قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو غير ذلك. وعلى المتقبّل إخراج مال القبالة الذي هو حقّ الرقبة. وفيما يفضل في يده إذا كان نصاباً إمّا العشر أو نصف العشر.

ولا يصحّ التصرّف في هذه الأرض بالبيع والشراء والوقف وغير ذلك.

وللإمام عليه‌السلام أن ينقلها من متقبل إلى آخر ، إذا انقضت مدّة القبالة أو اقتضت المصلحة ذلك. وله التصرّف فيها بحسب ما يراه الإمام عليه‌السلام من المصلحة للمسلمين.

وانتفاع الأرض يُصرف إلى المسلمين وإلى مصالحهم ، وليسَ للمقاتلة فيه إلا مثل ما لغيرهم من النصيب في الارتفاع.

وثانيها : أرض مَن أسلم أهلُها عليها طوعاً من غير قتال.

وحكمها أن تترك في أيديهم ملكاً لهم يتصرفون فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع التصرّف ، إذا قاموا بعمارتها.

ويؤخذ منهم العشر أو نصفه زكاةً بالشرائط.

فإن تركوا عمارتها وتركوها خراباً كانت للمسلمين قاطبة ، وجاز للإمام عليه‌السلام أن يقبّلها ممّن يعمّرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع ونحو ذلك.

وعلى المتقبّل بعد إخراج حقّ القبالة ، ومؤونة الأرض ، مع وجود النصاب العشر أو نصفه. وللإمام عليه‌السلام أن يعطي أربابها حقّ الرقبة من القبالة ، على المشهور.

أفتى به الشيخ رحمه‌الله في المبسوط (١) والنهاية (٢) ، وأبو الصلاح (٣) وهو الظاهر

__________________

(١) أنظر : حقل الزكاة ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥ / ج ١ / المكتبة الرضوية.

(٢) أنظر : حقل الزكاة / ص ٢٠١ ـ ٢٠٢ / ج ١ / الطبعة المترجمة.

(٣) نقلا عن المختلف / حقل الزكاة / ص ٢٣٢.

٤١

من عبارة المحقّق نجم الدين في الشرائع (١) ، واختاره العلامة في المنتهى (٢) و التذكرة (٣) والتحرير (٤).

وابن حمزة (٥) وابن البراج ذهبا إلى إنّها تصير للمسلمين قاطبة وأمرها إلى الإمام عليه‌السلام. وكلام شيخنا في الدروس (٦) قريب من كلامهما فإنه قال : « يقبّلها الإمام عليه‌السلام بما يراه ويصرفه في مصالح المسلمين ».

وابن إدريس (٧) منع من ذلك كله ، وقال : « إنّها باقية على ملك الأول ، ولا يجوز التصرّف فيها إلا بإذنه ». وهو متروك.

احتج الشيخ بما رواه صفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر (٨) ، قال : « ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته ، فقال : من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ممّا سقت السماء والأنهار ، ونصف العشر ممّا كان بالرُشا فيما عمروه منها ، وما لم يعمروه منها أخذه الإمام عليه‌السلام فقبّله ممّن يعمّره ، وكان للمسلمين ، وعلى المتقبّلين في حصصهم العشر أو نصف العشر » (٩).

وفي الصحيح عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر ، قال : « ذكرتُ لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام الخراج وما سار به أهل بيته ، فقال : العشر ونصف العشر على من أسلم تطوّعاً تركت أرضه في يده ، وأخذ منه العشر أو نصف العشر فيما عمّر منها ، وما لم يعمّر أخذه الوالي فقبله ممّن يعمره وكان للمسلمين ، وليس

__________________

(١) أنظر : حقل الجهاد / ص ٣٢٢ / ج ١.

(٢) أنظر : حقل الجهاد / ص ٩٣٥ / ج ٢.

(٣) أنظر : حقل الجهاد / ص ٤٢٧ / ج ١.

(٤) أنظر : حقل الجهاد / ص ١٤٢.

(٥) أنظر : « الوسيلة » / حقل الجهاد / ص ٧١٧ / « الجوامع الفقهيّة ».

(٦) نقلا عن « المختلف » / ص ٣٣٢.

(٧) أنظر : حقل الجهاد / ص ١٦٣ / منشورات صادقي.

(٨) أنظر : « السرائر » حقل : أحكام الأرضين ص ١١٠.

(٩) التهذيب / حقل الخراج / ص ١١٨ ١١٩ / ج ٤ / منشورات دار الكتب الاسلامية / ح ٣٤١.

٤٢

فيما كان أقلّ من خمسة أوساق شيء. وما أخذ بالسيف فذلك للامام عليه‌السلام يقبّله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخيبر » (١).

واعترض في المختلف (٢) بأنّ السؤال وقع عن أرض الخراج ولا نزاع فيه ، بل النزاع في أرض من أسلم أهلها عليها. ثمّ أجاب ب‍ : أنّ الجواب وقع أوّلاً عن أرض من أسلم أهلها عليها ، ثمّ أنّه عليه‌السلام أجاب عن أرض العنوة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ العلامة في المختلف احتجّ بهاتين الروايتين على مختار الشيخ والجماعة ، وهما في الدلالة على مختار ابن حمزة وابن البراج أظهر.

ثم احتجّ لهما برواية (٣) لا تدلّ على مطلوبهما (٤) بل ولا تلتئم مع مقالتهما ، وليس لنا في بيان ذلك كثير فائدة. نعم ، بمقتضى الروايتين : المتّجه ما ذهبا إليه.

