الخراج وصناعة الكتابة

قدامة بن جعفر

الخراج وصناعة الكتابة

المؤلف:

قدامة بن جعفر


المحقق: الدكتور محمد حسين الزبيدي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الرشيد للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٣

رجال من آل عقيل قتلهم معه. ومات يزيد بن أبي كبشة بعد قدومه (١) أرض السند بثمانية عشر يوما ، فاستعمل سليمان بن عبد الملك على حرب السند حبيب بن المهلب ، فقدمها وقد عاد ملوك السند الى ممالكهم ، ورجع جيشبة بن داهر (٢) الى برهمناباذ ، ونزل حبيب على شاطىء مهران فأعطاه أهل الرور الطاعة.

ثم استخلف عمر بن عبد العزيز ، وكتب الى الملوك يدعوهم الى الاسلام (٣) ، على أن يملكهم ، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، وقد كانت سيرته بلغتهم فأسلم جيشبة والملوك وسموا (٤) بأسماء العرب ، وكان عامل عمر بن عبد العزيز على ذلك الثغر ، عمرو بن مسلم الباهلي ، فغزا بعض الهند. ثم تولى الجنيد بن عبد الرحمن المري ، مرة غطفان ، من قبل عمر ابن هبيرة الفزاري ، في أيام يزيد بن عبد الملك ثغر السند. ثم ولاه أياه هشام بن عبد الملك ، فلما قدم خالد بن عبد الله القسري العراق ، كتب هشام الى الجنيد يأمره بمكاتبة خالد ، فأتى جنيد الديبل. ثم نزل شط مهران فمنعه جيشبة العبور ، وأرسل اليه : «اني قد أسلمت وولاني الرجل الصالح بلادي ولست آمنك» فأعطاه رهنا ، وأخذ منه رهنا بما على بلاده من الخراج ، ثم ترادا (٥) الرهن ، وكفر جيشبة وحارب فقتل ، وهرب صصة بن داهر ليمضي الى العراق فيشكو غدر الجنيد ، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده في يده فقتله. وغزا الكيرج ، وكانوا قد نقضوا ففتحها عنوة ، وقتل وسبى وغنم ، ووجه العمال الى مرمد والمندل ، ودهنج وبروص

__________________

(١) في س بعد قدوم.

(٢) ويقال ، اسمه حليشة بن داهر انظر : فتوح البلدان ص ٤٢٨.

(٣) في الاصل : يدعوهم الى السلام واثبتنا ما في س.

(٤) في س : وسمو تزاد الرهن. وفي ت : فزاد الرهن.

(٥) في س : تزاد الرهن. وفي ت : فزاد الرهن.

٤٢١

ووجه جيشا الى أزين ، ووجه حبيب بن مرة في جيش الى أرض المالية ، فأغاروا على أزين وغزوا بهريمند فحرقوا ربضها. وفتح الجنيد البيلمان ، والجزر ، وحصل في منزله سوى ما أعطى زواره أربعين (١) ألف ألف وحمل مثلها.

ثم ولى بعد الجنيد ، تميم بن زيد العتبي (٢) فضعف ووهن ، ومات قريبا من الديبل (٣). وكان تميم سخيا وجد في بيت المال بالسند ثمانية عشرة ألف ألف درهم طاهرية ، فأسرع فيها.

ثم ولى السند الحكم بن عوانة الكلبي ، فوجد أهل السند قد كفروا إلا أهل قصبة فبنى من وراء البحيرة ، مما يلي بلد الهند ، لما لم يجد للمسلمين ملجأ يلجأون اليه ، مدينة سماها المحفوظة ومصرها ، وكان عمرو بن محمد القاسم مع الحكم فكان يفوض اليه مهماته واغزاه من المحفوظة بلد الهند فظفر وغنم فلما قدم عليه أمره فبنى دون البحيرة مدينة سماها المنصورة فهي التي ينزلها العمال اليوم ، وتخلص الحكم ما كان في أيدي العدو مما غلبوا عليه ورضى الناس بولايته ، وكان خالد بن عبد الله القسري ، يعجب من رفض الناس تميما ، ورضاهم بالحكم على بخل كان فيه. ثم كان العمال بعد يقاتلون العدو فيأخذون بما أستطف (٤) لهم ، ويفتتحون الناحية ، وقد نقض أهلها.

__________________

(١) في س : أربعة ألف ألف.

(٢) في س : تميم بن زيد القيسي ،.

وهو خطأ.

(٣) ويذكر البلاذري : انه مات بماء يقال له ماء الجواميس وانما سمي ماء الجواميس لانه يهرب بها اليه من ذباب زرق تكون بشاطئ مهران ص : ٤٣٠.

(٤) في س : استدف.

