الخراج وصناعة الكتابة

قدامة بن جعفر

الخراج وصناعة الكتابة

المؤلف:

قدامة بن جعفر


المحقق: الدكتور محمد حسين الزبيدي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الرشيد للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٣

عند جمهور الناس منهم قياس الملوك في غيرهم عند سائر عوامهم [مصرع](١). (دماؤهم من الكلب الشفاء).

قال أحمد بن يحيى النحوي (٢) : ذكر لي ان تفسير ذلك انما هو لان دم السيد (٣) غاية الثأر ، وانه اذا أصيب فقد أدرك الثأر كله ، ووقع الشفاء بعده ، قال : وانما الكلب هاهنا الغيظ والغضب كما قال بعض الشعراء [مصرع](٤) :

كلب بضرب جماجم ورقاب

فالغيظ عندي من العرب على ساداتهم من جنس ، غيظ سائر الامم على ملوكهم ، واذ قلنا ما قلناه ، فليكن أول ما نتبع به ذلك ذكر أخلاق الملك وسجاياه (٥) ، وما يجب أن يكون عليه منها في ذات نفسه اذ كان ذلك مبدأ التدبير والسياسة ومنشأ الافعال الشائعة في العامة. ثم يتبع ذلك ما يجب أن يكون تابعا له.

__________________

(١) سورة الانبياء : ٢١ الآية ٢١.

(٢) ويقصد به احمد بن يحي النحوي المعروف بثعلب.

(٣) في س ، ت : السيل.

(٤) في س ، ت.

(٥) في س : اخلاق الملك سجاياه.

٤٤١

الباب التاسع

في أخلاق الملك وما يجب أن يكون عليه منها في ذات نفسه

ليس أحد أولى بسياسة نفسه ورياضتها ، على التهذيب ، والاستقامة ، والعقل ، والفضيلة ، والرأي والرجاحة من الملك ، لانه اذا فعل ذلك كان حقيقا في أول الامر ، أن يرى نفسه فوق من هو سائس له مستوجبا للعلو على من هو دونه ، اذ كان ليس من الحق أن يكون الادنى فوق (١) الاعلى ولا الاقصى متقدما للافضل ، ولا الجاهل مملكا على العاقل. فأول ما ينبغي أن يكون من صيغة الملك العقل فانه أفضل قوى النفس ، والعاقل أثير مكرم مرأس مقدم عند من به من الناس اليه حاجة ، وعند من لا حاجة به اليه ، والعقل منه مخلوق مع أول الفطرة ، ومنه مستفاد ومكتسب بعد ذلك باقتناء العلوم الحقيقية ، والتجربة البادرة ، عن الفهم والروية ومجاراة ذوي الآراء الوثيقة وأهل الآداب الصحيحة ، فاذا كان مع الملك العقل الاول أمكنه أن يضيف اليه اكتساب الثاني ، واذا اجتمعا قويا قوة لا يحتاج معها الى وصية ، صار الملك بهم الى السعادة التامة في الدنيا والاخرة. وقد يعترض بينهما ويعوق عن اجتماعهما الهوى ، وغلبته وكثرة فنونه ، وتشعبه فليحذر الملوك من تسلطه ، فأنما هو كالنار التي تنمي من ضعف وقلة ، وتسعر من الشرارة الدنية ، حتى اذا اضطرمت وقويت ، لم يدرك اطفاؤها بالهوينا والحال السهلة ، فاذا دوركت قبل أن تقوى وبودر باضعاف الهوى قبل ان يتمكن ويشظى كانت القدرة عليه أسهل واستدفاعه قبل تمكنه أولى وأيسر ، وأمثل الطرق المأخوذ فيها بجسمه ، وأخلق السبل

__________________

(١) في س : الاذى.

٤٤٢

التي تسلك في افنائه وتمحيقه ، هو أن يقصد الملك لعلم ما كان يجهله ، وتفهم ما كان غير فهم به فانه عند وصوله الى ذلك ، يزول عنه ما كان متشعبا في نفسه من فنون الهوى ، ويضمحل ذلك أو جله ويتلاشى ، والهوى فمما لا ينبغي للملوك أن يحذروا شيئا ، أشد من حذرهم منه ، والا يكونوا مجاهدين لعدو من أعدائهم قبل مجاهدتهم له ، فانه اذا عجز الملك عن مجاهدة هواه الخاص به كان أولى بالعجز عن غير ذلك مما [هو](١) خارج عنه فقد كان يقال من كان عقله لا يقوم بمصلحة خاصة لم يكن أهلا لان يستصلح به أمر عامته. ثم العفة من رأى أن السخاء من الكرم [بأن يقال ان الكرم](٢) انما يستحق بالسخاء ، وذكر كما قدمنا انهما جنسان لا يعم أحدهما الاخر ولا يدخل تحته. وذكر اختلاف أهل المشرق والشمال في المواهب ، وانها أنفس ما جرى في باب الكيفية ، أو ما كان داخلا في معنى الكمية وفضل مواهب الكيفية على مواهب الكمية ، لدخول الحكمة وسائر الصناعات في باب الكيفية. وقال : بعد ذلك لما صحح ان السخاء والكرم ممدوحان انهما بالملوك أزين وباخلاقهم أبهى وأحسن. وحكي قول شاعرهم المعروف بهوميروس حيث قال [أنظر : ارسطو كتاب السياسة وتدبير الرياسة ، ص ١٣ (مخطوط)] :

«لا ينال المراتب بخيل ولا يرتقى الدرجات العليا الا كريم». وقد قال قائلون : ان من السخاء الامساك عما في أيدي الناس ، مما لا حق يوجب أخذه منهم ، وليس هذا من السخاء ، ولا من الكرم ، بل هو في طريق المروءة اذهب وأمضاها الزم. ومما ينبغي أن يكون الملك مجبولا عليه ومكتسبا لتقويته في نفسة ، عظم الهمة ، اذا كان ليس من شأن الملك الا أن تكون كل أفعاله الانسانية مبالغا فيها ينحو نحو الغاية القصوى على حسب قدره من المنزلة ، وعلوها ومحلة من ارتفاع الدرجة

__________________

(١) ليست في : س ، ت.