وثالثها : أرض الصلح ، وهي : كلّ أرض صالح أهلها عليها.

وهي أرض الجزية ، فيلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه‌السلام عليه من

__________________

(١) التهذيب / حقل الخراج / ص ١١٩ / ص ٢٤٢ ج ٤.

(٢) أنظر : حقل الجهاد / ص ٢٢٢.

(٣) وهي رواية معاوية بن عمّار : « سمعت أبا عبدالله ٧ يقول : أيما رجل أتى خربة فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها ، فإنّ عليه فيها الصدقة ، فإن كانت أرضاً لرجل قبّله فغاب عنها وتركها وأخر بها ثمّ جاء بعد يطلبها ، فإنّ الأرض لله ... ».

(٤) يبدو أن كلا من العلامة وناقده « المؤلّف » وقع في نفس التشوش الذي طبع منهجهما الاستدلالي.

فالمؤلف احتجّ للطوسي بنفس الروايتين اللتين احتجّ العلامة بهما لوجهة نظره ووجهة نظر الطوسي وأبي الصلاح ، فيما ذهبوا جميعاً إلى أن الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعاً : إذا تركوا عمارتها يقبّلها الإمام من يعمّرها ويعطي صاحبها طسقها في حين أن الروايتين لم تتعرّضا للطسق الذي يمنحه الإمام لصاحب الأرض التي تركها.

علماً بأنّ ثمة رواية ثالثة استشهد بها العلامة ردّاً على مختاري ابن حمزة وابن البراج ، جاء فيها « قلت : فإن كان يعرف صاحبها ؟ قال : فليؤد إليه حقّه » ، فيما يمكن أن تشكل مستنداً لوجهة النظر القائلة بالطسق ، مع ملاحظة أنّ الاجابة كانت مطلقة ، تتحدّث عن الرجل الذي يواجه أرضاً خربة ذات مالك ، دون أن تتحدّث عن القبالة أو نمط المالك ، ولكنّها قد تصلح قيداً للنصوص المطلقة التي تنفي أحقية المُحيي الأول ، بغضّ النظر عن سببية إحيائه : بأن كانت ممّن أسلم أهلها عليها طوعاً وتركها ، أو تملكها بأخذ أسباب الملك من بيع أو إرث أو هبة.

٤٣

نصفٍ أو ثلث أو ربع أو غير ذلك ، وليس عليهم شيء سواه.

فإذا أسلم أربابها ، كان حكم أرضهم حكم أرض من أسلم طوعاً ابتداء ، ويسقط عنهم الصلح لأنّه جزية.

ويصحّ لأربابها التصرّف فيها بالبيع والشراء والهبة وغير ذلك.

وللإمام عليه‌السلام أن يزيد وينقص ما يصالحهم عليه بعد انقضاء مدّة الصلح حسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها.

ولو باعها المالك من مسلم : صح ، وانتقل ما عليها إلى رقبة البائع وهذا إذا صولحوا على أن الأرض لهم.

أمّا لو صولحوا على أن الأرض للمسلمين وعلى أعناقهم الجزية كان حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوة ، عامرها للمسلمين ومواتها للامام ـ عليه‌السلام.

ورابعها

أرض الأنفال ، وهي : كلّ أرض انجلى أهلها عنها وتركوها ، أو كانت مواتاً لغير مالك فأحييت ، أو كانت آجاماً وغيرها ممّا لا يزرع فاستحدثت مزارع ، فإنّها للامام عليه‌السلام خاصّة لا نصيب لأحد معه فيها ، وله التصرّف فيها بالبيع والشراء والهبة والقبض ، حسب ما يراه ، وكان له أن يقبلها بما يراه من نصف أو ثلث أو ربع ويجوز له نزعها من يد متقبلها إذا انقضت مدّة القبالة ، إلا ما أحييت بعد موتها ، فإن من أحياها أولى بالتصرّف فيها إذا تقبلها بما يتقبّلها غيره ، فإن أبى كان للامام نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه ، وعلى المتقبّل بعد إخراج مال القبالة فيما يحصل : العشر أو نصفه.

مسائل

الاُولى : تقسيم الأرضين إلى هذه الأقسام الأربعة بعينه موجود في كلام

٤٤

الشيخ في المبسوط والنهاية ، بل تكاد عبارته تطابق العبارة المذكورة هنا. والظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في ذلك. فقد ذكره كذلك جماعة من المتأخّرين كابن إدريس ، والمحقّق ابن سعيد ، والعلامة في مطولاته « كالمنتهى » و « التذكرة » ، ومتوسّطاته « كالتحرير » ، ومختصراته « كالقواعد » و « الإرشاد » وكذا شيخنا الشهيد في « الدروس ».

الثانية : قال الشيخ (١) : « كلّ موضع أوجَبْنا فيه العشر أو نصف العشر من أقسام الأرضين إذا أخرج الانسان مؤونته ومؤونة عياله لسنته ـ وجب عليه فيما بقي بعد ذلك الخمس لأهله » وهو متجه.

الثالثة : ما يؤخذ من هذه الأراضي : إمّا مقاسمة بالحصة ، أو ضريبة تسمّى ( الخراج ) ، يُصرف لمن له رقبة تلك الأرض.

فما كان من المفتوح عنوة فمصرفه للمسلمين قاطبةً. وكذا ما يؤخذ من أرض الصلح أعني « الجزية ».

وما يؤخذ ممّا أسلم أهلها عليها إذا تركوا عمارتها : على ما سبق (٢).

