيخ في « المبسوط » ما صورته :

« وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كلّ عسكر أو فرقة غزت بغير إذن الإمام عليه‌السلام فغنمت ، تكون الغنيمة للامام خاصّة » (٢) تكون هذه الارضون وغيرها ممّا فتحت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا ما فتح في أيّام أمير المؤمنين عليه‌السلام إنْ صحّ شيء من ذلك يكون للامام خاصّة ، ويكون من جملة الأنفال التي لا يشركه فيها غيره ؟ وهذا الكلام يقتضي أن لا تكون أرض العراق من المفتوح عنوة ؟

قلت : الجواب عن ذلك من وجوه :

الأول : انّ الشيخ رحمه‌الله قال هذه على صورة الحكاية ، وفتواه ما تقدّم في أول الكلام ، مع أن جميع أصحابنا مصرّحون في هذا الباب على ما قاله الشيخ في أوّل كلامه. و « العلامة » في « المنتهى » و « التذكرة » إنّما أورد كلام الشيخ هذا حكاية وإيرادا ، بعد أن أفتى بمثل كلامه الأوّل : حيث قال في أوّل كلامه : « وهذه الأرض فتحت عنوة » ، ولم يتعرض لما ذكره أخيراً بشيء.

الثاني : إن الرواية التي أشار إليها الشيخ ضعيفة الاسناد ، ومرسلة ومثل هذه كيف يحتج به أو يسكن إليه ، مع أن الظاهر من كلامه في « المنتهى » ضعف العمل بها ؟

__________________

(١) التهذيب / حقل : الجزية / ص ١١٨ / ج ٤ / ح ٣٤٠.

(٢) أنظر : حقل الجهاد / ص ٣٤ / ج ٢.

٦٧

الثالث : إنّا لو سلّمنا صحّة الرواية المذكورة ، لم يكن فيها دلالة على أنّ أرض العراق فتحت عنوة بغير إذن إمام عليه‌السلام فقد سمعنا : أنّ عمر استشار أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك. وممّا يدلّ عليه : فعل عمّار ، فإنّه من خلصاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ولولا أمره لما ساغ له الدخول في أمرها.

وممّا يقطع مادة النزاع ، ويدفع السؤال. ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمَّد الحلبي قال :

« سُئِلَ أبو عبدالله عليه‌السلام عن السواد ما منزلته ؟ فقال : هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولمن يُخلِقُ بعد ، فقلنا : الشراء من الدهاقين ؟ قال : لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يُصيّرها للمسلمين » (١) الحديث.

وروى أيضاً عن عبد الرحمان بن الحجّاج قال :

« سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عمّا اختلف فيه ابن أبي ليلى وابن شبرمة في السواد وأرضه ، فقلت إن ابن أبي ليلى قال : إنهم إذا أسلموا أحرار ، ما في أيديهم من أرضهم لهم. وأما ابن شبرمة فزعم أنهم عبيد وأن أرضهم التي بأيديهم ليست لهم. فقال : عليه‌السلام في الأرض ما قال ابن شبرمة ، وقال : في الرجال ما قال ابن أبي ليلى أنّهم إذا أسلموا فهم أحرار (٢).

وهذا قاطع في الدلالة على ما قلناه ، لا سيّما وفتوى الأصحاب وتصريحهم موافق لذلك ، فلا مجال للتردّد.

وأما أرض الشام ، فقد ذكر كونها مفتوحة عنوة بعضُ الأصحاب. وممّن ذكر ذلك « العلامة » في كتاب « إحياء الموات » من « التذكرة » ، لكن لم يذكر أحد حدودها.

__________________

(١) التهذيب / أحكام الأرضين / ص ١٤٦ / ج ٧ / ح ٦٥٢.

(٢) نفس المصدر / ص ١٥٥ / ح ٦٨٤.

٦٨

وأمّا البواقي ، فذكر حكمها القطب الراوندي في شرح « نهاية » الشيخ وأسند إلى « المبسوط » ، وهذه عبارته :

« والظاهر على ما في « مبسوطه » أنّ الأرضين التي هي من أقصى خراسان إلى كرمان وخوزستان وهمدان وقزوين وما حواليها أخُذَتْ بالسيف ».

هذا ما وجدته فيما حضرني من كتب الأصحاب ، والله أعلم بالصواب.

