الخراج وصناعة الكتابة

قدامة بن جعفر

الخراج وصناعة الكتابة

المؤلف:

قدامة بن جعفر


المحقق: الدكتور محمد حسين الزبيدي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الرشيد للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٣

بضجر ، ولا النعمة ببطر». ومن شجاعة الملوك التي ينبغي أن توضع في مواضعها ، وقد قدمنا ذكر جملها ومعناها. انه رفع الى أنو شروان يسأل عن مبارزته العدو بنفسه : ـ فوقع لتشتهر في الافاق شجاعتنا وتنتشر أخبارنا فيرهبنا عدونا. وهذا القول مما ينبغي أن يسمعه الملك ، ولا يعمل في كل وقت به ، بل يفعله اذا حضر وقت يصلح له ، وحال يمكن فيها من الظفر بعدوه ، كما فعل الاسكندر بفور ملك الهند ، فانه بارزه لما توجهت له المكيدة عليه ، ووثق من نفسه باستظهار في مبارزته. فأما اذا لم يتوجه له ما يتقن الغلبة معه ، فينبغي أن يعمل الملك كما عمل المنصور مع ابن هبيرة ، وهو محاصر له بواسط ، أني خارج اليك يوم كذا ، وداعيك الى المبارزة فأنه بلغني تجبينك إياي فأجابه المنصور عن هذه الرسالة ، بأن قال له : يا بن هبيرة قد تعديت طورك ، وجريت في عنان غيك ، وسأضرب لك مثلا يشاكل أمرك. بلغني ان أسدا لقي خنزيرا فقال له الخنزير ، قاتلني ، فقال له الاسد لست بكفء لى لانك خنزير ومتى فعلت الذي دعوتني اليه فغلبتك ، لم اكتسب بذلك ذكرا ولا نلق به فخرا ، وان نالني شيء كان علي في ذلك سبّه ، فقال الخنزير : ان أنت لم تفعل رجعت الى السباع فاعلمتها انك نكلت عني وضعفت عن قتالي ، فقال له الاسد : احتمالي على كذبك (١) أيسر علي من لطخ شاربي بدمك.

ومما يحتاج الملك الى التذكير (٢) به هو ما تقدم في باب الشهوات والاحتماء من الافراط فيها : ـ انه رفع الى أنو شروان بأن الموكل بالمائدة وصف امساك الملك عما كانت تميل اليه شهوته من المطاعم فوقع. تركنا ما نحبه لنستغني عن التعالج بما نكرهه ... وفي المثل السائر والقول الغابر اعجز العجزة من عجز سياسة نفسه. وسئل بعض الحكماء فقيل له :

__________________

(١) في س : عالذبك.

(٢) في س ، ت : التذكر.

٤٦١

أي الملوك أولى بالحزم ، فقال (١) : (من ملك جده هزله (٢) ، وأعرب عن ضميره فعله ، ولم يخدعه رضاه عن حظه ، ولا غضبه عن كيده). وقال آخر من الفلاسفة : في صفة ملك بالحزم : (انه ينبغي الا يبلغ من الشدة الى ما يلحق معه الفظاظة ، ولا من اللين الى ما ينسب معه الى المهانة). وهذا من جنس قول عمر بن الخطاب [رضى الله عنه](٣) حيث قال «انه ينبغي للوالي ان يكون شديدا في غير عنف ولينا في غير ضعف» ... ولعبد الملك ابن مروان فصل من كلام يحتاج الملوك الى تقبله ، وهو قوله : (ان أفضل الناس من تواضع عن رفعة ، وزهد عن قدرة ، وانصف عن قوة).

ومما يحتاج اليه الملوك ويزيد في قوتهم عليه ، التمهر في العلوم ، ومجالسة أهل الآداب والحلوم ، والحذق بالمحاجة ومقاومة ذوي الجدل عند المخاصمة ، فانه يحكى عن المأمون انه قال لرجل من الخوارج أدخل اليه : ما الذي حملك على خلافنا والخروج علينا فقال الخارجي : آية وجدتها في كتاب الله قال قوله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٤) فقال له المأمون : ألك علم بأنها منزلة قال نعم ، قال : وما الدليل على ذلك ، قال : أجماع الامة. فقال له المأمون : فلما رضيت باجماعهم في التنزيل ، فأرض باجماعهم في التأويل ، فقال الخارجى : صدقت والسلام عليك يا أمير المؤمنين. فنجوع هذا الخارجي بالطاعة التي قاده اليها بالحجة ، أحسن من غلبته بالقتال والحرب ...

__________________

(١) جاء في كتاب زهر الآداب وثمرة الالباب لابن رشيق القيرواني : قال الحسن بن سهل خرج بعض ملوك الفرس متنزها فلقي بعض الحكماء فسأله عن احزم الملوك فقال : من ملك جده هزله ، وقهر لبه هواه ، واعرب لسانه عن ضميره ، ولم يخدعه رضاه عن سخطه ، ولا غضبه عن صدقه. ص ٤ ـ ٥.

(٢) في نسخة س ، ت : جده وهزله.

(٣) ليست في س ، ت.