وما كان من أرض الأنفال : فهو للامام عليه‌السلام وسيأتي تفصيل بعض ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أنظر : المبسوط / حقل الزكاة / ص ٢٢٦ / ج ١.

(٢) أيّ : للامام أن يقبّلها شخصاً آخر ، ولكن على أن يعطي أربابها حقّ الرقبة.

٤٥

المقدمة الثانية

في حكم المفتوح عنوة :

أعني المأخوذ بالسيف قهراً لأن فيه معنى الإذلال ، ومنه قوله تعالى : ( وَ عَنَتِ الوجوهُ للحيِّ القيّوم ) أيّ : ذلّت.

وفيه مسائل

الأولى : قد قدّمنا أنّ هذه الأرض للمسلمين قاطبةً ، لا يختصّ بها المقاتلة ، لكن إذا كانت محياة وقت الفتح. ولا يصحّ بيعها والحالة هذه ولا وقفها ولا هبتها ، بل يصرف الإمام عليه‌السلام حاصلها في مصالح المسلمين مثل : سدّ الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر ، ويخرج منها أرزاق القضاة والولاة وصاحب الديون وغير ذلك من مصالح المسلمين.

ذهب إلى ذلك أصحابنا كافةً.

قال الشيخ في « المبسوط » (١) عند ما ذكر هذا القسم من الأرضين :

« ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمنها بما شاء ، ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما ينوبهم : من سد الثغور ومعونة المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من مصالح المسلمين ، وليس للغانمين في هذه الأرض خصوصاً شيء ، بل هم والمسلمون سواء ، ولا يصحّ بيع شيء من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجارته ولا إرثه. ولا يصحّ

__________________

(١) أنظر : المبسوط / حقل الجهاد / ص ٣٤ / ج ٢.

٤٦

أن يبني دوراً ولا منازل ولا مساجد وسقايات ، ولا غير ذلك من أنواع التصرّف الذي يتبع الملك. ومتى فعل شيئاً من ذلك كان التصرّف باطلاً ، وهو باق على الأصل ».

هذا كلامه رحمه‌الله بحروفه. وكلامه في النهاية قريب من ذلك ، وكذا كلام ابن إدريس في السرائر.

والذي وقفنا عليه من كلام المتأخّرين عن زمان الشيخ رحمه‌الله غير مخالف لشيء من ذلك. فهذا العلامة في كتابه منتهى المطلب وتذكرة الفقهاء والتحرير مصرح بذلك.

قال في « المنتهى » (١) : « قد بيّنا أنّ الأرض المأخوذة عنوة لا يختصّ بها الغانمون بل هي للمسلمين قاطبة إن كانت محياة وقت الفتح ، ولا يصحّ بيعها ولا هبتها ولا وقفها ، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل : سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر ، ويخرج منها أرزاق القضاة والولاة وصاحب الدين وغير ذلك من مصالح المسلمين ».

وقد تكرّر في كلامه نحو هذا : قبل وبعد ، وكذا قال في التذكرة والتحرير ، فلا حاجة إلى التطويل بايراد عبارته فيهما.

وقد روى الشيخ في التهذيب عن حماد بن عيسى ، قال :

« رواه بعض أصحابنا عن العبد الصالح أبي الحسن الأول عليه‌السلام في حديث طويل ، أخذنا منه موضع الحاجة قال : « وليس لمن قاتل شيء من الأرضين وما غلبوا عليه إلا ما احتوى العسكر ». إلى أن قال :

« والأرض التي أخذت عنوة بخيل وركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمّرها ويحييها ، ويقوم عليها على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من

__________________

(١) أنظر : حقل الجهاد / ص ٩٢٦.

٤٧

الخراج : النصف أو الثلث أو الثلثان ، وعلى قدر ما يكون لهم صالحاً ولا يضربهم ، فإذا خرج منها نماءٌ بداءً ، فأخرج منه العشر من الجميع ممّا سقت السماء أو سقي سيحاً ، ونصف العشر ممّا سُقي بالدوالي والنواضح ، فأخذه الوالي فوجهه في الوجه الذي وجهه الله تعالى له » إلى أن قال : « ويؤخذ بعد ما بقي من العشر ، فيقسّم بين الوالي وبين شركائه الذين هم عمال الأرض وأكرتها ، فيدفع إليهم أنصباءهم على قدر ما صالحهم عليه ، ويأخذ الباقي ، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين الله ، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة ، ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير. وله بعد الخمس الأنفال.

والأنفال : كلّ أرض خربة قد باد أهلها ، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ولكن صولحوا عليها وأعطوا بأيديهم من غير قتال. وله رؤوس الجبال ، وبطون الأودية ، والآجام ، وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها. وله صوافي الملوك ممّا كان في أبديهم من غير وجه الغصب ، لأنّ الغصب كلّه مردود. وهو وارث من لا وارث له » (١) الحديث بتمامه.

وهذا الحديث وإن كان من المراسيل إلا أنّ الأصحاب تلقّوه بالقبول ، ولم نجد له رادّاً ، وقد علموا بمضمونه. واحتجّ به على ما تضمّن من مسائل هذا الباب العلامة في المنتهى. وما هذا شأنه فهو حجّة بين الأصحاب ، فإنّ ما فيه من الضعف ينجبر بهذا القدر من الشهرة.