٤٢٢

فلما كان أول الدولة المباركة ، ولى مسلم عبد الرحمن بن مسلم ، مغلسا العبدي ثغر السند فأخذ على طخارستان حتى صار الى المنصور بن جمهور الكلبي ، وهو بالسند من قبل بني أمية ، فلقيه المنصور فقتله وهزم جنده ، فلما بلغ ذلك أبا مسلم عقد لموسى بن كعب التميمي ، ووجهه الى السند ، فلما قدمها كان بينه وبين منصور بن جمهور ، مهران. ثم التقيا ، فهزم منصورا وجيشه وقتل أخاه منظور ، وخرج منصور مفلولا حتى ورد الرمل فمات عطشا وولى موسى بن كعب السند ، فرم المنصورة ، وزاد في مسجدها ، وغزا ، وافتتح ، وولي [الخليفة](١) المنصور ، هشام ابن عمر التغلبي (٢) ، السند ففتح ما كان استغلق. ووجه (٣) عمرو بن جمل في بوارج الى نارند ، ووجه الى ناحية الهند فافتتح قشميرا ، وأصاب سبيا ورقيقا كثيرا ، وأعاد فتح المولتان وكان بقندابيل متغلبة من العرب فأجلاهم عنها ، وأتى القندهار في السفن ففتحها ، وهدم البد ، وبنى موضعه مسجدا. وأخصبت البلاد في أيامه فتبركوا به ، ودوخ الثغر وأحكم أموره.

ثم ولى ثغر السند عمر بن حفص بن عثمان ، هزار مرد ثم داود بن يزيد بن حاتم المهلبي ولم يزل أمر ذلك الثغر مستقيما ، حتى وليه بشر ابن داود في خلافة المأمون ، فعصى وخالف ، فوجه اليه غسان بن عباد (٤) ، وهو رجل من أهل السواد بالكوفة ، فخرج اليه بشر في الامان فأخذه وورد به مدينة السلام ، وخلف غسان على الثغر ، موسى بن يحيى بن خالد بن برمك ، فقتل باله ملك الشرقي ، وكان باله هذا التوى على غسان ، وكتب اليه في حضور عسكره ، فيمن حضره من الملوك فأبى وأثر موسى

__________________

(١) اضفت حتى يستقيم الكلام.

(٢) في النسخ الثلاث : المنصور بن هشام بن عمر التغلبي.

(٣) كلمة ووجه : مكررة في س.

(٤) في س ، ت : غسان بن عباد.

٤٢٣

أثرا حسنا ، ومات سنة احدى وعشرين ومائتين ، واستخلف ابنه عمران بن موسى ، فكتب اليه المعتصم بالله (١) بولاية الثغر.

ثم وقعت العصبية بين النزارية واليمانية فمال عمران الى اليمانية فقتل غيلة (٢).

وكان الفضل بن ماهان مولى بني سامة ، فتح سندان وغلب عليها وبعث منها الى المأمون بفيل. فلما مات قام محمد بن الفضل بن ماهان مقامه ، وسار الى سندان ، وقد غلب عليها أخ له يقال له ماهان (٣) ، فمال الهند عليه فقتلوه وصلبوه. ثم ان الهند تغلبوا على سندان وتركوا مسجدها للمسلمين يجتمعون فيه ، ويدعون للخليفة وكان ببلد يدعى العسيفان ، بين قشمير والمولتان وكابل ، ملك له عقل وكان أهل البلد يعبدون صنما ، قد بنى عليه بيت. ولبد ، فمرض ابن الملك ، فدعا سدنة البيت فقال لهم : ادعوا الصنم ان يبرئ ابني ، فغابوا عنه ساعة ، ثم أتوه فقالوا : قد دعوناه ، فأجاب الى ما سألناه ، فلم يلبث الغلام ان مات ، فوثب الملك على البيت فهدمه [و](٤) على الصنم [فكسره ، وعلى السدنة فقتلهم ، ثم دعا قوما](٥) من تجار [المسلمين فعرضوا](٦) عليه ، التوحيد فوحد وأسلم. وكان ذلك في خلافة المعتصم بالله (٧).

تمت المنزلة السابعة من كتاب الخراج وصنعة الكتابة والحمد لله رب العالمين [ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل](٨).

__________________

(١) في س : المعتصم.

(٢) جاء في كتاب فتوح البلدان كما يلي : فمال عمران الى اليمانية فسار اليه عمر بن عبد العزيز الهباري فقتله ص ٤٣٢.

(٣) هو ماهان بن الفضل.

(٤) اضيف الحرف حتى يستقيم المعنى.

(٥) بياض في الاصل ، والاضافة من س ، ت.