(٤) سورة المائدة : ٥ الآية ٤٤.

٤٦٢

ودخل ناس من أهل مصر على عتبة بن أبي سفيان فقال له : انك سلطت السيف على الحق ، ولم تسلط الحق على السيف. وجئت بها عشواء صفينية : فقال لهم : كذبتم بل سلطت الحق (١) فتسلط معه السيف ، فاعرفوا الحق تعرفوا السيف قبل معرفتكم بالحق ، فأنكم](٢) الحاملون له حيث وضعه أعدل والواضعون له حيث حمله أفضل. وانتم في أول لم يأت آخره وآخر دهر قد مات أوله فصار المعروف عندكم منكرا والمنكر عندكم معروفا واني لا قول لكم مهلا قبل أن أقول لنفسي مهلا قالوا : نخرج سالمين كما دخلنا آمنين ، قال غير ، راشدين ولا مهذبين).

وقال أكثم بن صيفي (٣) : وهو من خطباء العرب وحكمائهم ، كلاما يصلح للملوك ان يسمعوه ، وهو قوله : (اللبيب من حذر السقطة وحسن خروجه من الورطة) ... وقال في موضع آخر : (الاديب من تجرع الغصة ووثب عند الفرصة) ومما يصلح ان تعرفه الملوك ليتقبلوا أحسنه ، ويجانبوا أضره وأرذله ويتفهموا مواقع الرأي منه ما كان. فالاسكندر ذو القرنين كتب به الى أرسطاطاليس ، فان الاسكندر كتب اليه يذكر ان في عسكره جماعة من خاصته وذوي حشمة ، وأهل الحزمة ، وانه مع هذا لا يأمنهم على نفسه ، لما يرى من بعده همهم وقوة شجاعتهم وشدة دالتهم ، فانه لا يجد لهم عقولا تفي بالفضائل التي فيهم ، ويكره الاقدام بالقتل عليهم بالظنة ، مع واجب الحرمة ، ويسأله عن الرأي في أمرهم فكتب اليه أرسطاطاليس : فهمت كتاب الملك بما وصفه من أمر القوم الذين يضمهم عسكره ، فأما بعد هممهم فينبغي أن يعلم الملك ان الوفاء من بعد الهمة ، وان هذه الحال وان كانت مرهبة ممن له من جهة اقدامه ، وان كان يكله

__________________

(١) في س : والحق.

(٢) ليست في ت.

(٣) احمد زكي صفوت : جمهرة خطب العرب ح ١ ص ٥٦.

٤٦٣

الى ناحية بسبب وفائه ... وأما ما يكره الملك من شجاعتهم ونقصان عقولهم ، عن الوفاء بها ، فمن كانت هذه حاله فره في معيشته ، وحوله حسان النساء يحبب السلامة وتباعد ركوب المخاطرة ، وليكن خلقك حسنا ستدع به صفو النية وخلوص المقة (١) ولا يتناول من لذيذ العيش ، ما لا يمكن أوسط أصحابك تناول مثله ، فليس مع الاستئثار محبة ولا مع المواساة بغضة. واعلم ان المملوك اذا أستوى فليس يسأل عن مال مولاه ، وانما يسأل عن خلقه. ففيما ذكرناه متعلم لاهل التأمل وذوي الروية والتبصير لان فيه تبيانا عن صواب الرأي في مثل هذا الامر اذا عرض ، وتعريفا لوجوب الاحجام عن قتل من يتهم بالظنين وترفيعا عما يوحي العزم ويحبب السلامة من الاسباب التي يستعمل ، أو تذكيرا لما يلزم من ترك الاستبداد برغد العيش على من يستصحب ، وارشادا الى أحسن الخلق مما يوجب أن يؤثر ولا يغفل. وقالت حكماء الفرس : ان الملك اذا صان وحرس كان فيه أربع خلال من الفضائل ، ويكوّن له من ثماني عوارض من الافات يلحقها كثيرا ، وتتصل بها أبدا ، كان مستظهرا في أمره مستحقا لملكه موثقا لاركانه في جميع شأنه وهي النعمة من السكر والبطر ، وصحة الرأي من الجبن ، والفشل ، والقوة من البغي ، والعدوان ، والجرأة من السرف والاقتار.

__________________

(١) المقة : تعني المحبة.

٤٦٤

الباب العاشر

في الخلال التي ينبغي أن تكون مع خدام الملك والقرباء منه وهي (١) عشرون خلة.

أولها : العقل ، فانه رأس الفضائل وعنصر المحامد.

الثانية : العلم : فانه من ثمار العقل ولا تليق صحبة الملك أهل الجهل.

الثالثة : الود للناس ، فانه خلق من أخلاق النفس يولده العدل في الانسان لذوي جنسه.

الرابعة : النصيحة ، فان الذي يبعث عليها افراط الود كما ان العشق انما يكون من افراط الشوق.

الخامسة : كتمان السر ، وتولده في الانسان من صدق الوفاء.

السادسة : العفة عن الشهوات والاموال.