بقي شيء واحد وهو : أنّه تضمّن وجوب الزكاة قبل حقّ الأرض ، وبعد ذلك يؤخذ حقّ الأرض. والمشهور بين الأصحاب أنّ الزكاة بعد المؤن. نعم ، هو قول الشيخ رحمه‌الله.

__________________

(١) أنظر : حقل الخمس من التهذيب ، ص ١٢٨ ١٣٠ / ج ٤ / ح ٣٦٦.

٤٨

وروى الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمَّد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال :

« ما أخذ بالسيف فذلك للامام عليه‌السلام ـ يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخيبر ، قبل أرضها ونخلها ، والناس يقولون لا تصحّ قبالة الأرض والنخل ، إذا كان البياض أكثر من السواد ، وقد قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خيبر (١).

وفي معناه : ما رواه أيضاً مقطوعا عن صفوان بن يحيى وأحمد بن أبي نصر (٢).

الثانية : موات هذه الأرض أعني المفتوحة عنوة وهو ما كان في وقت الفتح مواتاً للإمام عليه‌السلام خاصّة (٣) لا يجوز لأحد إحياؤه إلا بإذنه إن كان ظاهراً.

ولو تصرّف فيها متصرف بغير إذنه كان عليه طسقها. وحالة الغيبة : يملكها المحيي من غير إذن.

ويرشد إلى بعض هذه الأحكام ما أوردناه في الحديث السابق عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام ـ (٤). وأدل منه ما رواه الشيخ في الصحيح عن عمر بن يزيد : « أنّه سمع رجلاً يسأل الصادق عليه‌السلام عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها فعمرها وأكرى أنهارها وبنى فيها بيوتاً وغرس فيها نخلاً وشجراً ، قال : فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام من أهل بيتي ، فإذا ظهر القائم عليه‌السلام فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه » (٥).

__________________

(١) التهذيب : حقل الخراج / ص ١١٩ / ج ٤ / ح ٣٤٢.

(٢) نفس المصدر / ص ١١٨ / ١١٩ / ح ٣٤١.

(٣) بصفة إنّها من « الأنفال » فتخرج عن عموم الأرض المفتوحة عنوة.

(٤) مثل قوله ٧ ( وله : بعد الخمس الأنفال. والأنفال : كلّ أرض خربة باد أهلها ) و ( كلّ أرض ميتة لا ربّ لها ) وانظر ص ٤٧ من هذا الكتاب.

(٥) التهذيب / حقل الزيادات من الأنفال / ص ١٤٥ / ج ٤ / ح ٤٠٤.

٤٩

وروى الشيخ عن محمَّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى ، فقال : ليس به بأس » إلى أن قال : « وأي قوم أحيوا شيئاً من الأرض وعمروها فهم أحقّ بها وهي لهم » (١).

الثالثة : قال الشيخ في النهاية والمبسوط ، وكافة الأصحاب : لا يجوز بيع هذه ولا هبتها ولا وقفها ـ كما حكيناه سابقا عنهم لأنها أرض المسلمين قاطبةً ، فلا يختصّ بها أحد على وجه التملك لرقبة الأرض ، إنّما يجوز له التصرّف فيها ، ويؤدي حقّ القبالة إلى الإمام عليه‌السلام ، ويخرج الزكاة مع اجتماع الشرائط. فإذا تصرف فيها أحد بالبناء والغرس صحّ بيعها ، على معنى : أنّه يبيع ماله من الآثار وحق الاختصاص بالتصرّف لا الرقبة ذاتها لأنها ملك المسلمين قاطبة.

روى الشيخ عن صفوان بن يحيى عن أبي بردة بن رجاء ، قال :

« قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : كيف ترى في شراء أرض الخراج ؟ قال : ومن يبيع ذلك وهي أرض للمسلمين ؟! قال : قلت : يبيعها الذي هي في يديه ؟ قال : ويصنع بخراج المسلمين ماذا ؟ ثمّ قال : لا بأس ، يشتري حقه منها ويحول حقّ المسلمين عليه ، ولعله يكون أقوى عليها وأملك بخراجها منه » (٢).

وهذا صريح في جواز بيع حقه ، أعني آثار التصرّف ، ومنع بيع رقبة الأرض. ولا نعرف أحدا من الأصحاب يخالف مضمون الحديث.

وعن محمَّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى ، فقال : ليس به بأس ، قد ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أهل خيبر ، فخارجهم على أن يتركَ الأرضَ بأيديهم يعملونها ويعمرونها فلا أرى به بأساً لو أنّك اشتريت منها » (٣) الحديث.

وهذا يُراد به ما اُريد بالأول من بيع حقه منها ، إذ قد صرّح أوّلاً بأنّها ليست

__________________

(١) التهذيب / حقل الأنفال / ص ١٤٦ / ج ٤ / ح ٤٠٧.

(٢) نفس المصدر / ح ٤٠٦.

(٣) نفس المصدر / ح ٤٠٧.

٥٠

ملكاً لهم ، وإنما خارجهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يتصور منهم بيع الرقبة والحالة هذه ؟

وقريب من ذلك ما روى حسناً عن حريز عن أبي عبدالله عليه‌السلام ـ قال :

« سمعته يقول رفع إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام رجل مسلم اشترى أرضاً من أراضي الخراج ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : له مالنا ، وعليه ما علينا ، مسلماً أو كافراً ، له ما لأهل الله وعليه ما عليهم » (١).

وهذا في الدلالة كالأوّل.

وعن حريز عن محمَّد بن مسلم وعمر بن حنظلة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال :

« سألته عن ذلك ، فقال : لا بأس بشرائها ، فإنها إذا كانت بمنزلة ما في أيديهم يؤدّي عنها » (٢).