(٢) ليست في س ، ت.

٤٤٣

وسموها ، ويحتاج الملك أن يكون شجاعا والشجاعة ضربان ، أحدهما الصبر على النوازل الملمة والخطوب النائبة. والاخر الجرأة على الملاقاة والمنازلة على الحرب والمباطشة ، فان اجتمع الصنفان للملك فهو الكامل ، والا أجزاه أن يكون الضرب الاول منهما.

ومما يحتاج الملك اليه ، أن يكون بعيد الفكر متطلعا نحو العواقب ، ذا عزيمة في نفسه وشكيمة في رأيه ، حتى اذا صح عنده ما يوافق الصواب ، وان كان فيه بعض المخاطر أمضى تدبيره فيه ولم ينكل عنه ولا يداخله فشل فيه ولا خوف منه ، والحلم فلا يصلح أن يكون الملك غير لابس له لانه في أول الامر بها يكسبه زينة ويكسوه وقارا وبهجة ، ثم يتلوا ذلك أن يصل الى رعيته ، ومن يسوسه من الناس نفعة ، لان ذلك اذا كان معه سهل السبيل الى التثبت (١) في مواضع العقوبات على الاجرام التي يتكون بعضها واقعا على شبهة ، وبعض جاريا بسبب أقوال كاذبة ، وبعض على سبيل حيلة وعلى وجه معاداة غيلة ، فاذا كان مع الملك حلم ووقار وترفق وثبات ، لم تقع عقوبته الا في حقها ، ولا مجازاته الا في موضعها ، ولم يكن منه ما يوجب الذم ولا وقع من جهته ما يذكر معه ندم. ومما لا يصلح مفارقة الملك أياه ولا خلوه منه الصدق في وعده ووعيده ، فانه اذا كان حليما متثبتا ، لم يعد الا ما يتيقن قدرته على الوفاء به ، ولم يتوعد الا من يستحق أن يتوعده ، بمثل ما يوجبه جرمه ، ولم يتهدد أيضا الا بما له أن يفعله ، فاذا وعد في حقه وواعد في كنهه لزمه أن ينجز ما وعده ولا يخلف ما توعد به.

ومن كمال الخلال التي قدمنا حاجة الملك اليها ، أن يكون عادلا في نفسه مكتسبا لما حفظ هذه الفضيلة ، وزاد عليها بجودة البحث (٢) وعم الصواب كل أحواله ، واستقامت الخلال المحمودة التي تكون معه ،

__________________

(١) في س : التثبيت.

(٢) في س : بالبحث.

٤٤٤

وصواب النظر. فان الملك اذا كان عادلا شمل الاقساط جميع أفعاله ، وعم الصواب كل احواله واستقامت الخلال المحمودة التي تكون معه حتى لا يجري شيء منها على سرف ولا تكثير ، ولا نقص ولا تقصير والشح ، من الخلال المذمومة ، التي لعلها تعرض (١) له حتى يخلو منها ، أو من أكثرها بمعاتبته نفسه عليها ، ونهيه لها عنها وقد يستغنى الملك اذا كان عادلا من ان يكون رحيما لان الرحمة انما هي تركيب في خلق النفس من ود وجزع ، فاذا عدل الملك حتى لا يضع عقوبته الا في حقها ، كانت الرحمة ناقصة منها ، وعاد ذلك بالضرر في التدبير. ومما يحتاج الملك أن يكون متطلبا له ، وناظرا فيه ، سير من تقدمه من الملوك ليقبل (٢) أفعال من حمدت أفعاله ، وكانت متصفة بالسداد أحواله ويتجنب سيرة من ذمت سيرته ، ولم يكن ممن ترتضى طريقته ، ويحتاج الملك أن يخلوا من خلال في كونها معه ضرر عليه في ذات نفسه ، وفي تدبير رعيته ، ومصالح مملكته منها اللجاج والمحك فانهما لا يكونان الا في الطباع الرديئة ، ومن الخلائق الدنيئة ، وهما مع هذا يعوقان مجارى الرأى عن (٣) الانبعاث. ومنها البذخ ، فانه تابع أبدا لصغر الهمة ، ومنها التهاون بالامور فان اليسير في ذلك ينتج كثيرا من الخطأ وعظيما من البلاء.

وقد ذكر مروان بن محمد : وكان من أكابر ملوك بني أمية وشجعانهم ، وذوي الرأي والسياسة منهم ؛ لما دفع الى ملك قد وهت قواه وانتفضت عداه باهمال المضيعين وتقصير المترفين ، فأخذ يروم تلافيه وقد عسر ، وتقصد لرتقه وقد زاد الخرق واتسع وباشر من حرب المسودة (٤) ما اشتد عليه حتى انهزم فلجأ في انهزامه

__________________

(١) في س : يعرض.

(٢) في س : ليقتل.

(٣) في س : من.

(٤) يقصد بهم (العباسيون) لانهم اتخذوا اللون الاسود شعارا لهم.

٤٤٥

الى موضع حصل فيه ، ومعه خادم رومي يقال له : بسيل ، وكان هذا الغلام فيما يقال من أشراف الروم فوقع عليه سبى صار به الى مملكته مروان فقال مروان : في تلك الحال (يالهفاه على كف ما ظفرت ودولة ما نصرت ونعمة ما شكرت) فأجابه بسيل بأن قال : من أغفل الصغير حتى يكبر واليسير حتى يكثر والخفي حتى يظهر لقي مثل هذه الحال التي نحن عليها واغلظ.