٦٩

المقدمة الخامسة

في تحقيق معنى الخراج وأنه هل يتقدر أم لا :

إعلم ، أنّ الخراج هو : ما يضرب على الأرض كالاُجرة لها ، وفي معناه المقاسمة غير أنّ المقاسمة تكون جزءً من حاصل الزرع ، والخراج مقدار من النقد يضرب عليها. وهذا هو المراد ب‍ القبالة والطسق في كلام الفقهاء.

ومرجع ذلك إلى نظر الإمام حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين عرفاً ، وليس له في نظر الشرع مقدار معيّن لا تجوز الزيادة عليه ، ولا النقصان منه.

ويدلّ على ذلك وجوه.

الأوّل : أنّ الخراج والمقاسمة كالأجرة ، وهي منوطة بالعرف ، متفاوتة بتفاوت الرغبات. إمّا الاُولى فلأنّها في مقابل منافع الأرض ، ولا نريد بمشابهتها للاُجرة إلا ذلك. وأمّا الثانية فظاهرة.

قال العلامة في « المنتهى » (١) في باب قتال البغاة ، في توجيه كلام الشيخ رحمه‌الله حيث قال فيها.

لو ادعى من بيده أرض الخراج عند المطالبة به بعد زوال يد أهل البغي أداءه إلى أهل البغي لم يقبل قولهم.

وجهه : أن الخراج معاوضة لأنّه ثمن أو أجرة فلم يقبل قولهم في أدائه كغيره

__________________

(١) انظر ص ٩٨٩.

٧٠

من المعاوضات.

الثاني : قد سبق في الحديث المروي عن أبي الحسن الأول (١) عليه‌السلام ( و هو الحديث الطويل الذي أخذنا منه موضع الحاجة ) ما يدلّ على ذلك ، حيث قال :

« والأرض التي أخذت عنوة بخيل وركاب فهي موقوفة متروكة في ايدي من يعمرها ويحييها ، على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الخراج ، النصف أو الثلث أو الثلثان ، وعلى قدر ما يكون صالحاً ولا يضربهم الحديث ».

وهذا صريح فيما قلناه ، فإنّ تنويع الخراج إلى النصف والثلث والثلتين وإناطته بالمصلحة بعد ذلك ، صريح في عدم انحصار الأمر في شيء بخصوصه ، ولا أعرفُ لهذا رادّاً من الأصحاب.

الثالث : الاجماع المستفاد من تتّبع كلام من وصل إلينا كلامه من الأصحاب ، وعدم العثور على مخالف ، ولا محكيّاً في كلام المتصدّين لحكاية الخلاف ، مشهوراً ونادراً ، في مطوّلات كتب المحققين ومختصراتهم.

قال الشيخ في « النهاية » (٢) في حكم الأرض المفتوحة عنوة :

« وكان على الإمام أن يقبّلها من يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع ».

وقال في « المبسوط » (٣) في باب حكم الأرضين من كتاب الزكاة في حكم المفتوحة عنوة :

« وعلى الإمام تقبيلها لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث ».

وقال في كتاب ( الجهاد ) منه عند ذكر سواد العراق وغيره ممّا فتحت عنوة :

« يكون للإمام النظر فيها وتقبيلها بما شاء ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في

__________________

(١) انظر : ص ٤٧ ـ ٤٨ من هذه الرسالة.

(٢) حقل : الزكاة / ص ٣١٢ / ج ١.

(٣) حقل : الزكاة / ص ٢٣٥ / ج ١.

٧١

مصالح المسلمين » (١).

وقال ابن إدريس في « السرائر » ـ في حكم المفتوحة عنوة.

« وعلى الإمام أن يقبّلها لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو الرابع أو غير ذلك ».

وقال العلامة في « المنتهى » (٢).

« وهذه الأرض المأخوذة بالسيف عنوة يقبلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف والثلث ».

وقال في « التذكرة » (٣) :

« الأرض المأخوذة بالسيف يقبلها الإمام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث وغيره ».

وقال في « التحرير » (٤) في المفتوحة عنوة :

« ويقبلها الإمام عليه‌السلام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث ».

وقال في « القواعد » (٥) في هذه الباب أيضاً :

« ويُقَبّلها الإمام لمن يراه ، بما يراه حفظاً للمسلمين ، ويصرف حاصلها في مصالحهم ».