وأولى من ذلك ما رواه محمَّد الحلبي في الصحيح عن أبي عبدالله عليه‌السلام وقد سأله عن السواد ما منزلته ؟ فقال :

« هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ولم يُخلَق بعد.

فقلنا : الشراء من الدهاقين ؟ قال : لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين ، فإن شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها. قلنا : فإن أخذها منه؟ قال : يردّ إليه رأس ماله ، وله ما أكل من علّتها بما عمل » (٣).

وفي التذكرة رواه هكذا ، قال : ( يود ) بالواو بدل الراء من الوداء مجزوماً

__________________

(١) التهذيب : ج ٤ / ص ١٤٧ ح ٤١١.

(٢) نفس المصدر / ص ١٤٧ / ح ٤٠٨.

(٣) نفس المصدر ، حقل : في أحكام الأرضين / ص ١٤٧ / ج ٧ / ح ٦٥٢.

٥١

لأنّهُ أمر للغائب محذوف اللام. وما أوردناه أولى.

فإن قلت : إذا جوّزتم البيع ونحوه تبعاً لآثار التصرّف ، فكيف يجوز لوليّ الأمر أخذها من المشتري ، وكيف يردّ رأس ماله ، مع أنّه قد أخذ عوضه ، أعني تلك الآثار ؟

قلتُ : لا ريب أنّ وليّ الأمر له أن ينتزع أرض الخراج من يد متقبّلها إذا انقضت مدّة القبالة وإن كان له بها شيء من الآثار فانتزاعها من يدي المشتري أولى بالجواز ، وحينئذٍ فله الرجوع برأس ماله لئلا يفوت الثمن والمثمن. لكنّ الذي يردّ الثمن يحتمل أن يكون هو الإمام عليه‌السلام لانتزاعه ذلك ، ويحتمل أن يكون البائع ، لما في الردّ من الإشعار بسبق الآخذ. وقوله « وله ما أكل » أنّه يريد به المشتري.

وفي معنى هذه الأخبار أخبار اُخر كثيرة ، أعرضنا عنها إيثاراً للاختصار.

تنبيهات

الأول : قد عرفت أن المفتوحة عنوة لا يصحّ بيع شيء منها ولا وقفه ولا هبته.

قال في المبسوط : « ولا يصحّ أن يبني دوراً ولا منازل ولا مساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرّف الذي يتبع الملك ، ومتى فعل شيئاً من ذلك كان التصرّف باطلاً ، وهو باقٍ على الأصل ».

وقد حكينا عبارته قبل ذلك.

وقال ابن إدريس (١) :

« فإن قيل : لما نراكم تبيعون وتشترون وتقفون أرض العراق وقد اُخذت عنوة ؟ قلنا : إنّما نبيع ونقف تصرفنا فيه وتحجيرنا وبناءنا ، فأما نفس الأرض فلا يجوز ذلك فيها ».

__________________

(١) أنظر : السرائر / ص ١١١.

٥٢

قال العلامة في المختلف (١) بعد حكاية ذلك عن ابن إدريس هذا ، وهو يشعر بجواز البناء والتصرّف ، قال :

« وهو أقرب ».

قلت : هذا واضح لا غبار عليه. يدل عليه ما تقدّم من قول الصادق عليه‌السلام « اشتر حقّه منها » ، وأنّه أثر محترم مملوك لم يخرج عن ملك مالكه بشيء من الأسباب الناقلة ، فيكون قابلاً لتعلّق التصرّفات به.

ونحو ذلك قال في التذكرة (٢) في كتاب البيع فإنّه قال :

« لا يصحّ بيع الأرض الخراجيّة لأنها ملك للمسلمين قاطِبة لا يختصّ بها أحد ، نعم يصحّ بيعها تبعاً لآثار المتصرف ».

وكذا قال في القواعد (٣) والتحرير (٤).

ثم نعود إلى كلامه في المختلف فإنه قال فيه في آخر المسألة من كتاب البيع : « ويحمل قول الشيخ على الأرض المحياة دون الموات ».

قلت : هذا مشكل لأنّ المحياة هي التي تتعلّق بها هذه الأحكام المذكورة ، وأمّا الموات : فإنها في حال الغيبة مملوكة للمُحيي ، ومع وجود الإمام ـ عليه‌السلام ـ لا يجوز التصرّف فيها إلا بإذنه ، مع أن الحمل لا يُنافي ما قرّبه من مختار ابن إدريس لأنّ مراده بأرض العراق : المعمورة المحياة التي فيها : لا يجوز بيعها ولا هبتها لأنها أرض الخراج.

نعم : يمكن حمل كلام الشيخ ـ رحمه‌الله ـ على حال وجود الإمام ـ عليه‌السلام ـ وظهوره ، لا مطلقاً.

الثاني : نفوذ هذه التصرفات التي ذكرناها إنّما هو في حال غيبة الإمام ـ عليه

__________________

(١) أنظر / ص ٣٣٣.

(٢) أنظر / ٤٦٥.

(٣) أنظر حقل الجهاد / ص ١٠٦.

(٤) أنظر حقل الجهاد / ١٤٢.

٥٣

السلام ـ إمّا في حالة ظهوره فلا ، لأنّه إنّما يجوز التصرّف فيها بإذنه. وعلى هذا فلا ينفذ شيء من تصرّفات المتصرف فيها استقلالاً.

