رحلة الفرنسي تافرنيية إلى العراق

جان بابتيست تافرنييه

رحلة الفرنسي تافرنيية إلى العراق

المؤلف:

جان بابتيست تافرنييه


المترجم: كوركيس عوّاد وبشير فرنسيس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٤

أما جنائزهم ، فقد عنيت بملاحظة عاداتهم في ذلك ، فعندما يموت الزوج ، تكشف المرأة رأسها وتحل شعرها وترسله على أذنيها وتسود وجهها بسخام القدور وتصنع حركات غريبة تستثير ضحك الغرباء بدلا من دموعهم. ويحضر جميع الأقارب والأصدقاء والجيران إلى دار الميت ويمكثون هناك إلى ميعاد تشييع الجنازة. وفي ذلك الوقت تتزاحم النسوة بألوف الوسائل السخيفة إلى إظهار حزنهن ، وذلك بلطم خدودهن ، والعويل كالمجانين. ويبد أن فجأة بالرقص على صوت نقارة كالتي يحملها أصحاب الطبول والمزامير ، وتبقى النسوة ينقرن عليها نحو ربع ساعة. ومن جاري عاداتهم في المآتم ، أن تندب إحداهن الميت ، فيجبنها الباقيات بعويلهن وولولتهن التي تسمع من بعيد. ومن العبث أن يحاول المرء مواساة أبناء الميت ، لأنهم يبلغون حالا يفقدون معها رشدهم. وهم مضطرون إلى سلوك هذا السبيل ، وإلا نالهم اللوم والتقريع ، على عدم عطفهم على ذويهم الراحلين. وعند ما يحمل الجثمان إلى القبر ، يتقدمه رهط من الفقراء حاملين الأعلام التي تنتهي عصيها من أعلاها بأهلة ، وهم يندبون بألحان محزنة طول الطريق. ولا يباح للنساء مرافقة الجثمان ، لأنه لا يخول لهن الخروج من الدار إلا في أيام الخميس ، حيث يقصدن الضريح للصلاة على الميت. ومن عاداتهم أن النساء يذهبن صباح الأربعاء إلى الحمامات حيث يطيبن رؤوسهن وأبدانهن بالماء المعطر. وقد يخرجن أحيانا من الدار في غير هذه المناسبات ، وذلك عندما يأذن لهن أزواجهن بزيارة أقاربهن. ولكن في هذه الحالة ، عليهن بالتستر من أعلى الرأس حتى أخمص القدم ، حتى ليتعذر على ازواجهن أنفسهم تمييزهن إذا لاقوهن في الطريق. ونذكر في هذا الصدد أن النساء الفارسيات ، باستثناء الفقيرات منهن ، يفضلن المكوث كل أيام حياتهن في البيوت على الخروج بلا حصان. وهناك علامة تميز بها النساء البغايا من الحرائر ، ذلك أن البغايا يضعن أقدامهن في ركاب السرج ، بينما الحرائر يدخلن أرجلهن في جلد الركاب. والعادة الجارية بين نساء بغداد أنهن يكثرن من استعمال الحلي ، إلا إنهن لا يكتفين بلبس الحلي حول أعناقهن أو معاصمهن بل يعلقنها أيضا حول وجوههن ، ويثقبن آذانهن

٦١

لوضع الأقراط فيها. والمرأة العربية الريفية تثقب ما بين منخريها لتعلق «خزامة» فارغة لتخفف من الثمن والثقل ، وبعضها في غاية الكبر حتى ليمكنك إدخال قبضة يدك فيها. وللمبالغة في تجميل أنفسهن يكتحلن. وفي البادية يكتحل الرجال كالنساء ، وقاية لعيونهم من وهج الشمس على ما يقولون.