السابعة : مجانبة الحسد ، وحدة الحسد شدة الغم مما يصل الى أهل الفضل من الخير ، ومن الناس من يظن ان الحسد قد يكون محمودا بوجه من الوجوه ، وذلك حيث يقول منهم من يقول ان الحسد مذموم الا في طلب العلوم ، والذي يقول ذلك فانما يجعل المنافسة موضع الحسد ، والمنافسة في طباع البشر لانها منازعة النفس نحو الفضائل من غير قصد الاضرار بالمنافس ، وغرض الحاسد أعدام من يحسده فضله وذلك مضر به.

__________________

(١) في النسخ الثلاث : وهو.

٤٦٥

الثامنة : الصرامة ، وهي شدة القلب ، فأنه لا يليق بصحبة الملوك أولي النكول ومن يلحقه في خدمتهم الفتور. وعن الامر يهاب به التقصير والجسور. فان الملك اذا كان على ما قدمناه من صفاته لم يجب لخادمه الا النفاذ لجميع ما يأمره به لانه من العقل بالموضع الذي لا يأمر بأمر الا في حقه ولا يعرض من ينفذ لامره لما لا خلاص له منه. وقد كان عرض لذي القرنين في بعض حروبه أمر ندب له خاصته ، ومن كان يثق بمسارعته فنكل أكثرهم الا رجلا سارع اليه ، وقال : قد وهبت نفسي للملك واثرت الموت في طاعته ، فقال له الملك : فالان حين اشتد ضني بك وامتناعي من التغرير بك.

التاسعة : الصدق فان مضرة الكذب على مستعمله وعلى من يقاربه غير يسيرة.

العاشرة : التغافل والصفح عن أكثر ما يوجب الغضب من أفعال لعلها تعرض اذا كان التفاعل عن ذلك غير ضائر.

الحادية عشرة : حسن الزي والهيئة فان في بهاء الملك ورتبته.

الثانية عشرة : البشر والاجمال في الملاقاة ليتآلف صاحب الملك بذلك قلوب من يلاقيه ولا يخفيه باللكوح وبشاعة اللقاء من غير حادثة تكون من الملك ومنه (١).

الثالثة عشرة : أن يكون معه رأفة لا تصده عن امتثال أمر الملك في جميع ما يأمر به ، لان الملك اذ قد وضع عادلا فليس يجب أن يخالف في شيء مما يرسمه.

__________________

(١) قال الصاحب بن عباد في ذلك :

اذا ما ودّك السلطان زده

من التعظيم واحذره وراقب

فما السلطان الا البحر خضما

وقرب البحر محذور العواقب

ابن رشيق القيرواني : زهرة الآداب ص ٩٦.

٤٦٦

الرابعة عشرة : أن يكون مع كل صانع من أصحاب الملك نقية فيما يصنعه ويحده فأن النيقة سجية ربما وجدت في الناس وربما خلوا منها.

الخامسة عشرة : الامانة فيما يستحفظ ورعاية الحق فيما يستودع.

السادسة عشرة : أن يكون في صبغته ايثار الانصاف في المعاملة والعدل في المعاطاة والموآخذة ، فان العدل يصلح السرائر ويجمل الظواهر ، وبه يخاصم الانسان نفسه اذا دعته الى أمر لا يجب أن يركبه ، وبالجور يكون في خليقة الانسان الظلم يلتمس ما لا يجمل وجه التماسه أياه ويريد ما لا يعقل موضع ارادته وعند ذلك تضطرب مجاري السنن الحميدة وتنقص مذاهب السير السديدة.

السابعة عشرة : أن يخلو صاحب الملك من اللجاج والمحك فأن ذلك يضر بالافعال اذا وقع اشتراك فيها ومضامة من الجماعة عليها.

الثامنة عشرة : ألا يكون بذاخا ولا متكبرا فان البذخ من دلائل سقوط النفس والكبر من دواعي عمى القلب.

التاسع عشرة : ألا يكون حريصا فان الحرص من أمارات ضيق النفس وشدة الطيش والبعد عن التماسك والصبر.

العشرون : ألا يكون فدما وخما ولا ثقيل الروح فان هذه الصفة غير لائقة بمن يلاقي الملوك ، وكثيرا مما يكون سببا للمقت من غير جرم (١).

__________________

(١) في س : من غير جزم.

٤٦٧

وكان زياد بن أبي سفيان يقول : ينبغي أن يكون خادم الملك أيقظ شيء عينا وأخفه روحا وأغظه طرفا ، وأقله للناس سؤالا ، فأن خادم الملك ، اذا سأل الناس وضع من قدر الملك. ومما ينبغي لخادم الملك اذا كان حازما ان يستشعره وهو أن يأخذ من أوقات منافعه الخاصة به ما يضيفه الى وقت اشتغاله بخدمة الملك ، وأوامره فيأخذ من زمان طعامه وشرابه ونومه ومفاكهته وحديثه ولهوه ونسائه وسائر مآربه فيضيفه الى ما ذكرته وقدمته. الا أن يخالف الحزم (١). فيأخذ من أوقات أشغاله بمآرب الملك وحاجاته ولذاته ، ما يجعله مضافا الى مآربه في نفسه ولذاته فان ذلك اذا فعله فاعل" عاد بالتقصير فيما هو سبيله مما يقوم به وما جعل بصدده من أمور الملك وأسبابه وبالضرر عند الملك في حال نفسه ومكانته ...

