قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي

قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج

المؤلف:

الشيخ عليّ بن الحسين بن عبد العالي الكركي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والد شيخنا البهائي رسالة سمّاها « تحفة أهل الايمان في قبلة عراق العجم وخراسان » ردّ فيها على الشيخ علي بن عبد العالي العاملي الكركي ، حيث غير محاريب كثيرة إذ أمرهم أن يجعلوا الجدي بين الكتفين ، مع أن طول تلك البلاد يزيد على طول مكّة كثيراً وكذا عرضها ، فيلزم انحرافهم عن الجنوب إلى المغرب كثيراً ، ففي بعضها كالمشهد بقدر نصف المسافة : خمس وأربعين درجة ، وفي بعضها أقل (١).

نيابة السلطان عنه ؟

نقل صاحب « الحدائق » في كتابه « لؤلؤة البحرين » عن السيد نعمة الله الجزائري في صدر كتابه « شرح غوالي اللئالي » قال : لما قدم الشيخ علي بن عبد العالي « عطّر الله مرقده » إصفهان وقزوين في عصر السلطان العادل الشاه طهماسب « أنار الله برهانه » مكنه من الملك والسلطان وقال له : أنت أحق بالملك لانك النائب عن الإمام عليه‌السلام ، وإنما أكون من عمالك ، أقوم بأوامرك ونواهيك. قال : ورأيت للشيخ أحكاماً ورسائل إلى الممالك الشاهية إلى عمالها وأهل الاختيار فيها تتضمن قوانين العدل وكيفية سلوك العمال مع الرعية في أخذ الخراج وكميته ومقدار مدته. والأمر لهم بإخراج العلماء من المخالفين لئلا يضلوا الموافقين لهم والمخالفين. وأمر بأن يقرر في كلّ بلد وقرية إماماً يصلي بالناس ويعلمهم شرائع الذين. والشاه يكتب إلى أولئك العمال بامتثال أوامر الشيخ وأنه الأصل في تلك الأوامر والنواهي (٢).

نادرة طريفة :

حكى صاحب « روضات الجنات » عن « حدائق المقربين » بالفارسية

__________________

(١) أمل الآمل ١ : ٧٥.

(٢) لؤلؤة البحرين : ١٥٣.

٢١

ما معناه : ورد سفير مقرّب من جهة سلطان الروم ( الخلافة التركية العثمانية ) على السلطان الشاه طهماسب. فاتفق أن اجتمع به يوماً جناب شيخنا المعظم في مجلس الملك ، فلمّا عرفه السفير المذكور أراد أن يفتح عليه باب الجدل فقال :

يا شيخ ، إن مادة تاريخ اختراع طريقتكم هذه « مذهب ناحق » أيّ : مذهب غير حقّ ، وفيه إشارة إلى بطلان هذه الطريقة كما لا يخفى. فاُلهم جناب الشيخ في جواب ذلك الرجل بأن قال بديهة وارتجالاً :

بل نحن قوم من العرب وألسنتنا تجري على لغتهم لاعلى لغة العجم ، وعليه فمتى أضفت المذهب إلى ضمير المتكلم يصير الكلام : « مذهبنا حقّ » فبهت الذي كفر وبقي كأنّما اُلقم الحجر (١).

وفاته :

ذكره السيد مصطفى التفرشي في هامش « نقد الرجال » فقال : مات رحمه‌الله في شهر جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة (٢).

ونقل الأفندي في « رياض العلماء » عن رسالة لبعض أفاضل تلامذة الشيخ الكركي في ذكر اسامي مشايخه قال : مات رحمه الله تعالى بالغري من نجف الكوفة سنة سبع وثلاثين وتسعمائة ، وله من العمر ما ينيف على السبعين سنة (٣).

وكأن الشيخ الحرّ اعتمد عليه فقال في « أمل الآمل » : وكانت وفاته سنة ٩٣٧ وقد زاد عمره على السبعين (٤).

ولكن الأفندي نقل عن « تاريخ جهان آرا » : أنّه مات في مشهد علي عليه‌السلام في ثامن عشر ذي الحجة ، وهو يوم الغدير ، سنة أربعين وتسعمائة ، في زمن السلطان

__________________

(١) روضات الجنات ٤ : ٣٦٢.

(٢) نقد الرجال : ٢٣٨.

(٣) رياض العلماء ٣ : ٤٤٤.

(٤) أمل الآمل ١ : ١٢٢.

٢٢

الشاه طهماسب المذكور ، وقيل في تاريخه : « مقتداى شيعه » (١).

ونقل عن حسن بيگ روم لو في تاريخه بالفارسية : « أحسن التواريخ » قال :

ان الشيخ علي بن عبد العالي المجتهد قد توفي في يوم السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة أربعين وتسعمائة ، بعد مضي عشر سنين من جملة أيّام دولة السلطان الشاه طهماسب المذكور ، وكانت جملة « مقتداى شيعه » تاريخ وفاته (٢).

وقد صرّح حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي في بعض رسائله : بأن الشيخ علي هذا صار شهيداً (٣) بالسم المستند إلى فعل بعض أمناء الدولة (٤).

وقال ابن العودي : توفي مسموماً ثاني عشر ذي الحجة سنة ٩٤٥ وهو في الغري على مشرفه السلام (٥) ولذلك ترجم له العلامة الاميني في « شهداء الفضيلة » (٦).