(٦) بياض في الاصل ، والاضافة من س مات.

(٧) في س : المعتصم.

(٨) ليست في س ، ت.

٤٢٤

الباب الاول في صدر هذه المنزلة الثامنة

[بسم الله الرّحمن الرّحيم](١)

الباب الاول : في صدر هذه المنزلة.

الباب الثاني : في السبب الذي احتاج له الناس الى التغذي.

الباب الثالث : في السبب الذي احتاج له الناس الى اللباس والكسوة.

الباب الرابع : في السبب الذي احتاج له الناس [الى التناسل](٢) من أجله.

الباب الخامس في السبب الذي احتاج له الناس الى المدن والاجتماع فيها.

الباب السادس : في حاجة الناس الى الذهب والفضة ، والتعامل بهما وما يجري مجراهما.

الباب السابع : في السبب الداعي الى أقامة ملك وامام للناس يجمعهم.

الباب الثامن : في ان النظر في علم السياسة واجب على الملوك والائمة.

الباب التاسع : في اخلاق الملك وما يجب أن يكون عليه منها في ذات نفسه.

الباب العاشر : في الخلال التي ينبغي أن تكون مع خدام الملك والقرباء منهم.

الباب الحادي عشر : في أسباب بين الملك والناس (٣) اذا تحفظ منها زادت محاسنة وانصرفت المعايب عنه وتمكنت له سياسته.

الباب الثاني عشر : في استيزار الوزراء ، وما يحتاج اليه الملوك منهم وما يلزم الملوك لهم (٤).

__________________

(١) ليست في النسخ الثلاث :

(٢) ليست في س ، ت.

(٣) في س : جاء كالاتي : في اسباب بين الملك والناس.

(٤) هذا الباب ساقط من المخطوطة ، ورغم الجهود التي بذلتها للعثور عليه فلم اوفق. في مسعاي.

وقد وجدت في كتاب تحفة الوزراء المنسوب للثعالبي ما يشابه هذا الباب. وقد وجدت اتماما للفائدة ان اضيف هذا الفصل الى الكتاب وقد سبق ان قمت بتحقيق كتاب تحفة الوزراء ولم ينشر حتى الان.

٤٢٥

الباب الاول في صدر هذه المنزلة

قال أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب : ان الله تقدس وعلا لما خلق الاشياء بقدرته وفطرها بحكمته أثبت كل مخلوق في حقه ورتب كل مصنوع على كنهه ، وجعل لكل من جميع ذلك ما يحتاج اليه ويكتفي به فخلق الملائكة المقربين أحياء مميزين ، مستغنين عن التغذي ، والتناسل وما يتبعهما مما الحيوان محتاج اليه غير مستغن (١) عنه ، وخلق البهائم وما يجري مجراها من الحيوان غير المميز محتاجا الى التغذي والتناسل ، وما يتبعهما مما لا يستغنى الحيوان عن مثله ، وجعل الانسان قصدا لاستكمال القدرة واستيعاب الحكمة ممتزجا من صيغة الملائكة بالتميز ، ومن صيغة الحيوان غير المميز بالتغذي والتناسل وما يتبعهما مما لا يجوز مفارقتهما له ، فلما حل في الانسان من بين سائر الحيوان قوة التمييز الغالبة في علا شأنه وقهر الحيوان كله وصار جميعه مذللا ومتصرفا على مشيئة واختياره ، ولما شارك سائر الحيوان بما شاركه فيه حصلت فيه أموال مختلفة وأسباب متنازعة اذ كان مركبا من قوة الاهمية ومادة أرضية ، وصار لا في (٢) منزلة الملائكة المقربين عاليا ولا في محلة سائر الحيوان البهيمي مبطوحا ، وجعله الله لاختلاط أحواله مكلفا مأمورا منهيا ، واحتاج بما فيه من قوة التمييز أن يسوس ما قد خلط فيه من البهيمة ولكثرة تصاريف ما في قوة التمييز من الافعال

__________________

(١) في س : مستعين عنه.

(٢) في ن ، س : وصار في منزلة.

٤٢٦

وزيادتها على ما يفي به الواحد من الناس احتيج الى الاجتماع والتمدن ليكون في المدنية ناس كثير يتصرفون في هذه الافعال الكثيرة المختلفة ، ومع اختلاف الصيغ الكثيرة ، واجتماعهم في المدينة يتصل بذلك الافعال المختلفة التي يلزم قودها الى حسن السيرة ، وسداد الطريقة. فعند ذلك ومن أجله وقع الاضطرار الى السياسة التي انما هي قود الملوك والائمة ، رعاياهم الذين ينقادون لهم ويدخلون تحت طاعتهم الى الافعال الحميدة المرضية ، والطرائق السديدة القوية ، ونحن نبين وجوه ذلك وأحواله وتقدم ذكر الاسباب التي من أجلها احتيج الى السياسة على شرح [ان شاء الله](١).