وينبغي لخادم الملك الا يطلب ما عنده بالمسألة ولكن بالاحسان في الخدمة والاجتهاد في الطاعة والمبالغة في النصح والكفاية. فان ذلك ولو تأخرت ثمرته اولى مما يجيء بالمسألة ، وان تعجلت فائدته ، وتوفرت عائدته ، لان ما يستثمر بالخدمة يأتي من عند الملك ونفسه به سمحة" طيبة ، ويده باعطائه سلسة منبسطة والمسألة فانما هي تذكره ما يأتي بها يأتي على سبيل استكراه ومنازعة وذاك مأمون الحاضرة والمغبة ، وهذا مخوف منه الاضجار والملالة ...

ومما ينبغي لخادم الملك ان يستشعره ترك الاعتداد بالبلاء الجميل يكون منه والتبجح بالكفاية البالغة التي من جهته ، بل ينبغي أن يكون بعد ما يظهر من جميل أفعاله وحميد أحواله من التذلل للملك والاستخذاء

__________________

(١) في س : ما يخالف الجزم.

٤٦٨

بين يديه على أشد من حال لم يبل مثل بلائه ولم يستوجب من الجزاء كجزائه لان من لم يكن له جميل أثر ولا محمود خبر فالثقة منصرفة الى برأته من التبجح والاعتداد. ومن أظهرت آثاره وبدأ احسانه وبلاؤه كان الظن منصرفا الى اعتداده به واستشعرت النفوس خفى ايمائه اليه واتكاله عليه.

فينبغي لخادم الملك أن يداوي هذا الطريق ويقاومه ويبدي من الخضوع ما ينفيه ويجانبه ، ومما ينبغي لخادم الملك أن يكون صبورا عليه ، وغير غضوب منه مما يباشره من مكاره ما يتلقاه بالمكاره بحضرته فانه ان اظهر غضبا منها وبدا منه اكتراث لها ، صار الملك الى حال اغراء بخصمه بالزيادة فيما يلقاه (١) به منها وطرق على نفسه الاسترابة بسريرته فيها فان كان ذلك مما يحتاج فيه الى جواب ، فعلى سبيل الحلم والوقار لا على جهة الطيش والاستحقار فان ذلك أثبت للحجة وأولى على كل حال بالغلبة والنصرة. ومما يحتاج اليه خادم الملك ان لا يضمر فضلا عن أن يظهر عيبا (٢) عليه ولا تكرها لشيء من أمره فان أضمر ذلك ولم يمكنه الاغلب في نفسه اجتهد في كتمه وطيه وحذر من ظهوره في قوله وفعله وابانته في لحظه وشمائلة فان فوثاغورس الفيلسوف يقول في وصيته المعروفة بالذهبية «لا تعادوا الامر الاغلب لا ظاهرا ولا باطنا». وخطب المنصور فقال ما كانه (٣) تفسير ما أدمجه فوثاغورس وأوضحه وهو معاشر الناس لا تضمروا غش الأئمة فان من أضمر ذلك أظهره الله على سقطات

__________________

(١) في س : يلقيه.

(٢) في الاصل : عبئا. واثبتنا ما في س.

(٣) في س : ما كان.

٤٦٩

لسانه وفلتات أفعاله في سحنة وجهه. ومما ينبغي لخادم الملك أن يستعمله مجانبة من يسخطون عليه وان كان منه قريبا ومفارقة من يظنون به ظن السوء وان كان اليه نسيبا فانه اذا فعل ذلك فكانه (١) قد أثر أثرا استوجب به عندهم التقديم وان كان لم يليق بهذا الاثر نصيبا ولا تجشم بما استعمله منه كدا ولا تعبا ، وان قصر فيه فكانه وان لم يذنب مذنب واستحق بذلك جرما وان لم يكن مجرما. ومما ينبغي لخادم الملوك الا يطغوا عند خصومهم بهم وتمكن أحوالهم منهم على أحد من نظرائهم ولا من منزلته دون منازلهم ولا يظهروا ترفعا عليه ولا حدودا عنه بل [يكونوا](٢) مع أسباب المقاربة على مثل ما يكون عليه في أحوال المباعدة وليجروا على سيرة واحدة وطريقة غير مختلفة مع الاحوال المتقلبة والاسباب المتغيرة فان ذلك لو لم يكن أنفع لكان أحسن ، واذا لم يكن أحزم فهو أسلم. ومما عنده من الجواب أصح مما عند الذي سأله ، وكذلك ان عم بالمسألة ينبغي أن يتحفظ منه خادم الملك الا يجيب عما يسأل عنه غيره ، وان كان عنده من الجواب اصح مما عند الذي سأله وكذلك ان عم بالمسألة الجماعة فليس من الرأي للواحد منهم أن يبادر بالجواب حتى يشار اليه في نفسه ولعل الملك ان يؤثر امتحان من يسأله لينظر من منهم أولى بالخفة والاسراع الى ما لم يقصد به من الجماعة فيكون المسارع عنده ناقص المعدلة ومستدعيا ممن يسبقه الى القول من العصابة الى أن يجعلوا وكدهم تطلب العيب لما يأتي وبه يكون المثبت متبحرا ما يجيب به من تقدمه ومتأملا ما يتخذ (٣) التأمل من كلام يسمعه فيصح حينذاك التوقف والتمهل

__________________

(١) في س : وكأنه.