وقال بعض حكماء الفرس : ما أورث راحة ما أعقب نصبا ومعونة (١). وقال آخر منهم : ما أهون الكد المؤدي الى الدعة ، وأصعب الدعة المعقبة تعبا ومشقة. وقال بعض البلغاء في ذلك : ينبغي أن يستعمل الملك الحزم محتملا مؤونته بصلاح بغيته وبجانب العجز تاركا عاجل راحته لمكروه عاقبته. فان للحزم مؤونة تودى أهلها الى الخفض والدعة وللعجز يسيرا من الراحة ، يفضي بمستعمله الى الذل والضعة والكبر ، فينبغي للملوك الرجح أن يعدلوا عنه ، وينتفوا منه فانه يكفى اذا كانت معه الخلائق التي قدمناها ان يعظم بها خطره ويجزيه ان يكرم من أجلها ، فان الكبر يكسب صغرا ومقتا ، والتواضع يجلب لمستعمله كبرا وودا. وقد قالت حكماء الفرس : التواضع مع السخف والبخل أحمد من الوقار والسخاء مع الكبر ، فأجمل بحسنة عفت من صاحبها على سيئتين ، وأقبح بسيئة محت من مستعملها جمال حسنتين.

وقالوا : ان أصل التكبر أعجاب المرء بنفسه ، ووضعه أياها الموضع الذي يتزيد فيه على حقه ، وذكروا ان ذلك غاية التكدر ، والبلوغ فيه نهاية حال المتزيد ، لان من ترسم بالكذب وندم عليه انما يكذب بأن يقول ما لا وجود له ، ويزيد على منزلة الكاذب بالقول من يكذب في فعله ، وهو المرائي لانه يظهر بالفعل ما لا يعتقه ، ومنزلته عندهم في الكذب أغلظ من منزلة الذي يكذب فجد قوله ، لان هذا

__________________

(١) كذا في الاصل ولعلها مؤونة.

٤٤٦

يجمع الى كذب القول ، كذب الفعال. والاول انما كذبه في اللسان. والمنزلة المتناهية في الكذب هي منزلة من يكذب باعتقاده ، لانه يعتقد في نفسه ما لا يجده منه غيره فيكون المعجب قد جمع الكذب باللسان والفعال والاعتقاد. فان كان الكذاب (١) مذموما فالمرائي أذم منه ، وان كان المرائي أشد في باب الذم من الكذب ، فالمعجب أولى من المرائي الذي يتقدم في الكذب طبقته ، واذا كان الملك أولى الناس بالبعد عن الكذب باللسان ، وأزيد من ذلك أن يبعد عن الكذب بالفعال ، وأزيد منهما أن يكون كاذبا بالاعتقاد الذي ينضاف اليه الكذب باللسان والفعال ، وواجب عليه أن ينفى العجب بالتواضع ، ويغني عن الكبر بلين الجانب ، لانه لا شيء أجل من أن تقابل النعمة كلما عظمت بالشكر ، ويجازي المنة كلما جلت بالحمد ، كما كان من أخلاق رسول الله (صلى الله عليه) ولا خلق أولي بأن يتقبل من خلقه ، وليس لاحد عظم شأنه ولا للملك وان عز سلطانه ان يظن بنفسه ارتفاعا عن حاله وقد كان التواضع سجيته وترك الكبر خليقته (صلى الله عليه).

ومما يحق على الملك أن يفعله ولا يخلو منه مجالسة الحكماء ومعاشرة ذوي الراي والحجى ، فان انطياعه لهم وتقبله مذاهبهم واخلاقهم يبعده عن أمر العامة الذي هو في غاية المضرة ، ولا سيما على الملوك وذوي الاقدار العالية ، وفي ذلك وحده لو لم يتعلق بغيره مجزي وكفاية ، فكيف به اذا شذا الشيء بعد الشيء منهم وتعلق بحكمهم وعلومهم وفيما أثبت من توقيع انوشروان انه رفع اليه يسأل عن السبب في مجالسة أهل العلم والرؤساء من أهل كل صناعة. فوقع ان انتشار ذلك عنا تقوية لملكنا واضافة لعددنا. والوجه ان يعلم ان هذا الرأي الذي وقع لانوشروان ،

__________________

(١) في الاصل : الكذب واثبتنا ما جاء في س.

٤٤٧

مما لم تزل الحكماء تأمر به والملوك الحزم تتحاض [عليه](١) ، وتجتهد في ان تنشر عنها فعله واستعماله ، وممن كان على هذه الحال في اختياره العلماء ومعاشرته أياهم وقبوله مشوراتهم ، الاسكندر ذو القرنين.

ولا جرم انه ما يذكر ، ان ملكا استولى على ملك الشرق والغرب وما بينها ودانت له انه ما يذكر ، ان ملكا استولى على ملك الشرق والغرب وما بينها ودانت له الامم كلها غيره ، وان معلمه كان ارسطاطاليس وعنه أخذ الحكمة ، وكان أول أمر الاسكندر ، ان أباه فيليب [في النسخ الثلاث : فيليس] كان ملكا من ملوك اليونانيين ، وكان حكيما ففكر بعد مضي أكثر عمره في أمور الناس المضطربة ، ومذاهبهم المختلفة الفاسدة ، فتشكى الى جلسائه من الحكماء اغتمامه بذلك ، وتوقه الى الصلاح العام ، وعزمه على قصد الملوك الضلال ، ليبصرهم الحق ويجاهدهم عليه فرأى من يليه من الحكماء ويحف به من صالحي الجلساء صواب هذا الرأي ، وخاطبوه بأنه ، ان ما بعثه عليه ودعاه اليه همة عالية ونفس سامية ، وان سنة (٢) قد تعالت ، ولا يؤمن أن ينهض نحو هذه الحال ، وهي مما يحتاج فيه الى مباشرة أمور عظيمة ، وتجشم أسفار شاقة ، وملاقاة حروب صعبة ومدة يرجى في مثلها تمام هذا الامر من الصلاح وتطاوله ، وأنهم لا يأمنون ان تخترمه قبل ذلك المنية ، وأشاروا عليه بالاستكثار من النساء للطروقة (٣) ، وكان متجنبا لذلك فيما خلا من عمره ، على مذهب الفلاسفة ، طلبا لولد ينشئوا نشوءا صالحا ويعهد اليه في طلب ما رام فعله فولد له الاسكندر ، فلما ترعرع أنفذه الى أثينا مدينة الحكماء ، وكان صاحب التعليم بها في ذلك الوقت أرسطاطاليس بعد افلاطون ، فأقام عنده حتى شد من الفلسفة طرفا ، وتقبل أخلاف أهلها ، ثم

__________________

(١) ليست في س ، ت.