__________________

(٣) ليست في س.

٤٢٧

الباب الثاني

في السبب الذي احتاج له الناس الى التغذي

لما فطر الله جل اسمه جسم الانسان ، من عناصر يلحقها التحلل والسيلان ، والانقسام ، وهي النار والهواء والماء والارض ، وجعل العمدة في بقاء روحه ، وتسهيل تصاريف أفعاله الحارة والرطوبة ، فان بهما كان نشوءه ونموه وعليها مدار حركته وجمهور أمره ، ومن شأن الحرارة تحليل الرطوبة وافناؤها وفتها وابطالها لم يكن بدله اذ كان مركبا مما يفنى بعضه بعضا ، ونقصه دائما متصلا من اخلاف مكان ما يبطل منه مثله ، واعادة ما يضمحل من جملته الى حالة ، ولم يوجد في ذلك أقرب الى ممايلة الانسان في الصيغة ، ومشابهته في البنية من الحيوان والنبات لانهما مخلوقات من مثل العناصر التي خلق منها الانسان فجعل الله سبحانه ، هذين الجنسين غذاءا له ، لئلا يبطل جسمه الذي هو كالوعاء لنفسه ، فهذا كان سبب الحاجة الى التغذي والامر الموجب له.

٤٢٨

الباب الثالث

في السبب الذي احتاج له الناس الى اللباس والكسوة

لما خلق الله جل وعز الانسان مقصودا به ، تلقا غرض يحس به نحوه ، ومرهونا بخلقه نحو أمر من الامور ، قصد به قصده ، ركبه في جسد يلين بذلك المقصد ، وجعل له من الآلات ما يشاكل الغرض المعتمد ، كما انه لما خلق الاسد ذا شجاعة وجرأة جعله في ذي أيد وشدة ، وجعل له من الآلات ما يوافق البطش والنجدة ، من الانياب والمخاليب ، الجارية مجرى ما يتخذه الناس من الاسلحة ، وكما انه (عز وجل) لما خلق الفرس للاحضار (١) والسرعة ، جعل جسمه مناسبا للحال التي خلقه لها ، في الشكل والهيئة. وكذلك لما خلق الانسان للتمييز والمقايسة جعله في جسد متأت للحال التي أرادها سبحانه ، وجعل آلات جسده مشاكله لما ينحى به نحو هذه الغاية من اليد التي تليق بالصناعات المختلفة ، والرجل التي على مثل هذه الحال زيادة ، حتى انه لوعد ما بهيئة الانسان من يده وأكثر أعضائه في تصاريف الاحوال التي يحتاج اليها لكانت كثيرة معجبة الى ان جعله تعالى : لما أراد به من أن يكون زائدا على أحوال سائر الحيوان ، في حسن (٢) اللمس الذي به يقع صحة الاعتبار ، في الاشياء المباشرة ، ومعري الجسد من الشعر الكثيف الذي لما خلا غيره من الحيوان ، أن يكون

__________________

(١) في س : الاحضار.

(٢) في س : جس.

٤٢٩

مخلوقا لمثل هذه الحال ، لم يعدمه أياه اذ كان في كونه عليه وقاية له ، فبعض من ريش لما يصلح الريش فيه ، وبعض من شعر لما يحتمل أن يكون الشعر كثيرا في جسده. وبعض من وبر لما كان الوبر لائقا به ، وبعض صوف لما يصلح الصوف لمثله. وبعض قشور لما تصلح لمثله ، بعض صدف لما كانت حاله تحتمله. ولما خلا الانسان من الشعر والوبر والريش والصوف والقشور وقد عوض قوة التمييز صنع لنفسه ما يقي جلده ويكنه ، من أصناف الكسي والملابس بحسب ما استنبط بالقوة المميزة امكان عمله ، من الحيوان والنبات مثل الصوف والشعر ، والقز والقطن والكتان وغير ذلك ، مما تهيأ له استعماله من الكسي والملابس.