(٢) في الاصل : كونوا والاضافة من س.

(٣) في س : ما ينتجه.

٤٧٠

احزم من الاسراع والتعجل. ومما يجب على خادم الملك ان يستشعره وهو ان اغلاظا ان أغلظه الملك في خطابه أياه فانما أكثر ذلك لعزة الملك وحميته لا لعداوة ومقت يكونان في نفس الملك عليه فأنه اذا استشعر بهذا (١) لم يعترض له تغير لما يجري منه ويخشى ان يكون مبغضا عنده من أجله ، وممقوتا لديه فتتحرك لذلك نفسه ويعرض له ما يعرض لمن كان في مثل طبيعته وانه اذا كان جبانا دخله ذل وهلع وان كان شجاعا عارضه حمية وغضب فشيت هذه الاحوال اليه وأفسدت عليه ما هو بسبيله. واذا أضرب عنه صفحا وقابلها بالاغضاء لما يستشعره من سببها هانت عليه واستقام معها أمره. ومما يجب أن يتحفظ خادم الملك ويحذره أن يومى الى انسان بحضرته بمسارة أو يهمس الى أحد بهمسة فان ذلك في ظاهره لا يليق (٢) بمجالس الجلة وذوي الاقدار العالية الى ما يتصل من وقوع الظنة وحدوث الريبة.

__________________

(١) في س : هذا.

(٢) في س : ولا.

٤٧١

الباب الحادي عشر

في أسباب بين الملك وبين الناس اذا تحفظ منها زادت محاسنه

وانصرفت المعايب عنه وتمكنت له سياسته

من ذلك لا يؤثر المدح بل يكرهه ولا يتقبله بل يسىء متلقيه به ويزجره. فان الملك اذا وجد منه مثل ذلك الحال عاتبه وتوجهت المذام عليها وجعلها أهل الجهالات وعىّ الالسن طريقا الى خديعته وتسقطه وقابل المدح مع هذا قريب من مادح نفسه فان كان في صيغة الملك حب المدح ، فليعلم ان كراهته له مجلبة لمدحه واستدعاءه أياه مدعاة الى ذمة فليجتنب ما هو سبب الى المدح ، وليتجنب ما هو داعية الى الذم ومنه التوقي من أن يعن له فكر غير محمود في ان مشاورته في الامر اذا شاور فيه افتقار منه الى رأى غيره أو يأنف في بعض الاحايين من المشاورة فيما يعروه ويعرض له وليعلم عند ذلك انه ليس يريد الرأي ليتحدث به عنه بل انما يريده للانتفاع بثمرته ولو انه كان يقصد بالمشورة ان يتحدث بها عنه لكان من الجميل أن يقال لا ينفرد برأيه بل يشارك ذوي الحجى والفضل فيه ويرجع الى أهل الرأي فيما ينوبه منه وكل ذلك مع جماله وبهائه (١) ما ينخب به قلوب أعدائه ويخوفهم بلوغ كيده وشديد مكره.

__________________

(١) في الاصل : ونهاية والاضافة من س.

٤٧٢

وما ينبغي للملك أن لا يدع المشاورة ورسول الله صلى الله عليه (١) لم يكن يدعها الا فيما ينزل به الوحي أمر من أمر الله قاطع والرأي مجعول الى الناس فيه التشاور ، وقد كان عليه السلام اذا أراد أمرا قال (٢) له أصحابه هذا بوحي من عند الله ، أم شيء أنت تفعله ، فيقول لو كان وحيا ما احتجت الى نظر فيه ولكنه بالرأي ، فيقول : كل امرئ منهم حينئذ ما عنده فلو ان أحدا من البشر كان مستغنيا عن المشورة لاستغني (٣) عنها رسول الله صلى الله عليه (٤) ، ومع انه كان لا يستنكف عنها وقد أمر في القرآن أيضا بها فما لاحد أن يأنف منها ، ولا يضع نفسه موضع الاستغناء عنها. ولم يكن أحد من الملوك الجلة الا وله وزير أو وزراء يرجع الى رأيهم ، فمنهم ذو القرنين الذي لم يبلغنا ان أحدا ملك مثل ملكه من غير الانبياء عليهم السلام فانه كان يرجع الى وزيره ومعلمه أرسطاطاليس في المشاورة ومن رسائله اليه في هذا المعنى رسالة كتب بها اليه بعد دخوله لبلاد (٥) فارس يستمده بها من الرأي ويستشيره فيما يكون عليه عمله من وجود التدبير يقول فيها : أما بعد فاني راغب في المشورة وطالب الزيارة في المعرفة ومجتهد في الوصول الى ثمراتها النافعة لا يثنيني عن ذلك رغبة اقدر مثلها ولا فضيلة أتوهم الاعتياض بها ولعمري انه ليجب (٦) على من ولي مثل ما وليت

__________________

(١) في س ، ت : صلى الله عليه وسلّم.