وقد كان « قدس‌سره » من أزهد أهل عصره ، حتى أنّه أوصى بقضاء جميع صلواته وصيامه ، وبقضاء حجة الإسلام مع أنّه كان قد حج (٧).

فالسلام عليه يوم ولد ويوم قتل مسموماً ويوم يبعث حيّاً.

محمد هادي اليوسفي الغروي

٢٢ / ١١ / ١٤١٠ ه‍. ق

قم المشرفة

__________________

(١) رياض العلماء ٣ : ٤٤٨.

(٢) رياض العلماء ٣ : ٤٥١.

(٣) رياض العلماء ٣ : ٤٤٢.

(٤) روضات الجنات ٤ : ٣٧٤ عن أحسن التواريخ ١٢ : ٢٥٦.

(٥) الدر المنثور ٢ : ١٦٠.

(٦) شهداء الفضيلة : ١٠٨.

(٧) رياض العلماء ٣ : ٤٤٥.

٢٣

تقديم

بقلم الدكتور محمود بستاني

تظلّ الأرض بصفتها ظاهرة اقتصاديّة ملحّة ، كما هو معروف من أهم الظواهر الفقهيّة التي توفّر عليها الباحثون قديماً وحديثاً ويجئ الخراج وهو نوع من الضريبة أو الأجرة أو المقاسمة ، على زراعة الأرض في مقدّمة الأبحاث التي حفل بها النشاط الفقهي في الميزان المذكور ، بحيث دفعت أكثر من فقيه إلى أن ينهض بدراسة مستقلة للظاهرة المتقدّمة. مضافاً إلى الحقل الذي ينتظمها في الدراسات التي تتناول ـ عادة سائر أبواب الفقه.

وبالرغم من أن المسائل الخلافية التي تتفاوت وجهات النظر حيالها ، تظل سمة واضحة في الحقل الفقهي بعامة ، إلا أن ظاهرة الخراج ( بما تواكبها من صلات بطبيعة « الأرض » وأقسامها المفتوحة عسكرياً بخاصّة وما يترتب على ذلك من تصرّفات مختلفة حيالها ، من حيث المشروعيّة وعدمها ) تبقى أشدّ إلحاحاً من سواها من حيث ضرورة التوفّر على دراستها وتحديد مختلف الجوانب المتّصلة بها.

لقد اكتسبت الأرض زمن التشريع بُعداً خاصّاً يتصل بالفتوحات التي شهدها صدر الإسلام ، وانسحاب ذلك على مختلف أنواع الأرض ، من حيث التكييف الشرعي لها ، وامتداد هذا التكييف إلى نمط تعاملنا مع الأرض وخراجها.

إنّ الأرض تبعاً للتقسيم الفقهي الموروث تندرج ضمن الانماط التالية :

١ ـ أرض العنوة ( أيّ : الأرض التي فتحت من خلال الغزو العسكري ).

٢ ـ أرض الطوع ( أيّ : الأرض التي أسلم عليها أهلها طواعية ).

٣ ـ أرض الصلح ( أيّ : الأرض التي تخصّ الكتابيّين ، ممّن احتفظ بموقفه

٢٤

الفكريّ ، وصُولح على إبقاء الأرض له قبال « الجزية ».

٤ ـ أرض الأنفال ( أيّ الأرض التي تخصّ الإمام أو الدولة ، ممّا فتحت إمّا بغير الغزو العسكريّ ، أو مطلق الأرض التي لا صاحب لها بغضّ النظر عن شكلها الذي ينسب إليه ( عنوة أو غيره ) ، ميتة كانت أو عامرة بالأصالة.

والملاحظ : أنّ اختلاف وجهات النظر بطبع كلّ الأقسام المتقدّمة بحيث لا يكاد الدارس يقف على شاطئ محدّد في هذا الصدد ، سواء أكان الأمر متّصلاً بتحديد نمط الأرض وفرز ما هو مفتوح منها عنوة أو صلحاً أو طواعية ( من حيث البعد التاريخي لها ) ، أو ما كان متّصلاً بإمكانيّة تملكها ببيع أو إرث نحو هما في بعض الأنواع منها ، أو انحصار ذلك في نطاق « الحقّ » دون « الملك » ، أو ما كان متّصلاً بأداء الخراج أو سقوطه .. الخ.

إنّ أمثلة هذا التفاوت في وجهات النظر ، ليس من السهل تجاوزها ، ما دام الأمر متّصلاً بمشروعية تعاملنا مع الأرض أو عدم مشروعيّة ذلك ، وهو أمر يتطلب مزيداً من التوفّر على الدراسات المتّصلة بهذا الحقل.

* * *

أوّل ما يطالعنا في هذا الصدد كما أشرنا هو : فرز نمط الأرض وتحديد المفتوح منها « عنوة » عن سواه. وأهميّة هذا الفرز تتمثل في أن المفتوح عنوة ملك للمسلمين ، لا يسمح لأحد أن يتصرف فيها بعمارة أو بيع أو شراء إلا بإذن الإمام أو الدولة حيث يقبلها إلى من يستثمرها حسب ما تتطلبه المصلحة من التقبيل بالنصف أو الثلث أو الثلثين .. الخ.

وهذا الحكم كما نعرف جميعاً موضع وفاق ، نصاً وفتوى ، بيد أن المشكلة تكمن في تحديد هذا النمط من الأرض ، وفي تحديد أجزاء البلد الواحد نفسه ، كما لو كان البعض منها عنوة دون البعض الآخر ، وكما لو كان البعض منها حيّاً والآخر مواتاً.