وقد أرشد إلى هذا الحكم كلام الشيخ في « التهذيب » (١) ، فإنه أورد على نفسه سؤالاً وجواباً محصله مع رعاية ألفاظه بحسب الإمكان أنّه :

« إذا كان الأمر في أموال الناس ما ذكرتم من لزوم الخمس فيها وكذا الغنائم وكان حكم الأرضين ما بنيتم من وجوب اختصاص التصرّف فيها بالأئمة عليهم‌السلام ، إمّا لاختصاصهم بها كالأنفال أو للزوم التصرّف فيها بالتقبيل والتضمين لهم مثل أرض الخراج ، فيجب أن لا يحلّ لكم منكح ، ولا يخلص لكم متجر ، ولا يسوغ لكم مطعم على وجه من الوجوه !

قيل له : إن الأمر وإن كان كما ذكرت من اختصاص الأئمة عليهم‌السلام بالتصرّف في هذه الأشياء ، فإن هنا طريقاً إلى الخلاص.

ثم أورد الأحاديث التي وردت بالإذن للشيعة في حقوقهم عليهم‌السلام حال الغيبة ، ثمّ قال :

إن قال قائل : إنّ ما ذكرتموه إنّما يدلّ على إباحة التصرّف في هذه الأرض ولا يدلّ على صحّة تملكها بالشراء والبيع ، ومع عدم صحتهما لا يصحّ ما يتفرع عليهما !

قيل له : قد قسمنا الأرضين على ثلاثة أقسام. أرض يسلم أهلها عليها فهي ملك لهم يتصرّفون فيها ، وأرض تؤخذ عنوةً أو يُصالح أهلُها عليها فقد أبحنا شراءها وبيعها لأنّ لنا في ذلك قسماً لأنّها أراضي المسلمين ، وهذا القسم أيضاً يصحّ الشراء والبيع فيه على هذا الوجه ، وأما الأنفال وما يجري مجراها فليس يصحّ تملكها بالشراء ، وإنّما اُبيح لنا التصرّف حسب.

__________________

(١) أنظر حقل الأنفال / ص ١٤٢ ١٤٦ / ج ٤ / تعقيبا على حديث ٤٠٥ وما قبله.

٥٤

ثم استدل على حكم أراضي الخراج برواية أبي بردة بن رجاء السالفة ، الدالّة على جواز بيع آثار التصرّف دون رقبة الأرض.

وهذا كلام واضح السبيل ، ووجهه من حيث المعنى أن التصرّف في المفتوحة عنوة إنّما يكون بإذن الإمام عليه‌السلام وقد حصل منهم الإذن لشيعتهم حال الغيبة فتكون آثار تصرفهم محترمة بحيث يمكن ترتب البيع ونحوه عليها.

وعبارة شيخنا في « الدروس » (١) أيضاً ترشد إلى ذلك حيث قال :

« ولا يجوز التصرّف في المفتوح عنوة إلا بإذن الإمام عليه‌السلام ، سواء كان بالبيع أو بالوقف أو غيرهما ، نعم في حالة الغيبة ينفذ ذلك ».

وأطلق في « المبسوط » أن التصرّف فيها لا ينفذ ، أيّ : لم يقيد بحال ظهور الإمام عليه‌السلام أو عدمه. ثمّ قال :

وقال ابن إدريس : « إنّما يباع ويوقف تحجيرنا وبناؤنا وتصرّفنا لا نفس الأرض ».

ومراده بذلك أن ابن إدريس أيضاً أطلق جواز التصرّف في مقابل إطلاق « الشيخ » رحمه‌الله عدم جوازه. والصواب : التقييد بحال الغيبة ، فينفذ ، وعدمه بعدمه ، وهذا ظاهر بحمد الله تعالى.

المقدمة الثالثة

في بيان أرض الأنفال وحكمها :

الأنفال جمع نفل بسكون الفاء وفتحها وهو : الزيادة ومنه : النافلة. والمراد به هنا : كلّ ما يخصّ الإمام عليه‌السلام وقد كانت الأنفال لرسول الله صلى

__________________

(١) أنظر حقل الجهاد / ص ١٦٣.

٥٥

الله عليه وآله في حياته ، وهي بعده للامام القائم مقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وضابطها : كلّ أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، والأرضون الموات ، وتركة من لا وارث له من الأهل والقرابات ، والآجام ، والمفاوز ، وبطون الأودية ، ورؤوس الجبال ، وقطائع الملوك.

وقد تقدّم في الحديث السابق الطويل عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام ذكر ذلك كلّه (١). وقد روى الشيخ عن زرارة عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال :

قلت له : ما تقول في قول الله تعالى : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله ) ؟ قال : الأنفال لله تعالى وللرسول وهي : كلّ أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب ، فهي نفل لله وللرسول (٢).

وعن سماعة بن مهران قال : سألته عن الأنفال ، فقال : كلّ أرض خربة أو شيء كان للملوك فهو خالص للامام عليه‌السلام ليس للناس فيها سهم. قال : ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (٣).

وفي مرسلة العباس الوراق عن رجل سمّاه عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال :

« إذا غزا قومٌ بغير إذن الإمام عليه‌السلام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام عليه‌السلام وإذا غزوا بإذن الإمام عليه‌السلام فغنموا كان الخمس للإمام » (٤) ومضمون هذه الرواية مشهور بين الأصحاب ، مع كونها مرسلة ، وجهالة بعض رجال سندها ، وعدم إمكان التمسّك بظاهرها ، إذ من غزا بإذن الإمام لا يكون خمس غنيمته كلها للإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) أنظر ص / ٥١ ـ ٥٢ من هذا الكتاب.