٤٣٠

الباب الرابع

في السبب الذي احتيج الى التناسل من أجله

لما كان الله عز وجل بتصاريف حكمته المعجبة ، خلق الاشياء ، فمنها ما أبقاه وامهله الى يوم الحشر ، ومنها ما جعله يموت ويبطل وما كان جعله يموت وينقرض لو لا التناسل الذي قدره [بلطفه](١) أنواع الحيوان كله ... وزال ما قضى بقاءه منه ، الى وقت افناء جمعيه ، فجعل تبارك وتعالى التناسل سبيا لاخلاق ، وكان المنقوص منه ومعيدا بدل الفاني ما يكون خلفا منه. ثم لما كان الانسان المميز فضلا عن سائر الحيوان الذي لا تميز له ، لو ترك واختياره لجار (٢) فيه ، بل كان في الاكثر من فعله أن يختار ما يبعده عن الصواب ، ويهمل ما في فعله الحزم والانتفاع ، وعلم الله عز وجل ذلك في سائر علمه ، ولم يجعل التدبير الى الانسان لا في وقت تغذية ، واستدعائه له الذي به قوام شخصه ، ولا في تناسله الذي به بقاء نوعه ، بل جعل له في استعمال ذلك مقتضيا عنيفا ان ذهب الى التقصير فيه قاده اليه وبعثه كل البعث عليه ، وهو الجوع والعطش والشوق الى النكاح ، حتى ان كثيرا من الناس المميزين ، يقتنون من النساء من لا يسأل له جمعهم ، أو أولو حصافة الرأي منهم ان ألم التصير عنهن أيسر من تكليف القيام بمصلحتهن ، فلمشيئة الله وارادته وتقصيه وما فيه عمارة العالم ومصلحته ، صار العامل في هذا الباب ممنوعا من رأيه مقودا نحو ما قضاه الله عليه ، واختاره له ، اذ كان تعالى لا تغالب قدرته ولا تدافع أقضيته سبحانه وتعالى جده وتقدس. فقد دللنا على السبب الذي من أجله احتاج الحيوان الى التناسل بكلام وجيز فيه كفاية لمن كان ذا فهم.

__________________

(١) ليست في الاصل ، واضيفت من س ، وجاءت في ت بالطافه.

(٢) في س : مجار وهو تصحيف.

٤٣١

الباب الخامس

في السبب الذي احتاج له الناس الى المدن والاجتماع فيها

لما كانت ما قلنا أفعال النفس (١) المميزة ، وتصاريفها كثيرة مختلفة ، وحاجات الانسان بسببها وبسبب والجسم الذي لم يكن النفس في هذا العالم بد منه ، واسعة منتشرة ، وتبعت هذه الاحوال الصناعات والمهن فصارت على حسبها في الكثرة ولم يكن في وسع انسان واحد ، استيعاب جميع الصناعات الكثيرة المتفرقة ، وكان لابد للناس من جميعها ضرورة قادتهم الحاجة الى الترافد ، واستعانة بعضهم ببعض ليكمل باجتماع جميعهم ما لم يكن بد ضرورة منه ، لان هذا يبذر لهذا قمحا يتقوته وهذا يعمل لهذا ثوبا يلبسه ، وهذا يصنع لهذا بيتا يكنه ونشره ، وهذا ينجز لهذا بابا يغلقه على بيته ، وهذا يخزر لهذا خفا يمنع به الافات عن رجله ، وغير ذلك ، مما لا يكاد العدد يدركه من فنون الصناعات وضروب الحاجات ، لانه لم يكن في استطاعة انسان واحد أن يكون فلاحا ، نساجا ، بناء ، نجارا ، أسكافا ، ولو انه كان محسنا لهذه الصناعات كلها ، لم يف وحده بما يحسنه منها ثم يجوز بعد هذا كله ، ان تأتى صناعات لا يتأتى للواحد من الناس النفاذ في جميعها كالطب والفلاحة مثلا فأنه لم يكن يتأتى لانسان واحد ، أن يأخذ السبيل فيقلب الارض قلبا دائما ، وهذه الحال محتاجه الى الغلظة والجسارة ، فان الفلاح ان لم يكن غليظا ،

__________________

(١) في نسخة ت : أعمال الناس وهو خطأ ، وفي نسخة س : أفعال الناس.

٤٣٢

بطل أمره أول ذلك ، لان جسمه أن كان لطيفا ضعف عند احتمال مثل مهنته. وثانيا : لحاجته الى مباشرة الشمس في الصيف دائما ، ثم البرد والماء في الشتاء وقتا طويلا ، فكانت هذه الاحوال لو لم يكن جاسيا ، متينا يحتمل مثلها جسمه بطل وهلك ، فهذه حال الاكار (١) وهو الفلاح ، لا يحتمل أن يكون على غيرها فلو انه حتى يجمع الى ذلك مثلا نظرا في الطب أو ما جانسه من (٢) الصناعات الغامضة لكان (٣) ذلك غير متأت له أما لان احدى الصناعتين يشغله الاخذ فيها عن التشاغل بغيرها أو لان معنى كل واحدة لا يتأتى من مراد (٤) له أن يكون جامعا للامر الاخر معه فان الذي يغلظ حتى يقوى مثلا على قلب الارض يوما الى الليل وأكثر منه وتباشره الشمس في الصيف مع قلبه الارض ويخوض في الشتاء المياه الباردة للسقي وما جرى مجراه لا يكاد يفهم من لطائف صناعة الطب مثلا أو غيرها من الصناعات اللطيفة ما يفهمه. أما المدمن للنظر فيها أو اللطيف القادر بلطفه على مثلها فلما كان الامر على هذا في الكثرة والاجتماع في المدينة وكان علم ذلك ما بقى (٥) عند الله سبحانه فطر الانسان محبا للموانسة موثرا للاجتماع مع ذوي جنسه فأتخذ الناس المدائن والامصار واجتمعوا فيها للتعاضد والتوازن للذين ذكرناهما.