إنّ المؤرخين أو الفقهاء الذين أرخوا قديماً لهذا الجانب لا تكاد تتفق كلمتهم على تحديد ثابت في هذا الصدد.

٢٥

وحيال هذا لا يمكن حسم المشكلة ، كما هو واضح. فالعراق على سبيل المثال بالرغم من كونه موضع وفاق على فتحه عنوة ، وإلى أن أربعة مواضع منه قد صولح عليها فحسب ، إلا أن تحديد عامره وفرزه عن مواته لا يمكن أن نتثبت منه تاريخياً.

مضافاً إلى ذلك ، فإنّ فتحه ( وفقاً للمعيار الذي يميز بين المفتوح بإذن الإمام فيصبح لجميع المسلمين ، والمفتوح بغير إذنه فيصبح للإمام خاصّة ) يظلّ موضع خلاف أيضاً.

وأيّاً كان الأمر ، فإنّ الباحث يعنيه خارجاً عمّا لحظناه أن يقف على واحدة من وجهات النظر الفقهيّة المتّصلة بالأرض وخراجها وسائر الظواهر المرتبطة بهما ، متمثّلة في ما كتبه الفقيه المعروف ( الكركيّ = المحقّق الثاني ) في رسالته التي أسماها ب‍ ( قاطعة اللجاج ... ) حيث يمكننا أن نلحظ من طبيعة عنوانها قضية التفاوت بين وجهات النظر التي حاول المؤلّف أن ( يقطع ) من خلالها بوجهة نظر تحسم الموقف ، عبْر تصوّراته التي طرحها في الكتاب المذكور. وفي مقدّمة ذلك :

اصطناع الفارق بين البيع في نطاق رقبة الأرض ، والبيع في نطاق الحقّ أو الآثار للمساحات المفتوحة عنوة ، أو ما يطلق عليها أحيانا بالأرض الخراجيّة مع ملاحظة أن أرض الصلح يطلق عليها نفس التسمية عند بعض الكتاب ( أيّ ملاحظة الخراج بمعنى الجزية ) ، كما أن بعضهم يطلق نفس التسمية لأراضي الدولة التي تؤجر ويضرب الخراج عليها ، بل مطلق ما يفرض من الضرائب حسب الاستخدام اللغوي لها.

المهمّ ، أن المؤلّف ( ومثله صفّ كبير من الفقهاء ) حسم الموقف في اصطناعه الفارق بين بيع ( الرقبة ) فيما لا يجوز ذلك ، وبين بيع ( الحقّ ) فيما يسمح به.

وفي تصوّرنا إنّ وجهة نظر المؤلّف صائبة في هذا الصدد ما دام الدليل الفقهيّ يُشعفنا في ذلك ، من نحو رواية أبي بردة ، « يشتري حقّه منها » فيما دلت بوضوح على جواز اشتراء الحقّ ، بملاحظة أنّ رقبة الأرض للمسلمين جميعاً ، وإلى أن عمارتها تكسب المشتري حقّاً ، ما دام قائماً بمراعاة ذلك ، وبضمنه تأدية الخراج.

ويبدو أنّ الأرض الخراجيّة كانت عصرئذ مقترنة بنمط من الهوان

٢٦

الاجتماعي ، بخاصّة عند « العامّة » حيث نلحظ تصورات معيّنة لديهم ، تقترن حيناً بأرض « الجزية » التي تشكل هواناً لمن يشتريها ، وحيناً ثانياً بكونها ملكاً عامّاً للمسلمين لا يجوز أن يشتريها أحد إلا بمقدار ما يقتات به ، وحيناً ثالثاً بأنّ التزام المشتري بالخراج إقرارٌ بالهوان وإلى أنّ إسقاطه أكل لأموال المسلمين ... الخ.

ولا يبعد إنسحاب هذه الكراهة على المناخ الاجتماعي عصرئذ ، ولذلك نلحظ في رواية أبي شريح : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن شراء الأرض من أهل الخراج ، فكرههه ، وقال : إنّما أرض الخراج للمسلمين ، فقالوا له : أنّه يشتريها الرجل وعليه خراجها ، فقال عليه‌السلام : لا بأس إلا أن يستحي من عيب ذلك » ، فإشارته عليه‌السلام إلى « العيب » لا يبعد أن يكون تلويحاً إلى المناخ الاجتماعيّ الذي قرن شراء الأرض الخراجيّة بالهوان الذي أشرنا إليه.

ومن الممكن أن تقترن الكراهة الاجتماعية بالكراهة الفرديّة أيضاً ، تنزّهاً عن الشبهات ، وهذا ما يمكن أن نلحظه في رواية عبدالله بن سنان عن أبيه : « قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : إنّ لي أرض خراج وقد ضقت بها أفأدعها ؟ قال : فسكت عني هنيئة ، ثمّ قال : إنّ قائمنا عليه‌السلام لو قام كان يصيد بك من الأرض أكثر منها » ، فقد أعلن المشار إليه بأنه قد ضاق بالأرض الخراجيّة التي بحوزته ، تعبيرا عن الشبهة التي ألمت به حيال الأرض المذكورة.