(٢) التهذيب / حقل الأنفال / ص ١٣٢ / ج ٤ / ح ٢٦٨.

(٣) نفس المصدر / ص ١٣٣ / ح ٣٧٣.

(٤) نفس المصدر / ص ١٣٥ ، ح ٣٧٨.

٥٦

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ الأرض المعدودة من الأنفال إمّا أن تكون محياة أو مواتاً ، وعلى التقديرين ، فإما أن يكون الواضع يده عليها من الشيعة أو لا ، فهذه أربعة أقسام.

وحكمها : أن كلّ ما كان بيد الشيعة من ذلك ، فهو حلال عليهم ، مع اختصاص كلّ من المحياة والموات بحكمه (١) ، لأن الأئمة عليهم‌السلام أحلّوا ذلك لشيعتهم حال الغيبة. وأما غيرهم فإنما علهيم حرام. وإن كان لا ينتزع منهم في الحال على الظاهر ، حيث إن المستحق لانتزاعه هو الإمام عليه‌السلام فيتوقف على أمره.

وروى الشيخ عن عمر بن يزيد قال :

رأيت أبا سيّار مسمع بن عبد الملك بالمدينة ، وقد كان حمل إلى أبي عبدالله ـ عليه‌السلام ما لا في تلك السنة فردّه عليه ، فقلت : لم ردّ عليك أبو عبدالله عليه‌السلام المال الذي حملته إليه ؟ فقال : إني قلت حين حملت إليه المال : إني كنت وليت الغوص ، فأصبت منه أربعمائة ألف درهم ، وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم ... إلى أن قال : « يا أبا سيّار قد طيّبناه لك ، فضم إليك مالك ، وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلّلون ، محلّل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم ، فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم عنها صغرة » (٢).

__________________

(١) عبارة المؤلّف القائلة باختصاص كلّ من المحياة والموات بحكمه يكتنفها الغموض فقد سبق للكتاب أن أوضح بأنّ « الأنفال » للإمام وأنّها مباحة لشيعة بحكم أخبار التحليل ، وهذا يعني انعدام الفارق بين المحياة والموات من الأنفال من حيث التصرّف فيهما. ومن الواضح أن الفارق لا تظهر ثمرته إلا في اصطناع الفارق بين الأرض المفتوحة عنوة وأرض الأنفال ، لأن الأرض المحياة طبيعياً عائدة إمّا إلى الإمام. أو عائدة إلى المسلمين بناء على القول بأنها داخلة في عموم « كلّ أرض لا ربّ لها » أو عائدة إلى المسلمين بناء على القول بدخولها في عموم ملكية الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين. بل : حتى موات المفتوحة عنوة يسمها طابع التردّد المذكور. والمؤلف بصفته قد ردم الفارق بين نمطي الأرض : حينئذ كان الأجدر أن يوضح حكم كلّ من محياة الأنفال ومواتها.

(٢) التهذيب ، حقل : الأنفال / ص ١٤٤ / ج ٤ / ح ٤٠٣.

٥٧

قال في الصحاح : « الطسق » : الوظيفة من خراج الأرض ، فارسي معرّب.

وعن الحرت بن المغيرة النصري قال :

دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام فجلست عنده ، فإذا نجية قد استأذن عليه ، فأذن له فدخل فجثا على ركبتيه ثمّ قال :

جعلت فداك إنى أريد أن أسألك عن مسألة والله ما أريد بها إلا فكاك رقبتي من النار ، فكأنّه رقّ له فاستوى جالساً فقال :

يا نجيّة سلني فلا تسألني اليوم عن شيء إلا أخبرتك به ، قال :

جعلت فداك ما تقول في فلان وفلان ؟ قال :

يا نجية ، لنا الخمس في كتاب الله ولنا الأنفال ولنا صفو المال ، وهما والله أول من ظلمنا حقنا في كتاب الله وأوّل من حمل الناس على رقابنا ، ودماؤنا في أعناقهما إلى يوم القيامة لظلمنا أهل البيت ، وإنّ الناس ليتقلّبون في حرام إلى يوم القيامة بظلمنا أهل البيت ، فقال نجيّة :

إنّا لله وإنّا إليه راجعون ثلاث مرات هلكنا وربّ الكعبة ، قال : فرفع فخذه عن الوسادة فاستقبل القبلة فدعا بدعاء لم أفهم منه شيئاً إلا أنا سمعناه في آخر دعائه وهو يقول :

اللهم إنّا قد أحللنا ذلك لشيعتنا. قال : ثمّ أقبل بوجهه إلينا وقال :

يا نجيّة ، ما على فطرة إبراهيم عليه‌السلام غيرنا وغير شيعتنا (١).

وهذان الحديثان ونحوهما من الأحاديث الكثيرة ممّا لا خلاف في مضمونها بين الأصحاب بلا شكّ ولا مرية ، فلا حاجة إلى البحث عن أسنادهما والفحص عن رجالهما ، فإن آحاد الأخبار (٢) بين محققي الأصحاب والمحصلين منهم إنما

__________________

(١) نفس المصدر : ص ١٤٥ / ح ٤٠٥.