(٢) في س ، ت : نفس ساميه وسنة قد تعالت.

(٣) في س ، ت : للاطروقة.

٤٤٨

أتاه نعي أبيه وجاء أهل مملكته بعد موته الى الاسكندر ، ومعهم التاج وما يتبعه من أدوات الملك ، وكانت له أقاصيص مع معلمه ليس يدخل أكثر فيما يحتاج في هذا الموضع الى ذكره ، وانما وصفت ما وصفته من حاله المتقدمة ، ليعلم ان الملك انه اذا تشاغل بالحكمة كان أمره عظيما وشأنه جسيما كما كان ذو القرنين. وقد جاء في الاخبار القديمة ان الله عز وجل اذا أراد بامة خيرا جعل الملك في علمائهم والعلم في ملوكهم. وقد قال عز من قائل في كتابه المحكم «انما يخشى الله من عباده العلماء» (١) وتفسير الخشية في هذا الموضع ، التقى وكف اليد عن جميع المساوئ وليس أحد يظن انه أعلم (٢) بما يرضى الله ويسخطه من العالم الذي يعلم أمر الله على كهنه ، وأقصى ما جعل الله للبشر علمه من ملكوته وسلطانه ، على ان العالم بذلك قليل والفاحص عنه والمتبحر له يسير لا جرم ان التقى قليل والجهل كثير والله عز وجل قبل ذلك وبعده ولي الارشاد والتوفيق.

ومما ينبغي أن تعرفه الملوك ، ان أمورهم ليست كأمور سائر الناس الذين يجوز لهم التساهل في شؤونهم ، لان كل انسان من السوقة المنفردين بما يخصهم يكفيه من الفضائل وتضره من الرذائل (٣) دون [ما يكفى ويضر من يضم الجماعة الكثيرين الذين تصرفهم به ورجوعهم الى الاتمار له فان الواحد من السوق مثلا يكفيه في أن يكون فهما أن يفهم أمره وأمر ما يخصه ويجزيه من العلم يسير ما يسد به ويقتنيه (٤) ، وكذلك يجزيه أن يكون شجاعا ان يفي بقرنه وفي أن يكون أمينا يؤدي ما يؤتمن عليه نفسه ، وفي أن يكون عادلا أن يعدل فيما يأخذه ويعطيه وحده ، وفي أن يكون

__________________

(١) سورة الاحزاب : ٣٥ ، الآية ٢٨.

(٢) في س : اغنم.

(٣) في س : لرزائل.

(٤) في النسخ الثلاث : ونقيته.

٤٤٩

جائزا مع هذا يسئل عما لا يخبره كل الخبر ، ولم يقع له تصحيحه بغاية الصحة ، ولا متمكن منه ، فكم من نافذ في شيء يضعف من غيره وما هو بشيء لم يقع له التمهر بسواه حتى ان ......... (١) لم يسلم علمه بغيره وتكلف منه مالا يتحقق معرفته لان في طبائع الناس المشاحة في فطرهم والمساماة والمغالبة ، حتى اذا سلم المستشار من كل ما عددته ، وكان مستقيم الرأي غير خطلة ، وسديد التدبير غير مختلة (٢) ، لم يأمن أن تعرض له آفة اخرى في أن يكون له أرب فيما ليس الصواب للملك قبوله منه ، أما من التعصب لمن يودي عن صدق النصيحة في أمره ، أو المعاداة لمن يحض على مكروهه ويبعث على مساءه وضره ، واذا خلا من جميع ما عددته ، جاز بعد هذا أن يكون له خليفة في نفسه ، لا تليق بمن يكون على مثلها الرجوع في الراي الذي يشاور فيه ، الى ما عنده مثل أن يكون قصير الهمة ، ثم ليستشار في الامور السامية ، أو يكون جبانا فيشار في الاقدام على الاحوال الخطيرة الهائلة ، أو يكون بخيلا ضنينا ويشاور في صلات من يستحق التوسعة في صلته (٣) ، وما جانس هذا وشاكله من الخلائق التي تكون في الناس ولا يمكن ضبطها ، ويعجز العالم عن مقاومتها ومقاومة ما فيه منها. فكم من عالم عاقل يعلم ان فيه من الخلائق المذمومة ما هو مبلحا به ويجتهد في الزوال عنه فلا تبلغه قدرته ويعجز عنه محالته فاذا كانت هذه الافات لاحقة للمشاورين فكيف بتصحيح مشوراتهم وكيف يستخلص حقيقة الصواب من جهتهم الا بأن يكون للملك في النهاية من الفهم والدراية ، حتى يعلم صحة فهم من يشاوره فيما يشاوره فيه ، وتصرف خلائقه في الوجوه الخاصة به وسلامته من أن يدخله في ذلك هوى ، أو يكون له في شيء انحراف أو عداوة ...

__________________

(١) بياض في الاصل.

(٢) في س : محتلة.

(٣) في س ، ت صلاته.

٤٥٠

جوادا أن يجود على من تبلغ قدرة الجود على مثله. وكذلك الرذائل يجزيه اذا بلى بواحدة منها الا يعدوه عيب مما بلى به ، ولا يتخطاه أي غيره.