على أيّة حال ، فإنّ شراء الحقّ دون « الرقبة » يظل أمرا لا غبار عليه في ضوء النصّ الذي لحظناه ، والنصوص الاُخرى التي تتحدّث عن الشراء مطلقاً مثل رواية الحلبي : « إلا أن يشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين » ، ورواية ابن شريح المتقدّمة : « يشتريها الرجل وعليها خراجها ؟ فقال : لا بأس » .. الخ.

بيد أنّ الشراء المذكور قد اقترن كما لحظنا بضرورة تأدية الخراج بصفة حقّاً للمسلمين. وهذا ما يستجرنا إلى التساؤل عن كيفية أدائه في زمن الغيبة. إمّا زمن الحضور فلا معنى لإشارته الآن ما دام عمليّاً لا فاعليّة لمثل هذا التساؤل.

ويعنينا موقف « المؤلّف » في هذا الصدد.

يقول الكاتب تحت عنوان ( في حل الخراج .. ) :

٢٧

« وكون ضرب الخراج وتقبيل الأرضين وأخذه وصرفه موكولاً إلى نظره عليه‌السلام ، لا يقتضي تحريمه حال الغيبة لبقاء الحقّ ووجود المستحق مع تظافر الأخبار عن الأئمة الأطهار ، وتطابق كلام أجلة الأصحاب ومتقدّمي السلف ومتأخّريهم بالترخيص لشيعة أهل البيت عليهم‌السلام في تناول ذلك حال الغيبة. فإذا انضمّ إلى هذا كلّه أمر من له النيابة حال الغيبة ... ».

نستخلص من هذا الكلام أن الكاتب لا يجد مانعاً من تقبيل الأرض ودفع خراجها بالنسبة إلى الجائر ، مادامت الأموال الخراجيّة تصرف في مصالح الشعب ، ومنهم : الطائفة المحقة ، بصفة أن لكل أحد منها حقّاً في بيت المال ، بالنحو الذي أوضحته إحدى الروايات التي سردها المؤلّف لتعزيز وجهة نظره : « إمّا عَلِمَ أنّ لك في بيت المال نصيباً ».

والجدير بالذكر ، أن الكاتب قد ارتكن في دعم وجهة نظره المذكورة إلى مجموعة من النصوص التي تتحدّث عن الشراء الطعام وغيره من الجائر أو قبول جوائزه فيما تصلح دليلاً على جواز « الأخذ » لا « الدفع » الذي حاول التدليل عليه.

والحقّ ، أنّ ظاهرة التقبيل وما تتطلّبه من الخراج ، قد تكفلت ببيان مشروعيّته طائفة من النصوص من نحو : « لا بأس أن يتقبّل الرجل الأرض وأهلها من السلطان » ، ونحو : « ما تقول في الأرض أتقبّلها من السلطان ... قال : لا بأس » الخ.

ومن البيّن أن تقبل الأرض من السلطان يستتلي دفع الخراج إليه أيضا. إلا أن ذلك يكتسب مشروعيته في حالة انحصار الأمر في السلطة الجائرة. إمّا في حالة إمكان التعامل مع سلطة مشروعة أو فقيه مبسوط اليد ، كما أشار المؤلّف إلى ذلك حينئذ أو حتى إمكان التخلّص من الدفع ، وذلك بإيصاله بنفسه إلى المستحقّين ، أو لصالح العامّة ، حينئذ ينتفي المسوغ لدفعه إلى الجائر ، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما يتصل بالأرض الحيّة.

٢٨

ولكن ماذا عن الأرض الميّتة ؟

يقرّر المؤلّف بأن الأرض الميّتة من المفتوح عنوة للامام ، وإلى أنّه مسموح لأيّ فرد أن يحييها زمن الغيبة.

أما إنّها للامام فلكونها من « الأنفال » التي يندرج الموات ضمنها ، وأمّا السماح للفرد بإحيائها فلنصوص : « من أحيا ... » وأما سقوط الإذن في زمن الغيبة فلأخبار الإباحة.

كما ألمح الكاتب عبْر حديثه عن الأنفال إلى ظاهرة الخراج الذي يفرضه الجائر ، موضحاً إلى أنّه لا يبعد إلحاق هذا النمط من الأرض بما يؤخذ من الأرض المفتوحة عنوة ، كما ألمح متردّداً إلى احتمال الجواز لمن استجمع صفات النيابة في جباية الخراج المذكور.

ويلاحظ على المؤلّف أنّه لم يلق الأضواء الكاملة على ظاهرة الأرض الموات بالنحو الذي تتطلبه المعاجلة لهذا الجانب : من تفصيل لأشكالها ومن تعزيز بأدلّة محدّدة لوجهة نظره ، بل اكتفى بفقرات عابرة بالإشارة إلى تملك المحي لموات الأرض المفتوحة عنوة ، دون أن يحدد موقع التملك من أنّه في صعيد الرقبة أو الحقّ ، ودون أن يحدد موقع ذلك من الإحياء البدائي أو المتجدد. علما بأن النصوص الواردة في هذا الصدد ، بين نص يطالب بتأدية الخراج وآخر بتأدية الحقّ لصاحبها ، وثالث ينفي أيّ حقّ لمحييها السابق ، ورابع مطلق لا تفصيل فيه.

وأيّاً كان الأمر ، يتعيّن على الدارس لرسالة المؤلّف الخراجيّة أن يقف عند لغتها ، ومنهجها ، ومادّتها ، بغية التعرّف على طابعها العام في هذا الصدد.