__________________

(١) الاكار : الفلاح : المزارع.

(٢) في نسخة س : مثل.

(٣) في نسخة س : كان.

(٤) في نسخة س : طن يران.

(٥) في س : سابقا.

٤٣٣

الباب السادس

في حاجة الناس الى الذهب والفضة والتعامل بهما وما يجري مجراهما لما كان كل واحد من الناس محتاجا في تدبير معاشه ومصلحة (١) أمره ، الى غيره ممن قدمنا ذكر حاجته اليه ، من سائر الناس لمعاونته ، وموازرته لم يكن متسهلا أن ينفق أوقات حاجات الجميع ، ومتيسرا أن يوافي أدواتهم (٢) ، حتى اذا كان أحد (٣) منهم [مثلا نجارا أتفق](٤) له أن يجد اذا احتاج الى خف أسكافا ، يحتاج الى باب ، والا اذا كان عنده مثلا قمح ، وقد احتاج الى زيت يجد زياتا ، يحتاج الى قمح وكذلك كل من عنده صنف من أصناف التجارات ، أو معه ضرب في أضراب الصناعات ، أن ينفق له اذا أراد شيئا ، أن يجد من يريد ما عنده ممن قبلة أرادته ، وكان مع ذلك لو أن ما بينا عسره وقلة وجوده ، موجود ، متسهل ، من ان يجد كل من يحتاج الى نوع من أنواع المطلوبات من عنده ذلك المطلوب مريدا ما عنده المحتاج ، لكان ذلك على بعده ومحتاجا الى أن يعرف مقدار كل صنف من غيره ، وقدر كل عمل مما سواه ، حتى يعلم مثلا قدر الحياكة من النجارة (٥) ومن غيرها من كل صناعة ، وكذلك قدر النجارة (٦) من

__________________

(١) في س : ومصالحه.

(٢) في س : لدوائهم.

(٣) في س : واحد.

(٤) بياض في الاصل وأكمل النص من س ، ت.

(٥) في س : التجارة.

(٦) في س : التجارة.

٤٣٤

سائر الصناعات سوى الحياكة ، وعلى هذا قدر القمح من الزيت ، ومن غيره من سائر المطلوبات (١) وقدر الزيت من غير القمح من جميع الصناعات فكان حفظ ذلك وتحصيله يصعب ويشق على من يبتنه وتفقده فضلا عن الامي والمرأة ، والصبي ، وجميع من يبتاع ويبيع حاجة من أصناف الناس كافة. فلما كان هذا على هذه الحال من المشقة لطف الناس بالتمييز الذي منحهم الله أياه ، الى طالبوا شيئا يجمع جميع الاشياء ويكون عند كل من يحتاج اليه من صناعة ، أو مهنة ، أو حبة ، أو ثمرة أو غير ذلك ، مما يدخل تحت الارادة ثمنا وقيمة ، واعتمدوا أن يكون هذا الشيء باقيا اذ كان هذا حكم ما يجعل ثمنا بجميع المطلوبات للحاجة ، الى حفظه وادخاره ، وكان ما يسرع اليه الفساد والغير مما لا يصلح ذلك فيه ، فكان ما جعلوه ثمنا لكل مراد الذهب لطول بقائه على الزمان واحدة ، ثم لا نطباعه على ما يطمح عليه وقبوله للعلامات التي تصونه والسمات التي تحفظه من الغش ثانية ، ثم كانت الفضة دون الذهب في النقاء ، فنزلوا لها مرتبة من القيمة حسب قدرها من بقاء الذهب ، وتطاول مدته ، ثم كان النحاس دون الفضة في البقاء ، فنزلوا له مرتبة في القيمة على حسب طبقته ، وكان أجود جميع المطلوبات في هذه الثلاثة الاصناف. أولى في التدبير من الامر الاول ، اذ كان يغرب وذاك لا يكاد يضبط ولا يتحصل ولهذه العلة ، احتيج الى اتخاذ العين ، والورق ، وما يجري مجراهما واستعمال ذلك فيما تقدم شرحنا له.