وليس الملك كذلك لانه لا يكفيه من العلم أن يكون معه منه ما يقوم بأمره حتى يقوم بأمر غيره ممن اليه تدبير شأنه. وكذلك فلا يجزيه في الامانة أن يؤديها هو وحده ، حتى يؤديها أصحابه والمؤتمنون من قبله ، ويكونوا من الامانة على مثل ما هو عليه. وكذلك في الشجاعة ولا يجزيه أن يقاوم قرنه حتى يدبر جيوشه تدبيرا يقوم معه كل واحد منهم أيضا بقرنه ، ويحمل كل واحد منهم نفسه. وكذلك في العدل يحتاج أن يفيضه هو ويفيض مثله أصحابه وكفاته. وكذلك جوده](١) يحتاج أن يكون أهم (٢) من جود غيره وأشد احتياطا في ان يوضع مواضعه ، وعند مستحقه ولا يخلوا مستوجب له مما شكل نظيره منه ، وكذلك أيضا فليست عيوبه وما يبدو منه من قبيح أموره يخصه دون أن يفسد أحوالا كثيرة ، من الامور التي يتصل به ، مما لا يشاكله فساد السوق ولا يقاربه. فلذلك لا يجب أن يكون موارد رأيه ومصادرها خارجة الا بعد أحكامها وتهذيبا من شوائب الزيغ والفساد ، ودواعي الهوى المبعد عن الصواب ، وهذه الحال فما أبعد تمامها للانسان وحده ، دون المشاورة والرجوع الى ذوى الرأي والحنكة ، ومن قد هذبت العلوم الصحيحة رأيه وثقفت المعارف الحقيقية لبه ومن قد جرب التجربة المستوفاة لمثل ما يرجع فيه الى رأيه ومعرفته ، وفي رجوع الملك الى غيره من المشورات نفع ، ودفع للافات وعوارض الخطأ والنكبات ، لان المستشار ينبغي أن يكون أولا : صحيح العلم في ذاته ، مهذب الرأي في نفسه. فما أكثر من العلماء من تكون آراؤهم معوجة ، ومقاصدهم مقاصد غير مستقيمة ، فاذا سلم المستشار من هذه الخلة كان

__________________

(١) هذه الفقرة لا توجد في نسخة س.

(٢) في س : أعم.

٤٥١

وقد أوصى مهبوذ أحد حكماء الفرس بعض ملوكهم فقال : اتخذ من نصحاء علمائك مرآة لطباعك ليجود بها رأيك فأنك الى صلاح طباعك أحوج منك الى تحسين صورة وجهك ، والعالم الناصع في تعريف المخبر أصدق من الجديد المجلو في تبين النظر. وقد قال شاعر من شعراء العرب :

وما كل ذي لّب بمؤتيك نصحه

وما كل مؤت نصحه بلبيب (١)

ولكن اذا ما استجمعا عند واحد

فحقّ له من طاعة بنصيب

فاذا عرف الملك سلامة من يشاوره من هذه الشوائب التي وصفنا ، وشاوره فيما يحتاج اليه ، طالبه بالدليل على أن يكون الذي يرتئيه وينص عليه هو الصواب دون غيره ، فاذا أتى بالحجة في انه أصوب الوجوه التي يوجها الرأي ميز (٢) الملك ذلك بعقله ، ووزنه بمعيار نظره واعتباره. فأن الملك عند فعله ما قدمته اذا أتمن انسانا كان امينا ، واذا استنجد رجلا كان نجدا واذا استكتب كاتبا واتخذ صنيعا من سائر صنوف أصحاب الصناعات والمهن ، كان في معناه بليغا سديدا ، وتحصل له جمهور ما يعلمه على حقه وصدقه وصوابه وتظهر أفعاله متعجبا (٣) منها مفضلا بها بينا فيها (٤)

__________________

(١) هذه الابيات لابي الاسود الدؤولي. وجاء البيت الاول في ديوانه بشكل مغاير لما ذكر. كالاتي.

فما كل ذي نصح بموتيك نصحه

ولا كل مؤت نصحه بلبيب

أنظر : ديوان أبي الاسود الدؤلي ـ شرح وتحقيق عبد الكريم الدجيلي ص ٢٠٨ ط ١ ، سنة ١٩٥٤ م.

(٢) في س : تميز.

(٣) ليست في س ، ت.

(٤) في س ، ت : فيهما.

٤٥٢

الجزالة وصواب الراي ، ما يكسبه شدة الطاعة من الخاصة ، ومن العدل والرأفة وما يصيره الى الود الخالص من العامة ، ويتم له مع ذلك الملك الصحيح الذي هو الملك بالحقيقة لا الذي يجري على سبيل القهر والغلبة ، فان مثل هذا ليس ملكا على الصحة ولا رئاسة يوثق بها الثقة التامة ، اذا كانت الرئاسة انما هي رئاسة عفو الطاعة لا رئاسة الاستكراه والقهر ، والمملكة مملكة الرضا والمحبة ، لا مملكة التسلط والقهر.

ومما ينبغي أن تذكره من أمر خلائق الاسكندر ذي القرنين ليتقبل الملوك ذلك ويذهبوا بنفوسهم نحوه ، ولا ييأسوا من بلوغ مثل حاله ، فأن الناس واحد في المعنى ، وأفضلهم عند الله التقي ، الذي يجده ـ عز وجل ـ عندما يحب ويرضى ، فأنه يبلغ الغاية القصوى ، ويسمو الى الدرجة العليا ، ولو كان من الملوك ما بلغه موضعا من أحاديثه ما تسمعه الملوك ، ولا ينكلوا عن تعاطي مثل أمره والله ولي التوفيق [بقدرته](١). فما كان من أمر الاسكندر بعد ما اقتصصناه من ذكر أوليته وابتداء ، نشوئه وتعليمه ، انه كان مع حاله التي وصفناها عنه موذنا بالنجابة منذ أولية كونه ، وابتداء صباه ونشوئه ، ومن ذلك انه كان لما أشخصه أبوه الى مدينة الحكمة ، كان وجماعة من أولاد الملوك بحضرة المعلم المتقدم ذكره فأراد معلمهم امتحانهم والمقايسة بينهم ، فقال : لفتى (٢) منهم يقال له مينوان ، افضى اليك الملك ما أنت صانع بي ، فقال : أفوض اليك جميع أمري. وقال : لاخر منهم يسمى فاليغا مثل ذلك ، فقال أتخذك وزيرا ومشيرا ، وقال : لاخر يعرف بارقيطن ، فأنت ما تصنع بي ، قال : أشركك في ملكي. فقال للاسكندر مثل ما قاله لكل واحد منهم ، فقال : يا أيها الحكيم لا ترتهنني اليوم لغد ، ولا تسألني الان عما أفعله بعد ، وانظر

__________________

(١) بياض في نسختين : ت ، س.