أمّا لغتها ، فتتميّز بالوضوح واليسر اللذين يتطلّبهما البحث الفقهي وسائر البحوث الاسلامية ما دام الهدف من الكتابة هو إيصال الأفكار إلى الآخرين وليس التصنع اللغوي الجاف. كما تتميز لغته وهذا ما يمنحها مزيداً من القيمة بالابتعاد عن الحشو ( الأصولي ) الذي لا حاجة إلى إقحامه في بحوث فقهية ، الهدف منها تجلية ما غمض من الأدلة ، وليس تضبيبه بمزيد من اللغة الأصولية ، التي عفى

٢٩

عليها الزمن ، وبخاصّة : إنّها لا تلقي أيّة إنارة جديدة على البحث بقدر ما تصطنع مجموعة من المصطلحات التي يمكن استبدالها باللغة المألوفة التي يتمثلها القارئ الاعتيادي ، وبذلك يتم تحقيق الهدف العبادي من ممارسة البحث الفقهي.

المهم ، أنّ الكاتب ، أتيح له أن يتجنب مزالق اللغة التي أشرنا إليها ، وأن يتوفّر على تأدية اللغة بنحوها المطلوب.

أمّا من حيث المنهج فيبدو أن المؤلّف قد التزم طابع عصره من تبويب رسالته وفق تمهيد ومقدّمات خمس بمثابة فصول ومقالة كان من الممكن أن تشكّل مقدّمة سادسة ـ ، وخاتمة بمثابة ملاحق ، فضلاً عن تضمينها مسائل داخل المقدّمات ـ بمثابة حقول تنتظم جوانب الفصل.

المقدّمة الاُولى : تناولت أقسام الأرضين ، والثانية : الأرض المفتوحة عنوة ، والثالثة : أرض الأنفال ، والرابعة : تحديد المفتوحة عنوة ( تاريخيّاً ) ، والخامسة : تحديد دلالة الخراج.

وأمّا المقالة فقد تناولت الخراج من حيث مشروعيّته زمن الغيبة.

أمّا الخاتمة فتناولت مسائل متفرقة عن الخراج.

في ضوء الخطوط التي لحظناها في التبويب المذكور يمكننا بوضوح أن نتبيّن هدف الكاتب من رسالته ، متمثلاً في تشدّده على الأرض المفتوحة عنوة ـ بما في ذلك مواتها وصلة الخراج بمختلف الجوانب المرتبطة بالأرض المتقدّمة وبسواها ، وهو ما يستق مع عنوان الرسالة التي كتبها ، دون أن يتحدّث تفصيلا عن أنماط اُخرى من الأرض التي تظؤل علاقتها بالهدف الذي يُشدّد عليه ، ودون أن يتحدّث عن الظواهر الجانبيّة التي تتصل ببحوث الأرض بشكل عام ، من معادن ومياه وسواهما ممّا اعتيد تناولها في غالبيّة البحوث.

ويبدو أنّ تشدُّد المؤلّف على الأرض المفتوحة عنوة بما يواكبها من ظاهرة الخراج ، وبما تستتبعه من تعامل مع السلطة الزمنيّة ، يظلّ على صلة بطابع العصر أو الحقبة الزمنيّة التي شهدت نوعاً من الاهتمام الخاصّ بأمثلة هذا التعامل مع الأرض

٣٠

والسلطة ، تقبّلاً أو إنكاراً ، وبخاصّة أنّ المؤلّف كما يقول مؤرخوه كان يحتلّ موقعاً علمياً ضخماً إلى الدرجة التي اجتذب بها أنظار السلطة ، فمنحته تقديراً يتناسب مع موقعه العلميّ ، وهو أمر قد يجابه بردود من الفعل قائمة على التساؤل عن مسوّغات التعامل مع سلطة أو أرض من الممكن أن يُثار التشكيك حيالهما.

وقد ألمح المؤلّف نفسه ( في تمهيده لرسالته الخراجيّة التي نتحدّث عنها ) إلى بعض المشكلات التي أثيرت حول الأرض والسلطة في هذا الصدد ، كما ألمح في تضاعيف رسالته إلى ذلك. ويمكننا مضافاً إلى ما تقدّم أن نلحظ أصداء المشكلة ذاتها في بعض الكتابات الفقهيّة التي اُلّفت للردّ على رسالة المؤلف.

وأيّا كان الأمر ، فإنّ هدفنا من الإشارة العابرة إلى هذا الجانب ، هو أن نصل بين عنوان رسالته وبين المناخ الاجتماعي الذي اكتنف ذلك.

وأخيراً ، ونحن نتحدّث عن منهج الكاتب ، ينبغي أن نشير إلى أنّ معالجته للظواهر الفقهيّة التي طرحها في رسالته ، تظل على صلة بالمناخ العلمي الذي طبع غالبيّة العصور الموروثة ، وهو تصدير الظاهرة الفقهيّة المبحوث عنها بكتابات الطوسي بخاصّة ، فيما احتلّ دون سواه موقعاً لافتاً للنظر ، حتى أنّ المؤلّف يكتفي حيناً بتقديم ما كتبه الفقيه المذكور لإحدى المسائل ، مقتصراً على ذلك في التدليل على هذه الوجهة من النظر التي يطرحها أو تلك ، دون أن يشفعها بأيّ تدليل آخر. كما أن كلاً من العلامة والشهيد الأوّل يأخذان نصيباً كبيراً من ذلك.