__________________

(١) في النسخ الثلاث : المطوبات.

٤٣٥

الباب السابع

في السبب الداعي الى اقامة امام أو ملك للناس يجمعهم

لما دعت الحاجة الى اجتماع الناس في المدائن والامصار واجتمعوا فيها وتعاملوا وأخذ بعضهم من بعض وأعطوا ، وكانت مذاهبهم في التناصف والتظالم مختلفة وكان الله سبحانه قد شرع لهم شرائع وحد حدودا مبينة ، احتيج الى من يأخذ الناس باستعمال فروض الشرائع المسنونة ، ويقيم الحدود المبينة حتى يلزمها الناس كافة. ولا يتعداها منهم أحد ، الا أحلت به العقوبة التي تقوده الى الشرع والسنة ، وتأتلف الكلمة وتلتئم البيضة وتجري أمور الكافة على التناصف والمعدلة ، ولا يقع في تعاملهم جور ولا مظلمة فانه لا ملك الا بدين وشرع ، ولا دين الا بملك وضبط ، وقد وفق اردشير ابن بابك ان قال في ذلك قولا ليس عنه معدل : وهو ان الدين والملك اخوان توأمان لا قوام لاحدهما الا بصاحبه ، وجعل الدين أسا والملك عمادا وقال في ذلك قولا صوابا. وقد كتب ارسطاطاليس الى ذي القرنين في رسالته المنسوبة الى سياسة الكل وتدبير الملك وأي (١) ملك خدم دينه ملكه. فالملك وبال عليه. وأي (٢) ملك جعل ملكه خادما لدينه انتفع بملكه وبكل أمره في عاجلة وآجلة. وقد يقع في الظن جواز كون أكثر من ملك واحد لامة واحدة أو عصابة غير مختلفة وفي ذلك غلط اذ ظن

__________________

(١) في س : أي.

(٢) في الاصل : وعلى ، واثبتنا ما في ت ،

٤٣٦

لان فيه فسادا غير مخيل ، اذ كان الذي يحتاج اليه من الملك انما هو القيام بالامور على حقها ، والحق واحد لا يجوز ان يظن به ، غير هذا فليس يكاد يقوم بالحق الذي هو واحد الا واحد والا فلو ظن انه يقوم به أكثر من واحد ، لكان في الجائز أن يقع من الكثرة خلاف ولو من واحد ، واذا خالف واحد فلا محالة انه يخالف الحق واذا خالف الملك الحق فسدت الامور. فاذن (١) لم يكن يجب أن يقوم بالامور الا واحد. فأما من دون ذلك ممن يستعان بهم في الحفظ والحراسة والاعمال المهنية فيجوز أن تقوم به فليس يصلح أن يكون الا واحد لا يشركه فيه غيره ، ولهذه العلة كان الاله واحدا لا شريك له وليس هذا موضع يحتاج ايضاح ذلك بالبراهين الدالة عليه ، فلا جرم انا لم نأت فيه وقد أجمل الله سبحانه القول في ذلك بما شرحه واتضاحه عند الراسخين في علمه ، وهو قوله عز وجل (لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا) (٢) تبارك الله الاحد الله الصمد وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

__________________

(١) في ت : فاذ.

(٢) سورة الانبياء : الآية ٢١.

٤٣٧

الباب الثامن

في ان النظر في علم السياسة واجب على الملوك والائمة

لما كان هذا النظر مما يلزم الملوك تعلمه ، ويليق بهم تقبله ، فقد يحق على افاضلهم دراسته ، ويجمل بهم وعيه وتحفظه ، لانهم اذا فعلوا ذلك حتى يحكموا أسبابه وعلله استقامت آراؤهم ، واذا استقامت آراؤهم صلحت أفعالهم ، واذا صلحت أفعالهم عمّ نفع ذلك رعاياهم وجميع من يكون أمورهم. وان الصلاح والفساد اللذين يكونان في الازمنة والاوقات ، انماهما باستقامة أفعال الملوك وأعوجاجهم فاذا صلحت تدبيراتهم بصواب الرأي وسداد الفعل في وقت ، نسب ذلك الوقت الى أنه وقت حميد وزمان شديد واذا فسدت أحوالهم واضطربت مجاري أمورهم في آخر نسب الوقت الذي يقع فيه هذا الى انه وقت شديد ، بما يعرض لاهله من الفساد وسوء التدبير ، وأكثر الناس يظنون ان الملك يجري مجرى سائر الرياسات التي تستقيم لاكثر من منصب فيها ، لما شاهدوه وجرى في عاداتهم من ان كل من يوضع في رئاسة ما يقوم بها وترجوا أفعاله فيها ، وان كان غير مستحق لها ولا مضطلع بشأنها ، لان خلله أما أن يكون مضرا يشعر به ، أو يكون مما لا يتلافاه أعوانه وكفاته ، أو يكون آخر أمره معروفا ، فيهون صرفه والاستبدال به غيره ، والملك فلا يحتمل خلة من الخلال التي ذكرناها ، لانه أشرف منازل البشر قدرا وأعظم الامور خطرا ، فأن الملك المقيم لنظام الملك بالتحقيق لا بالذي