(٢) من الواضح أن « آحاد الأخبار » تشمل كلا من المعتبر والضعيف ، فتقييد الكاتب ملاحظة القرائن بآحاد الأخبار يبدو وكأنه لا ضرورة له. إلا إذا ذهبنا إلى أن هدف الكاتب هو أن يلمح إلى أن خبر الواحد سواء أكان مستجمعاً لشروط الاعتبار حسب

٥٨

يكفي حجة إذا انضمّ إليها من المتابعات والشواهد وقرائن الأحوال ما يدلّ على صدقها ، فما ظنّك بإجماع الفرقة !

فإن قيل : ما معنى جعل هذه الأشياء في حال الغيبة للشيعة ؟ أهي على العموم أو على جهة مخصوصة ؟ وعلى تقدير الثاني ، فما هذه الجهة ؟

قلنا : ليس المراد حلها على جهة العموم وإلا لزم سقوط حقّهم عليهم‌السلام من الخمس حال الغيبة ، وهو خلاف ما يدلّ عليه أكثر الأصحاب ، بل القول به منسوبٌ إلى الشذوذ ، بل يلزم منه جواز تناول حقهم ـ عليهم‌السلام والتصرّف فيه ، إلى غير ذلك ممّا هو معلوم البطلان ، وإنما المراد إحلال ما لا بدّ من المناكح والمساكن والمتاجر ، لتطيب ولادتُهم ويخرجوا عن الغصب في المسكن والمطعم ونحوهما : وقد عين الأصحاب لذلك مواضع بخصوصها في باب الخمس ، فلا حاجة إلى ذكرها هاهنا. فإذا كان بيد أحدنا من أرض الأنفال شيء إمّا بالاحياء والشراء من بعض المتقبلين ونحو ذلك كانت عليه حلالاً بإحلال الأئمة عليهم‌السلام.

فإن قيل : ليس على الشيعة في هذا النوع من الأرض خراج ، فهل على غيرهم فيه شيء من ذلك ؟

قلنا : لا نعرف في ذلك تصريحاً للأصحاب ، ولكن قد وقع في الحديث السابق التصريح به ووجهه من حيث المعنى أنّه تصرف في مال الغير بغير إذنه ، فلا يكون مجاناً.

فإن قيل : هل يجوز لمن استجمع صفات النيابة حال الغيبة جباية شيء من ذلك ؟

__________________

معايير الحديث أو غير مستجمع لها ، إنّما يكتسب قيمته بقدر عمل الأصحاب به ، سواء أكان ذلك ضعيفاً قد عُمِل به أو معتبراً ولكن هجره الأصحاب.

٥٩

قلنا : إن ثبت أنّ جهة نيابته عامة ، احتمل ذلك وإلى الآن لم نظفر بشيء فيه (١) وكلام الأصحاب قد يشعر بالعدم ، لأن هذا خاصّة الإمام عليه‌السلام ، وليس هو كخراج الأرض المفتوحة عنوة ؛ فإن هذا القسم لغيره ، كما سيأتي إن شاء الله.

فإن قيل : فلو استولى سلطان الجور على جباية شيء من خراج هذه الأرضين ، اعتقاداً منه أنّه يستحقه لزعمه أنّه الإمام ، فهل يحلّ تناوله ؟

قلنا : الأحاديث التي تأتي تحلّ تناول الخارج الذي يأخذه الجائر. وكلام الأصحاب يتناول هذا القسم ، وإن كان السابق إلى الأفهام في الخراج ما يؤخذ من المفتوح عنوةً ، فلا يبعد الحاقه به (٢) ، ولم أقف على شيء صريح في ذلك سوى إطلاق ما ورد عنهم عليهم‌السلام.

فائدة : لا فرق بين غيبة الإمام عليه‌السلام وحضوره في زمان التقيّة ، لاستوائهما في كونه عليه‌السلام موجوداً ممنوعاً من التصرّف. والأخبار وكلام الأصحاب يومئ إلى ذلك ، وإباحتهم عليهم‌السلام لشيعتهم إنّما وقع في زمانهم عليهم‌السلام وكذا الأمر بالجمعة وقد احتجّ الأصحاب بذلك ، بثبوتهما في زمان الغيبة. وفي الواقع لا فرق بينهما.

__________________

(١) بالرغم من أن بعض الفقهاء يحاول أن يميز بين ملك الإمام وملك المسلمين. بصفة أنّ الأوّل منهما من الممكن أن يستثمره الإمام لأفراد بأعيانهم ، والآخر يصرف في مصالح عامة ، إلا أن هذا الفارق لا شاهد له من النصوص ما دمنا نعرف أن ملكيّة الإمام ليست شخصيّة ، بل اعتبار المنصب الرسمي ، ممّا يعني أن الأموال بقسميها موكولة إلى نظره سواء أصرفت في نطاق أفراد بأعيانهم أو صرفت في مصالح عامة. هذا فضلاً عن أن إشارة الكاتب إلى أن الأنفال من ( خاصّة الإمام ) لا صلة له ب‍ ( النيابة العامّة ) التي سوء الكاتب مشروعيتها في نطاق الخراج المتصل بالأرض المفتوحة عنوة ، وتردد في مشروعيتها بالنسبة إلى أرض الأنفال. ففي الحالين ، إمّا أن تكون ثمة قناعة بنيابة القضية أم لا ، ولذلك لا يظهر أيّ وجه للفارق الذي اصطنعه الكاتب في هذا الميدان.

(٢) إنّ عدم استبعاد المؤلّف إلحاق الأنفال بالمفتوح عنوة من حيث جباية الخراج ، يدلل على ما سبق إن قلناه من عدم الفارق بين نمطي الأرض من حيث صلاحيّة النيابة لها.

٦٠