أمّا أدوات الممارسة الفقهيّة التي يستخدمها في حقلي الأصول والتحقيق ، فتتّسم أولاهما كما سبقت الاشارة ـ بالاهمال التامّ لها لانتفاء فاعليّتها في الممارسة ، وأمّا الاُخرى فإن للكاتب قناعته بجملة من المبادئ المتمثّلة في الرواية المنجبرة بعمل الأصحاب ، والتفكيك بين أجزاء الرواية ، ممّا تعفيه من عناء الممارسة التي تستجرّها مشكلات الرواية. ولنقرأ بعض تعقيباته على الخبر الضعيف :

« الخبر الضعيف الإسناد إذا انجبر بقبول الأصحاب وعملهم ، ارتقى إلى مرتبة الصحيح ».

ومثله تعقيبه على مرسلة حماد المعروفة ، مضافاً إلى ظاهرة ( التفكيك ) :

٣١

« وهذا الحديث وإن كان من المراسيل إلا أنّ الأصحاب تلقوه بالقبول .. بقي شيء وهو أنّه تضمّن وجوب الزكاة قبل حقّ الأرض ، وبعد ذلك يؤخذ حقّ الأرض ، والمشهور بين الأصحاب أن الزكاة بعد المؤن ».

وعقبّ على مرسلة الورّاق :

« مضمون هذه الرواية مشهور بين الأصحاب ، مع كونها مرسلة ، وجهالة بعض رجال أسنادها وعدم إمكان التمسّك بظاهرها ».

ويوضح في تعقيب آخر مسوّغات العمل أساساً :

« أخبار الآحاد بين محققي الأصحاب والمحصّلين منهم إنّما يكون حجة إذا انضمّ إليها من المتابعات والشواهد وقرائن الأحوال ما يدل على صدقها ».

ومن البيّن أن مجرّد العمل بالرواية لا يولد يقينا بوثاقتها وإلا لانتفت عمليّة البحث عن الاسناد وتعطّلت أيّة فاعليّة جديدة في تحقيقها ، مع أن عمليّة تحقيق النصّ وتصحيح نسبته إلى قائله يظلّ في مقدّمة البحوث العلمية الموروثة بخاصّة وهو أمرٌ تتوفر عليه كلّ الأبحاث الحديثة ، أيّاً كان نمط المعرفة التي يتناولها البحث.

وتبعاً لذلك ، فإنّ القناعة الشخصية ، لا عمل الأصحاب خلافاً لرأي المؤلّف هو الذي يكسب النصّ قيمته الحقيقيّة.

وعلى سبيل المثال ، فإنّ مرسلة حمّاد المذكورة من الممكن أن يمنحها الباحث نمطاً من الاعتبار لقناعته بأنّ الراوي المذكور لا يُرسل إلا عن ثقة ، لا لأنّ الفقهاء عملوا بنصوصه المرسلة ، أو لأنّه من أصحاب الاجماع ، على صحّة روايته عن المجهولين تبعاً لما يقرره الأقدمون ، بل لأن الباحث نفسه ينبغي أن تتكون لديه قناعة شخصيّة بذلك.

وأمّا فيما يتصل بتفكيك أجزاء الرواية والعمل ببعضها دون الآخر ، فإنّ النصّ لا يخلو إمّا من توفّر نصوص مماثلة للجزء المعمول به في الرواية أو انفرادها بذلك.

٣٢

ففي الحالة الأولى لا تمكن أيّة قيمة ذات بال في الارتكان لهذا الجزء مادامت النصوص المعتبرة الاُخرى تتكفل بتقديم الدليل. وحينئذ تنحصر قيمة هذا الجزء بكونه مجرّد تعزيز للدليل لا أكثر.

أما في الحالة الثانية فمن الصعب أن تتمّ القناعة بجزء لا شاهد له من النصوص الاُخرى فضلاً عن أن الجزء الآخر شاذ أساساً إلا إذا افترضنا إمكانيّة تساوقه مع الدليل العقليّ ، وهو أمر بصعب الركون إليه.

على أيّة حال ، فإنّ للمؤلف قناعته الخاصّة في المعيارين اللذين تقدّم الحديث عنهما ، فيما يعيننا من ذلك أن نشير إلى انسحاب وجهة نظره المذكورة على طبيعة ممارسته الفقهيّة ، حيث لحظنا مدى انسحاب ذلك على رسالته التي أعفته من الدخول في مشكلات الرواية وتحقيقها.

ومثلما قلنا ، فإن هذا الجانب المتصل بتحقيق النصّ ، إذا كان لنا أن نناقش الكاتب فيه ، فإنّنا على عكس ذلك ، لا تعقيب لنا على اختزاله للأداة الأصولية ـ وهي الاداة الاُخرى من ممارساته فيما أشرنا إلى عدم ضرورتها ، ما دام الهدف هو تحلية ما غمض من الأدلة ، وليس تغميض ما هو واضحٌ منها.

وبعامّة ، فإنّ « الرسالة » التي توفّر عليها الكاتب ، تظلّ مستجمعة لهدف البحث وهو « الخراج » وما يتصل به من ظواهر مرتبطة بمشروعيّته زمن الغيبة بطبيعة الحال. ( وإلا فإنّ زمن الحضور على تفصيل بين بسط اليد وعدمه لا فائدة من معالجته الآن ).

وقد نجح المؤلّف في عرض وجهة نظره والتدليل عليها بالشكل الذي يتطلبه البحث.