(٢) في س : امرا فاسأله اصحابه.

(٣) في س : لا يستغني عنها.

(٤) في س ، ت : صلى الله عليه وسلم.

(٥) في س ، ت : بلاد فارس.

(٦) في س : ليجب.

٤٧٣

من الامور وأفضي اليه مثل الذي أفضى اليّ من الاحوال أن يكون طالبا ثلاث (١) خصال لا مذهب عنها. أما الاولى ، فحقيقة الرئاسة ، وأما الثانية فصرف التدبير الى ما يلزم تدبيره. وأما الثالثة فاستعمال ذلك على جهته ووضعه في كنهه (٢) ولو كان طالب كل أمر يتأتى له ما يريده منه على سداده ويتوثق له ما يقدره فيه على حقه لم يكن الجهلاء محتاجين الى العلماء بل كان يبطل اسم الجهل أصلا اذ لم يكن يوجد الا عالم ولا كان أيضا قدر ولا خطر ولا كان لاحد فضل بالتمييز لتساوى الناس جميعا في ذلك لانه اذا كان المدح لازما لاهل الفضل بغضهم فالذم واجب على ذوي الجهل بجهلهم ، وقد قال بعض الحكماء ان الحكمة تطلب لاستحقاق اسمها ولان ننفي عن طالبها اسم الجهل بها وقد قال افلاطون : كل من التبس عليه شيء من العلم فليسأل عنه أهل المعرفة ، فانه بذلك يستحق اسم الحكمة ويستوجبه وبتركه أياه وعدوله عن طلبه من أهله يلزمه اسم الجهل ويستحقه.

ذكر الاسكندر في هذه الرسالة أمورا أخر ليس هذا موضع ذكرها الى أن قال فيها ولو كان أحد مستغنيا برأيه عن المشورة لكان اوسطاثيوس جديرا بذلك لما كتب سيذروس الملك يسأله عما يعمل به في أهل أتليس واسطوغورس وهاتان مدينتان ظفر بأهلها فلما لم يكن عنده فيما يسأل عنه من الرأي ما يرضاه رجع الى مشاورة الفلاسفة وأهل الحكمة ووجه الى سوان يسأله عما سأل عنه من الرأي فوضع سوان في ذلك الكتاب المرسوم بكتاب (الصفح) فوجه به اوسطاثيوس الى سيذروس الملك وكتب اليه بحقيقة خبره وانه لما لم يثق بما عنده رجع الى سوان

__________________

(١) في س ، ت : بثلاث.

(٢) في النسخ الثلاث : كهنه.

٤٧٤

فيه لسنه وكثرة تجاربه فحسن وضع ذلك عند سيذروس وعمل بما فيه. ثم قال الاسكندر : بعد هذا مخاطبا لارسطاطاليس ، وأما بعد فانه قد يجب ان أحل نفسي مع هذا الخطب المحل الذي توجبه الطبيعة لانه من أراد معرفة شيء من الامور فلا محالة أن يطالبه عند أهله ، فانا نجد ذلك كثيرا في أصحاب المهن والصناعات ، وقد احتجت الى ان يتبين لي ما اجتلب به مصلحة أموري في الرعية واصلاحها عندي حتى يكون قد ذهبت بالمكرمة الاولى وحصلت فضل الاخرى وتمت لك نعمة الفوز في العقبى ، وقد قال ادميوس الشاعر : «كل من سن خيرا بقى له ذكره ولا خير فيمن سن الشر». وأنت بالموضع الذي أحلك الله به وجعلك (١) أهله من الحكمة والفضل على كل حال فتقدم باجابتي وليكن ذلك في كتاب مشروح لاجعله نصب عيني والتمس به حسن الاثر الباقي على الدهور ، ويكون قد سدت بفضل الحكمة ، والعلم قديما وحزت شرفها حديثا ، فعلى حب الحكمة فليكن اجابتك والله أسأل الامن من الفجيعة بك.

فكتب اليه ارسطاطاليس رسالته المسماة برسالة (التدبير) وقد ذكرنا بعض ما تضمنت ، ونحن نذكر باقيها في مواضعه إن شاء الله (٢). ولا ينبغي للملك أن يظن انه من الجائز أو السائغ ارضاء جميع رعيته اذ كان متعذرا ذلك فيهم لاختلافهم وتباين صيغهم ومذاهبهم ولان فيهم ارضاه الجور والخبال ، وفي اتباع مراده بالباطل والضلال وفي وقاية البلاء والفساد بل ينبغي أن يكون وكده رضا الاخيار وأهل الفضائل فانه متى توخي ذلك واعتمده عفى على ما سواه وأصلحه وكان أكثر ما يرتئيه صوابا وأكثر

__________________

(١) في س : وجعل.

(٢) في س ، إن شاء الله تعالى.