والنصارى في بغداد ثلاث فرق : النساطرة ، ولهم كنيسة (١). والأرمن (٢) ، واليعاقبة وليس لهم كنيسة (٣) ، بل يصلون في كنيسة الكبوشيين الذين يقيمون لهم الشعائر الدينية. وعلى نحو ربع فرسخ من المدينة بيعة للنصارى يقصدونها للتعبد ، وهي باسم «خضر الياس» (٤). ولكي يسمح لهم بزيارتها ، يدفعون أجرة زهيدة للترك الذين بيدهم مفاتيح البيعة. وعلى مسيرة يومين من المدينة ، بيعة أخرى خربة في قرية حقيرة ، يقول النصارى إن مار شمعون ومار يهوذا استشهدا هناك ودفنا فيها. وإذا توفي نصراني ، حضر جميع النصارى إلى حفلة دفنه ، ثم يعودون إلى البيت ، فيجدون الطعام معدا لهم. وفي اليوم الثاني يعودون إلى القبر ويصلون على المتوفى ، وفي اليوم الثالث يهيئون عشاء للغادي والرائح ، وقد يجتمع أحيانا في أثناء الدفن نحو مائة

__________________

(١) هذه الكنيسة ما زالت قائمة في محلة الميدان ، وتعرف بكنيسة مسكنتا. وتعد من أقدم الكنائس القائمة اليوم في بغداد ، كانت فيما مضى للنساطرة ، ثم صارت بيد الأرمن الأرثوذكس سنة ١٧٤٤ م (راجع تفاصيل تاريخية عن هذه الكنيسة للأستاذ يعقوب سركيس. في لغة العرب ٩ (١٩٣١) ص ٥١٢ ـ ٥١٦).

(٢) للأرمن اليوم في بغداد كنيستان : الأولى للكاثوليك ، وتسمى كنيسة انتقال العذارء ، وتعرف بين عوام الناس بكنيسة (الدوغة) وقد بنيت في سنة ١٨٤٤ م ، في محلة النصارى (عقد الكنائس). والثانية للأرثوذكس وتسمى كنيسة الثالوث الأقدس ، وقد بنيت في سنة ١٨٥٣ م ، وهي في المحلة نفسها (عن الأب دير نرسيس صائغيان).

(٣) لليعاقبة أيضا كنيسة حديثة العهد ، في محلة البتاويين ، وقد بنيت سنة ١٩٣٤ م باسم السيدة العذارء.

(٤) ليس في بغداد اليوم كنيسة بهذا الاسم. والمعروف أن في الجانب الغربي من بغداد جامعا يعرف بجامع خضر الياس مطلا على دجلة (راجع تاريخ مساجد بغداد للآلوسي : ص ١٣٣ و ١٤٥).

٦٢

وخمسين شخصا. إن هذه الرسوم تتكرر أيضا في السابع والخامس عشر والثلاثين والأربعين بعد الوفاة ، وهذا دليل على احترامهم العظيم للميت الذي يصلون من أجله مرارا. لكن هذه العادة التكريمية تكون عبئا ثقيلا على الفقراء الذين يميلون إلى تقليد الأغنياء في هذا الشأن ، فيرهقون كواهلهم بالديون أحيانا ، وقد يبلغ بهم الأمر أن يضطروا إلى بيع أطفالهم للترك ليفوا ديونهم.

وفي بغداد عدد من اليهود أيضا. ويأتي كثيرون غيرهم في كل سنة لزيارة مرقد النبي حزقيال (١) الذي يبعد يوما ونصف يوم عن المدينة.

وبوجيز الكلام ، إن بغداد منذ استيلاء السلطان مراد عليها لم يكن عدد نفوسها بأقل من خمسة عشر ألف نفس ، مما يدل على أن المدينة لم تكن مأهولة بما يتناسب وسعة رقعتها.