٤٣٨

يأخذه بالهوينا ، وعلى جهة التشفيق يحتاج الى أن يكون من المخاطرة بمهجته وتجشم الامور التي يقيم بها أود مملكته ويصلح معها شأن من يتولى سياسته بمنزلة الحال ، في قلة مهواتها هلكة فأن لم يكن معه من شدة النفس وقوة الشكيمة ما يمضي به الامور العظام التي يحتاج في الملك الى امضائها ، اضطربت الاحوال التي هو مضطر الى تقويمها ، والتاثت الاسباب التي يقصد لنظمها وتعديلها ، فان أيسر مخاوف الملوك انهم يحتاجون الى أن تتمكن رهبتهم في نفوس الرعية ، ومن ينأ عنهم من الاعداء في المحال النائية ، ومع اشتداد الهيبة من الناس اللشيء يقع لهم اضطرار بغضه ، ويتمكن في نفوسهم بغضه ومقته والشنأن له والابتهاج بمأساة وخالف محبته على ان هذا المقت للملوك لا يخلو من ان يخالطه الاستكانة ، ويشوبه الخضوع والمهانة ، ولا تكون المحبة للملك من رعيته نافعة ، الا أن يكون معها هيبة ، فأن مما هو معلوم من الحكم القديمة «انه الا ينفع الانسان محبته من فوقه (١) ، الا ان يكون معها رحمة ، ولا محبة النظير له الا أن يكون معها شفقة ، ولا محبة من دونه الا أن يكون معها هيبة». ولما قدمناه من بغض العامة للملوك ما قال اردشير بن بابك : في عهده (ان من صيغ العامة بغض الملوك) وفي هذا القول ، اذا أتى مطلقا ما يعجب منه لان من يسمعه ولا يعرف سببه ينكره ، ويتعجب من كونه ، والسبب فيه ان في صيغ الناس محبة ، الفراغ والكراهة لمن يأخذ على أيديهم ينحوا بهم نحو الاستقامة ويمنعهم من الجري على ما تقوده اليه نفوسهم من اتباع الهوى والارادة. ومن هذا بغض الصبيان للمؤدبين وكراهة الاحداث للمشايخ.

__________________

(١) في س ، ت : مؤه.

٤٣٩

وقد قال بعض الشعراء اليونانيين : شعرا صورة الشعر لما ثقل من لسانهم الى العربية وبقي معناه (وهو الشيخ عند الاحداث رجل سوء).

والملك الذي يقصد لاقامة الناس على العدل ويقودهم نحو الواجب مضطر الى أن يكون كما قدمنا مهيبا ، مخوف الجانب ، يرهب الناس بأكثر مما يرغبهم ، ويشتد عليهم بأزيد مما يلين لهم ، ويكون معه من الغلظة أضعاف ما يكون معه من الرأفة ، لان الذي يجده مستحق السطوة بغية أكثر من مستوجب الرأفة بصالح سعيه [اذا كان القليل من الناس ذوى هدى وحسن استقامة والكثير](١) منهم أهل حسب وعرامة. ويجتمع للملك بهيبته مع صلاح رعيته صلاح أعدائه ، ومن يقدر غلبته على مملكته ممن هو مقارب له أو نأى عنه ، فان في قول رسول الله صلى الله عليه [وسلم](٢) دليلا بينا على ما قلته وذلك حيث قال (نصرت بالهيبة دون غيرها) فيما كان فيه من الاخلاق الرضية والحكم البليغة والشيم الشريفة وقد جاء في الاثر ما وزع الله بالسلطان أكثر مما وزع بالقرآن ، لان القرآن انما هو حكم ومواعظ وترغيب في الجنة وتخويف من النار ، فلا جرم ان أكثر الناس لم ينقد لما وجب عليه من الوعظ والانذار دون ما انزل بهم من التأديب والايقاع ، وهذا كله أكبر دليل على ان الهيبة من أخص أدوات الملوك التي يكون معها من العامة البغضة ، ومما فيه دليل على ما قلته من ذلك أيضا قول شاعر العرب يذكر سادتهم وقياس السادة فيهم

__________________

(١) ليست في س ، ت.

(٢) أضيفت من س.

٤٤٠