(٢) في س : لمقتى.

٤٥٣

فأني ان أصير الى الحال التي أومأت اليها ، أفعل بك ما ينبغي ان يفعل بمثلك في تلك الحال. فقال معلمه : حقا أنك لتخيل بملك كبير ، وعلى ذلك تدل قريحتك والفراسة فيك.

ثم لنرجع الى حديثه الاول الذي كنا بدأنا به ، فلما رجع الاسكندر بعد موت أبيه ورجوع الملك اليه الى دار مملكتهم وكانت في ذلك الوقت بمقدونية وهي بالقرب من المغرب ، ولم يكن بالقسطنطينية التي هي في هذا الوقت دار ملكهم. وبدأ في أول أمره باصلاح مملكته حتى أقامها على ما وجب اقامتها عليه من السنن العادلة والسير الفاضلة ، ثم عزم بعد ذلك على تدويخ الارض ومجاهدة الملوك الضالين ، وكانت للفرس على اليونانيين الى ذلك الوقت أتاوة ولم تزل يحملها ملوكهم في كل سنة ، فأخذ في منع دارا بن دارا ملك فارس كان على عهده منها وأقبل دارا يكاتبه بالوعيد الشديد ويتهدد معلمه التهدد الغليظ ، وينسب المشورة عليه بترك حمل الاتاوة اليه ، والاسكندر يجيبه عن كتبه بأنه لو علم حقا يوجب حمل الاتاوة لحملها ولم يمتنع منها ، ويدعوه الى التوحيد وترك الكفر ، ويحضه على اتباع أمر الله والتسليم له واعتماد طاعته والتناهي عن مخالفته ، ويحذره عقوبته وسخطه ، الى ان أحس دارا ذلك فدلف اليه وقصد حربه ومناجزته وصار الى ديار ربيعة ، ما بين المدينة المسماة باسمه وأقبل الاسكندر نحوه مظهرا مجاهدته مخاطبا له بأنه ، ما يريد ماله ولا شيئا مما يملكه ، وانه انما يريد منه أن يقر بالتوحيد ، ويؤمن به ويدع الكفر وينزع عنه لينصرف عن حربه ، ويخلى بينه وبين مملكته. وأقبل دارا في جواب هذه المكاتبات يتعالى تعالي الجبارين ويتسطى تسطي الملوك المتعظمين ، الى ان كان الظفر للاسكندر به ، فاستباح عسكره ، وتزوج روشك ابنته ، وأقبل الى بلد بابل حتى دخله ووطئه ، واجتمعت ملوك الفرس من الافاق اليه فأحسن عشرتهم ، واستعمل العدل في أمورهم ولم يهجم بسوء في شيء

٤٥٤

من أحوالهم. وكان عند انجذابه لملاقاة دارا قد استخلف معلمه أرسطاطاليس على ما خلفه ، وكان يطالعه بأحواله ويستمد الرأي من جهته ، فكتب اليه عند حلوله بأرض فارس ، واجتماع من اجتمع من ملوكهم قبله كتابا يقول [فيه](١) :

أما بعد فان الاقدار وسابق الاتفاقات ، وأن كانت أصارت بنا الى ما نحن عليه ، من علو الشأن فليس ذلك بمانع لنا من الرجوع الى رأيك والاستضاءة بنور حكمتك ، وأني لما حللت ببلاد فارس ، اجتمع الي ملوكهم من الاقطار فرأيت أجساما عظيمة ونفوسا عالية ، وهمما (٢) سامية ، وشجاعة كاملة ، وأحوالا ضخمة واسعة ، ووجدت مقامي وسط بلادهم وقد استوليت على مملكتهم ، وظفرت بملكهم غرارا اذا كنت لا أمن أقدامهم ، وفكرت في قتلهم فاحجمت عنه لاني لم أعرف وجهه ، وقد صرت في أمورهم على حال محيرة ، فأشر بما تراه صوابا في تدبيرهم.

فأجابه أرساطاليس : وهو معلمه الذي أنشأه ، وبصره جوابا ينبغي أن يمتثل في جوابات الملوك ، ويتقبل في مخاطباتهم. فأن الملك لو جاز أن يتعالى عليه أحد ، لوجب لذلك الحكيم الذي كان سبب تثقيفه ، ولكن من شأن الملك أن يتواضع له كل ذي عمل ويتطأطأ دونه كل ذي فضل ، فان في جواب هذا الحكيم لهذا الملك العظيم تبصرا في مخاطبة الملوك ، واحدة : مع ما فيه من الارشاد الى تعلم صواب الرأي ، ثانية ، وهو هذا : وصل اليّ كتاب الملك وفهمته ، فأما قوله ، أن الاقدار والاتفاقات ساقت اليه الاحوال التي هو بها فليت الاقدار اذا ساقت الى أحد حالا عظيما كان مستحقا لها كأستحقاق الملك المنزلة التي وصل اليها ، فأن ، الفراسة فيه قد كانت توجيها ، وأقوال الكهنة تؤذن بها وتدل عليها.

__________________

(١) ليست في س. وجاءت في الاصل : هما.

(٢) في س : وهما.