وعلى مسيرة يوم ونصف يوم من نقطة ما بين النهرين ، وذلك في بقعة تكاد تتوسط ما بين دجلة والفرات ، تقع العين على مرتفع عظيم من التراب ، يسميه الناس إلى هذا اليوم «نمرود» ، يقوم في وسط سهل منبسط ، ويرى من مسافة بعيدة. ويعتقد العوام أنه بقايا برج بابل ، ولكن الأقرب إلى الإمكان هو ما يراه العرب الذين يسمونه عقرقوف (٢) (Agartouf) ، إذ يزعمون أن أميرا عربيا شيده ، وكان يضع دائما مشعلا فوق قمته ، ليستجمع رعاياه في بقعة واحدة أيام الحرب. ويبلغ محيط هذا المرتفع عند قاعدته نحو ثلاثمائة خطوة ، ولكن ليس من اليسير التكهن بما كان عليه ارتفاعه القديم ، لأن أعاليه قد انهارت ولم يبق منه غير ثماني عشرة أو عشرين قامة. إن هذا البرج مشيد باللبن ، ضلع كل لبنة عشر عقد (انشات) ، وثخنها ثلاث. ويقوم البناء بالوجه التالي : فوق كل صف من العيدان أو القصب المسحوق المخلوط بتبن الحنطة المفروش بثخن عقدة ونصف ، سبعة سافات من هذا اللبن ، بين الساف والآخر

__________________

(١) مرقد النبي حزقيال في قرية الكفل على بعد ٢٠ ميلا جنوب الحلة. ويسمى أيضا ذا الكفل.

(٢) انظر الملحق رقم (١٩).

٦٣

تبن قليل. ثم يلي ذلك صف آخر من القصب وفوقه ستة سافات من اللبن. ثم صف ثالث مع خمسة سافات. وتقل السافات بهذا الوجه حتى تبلغ القمة. ويلوح أن شكله الأصلي كان أقرب إلى المربع منه إلى المدور. وفي أعلى قسم من بقيته ثقب لا أدري أكان نافذة أم مخرجا للماء أم ثقبا للسقالة. وبالاختصار إنه بحسب وصف موسى (١) ليس هناك ما يدل على أن هذا بقايا برج بابل القديم.

__________________

(١) يريد بذلك برج بابل الموصوف في التوراة ، راجع سفر التكوين (١١ : ١ ـ ٩).

٦٤

صورة مدينة بغداد

يستغرق الطواف حول بغداد زهاء ساعتين

A. رقعة المدينة.

B. القلعة.

C. باب المعظم.

D. البرج الجديد.

E. الباب الذي نصب عليه السلطان أول بطارياته المدفعية سنة ١٦٣٨ م.

F. البرج القديم.

G. أحد أبواب السور (المعروف بالباب الوسطاني).

H. البرج القديم.

I. المكان الذي أقام فيه السلطان مراد ثاني بطارياته المدفعية حينما ثغر السور واستولى على المدينة.

K. أحد أبواب السور (المعروف بباب الطلسم).

L. البرج القديم.

M. البرج القديم.

N. قرة قاپي أو الباب الأسود (الباب الشرقي).

O. البرج القديم.

P. صوقاپي أو باب الشط.

٦٥

٦٦

الفصل الثامن

اكمال الطريق من بغداد إلى البصرة

والكلام على ديانة الصابئة وهم نصارى يوحنا

في الخامس عشر من آذار ، ركبنا سفينة من بغداد إلى البصرة (Balsara) فرأينا نهر دجلة أسفل بغداد ، ينشطر شطرين : احدهما يجري في كلدية القديمة ، والآخر ينساب في ما بين النهرين. وهذان الشطران يشكلان جزيرة واسعة يخترقها ترع عديدة.

وعندما بلغنا منقسم دجلة ، وقع نظرنا على رقعة مدينة ، كانت فيما مضى واسعة النطاق ، ولا يزال بعض أسوارها شاخصا ، يمكن أن تسير فوقها ست عربات جنبا إلى جنب. وهذه الأسوار مشيدة بالآجر ، يبلغ طول ضلع الآجرة الواحدة عشر أقدام ، وثخنها ثلاثا (١) وتروي أخبار هذه البلاد ، أن هذه هي خرائب بابل القديمة (٢).