ولكن ما يُلاحظ عليه بشكل عام هو تأكيده على فتاوى الأصحاب إلى الدرجة التي يبدو وكأن اهتمامه بوجهات نظرهم أشدّ من النصوص التي قدمها في هذا الصدد ، وهو أمر يقلّل من أهميّة الاستدلال لوجهة نظره ، ما دمنا نعرف بوضوح أنّ فتاواهم تمثّل رأي أصحابها ، وهي معرضة للخطأ والصواب وليست حجّة على

٣٣

غيرهم.

مضافاً إلى ذلك ، يلاحظ : أنّ المؤلّف ـ بدلاً من أن يستقطب أكثر عدد ممكن من قائمة الفقهاء إذا به يستقطب أكثر عدد ممكن من فتاوى فقيه واحد أو أكثر. فمثلاً نجده للتدليل على وجهة نظره ـ يتّجه إلى العلامة في مختلف كتبه مثل التذكرة ، المنتهى ، التحرير ، القواعد ، الإرشاد ... الخ ، فيسجّل نفس الفتوى متكررة في الكتب المذكورة ومن الواضح أنّ مثل هذا المنهج لا يخدم وجهة نظر المؤلّف ، لأنّه لم يصنع شيئاً أكثر من أنّه نقل رأي فقيه واحد في مجموعة مؤلفاته ، لا أنّه نقل رأي مجموعة من الفقهاء حتى تتعزز بها فتواه.

أمّا ما يتصل ب‍ ( أفكار ) المؤلّف ، فإن أهم ما يلفت الانتباه فيها بعد أن عرضنا عابراً لحصيلة أفكاره أن نجده ( يشكّك ) في نيابة الفقيه من حيث صلاحيّته في التعامل مع مشكلات الخراج : إذناً ، وجباية ، في حين لا يتردّد البتة في صلاحية السلطة الزمنية.

وبالرغم من أنّ وجهة نظره عن ( السلطة الزمنيّة ) لها ما يسوّغها ، مادامت النصوص أقرت مشروعيّة تقبيل الأرض وغيره من قبل السلطة الزمنيّة ، بيد أن هذا يجعل القناعة ب‍ ( نيابة الفقيه ) أشدّ مشروعيّة ، دون أدنى شك ، ما دام المؤلّف ذاته يحتج في جملة ما يحتج به على مشروعيّة التعامل مع السلطة الزمنيّة أن للمسلمين ( حقّاً ) في بيت المال. والفقيه دون ريب أولى من غيره بمعرفة ( الحقّ ) وإيصاله إلى أصحابه. وأيا كان : فلكلٍّ وجهة نظره.

أخيراً : نقدّم هذه الرسالة القيمة إلى القارئ الكريم ، آملين أن يفيد منها ، بخاصّة إنّها تجسد رأي واحد من كبار فقهائنا الذين لا يكاد يتجاهله أيّ باحث يمارس عمليّة ( البحث المقارن ) ، فضلاً عن أن فقيهنا المذكور كما ينقل مؤرخوه لم يقتصر في نشاطه على البحث العلمي فحسب بل تجاوزه إلى ميدان الاصلاح الاجتماعي متنقلاً في جملة من البلدان ، مساهماً بذلك في توعية الجمهور إسلاميّاً ، الأمر الذي يضفي على شخصيّته تقديراً خاصّاً ، يجعل من التعرّف على رسالته التي بين يديك أهميّة ذات خطورة دون أدنى شك.

٣٤

وقبل أن نغادر الكاتب في رسالته ، نودّ أن نلفت انتباه القارئ إلى أنَّ الطبعة القديمة التي انتظمت داخل ثلاثين رسالة بعنوان « كلمات المحققين » لم تخل من أغلاط بسبب من الطبع أو النسخ ، بخاصّة فيما يتصل ب‍ ( النصوص ) المنقولة عن « التهذيب » حيث يلاحظ أن كثيراً منها لا يطابق نصوص التهذيب ، ولكن دون أن يغير ذلك من مضمونها ولذلك تركناها على حالها مادامت الحاجة منتفية إلى ذلك ، واكتفينا بتصويب الغلط منها فحسب ، دون أن نشير إلى ذلك في الهوامش ما دام الهدف هو التصويب ، وليس ( شكلية التحقيق ) التي لا فائدة جوهرية فيها.

محمود بستاني

٣٥
٣٦

تمهيد المؤلّف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أيّد كلمة الحقّ بالبراهين القاطعة ، وأعلى كلمة الصدق بالحجج اللامعة ، ودرج أباطيل المفترين بالدلائل الدامغة ، وأذل أعناق المغالطين بالبينات القامعة ، والصلاة والسلام على المبعوث بخير الأديان محمَّد المختار من شجرة بني عدنان ، وعلى آله الأطهار المهتدين ، وعترته الأخيار الحفظة للدين.