٤٥٥

وأما قوله في رجوعه في الرأي اليّ ، فالاحوال الكبار تشغل الملك عن الانفراد بالرأي ، وتقطعه عنه ، وليس رجوعه فيه اليّ لنكوله عن عمله ولا قصور من رأيه عن بلوغه ولكن لا ذكره بما أفدته منه وأرد عليه ما اسلفنيه من قريحته ، والله يوفق من ذلك ما يرضي الملك ويزلف عنده : ـ

فأما ما شاهده الملك من بأس الفرس ونجدتهم ، فينبغي أن يعلم الملك ان الامم اقتسمت الفضائل ، فالذي وقع للفرس منها هو الشجاعة ، والنجدة فأما قتلهم فلست أراه لانه ان قتل ملوكهم وليس بد من أن يستعمل عليهم بعضهم ، اضطر الى رفع سفلتهم. وسياسة الملوك أسهل من سياسة السفلة لان الملوك أشد طاعة وأسلس انقيادا وعريكة. وسياسة السفلة شاقة (١) متعبة ، وأنا أرى رأيا يكتفي به الملك مؤونه قتلهم مع ما يجتمع له به من طاعتهم ، ويستثمره من اخلاص نياتهم والانتفاع بهم ، وهو ان يجمعهم في محفل عظيم عام ، ويعمد الى أولاد الملوك الذين لا يأبى أحد من كافتهم رياستهم ، فيقسم المملكة بينهم ، ويجعلها طوائف في أيديهم. فانه اذا رأى كل امرى منهم ، انه قد ساوى نظيره في التمليك ، لم تطعه نفسه للانقياد له ، وان يكون دونه ، ولقلة مقدار الطائفة التي في يده من المملكة عند جميعها ، ما ينقص همته عن معصية الملك والخلاف عليه ، ويستجمع الملك طاعتهم ويكفى ما ترهبه من غدرهم وشرتهم : ـ فرأى الاسكندر صواب هذا الرأي ، فقبله فلم يزل ملوك الطوائف يؤدون الاتاوة الى اليونانيين ، وينحون لهم بالطاعة خمسمائة واحدى عشرة سنة الى أن جمعهم اردشير بن بابك ، وقال : لما تكلف من جهادهم على الجمع

__________________

(١) قال أنو شيروان : الناس ثلاث طبقات : تسوسهم ثلاث سياسات طبقة من خاصة الاشرار : تسوسهم بالغلظة والعنف والشدة. وطبقة العامة ، تسوسهم باللين والشدة ، فلا تحرجهم الشدة ، ولا يبطرهم اللين ... ابن رشيق القيرواني : زهرة الآداب ص ٥.

٤٥٦

المشقة الشديدة والكلفة (١) المتعبة ، حتى صارت المملكة واحدة نحن نضرب بسيف أرسطاطاليس مذ هذه المدة البعيدة.

وكتب أرسطاطاليس الى الاسكندر رسائل كثيرة في حال محاربته دارا الى ان ظفر به. وبعد ذلك في حال مسيره الى الهند ومحاربته (فور) ملكهم الى أن ظفر أيضا به. ثم في نفوذه الى الصين ، وأقصى المشرق ، بين له وجوه الرأي والتدبير ويحضه على الحكمة والعلوم النظرية ، ويبصره الاخلاق الشريفة والافعال الجليلة ، منها رسالته المعروفة برسالة (التدبير) فأنه يقول : الحكمة رأس التدبير ، وهي صلاح النفس ومرآت العقل ، وبها تزول المكروهات ، وتعز المحبوبات ، ما أحسن رأي من حقق في طلبها ، وأبهى نتائج الحكمة في نفوس طالبيها ، وهي أس الممادح ، وأصل المفاخر ، وكفى بالحكمة فضلا ان في حجة من رام أبطالها تثبيتها ومن قصد لدفعها بحقيقها وكفاها بأنها معشوقة في الطبيعة ومتشوق اليها في أول الصيغة وان الدليل على ذلك ما قلناه في كتاب يسمع (٢) الكيان من أن الصبيان يشتاقون الى سماع أحاديث الخرافات ، وان جميع الحواس سريعة الى استنباط محسوساتها ، وكفاها فضلا ان الجهل ضدها ، وهو الشيء الذي ينتفي منه الناس جميعا ويتدافعونه طرا ، وبها ينال الدنيا حق المنالة ، وهي العائدة الى الفوز في العاقبة وبها تنجوا النفس من العقوبة ، وخاطبه فيها مخاطبات اخرى نحن نضع كل باب منها في موضعه.

ومما يصلح أن يكون في هذا الموضع ان قال له : اعلم يا اسكندر ان الرئاسة مرغوب فيها ليحرز الذكر بها ، والذكر محمود لمن مال اليه من طريقه ، ومذموم لمن يقصده بالافراط فيه ، فطلب الذكر من وجهه ينتج الصدق ، والصدق ينتج الورع ، وجميع الممادح ، والورع ينتج

__________________

(١) في س ، ت : الكلف.

(٢) في س : مسمع.