وقد اتبعنا في سيرنا ذلك الشطر من دجلة ، الذي يجري وجانب كلدية ، خشية الوقوع بأيدي الأعراب الذين كانوا في ذلك الحين في حرب مع باشا بابل (٣) ، لأنهم أبوا دفع الضريبة إلى السلطان. وقد تمادى بنا السفر على ظهر الماء من بغداد إلى البصرة عشرة أيام. وكنا في كل ليلة نرسو فوق الماء

__________________

(١) أبعاد هذا الآجر مبالغ فيها مبالغة فاحشة! فإن أعظم الآجر المكتشف في العراق ، لا يتجاوز طول ضلعه ٥٠ سنتمترا وثخنه ١٢ سنتمترا.

(٢) لا يمكن أن تكون هذه الأخربة بقايا بابل ، لأن سير المؤلف في نهر دجلة ، فهو يصف ما يمر به في طريقه. فأين بابل من هذا الطريق؟ والمرجح عندنا ، أنها بقايا مدينة «سلوقية» عاصمة الدولة السلوقية في العراق ، وخرائبها اليوم في تل عمر ، جنوبي بغداد ، على نحو ٢٠ ميلا منها.

(٣) يريد بذلك باشا بغداد.

٦٧

ونتناول طعامنا في السفينة. وعند بلوغنا قرية ما ، كنا نبعث بخدمنا إلى الضفة لشراء الطعام الذي نحصل عليه بقيمة زهيدة جدا. أما المدن التي مررنا بها فهي : العمارة (١) (Amurat) وفيها قلعة مشيدة باللبن. والشطرة (Satarat). والمنصوري (Mansoury) وهي بلدة كبيرة. والمجر (Magar). والعزير (٢) (Gazer). والقرنة (Gorno). ويقترن الفرات بدجلة عند هذه المدينة الأخيرة التي فيها ثلاث قلاع : الأولى في ملتقى النهرين وهي أحصنها ، فيها يقيم ابن أمير البصرة الذي يحكمها. والثانية في جانب كلدية. والثالثة في جانب بلاد العرب. ومع أنه يطالب هناك بالرسوم الجمركية بتمامها فتدفع ، فإنهم لا يفتشون أي شخص. ويصل مد البحر إلى هذا المكان. ولما كان أمامنا خمسة عشر فرسخا إلى البصرة ، فقد وصلنا إليها بسبع ساعات لأن الريح والمد ساعدانا على ذلك.

تبعد بغداد عن البصرة مائة وستين فرسخا ، وكل الأراضي الممتدة بينهما تتشابك فيها القنوات وتقسمها على نحو ما يرى في البلاد الواطئة (٣). ولا شك ان هذه الأراضي من أحسن ما يمتلكه السلطان ، لاشتمالها على مراع واسعة ومروج نضيرة يربى فيها عدد كبير من الحيوانات ، خاصة الأفراس والجواميس. ومدة حمل الجاموس اثنا عشر شهرا ، وهي تدر حليبا وافرا جدا ، حتى ان بعضها يدر اثنين وعشرين بنتا (٤) في اليوم ، وتستخلص منه مقادير وافية من الدهن. وقد وجدنا ذات مرة في بعض قرى دجلة خمسا وعشرين سفينة موسقة بالدهن الذي يبيعه أصحابه في بلدان الخليج الفارسي ، بكلا جانبيه العربي والفارسي.

__________________

(١) يقول لسترنج إنها «كوت الإمارة». راجع : بغداد في عهد الخلافة العباسية (ص ٨ من الأصل الإنكليزي ، وص ١٦ من الترجمة العربية).

(٢) يذهب بعض الباحثين إلى ان العزير هو قبر عزرا الكاتب صاحب «سفر عزرا» أحد أسفار التوراة.

(٣) اي بلاد هولندا وبلجيكا.

(٤) البنت بالباء المثلثة المكسورة (Pint) يساوي ٨ / ١ الجالون.