وبعدُ :

فإنّي لمّا توالى على سمعي تصدّى جماعة من المتسمين بسمة الصلاح ، وثلّة من غوغاء الهمج الرعاع ، أتباع كلّ ناعق الذين أخذوا من الجهالة بحظ وافر ، واستولى عليهم الشيطان فحل منهم في سويداء الخاطر لتقريض العرض وتمزيق الأديم ، والقدح بمخالفة الشرع الكريم ، والخروج عن سواء النهج القويم ، ـ حيث إنّا لمّا لزمنا الإقامة ببلاد العراق ، وتعذر علينا الانتشار في الآفاق للأسباب ليس هذا محل ذكرها لم نَجِد بُدّاً من التعلّق بالقرية لدفع الاُمور الضروريّة من لوازم متمّمات المعيشة ، مقتفين في ذلك أثر جمع كثير من العلماء وجمّ غفير من الكبراء الأتقياء ، اعتماداً على ما ثبت بطريقٍ من أهل البيت عليهم‌السلام من أنّ أرض العراق ونحوها ممّا فتح عنوةً بالسيف لا يملكها مالك مخصوص ، بل هي للمسلمينَ قاطبة يؤخذ منها الخراج والمقاسمة ، ويصرف

٣٧

في مصارفه التي بها رواج الدين ، بأمر إمام الحقّ من أهل البيت عليهم‌السلام ، كما وقع في أيّام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وفي حال غيبته عليه‌السلام قد أذن أئمتنا عليهم‌السلام لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور ، كما سنذكره مفصلاً. فلذا تداوله العلماء الماضون والسلف الصالحون غير مستنكر ولا مستهجَن.

وفي زماننا حيث استولى الجهل على أكثر أهل العصر ، واندرس بينهم معظم الأحكام ، وأخفيت مواضع الحلال والحرام هدرت شقاشق الجاهلين ، وكثرت جرأتهم على أهل الدين ، استخرت الله تعالى ، وكتبت في تحقيق هذه المسألة « رسالة » ضمّنتُها ما نقله فقهاؤنا في ذلك من الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، وأودعتها ما صرّحوا به في كتبهم من الفتوى : « بأنّ ذلك حلال لا شكّ فيه ، وطلق لا شبهة تعتريه » ، على وجه بديع ، تذعن له قلوب العلماء ، ولا تمجه أسماع الفضلاء. واعتمدت في ذلك أن اُبيّن في هذه المسألة التي أفَلَ بذرها وجُهل قدرُها ، غيرة على عقائل المسائل ، لا حرصاً على حطام هذا العاجل ، ولا تفادياً من تعريض جاهل ، فإنّ لنا بموالينا أهل البيت عليهم‌السلام أعظم أسوة وأكمل قدوة ، فقد قال الناس فيهم الأقاويل ، ونسبوا إليهم الأباطيل ، وبملاحظة « لو كان المؤمن في جحر ضب يبرد كلّ غليل » مع أني لم أقتصر فيما أشرت إليه على مجرّد ما نبهت عليه. بل أضفت إلى ذلك من الأسباب التي تثمر الملك وتفيد الحل ، ما لا يشوبه شكّ ، ولا يلحقه لبس من شراء حصة من الأشجار ، والاختصاص بمقدار معيّن من البذر. فقد ذكر أصحابنا طُرَقا للتخلّص من الربا ، واسقاط الشفعة ونحوها ممّا هو مَشهور متداول ، بل لا ينفك منها إلا القليل النادر. وقد استقرّ في النفوس قبوله وعدم النفرة منه ، مع أن ما اعتمدته في ذلك : أولى بالبعد عن الشبهة ، وأحرى بسلوك جادة الشريعة.

ولم اُودع في هذه الرسالة من الفتوى إلا ما اعتقدت صحّته ، وأقدمت على

٣٨

لقاء الله تعالى به ، مع علمي بإنّ من خلا قبله من الهوى ، وبصّر بصيرته من الغوى ، وراقب الله تعالى في سريرته وعلانيته ، لا يجد بُدا من الاعتراف به ، والحكم بصحته.

وسمّيتها : قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج ، ورتّبتها على مقدّمات خمس ، ومقالة ، وخاتمة. وسألتُ الله تعالى أن يلهمني إصابة الحقّ ، ويجنّبني القول بالهوى ، أنّه وليّ ذلك ، والقادر عليه.

٣٩

المقدّمة الأولى

في أقسام الأرضين : وهي في الأصل على قسمين :

أحدهما :

أرض بلاد الإسلام ، وهي على قسمين أيضاً : عامر وموات ، فالعامر : ملك لأهله لا يجوز التصرّف فيه إلا بإذن مُلاكّه. والموات : إن لم يجر عليه ملك مسلم فهو لإمام المسلمين يفعل به ما يشاء ، وليس هذا القسم من محل البحث المقصود.

القسم الثاني : ما ليس كذلك ، وهو على أربعة أقسام :

أحدها :

ما يملك بالاستغنام ويؤخذ قهراً بالسيف ، وهو المسمّى ب‍ ( المفتوح عنوةً ).

وهذه الأرض للمسلمين قاطِبَةً لا يختصّ بها المقاتلة عند أصحابنا كافةً ، خلافاً لبعض العامّة (١) ، ولا يفضلون فيها على غيرهم ، ولا يتخيّر الإمام بين قسمتها ووقفها وتقرير أهلها عليها بالخراج ، بل يقبلها الإمام عليه‌السلام لمن

__________________

(١) للعامة جملة أقوال :

أحدها : تقسيم الأرض على الغانمين فحسب.

والثاني : تصبح فينا للمسلمين دون الغانمين.

والثالث : تخيير الإمام بين قسمتها على الغانمين أو المسلمين.

كما اختلفوا في تقسيمها بين الغانمين أو وقفها .. الخ. أنظر تفصيلات ذلك في موسوعة الخراج كتاب : الاستخراج لابن رجب الحنبلي ، دار المعرفة بيروت.

٤٠