٤٧٥

ما يعتمده أو جله مستحسنا مقبولا. وليحرص (١) الملك كل الحرص على أن يكون خبيرا بأمور رعيته فانه عند ذلك يخاف المسىء من خبرته قبل ان تنزله عقوبته ويستشرف المحسن مثوبته قبل ما يستحق ذلك بسببه وليجتهد الملك أكثر الجهد أن يتمكن في نفوس أهل مملكته انه لا يعجل بثواب ولا يبادر بعقاب ليدوم رجاء الراجي له ، وخوف الخائف منه ، ويكبر في نفوس الرعية خطره ويعظم لديهم شأنه ، وليحسن الملك تدبير أمره فلا يدع ملابسة كثيرة لئلا يقع فيه الخلل والتضييع ولا يباشرن صغيرة لئلا يرى بعين المهانة والتحقير بل يكون معاينا للاخص مطالعا للاعم ، يقرب في تباعد ، ويبعد في تقارب حتى تتعادل أحوال ما يرعاه ويدبره ويوازن أصناف ما يكلائه ويعنى به وليس يجب أن يكون الملك نزر الكلام ، ثقيل الطرف عند رد السلام ولا كثير النظر ، سريع الرد ، بل في الوسط من الحالين وفيما بين المنزلتين لئلا ينسب الى كبر ولا طيش ولا اعجاب ولا سخف وليدع الملك اليمين والحلف مصرحا أو معرضا فان اليمين من الحالف بها انما تكون على أحد وجهين. أما الاجتهاد في ان يصدق فيما يقوله وليس الملك مضطرا الى ذلك في حال من أحواله أو من عي اللسان وحاجته ان يستريح منه الى الايمان وهذا أيضا غير لائق بالملك لانه من العورات التي ان لم تكن بهم فقد كفاهم الله قبحها وان كانت فتحت عليهم طينها وسترها. ومما يحتاج اليه الملك معرفة أهل الديانات الوثيقة والنيات السليمة والمروءات الصحيحة فيتخذهم أعوانه وخلصائه وثقاته ويجعلهم شعاره وبطانته فانه اذا توخى ذلك واعتمده ولم يدخله غلط فيه حسنت أحواله كلها واستقامت أفعاله وطهرت سريرته ونظفت علانيته.

__________________

(١) في س ، ت : وليحرس الملك كل الحرس على أن يكون خيرا.

٤٧٦

ومما يجب على الملك الاجتهاد في رياضة نفسه على كتمانه أن يبدو في وجهه الغم أو الغيظ أو الرضا أو الفرح آثار يعرف بها ما عنده منها فانه لا عيب على الملك أعيب من أن يوقف على ما في نفسه من غير ارادته ويطلع على ضميره من غير اختيار فان ذلك مما لو باح به الى انسان فنمه واطلع عليه أحدا فباح (١) به لوجبت معاقبته عليه فكيف به اذا ترك التحرز من حال يعاقب عليها غيره ويتصور من أمر لا يرضاه من سواه وهذا أيضا مما اذا قوى الانسان على ضبطه وتأتي للتحفظ منه دل على حصانته وأبان عن رجاحته وأنبأ عن بعد الديانة فيما يأخذ به ، ويعطي ويحكم به ويقظي لم يكن ملوما ولا مذموما ولو بلغ من العقوبات غاياتها ومن الامور الشاقة الى غاياتها (٢) واذا عدل عن ذلك مع احسان وترقيه واجمال فيما يأخذ به لم يسلم من عائب يتوجه له من عيبه ما لا ينكره لكثر الناس ولا يرون مخالفته ولو ذهب واحد من الناس ان يعيب الملك وهو على سنن الشريعة كان كالعائب لهم جملة والراد لما في أيديهم عامة فليلزم الدين الذي هو اس" لملكه وعمادة لسلطانه ولا يلتفت الى ما سواه من اجمال يعتمده واحسان يقصده وهو مخالف للدين وغير موافق له ، وليراع الملك فيما يراعيه من أمور رعيته خلة الكريم وفاقته وليحرص على ذلك منه وازالته وكذلك فليتأمل بطر السفلة بالجدة وطغيانهم بالثروة وليقصد لابطال ذلك وقمعه وازالته وحسم سببه فان من الامثال السائرة والوصايا السالفة «انه ينبغي أن يستوحش من جوع الكريم وشبع اللئيم».

__________________

(١) في الاصل : فيباح به وأثبتنا ما في س.

(٢) في س : الى غاياتها.