وقال في « الإرشاد » :

« ويقبلها الإمام ممّن يراه بما يراه ».

وقال « المقداد » رحمه‌الله في التنقيح ـ ولم يحضرني عند كتابة هذه الرسالة لأحكي عبارته لكن حاصل كلامه فيه على ما أظنّ : أنّ مرجع تعيين الخراج إلى العرف ، فكلّما يليق بالأرض عرفاً جاز ضربه عليها.

__________________

(١) حقل : أحكام الأرضين / ص ١١٠.

(٢) و (٣) و (٤) و (٥) أنظر : ص ٩٣٥ و ٤٢٧ و ١٤٢ و ١٠٦.

٧٢

فإن قلت : قد صرّحتم أن هذا منوط بنظر الإمام عليه‌السلام ورأيه ، فكيف يحلّ بدون ذلك ؟

قلنا : قد نصّ أئمتنا عليهم‌السلام في غير حديث وصرّح أصحابنا كافّة ـ وسنحكي الأحاديث الواردة وعبارات الأصحاب عن قريب إن شاء الله تعالى ـ بحل تناول ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة ووجهه ـ من حيث المعنى واضح لأنّ الخراج حقّ شرعي منوط تقديره بالمصلحة عرفاً وارتباطه بنظر الإمام عليه‌السلام ، فإذا تعدى الجائر في ذلك إلى ما لا يجوز له ، وعمل ما هو منوط بنظر الإمام عليه‌السلام استقلالاً بنفسه ، كان الوزر عليه في ارتكاب ما لا يجوز له ، ولم يكن المأخوذ حراماً ، ولا مظنّة حرام ، لأنّه حقّ شرعي على الزارع ، خارج عن ملكه يستحقّه قوم معلومون. وقد رفع أئمتنا عليهم‌السلام المنع من طرفهم بالنسبة إلينا ، فكيف يحرم ؟

قال في « التذكرة » في كتاب « البيع » (١) :

« ما يأخذه الجائر من الغلات باسم « المقاسمة » ومن الأموال باسم « الخراج » عن حقّ الأرض ، ومن الأنعام باسم « الزكاة » ، يجوز شراؤه واتّهابه ولا يحب إعادته على أصحابه وإن عرفوا ، لأنّ هذا مال لا يملكه الزارع وصاحب الأنعام والأرض ، فإنّه حق الله تعالى : أخذه غير مستحقه ، فبرئت ذمّته وجاز شراؤه ».

والحاصل : إنّ هذا ممّا وردت به النصوص ، وأجمع عليه الأصحاب بل : المسلمون ، فالمنكر له والمنازع فيه مدافع للنصّ منازع للاجماع ، فإذا بلغ معه الكلام إلى هذا المقام ، فالأولى الاقتصار معه على قول : « سلام ».

فإن قلت : فهل يجوز أن يتولّى من له النيابة حال الغيبة ذلك. أعني :

__________________

(١) أنظر : ص ٤٦٥.

٧٣

الفقيه الجامع للشرائط ؟

قلنا : لا نعرف للأصحاب في ذلك تصريحاً ، ولكن مَن جوَّز للفقهاء في حال الغيبة تولي استيفاء الحدود وغير ذلك من توابع منصب الامامة ينبغي تجويزه لهذا بطريق أولى ، لأنّ هذا أقلّ خطراً ، لا سيِّما والمستحقّون لذلك موجودون في كلّ عصر ، إذ ليس هذا الحقّ مقصورا على الغزاة والمجاهدين كما يأتي (١).

ومن تأمّل في كثير من أحوال الكبراء من علمائنا السالفين مثل السيد الشريف المرتضى علم الهدى ، وأعلم المحققين من المتقدّمين والمتأخرين : نَصير الحقّ والدين « الطوسيّ » ، وبحر العلوم مفتي العراق جمال الملة والدين : الحسن بن مطهّر ، وغيرهم رضوان الله عليهم نظر متأمّل منصف لم يعترضه الشك في أنهم كانوا يسلكون هذا المنهج ، ويفتحون هذا السبيل ، وما كانوا ليودعوا بطون كتبهم إلا ما يعتقدون صحته.