٤٥٧

العدل ، والعدل ينتج التآلف ، والتآلف ينتج الكرم ، والكرم ينتج المؤانسة ، والمؤانسة تنتج الصداقة ، والصداقة تنتج البذل ، والبذل والمؤساة توجب الذبّ والمحاماة ، وفي ذلك اقامة السنة وعمارة الدنيا وهو موافق للطبيعة ، وكفى بالطبيعة التي هي قوة الباري ، ففي جميع الموجودات في أصلاح جميع الامور الفاسدة المضطربة ، وطلب الذكر من غير جهته ينتج الحسد ، والحسد ينتج الكذب ، والكذب أصل المذام كلها ، وان الكذب ينتج النميمة ، والنميمة تنتج البغضاء ، والبغضاء (١) تنتج الجور ، والجور ينتج (٢) التصادم ، والتصادم ينتج الحقد ، والحقد ينتج المنازعة ، والمنازعة تنتج العداوة ، والعداوة تنتج المحاربة ، والمحاربة تنقض السنة وتذهب بالعمارة ، وهذا مخالفة الطبيعة ، ومخالفة الطبيعة فساد الامر كله ، وقد ينازع النفس أيضا منازع غليظ المؤونة وهو الشهوة المفرطة ، وينتج افراط الشهوة الميل الى البدن وتضييع اصلاح خواص النفس وقواها ، فان الميل الى الجسد ينتج الاهتمام المفرط ، وافراط الاهتمام ينتج البخل ، والبخل ينتج محبة اليسار ، وحب اليسار يدعوا الى النذالة ، والنذالة تنتج الطمع ، والطمع ينتج الخيانة ، والخيانة أصل السرقة ، والسرقة تهتك المروة ، ومنها تنشى المحاربة التي الف بعدها بالحقيقة ، والمحاربة أصل لنقض الدين وزوال التآلف ، وخراب الدنيا وفناء عمارتها ، وذلك مخالف لارادة الباري ومشيئته ، وقد ينازع النفس أيضا منازع ، ليست مؤونته بالسهلة وهو النهم لان النهم ينتج الدنأة ، والدنأة تنتج سقوط الهمة ، وسقوط الهمة تنتج الميل الى المحقرات ، وذلك هتك كل فضلة ، ومن هذه الافة تحدث الاوجاع العظيمة ، والآلام المؤذية والاسقام المزمنة والفجور ، وما

__________________

(١) مكررة في ت.

(٢) مكررة في س.

٤٥٨

أشبهه من الامور القبيحة. وكذلك القحة فانها من خواص الدوائر الغالب عليها سوء المزاج ، وهي معدن الاوساخ التي تحارب الفكر وأصل لاكثر الرذائل.

وقال بعد ذلك انه قد يجب على الملك أن يختص بأحسن الخواص ، وذلك انه علم يشار اليه ، وأمام يؤتم به ، وصغير العيب في الملك عظيم وكذلك الفضل منه ضوء كثير.

وكان معاوية ابن أبي سفيان يقول : ان الامور لترد عليّ فيطول بها نظري حتى أخاف ان احبس عقلي فاستجم عقلي (١) بمحادثة العقلاء ، تم أعاود النظر فيها وقد انقشعت عنه صبابة الحيرة ، فاصدرها مصادرها.

وأخبرني سنان بن ثابت بن قرّة ان المعتضد بالله ـ وكفى به من الملوك فضلا وحزما ـ انه لما أراد بناء قصره في أعلى بغداد ، على الموضع المعروف بالشماسية استزاد في الذرع بعد ان فرغ لها من تقدير جميع ما أراده للقصر ، فسئل عما يريد ذلك له فذكر انه يريده ليبني فيه دورا (٢) ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع منها رؤساء كل صناعة ، ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية ويجري عليهم الارزاق السنية ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيس ما يختاره. فيأخذ عنه ، ولو مد له في العمر حتى يفعل هذا لظهر فضل هذه الامة على جميع الامم ، ورجوت أن يكون في تناهي هذا الفعل وحده ، الى سائر الاجيال والملل المخالفة للاسلام (٣) ما يفت في أعضادهم وينل من عزمهم ويصد عن الوثبة ، اذا فكروا فيها عزمهم هذا الى ما كان يستمر بذلك من فيض الحكمة وعمومها اذا أعان الملك عليها والقوة الشريفة بما يتفق من وجوه البصر فيها مراماة

__________________

(١) في س : عملي.

(٢) في س : دوارا.

(٣) في س ، ت ، المخالفة الاسلام.

٤٥٩

الاعداء والملحدين بالحجج البينة التي تزيل الشبة المضلة والتلاوات الباطلة التي بها ضل وعند من عند وبيان لجميع وجوه الحق ومذاهب الرشد ، وما كان يتفق به أيضا من وجوه الصناعات ، التي يتخذ بها المكائد والآلات النافعة ، في محاربة أهل الجهل ، ان قصدوا البيضة وصدهم عنها باهون المساعي ، وأيسر المعاني ، والله يوفق أمير المؤمنين ، ويعينه على مصالح الامة وحراسة الدين ، وان يرينا العدل شائعا والقول به مستفيضا ذائعا بقدرته.

ومما أذكره ليقبله الملوك ويأخذوا به ، ان أنو شروان وقع الى وزرائه ، بأن يسارعوا الى ما يخرج أمره به من أمور الخير وأحواله ، من غير تربيت له ولا توقف عنه وان يسألوه عنه وليخبرهم بسببه فيكونوا هم أشد استبصارا فيه وعلما بحقيقة ما يمضى منه ، ويتوقفوا عما يخرج به أمره من الشرور ، حتى يراجعوه فيه أياما ثلاثة ليتأمل ما أمره به منه حق تأمله ، ويستثبت [فيه بما يستثبت](١) به في مثله ، ويعمل بما يوجبه التأمل من امضائه ، أو التوقف عنه ، وهذه خليقة مع انها شريفة موافقة لما توجبه الديانة ، وينفع مثلها في السياسة والمصلحة العامة.

وأخبرني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال : قلت للمعتمد على الله : ان الكريم ينخدع فقال نعم ذاك : اذا علم انه ينخدع ، فأما اذا ظن انه يخدع فلا يخلص المعتمد بقريحته وجودة خاطرة الكرم من الغباء تخليصا بالغا.

ومما تكلم به البلغاء ، والملك محتاج الى تقبله ، وان كانت أحوال ما قاله هذا البليغ قد قدمنا حاجته اليها في موضعه. فان ما ذكره من فنون ذلك وفروعه هو قوله «الكريم لا تغلبه الشهوة ، ولا يحكم عليه الشرة بسوءة ، ولا القدرة بسطوة ، ولا الفقر بذلة ، ولا الغنى بعزة ، ولا الصبر

__________________

(١) ليست في س ، ت.

٤٦٠