٤٧٧

وليعلم الملك ان أول وهاء (١) ملكهم وأكبر آفات دولهم انما هو ارتفاع السفلة الذي هو سبب انحطاط الاشراف والعلية ، فان من الامثال السائرة والحكم الغابرة ان انحطاط مائة من العلية أحمد من ارتفاع واحد من السفلة والسبب في ذلك ان اللئيم الناقص المعرفة والوضيع المنبت (٢) والابوة ارتفعت به حال أو علت به رتبة كان احتباؤه لمن يقرب من حاله في الخلال التي عددتها أشد واشتماله (٣) على من مايله فيها أو كد. وكلما اجتمعت اليه من مثل هذه الطبقة عصابة فاضت بهم الجهالات وانتشرت وأثمرت بذلك الحساسات او نبسطت وكلما زاد واحد من هذه الفرقة ضرب اليه من جنسه جماعة لم يجتبوا أيضا ، الا أمثالهم في السقوط والضعة وقلة المعرفة فحازوا المراتب دون من يستوجبها من أهل الفضل والنفاسة وذوي الآداب والدراية ومع الجهل سقوط المراتب كما انه مع العقل ارتفاع الدرج والمنازل وفي الانسان اذا تؤمل أمره مع سائر أنواع الحيوان بيان ومعتبر لانه اذا وجد الانسان في صغر جدعته وتعرى جلده ونقص قوته وايده وعدمه السلاح المعد للبطش في جسده يغلب البعير والفيل حتى يستخدمهما والاسد والنمر حتى يذللهما وينتفع بهما. وكذلك سائر الحيوان يصرف أنواعها على ما يختار منها لم يكن للغلبة وجه ، الا ما أعطيه الانسان من التمييز والحكمة وانه مخول منهما ما ليس لغيره من الحيوان مثله وانه كلما غلب الانسان الحيوانات غير المميزة بالتمييز فكذلك يغلب من كان من الناس أقوى تمييزا لذوي ضعف التمييز ويستولى منهم من كان أنفذ في المهم والتدبير على من كان أضعف في ذلك من الجميع فقد وضح الدليل وصح البرهان على انه مع العقل والحكمة الغلبة ومع الجهل والسقوط والانقياد والذلة ، وصدق المثل القديم في ارتفاع واحد من السفلة

__________________

(١) وهاء : ضعف. الخطاط.

(٢) في س وت : المنصب.

(٣) في الأصل : اشتماله واثبتنا ما جاء في س.

٤٧٨

يغلب الجهل الذي هو سبب زوال القهر والغلبة وانحطاط المراتب العالية ... وقد قال بعض الحكماء من الفرس قولا لم يأت ببرهانه كما بينا (١). الا انا ذكرناه لما كان لما قلناه موافقا ، وهو «اذا سادت السفلة انحطت السراة واذا انحطت السراة ولىّ الزمان واذا ولي الزمان نزل البوار». وقال بعض حكماء الهند في مثل ذلك أيضا «أفضل الازمنة ما لم تكن الغلبة والاستئثار فيه للئام والسفلة ومن اصطفى الاشرار استوجب البوار».

وقال بعض بلغاء العرب في مثل ذلك أيضا ، «مقارنة السفلة تميت الهمم والنباهة ، وتفسد اللسان والعبارة ، وتصدى الطبع والقريحة ، وتبعث على لؤم العادة واقتناء الاخلاق الدنيئة الرذيلة وتسقط من أعين السراة وذوي الفضيلة».

وقال الافوه الاودي الشاعر (٢) : في هذا المعنى ما دل على ما موافقته بما عن له ، وجرى على لسانه حكم العرب والعجم التي بيناها والبراهين التي أوضحناها.

__________________

(١) في س : كما أثبتنا.

(٢)لا يصلح القوم فوضى لاسراة لهم

ولا سراة اذا جها لهم سادوا

والبيت لا يبتنى الا على عمد

ولا عماد اذا لم ترس اوتاد

تهدي الامور بأهل الرأي ما صلحت

فأن تولت فبالاشرار تنقاد

اذا تولى سراة الناس أمرهم

نما على ذاك أمر القوم فأزدادوا

أنظر : الزيات : تاريخ الادب العربي ص ٣٨.

٤٧٩

الباب الثاني عشر

في استيزار الوزراء ، وما يحتاج اليه الملوك منهم

وما يلزم الملوك لهم

ان افضل الوزراء من يدين بحياة الملك وطاعته ، ويسخط العالم في سبيل مرضاته ، ويذهب نفسه وماله في ارادته ، ويجب أن يكون في الوزير هذه الخصال :

اولها : أن يكون تام الاعضاء تواتيه على الاعمال التي من شأنها أن تكون بها ومنها.

الثانية : ان يكون جيد الفهم ، كثير العلم حسن التصور ، ربما يقال حساسا ، دراكا ، يقظان فطنا متغافلا ، مستمعا اذا رأى على الامر ، اقل دليل فطن له على الجهة التي قصدته.

الثالثة : ان يكون جميل الوجه ، حسن العقل ، غير صلف ولا ذي قحة.

الرابعة : ان يكون حسن العبارة ، يواتيه لسانه على ما في قلبه ، ويميزه بأوجز الالفاظ.

الخامسة : أن يكون حسن الملبس ناقدا في كل علم لا سيما علم الحساب فهو العلم الحقيقي البرهاني الذي يهذب الطبع.

السادسة : أن يكون صادق القول ، محبا له مجانبا للكذب حسن المعاملة. كريم الخلق ، ليّن الجانب سهل اللقاء.

السابعة : أن يكون قنوعا في الاكل والشرب ، قليل الشهوة في النكاح ، متجنبا للذات المزاح.

٤٨٠