__________________

(١) من الواضح أن « النيابة » تتحقق فاعليتها في حالة بسط اليد أيّ : تمكن الفقيه من ممارسة مسؤولية الحكم في تقديره للخراج وصرفه في مصالح المسلمين إلا في حالة افتراض إمكانيّة التخلّص من دفع الخراج إلى الجائر ، وحينئذ ( مع القول بوجوب الدفع ) يصبح موضوع ( الخراج ) مماثلا للزكوات والأخماس : من حيث دفعها إلى « الفقيه » أو الاذن منه ، أو عدمها : أيّ الدفع مباشرة إلى المستحق : أفرادا كانوا أم جهة عامة.

٧٤

المقالة

في حل الخراج في حال حضور الإمام عليه‌السلام وغيبته :

أما حال حضوره عليه‌السلام فلا شك فيه ، وليس للنظر فيه مجال. وقد ذكر أصحابنا في مصرف الخراج : أنّ الأرض جعل الإمام منها أرزاق الغزاة والولاة والحكام وسائر وجوه الولايات.

قال الشيخ في المبسوط (١) في فصل « أقسام الغزاة » :

« ما يحتاج إليه للكراع وآلات الحرب كان ذلك في بيت المال من أموال المصالح ، وكذلك رزق الحكام وولاية الأحداث والصلات وغير ذلك من وجوه الولايات ، فإنّهم يعطون من المصالح ، والمصالح تخرج من ارتفاع الأراضي المفتوحة عنوة ».

وكذا قال العلامة حاكياً عن الشيخ كلامه ، فلا حاجة إلى التطويل.

وهذا واضح جلي وليس المقصود بالنظر.

وأما في حال الغيبة : فهو موضع الكلام ومطمح النظر ، ولو تأمل المنصف لوجد الأمر فيه أيضاً بيّناً جليّاً ، فإنّ هذا النوع من المال مصرفه ما ذكر ، ليس للامام عليه‌السلام قليل ولا كثير. وهذه المصارف التي عددناها لم تتعطل كلها في حال الغيبة وإن تعطل بعضها.

__________________

(١) أنظر : ص ٧٤ ٧٥ / ج ٢.

٧٥

وكون ضرب الخراج وتقبيل الأرضين وأخذه وصرفه موكولاً إلى نظره عليه‌السلام لا يقتضي تحريمه حال الغيبة لبقاء الحقّ ووجود المستحق ، مع تظافر الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام وتطابق كلام أجلة الأصحاب ومتقدّمي السلف ومتأخريهم بالترخيص لشيعة أهل البيت عليهم‌السلام في تناول ذلك حال الغيبة بأمر الجائر.

فإذا انضمّ إلى هذا كله أمر من له النيابة حال الغيبة ، كان حقيقا باندفاع الأوهام واضمحلال الشكوك.

ولنا في الدلالة على ما قلناه مسلكان :

الأول : في الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك ، وهي كثيرة :

فمنها : ما رواه الشيخ رحمه‌الله عن أبي بكر الحضرمي قال :

« دخلت على أبي عبدالله عليه‌السلام وعنده إسماعيل ابنه ، فقال : ما يمنع ابن أبي سماك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطي الناس ؟ قال ثمّ قال لي : لم تركت عطاءك ؟ قال ، قلت : مخافة على ديني. قال : ما متع ابن أبي سماك أن يبعث إليك بعطائك ، أما علم أن لك في بيت المال نصيباً ؟ (١).

قلت : هذا الخبر نصّ في الباب ، فإنّه عليه‌السلام بين للسائل حيث قال : إنّه ترك أخذ العطاء للخوف على دينه أنّه لا خوف عليه ، فإنّه إنّما يأخذ حقّه ، حيث أنّه يستحقّ في بيت المال نصيباً.

وقد تقرّر في الأصول تعدي الحكم بالعلّة المنصوصة.

ومنها : ما رواه أيضاً في الصحيح عن عبد الرحمان الحجّاج قال :

__________________

(١) التهذيب / حقل : المكاسب / ص ٣٣٦ ـ ٣٣٧ / ج ٦ / ح ٩٣٣.

٧٦

« قال لي أبو الحسن الأول عليه‌السلام مالك لا تدخل مع عليّ في شراء الطعام انّي أظنّك ضيّقا ؟ قال ، قلت : نعم ، فإن شئت وسّعت عليّ ، قال : اشتره » (١).

وقد احتجّ به العلامة في التذكرة على تناول ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة.

ومنها : ما رواه أيضاً عن أبي المعزا قال :

« سألَ رجل أبا عبدالله عليه‌السلام وأنا عنده فقال : أصلحك الله ، أمرّ بالعامل فيجيزني بالدراهم ، آخذها ؟ قال : نعم ، قلت : وأحجّ بها ؟ قال : نعم » (٢).

ومثل هذا من عدة طرق اُخرى.

ومنها : ما رواه أيضاً في الصحيح عن جميل بن صالح ، قال :

« أرادوا بيع تمر عين أبي زياد ، فأردت أن اشتريه ، فقلت حتى استأذن أبا عبدالله عليه‌السلام فأمرت مصادفا فسأله. قال : فقال : قل له يشتره ، فإن لم يشتره اشتراه غيره » (٣).

قلت : وقد احتجّ بهذا الحديث لحل ذلك « العلامة » وصحّحه. لكن ، قد يُسأل عن قوله : « فإن لم يشتره اشتراه غيره » ، فإن شراء الناس للشيء لامد خليّة له في صيرورته حلالاً على تقدير أن يكون حراما ، فأي مناسبة له ليعلّل به ؟

ولا يبعد أن يكون ذلك إشارة منه عليه‌السلام إلى معنى لطيف وهو :

أنّ كلّ من له دخل في قيام دولة الجور ونفوذ أوامرها وقوة شوكتها وضعف دولة العدل يحرم عليه هذا النوع ونحوه بشراء وغيره ، بخلاف ما لم يكن كذلك ،

__________________

(١) التهذيب / ص ٣٣٦ / ح ٩٣٢.

(٢) نفس المصدر / ص ٣٣٨ / ح ٩٤٢.

(٣) نفس المصدر / ص ٣٧٥ / ح ١٠٩٢.

٧٧

فإنّ عدم دخوله في شراء هذا كدخوله في أنّه : لا يتعطّل أمر دولة الجور أو يتناقض ، بل رواجها بحاله. فأشار عليه‌السلام بقوله : « إن لم يشتره اشتراه غيره » إلى أنّه لا مانع له من الشراء أو لا دخل له في دولة الجور بتقوية ولا غيره. فإن لم يشتره لم يتفاوت الحال بل يشتريه غيره.

ومنها : ما رواه أيضاً عن إسحاق بن عمّار قال :

« سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ؟! قال : يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظُلِمَ فيه أحد ».

وهذا الحديث نقلته عن « المنتهى » هكذا ، وظني أنّه نقله من « التهذيب » (١). وبمعناه أحاديث كثيرة.

ومنها : ما رواه أيضاً في الصحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

« سألته عن الرجل يشتري من السلطان من إبل الصدَقة وغنمها وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم ، قال عليه‌السلام : ما الإبل والغنم إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه. قلت له : فما ترى من أغنامنا ـ في متصدّق يجيئنا فيأخذ صدقات أغنامنا نقول بعناها ، فيبيعناها ، فما ترى في شرائها منه ؟ قال : إن كان أخذها وعزلها فلا بأس. قلت له : فما ترى في الحنطة والشعير ، يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظّنا فيأخذ حنطة فيعزل بكيل ، فما ترى في شراء ذلك الطعام له ؟ فقال : إذا كان قد قبضه بكيل وأنتم حضور ، فلا بأس بشرائه منه بغير كيل » (٢).

ومنها : ما رواه الشيخ أيضاً بإسناده عن يحيى بن أبي العلا عن أبي عبدالله عليه‌السلام عن أبيه :

__________________

(١) أنظر : حقل المكاسب / ص ٣٧٥ / ج ٦ / ح ١٠٩٣.

(٢) نفس المصدر / ص ٣٧٥ / ح ١٠٩٤.

٧٨

« إنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام كانا يقبلان جوائز معاوية » (١).

قلت : قد علم أن موضع الشبهة حقيق بالاجتناب ، والامام عليه‌السلام لا يواقعها ، وما كان قبولهما عليهما السلام لجوائزه إلا ما لهما من الحقّ في بيت المال مع أنّ تصَرَّف معاوية عليه غضب الله وسخطه كان بغير رضاً منهما عليهما‌السلام. فتناولهما حقّهما عليهما‌السلام المرتب على تصرّفه دليلٌ على جواز ذلك لذوي الحقوق في بيت المال من المؤمنين ، نظراً إلى التأسّي.

وقد نبّه « شيخنا » في « الدروس » (٢) على هذا المعنى وفرّق بين الجائزة من الظالم وبين أخذ الحقّ الثابت في بيت المال أصالة. فإنّ ترك قبول الأول أفضل ، بخلاف الثاني.

ومثل هذه الأخبار كثير لمن تتبع ولسنا بصدد ذلك ، فإن في هذا غنية في الدلالة على المطلوب في تتّبع ما سواها.

وكونُ بعضها قد يعتري بعض رجال أسناده طعن أو جهالة ، غيرُ قادحٍ في شيء منها بوجه من الوجوه ، على أنّ أسانيد كثيرة منها صحيحة ، كما قدّمناه. ومع ذلك فإن الأصحاب كلهم أوجلّهم قد أفتوا بمضمونها في كتبهم وعملوا به ، فيما بلغنا عنهم.

والخبر الضعيف الاسناد إذا انجبر الخبر بقول الأصحاب وعملهم ارتقى إلى مرتبة الصحاح وانتظم في سلك الحجج ، واُلحِقَ بالمشهور.

فإن قيل : هنا سؤالان.

الأول : إنّ هذه الأخبار تضمّنت حلّ الشراء خاصّة ، فمن أين ثبت حلّ التناول مُطلقاً ؟

الثاني : هذه الأخبار إنّما دلّت على جواز التناول من الجائر بعد استيلائه وأخذه

__________________

(١) التهذيب / ج ٦ ص ٣٧٧ / ح ٩٣٥.

(٢) أنظر : ص ٢٢٩ من الكتاب المذكور.

٧٩

فمن أين ثبت حل الاستيلاء والأخذ كما يفعله الجائر؟

قلنا : الجواب عن الأول ، أن حل الشراء كافٍ في ثبوت المطلوب ، لأنّ حلّ الشراء يستلزم حلّ جميع أسباب النقل ، كالصلح والهبة ، لعدم الفرق ، بل الحكم بجواز غير الشراء على ذلك التقدير بطريق أولى لأنّ شروط صحّة الشراء أكثر. وقد صرّح الأصحاب بذلك ، بل يستلزم جواز قبول هبته وهو في يد وليّ المال والحوالة به ، لما عرفتَ من أنّ ذلك غير مملوك له ، بل إنّما هو حقّ تسلّط على تصرّف الغير فيه غير مَن له أهليّة التصرّف.

وقد سوغ أئمتنا عليهم‌السلام ابتناء تملكنا له على ذلك التصرّف غير السائغ لأنّ تحريمهمعليهم‌السلام إنّما كان من جهتهم عليهم‌السلام فاغتفروا لشيعتهم ذلك طلباً لزوال المشقة عنهم ، فعليهم من الله التحية والسلام.

وقد صرّح بذلك بعض الأصحاب ، وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأما الجواب عن الثاني ، فلأنّ الأخذ من الجائر والأخذ بأمره سواء.

على أنّه إذا لوحِظَ أنّ المأخوذ حقٌّ ثبت شرعاً ليس فيه وجه تحريم ولا جهة غصب ولا قبح ، حيث أنّ هذا حقّ مفروض على هذه الأراضي المحدث عنها. وكونه منوطاً بنظر الإمام عليه‌السلام انتفى الحظر اللازم بسببه ترخيص الإمام في تناوله من الجائر سقط السؤال بالكلية أصلاً ورأسا.

المسلك الثاني : اتفاق الأصحاب على ذلك. وهذه عبارتهم نحكيها شيئاً فشيئاً من كلامهم بعينه من غير تغيير ، على حسب ما وقع إلينا من مصنفاتهم في وقت كتابة هذه الرسالة.

فمن ذلك : كلام شيخ الطائفة ورئيسها وفقيهها ومعتمدها محمَّد بن الحسن الطوسي في كتاب « المكاسب » من كتاب « النهاية » وهذا لفظه :

« ولا بأس بشراء الأطعمة وسائر الحبوب والغلات على اختلاف أجناسها من

٨٠