٦٨

وفي منتصف الطريق بين بغداد والبصرة ، أبصرنا عدة سرادقات منصوبة في المروج بمحاذاة ضفة النهر. ولدى الاستفسار سمعنا ان الدفتردار آت من القسطنطينية لجباية ضرائب السلطان. فمن بغداد إلى القرنة يدفع عن كل رأس جاموس ، ذكرا كان أم انثى ، قرش وربع قرش في السنة ، فيقوم من ذلك للسلطان في السنة مائة وثمانون ألف قرش. وعلى كل فرس يدفع قرشان ، وعلى كل شاة عشرة سوات (١) (Sous). ولو لا تحايل أهل البلاد عند دفع الرسوم ، لزاد مجموع الضرائب نحو خمسين ألف قرش عما هي عليه الآن.

ثم انتهينا إلى القرنة ، وهي قلعة عند ملتقى النهرين ، في كلتا جهتيها قلعة أصغر منها. ولا يمكن المرور من هناك بدون إذن. وفي قلعة القرنة المزودة بمدفع ، التقينا بابن أمير البصرة الذي كان حاكم القلعة. وهنا يسجل حساب الجمارك. ومع أن رجال الجمرك يمعنون في تحري السفن ، فإنهم كثير واللطف فلا يفتشون أي شخص. وعند قيامهم بهذا الواجب لا يهملون التفتيش عن البضائع المخبأة بين ألواح السفينة أو المغطاة بالحطب والعيدان. ولموظفي الجمرك مثقب طويل يجسون به جوانب السفينة لاكتشاف ما قد يكون فيها من بضاعة مخبأة. إن البضاعة تسجل في القرنة ، ولكن رسوم البصرة تدفع دائما في البصرة بحسب القائمة المعطاة من قلعة القرنة.

وفي اليوم ذاته ، دخلنا في القناة التي شقت من الفرات إلى البصرة ، فلقينا في طريقنا رئيس المعمل الهولندي الذي كان يتنزه في قارب مغطى بالقماش القرمزي ، فأخذني معه إلى البصرة.

وتقع البصرة في جانب بلاد العرب الصحراوية ، على بعد فرسخين من خرائب مدينة كانت تدعى سابقا طريدون (٢) (Teredon) وكانت قديما تقوم في البادية ويأتيها الماء من الفرات من قناة مبنية بالآجر لا تزال ظاهرة للعيان.

__________________

(١) السو : نقد فرنسي قديم ، كان يضرب من النحاس أو النيكل ، ويساوي ٢٠ / ١ من الفرنك ، أي ٥ سنتيمات.

(٢) راجع الملحق رقم (٢٠).

٦٩

ويبدو أنه كان عند هذه الخرائب مدينة كبيرة (١) ، يقتلع منها العرب الآجر ويبيعونه في البصرة. وتبعد مدينة البصرة نصف فرسخ عن الفرات الذي يسميه العرب بلغتهم «شط العرب». وقد مد أهل المدينة قناة تذهب إليه ، طولها نصف فرسخ ، تسير فيها السفن من ذات المائة والخمسين طنا ، وفي آخرها قلعة ليس لسفينة ما أن تجتاز المكان دون إذن منها. ويبعد البحر عن البصرة نحو خمسة عشر فرسخا ، إلا أن المد يأتي إلى القناة ويعم النهر مسافة خمسة عشر فرسخا أخرى صعدا إلى ما وراء القرنة. والأرض هناك شديدة الانخفاض ، ولو لا السدود الممتدة بامتداد حافة البحر ، لتعرضت البقعة للغرق. ويبلغ طول السد أكثر من فرسخ ، وهو مشيد بالحجارة تشييدا مكينا ، لا تعمل فيه الأمواج الهائجة ، بالرغم من كونه معرضا لبحر صاخب.

ولم يمض على البصرة أكثر من مائة سنة مذ كانت تابعة لعرب البادية ، فلم يكن لها تجارة مع أمم أوروبا ، لأن أهلها كانوا قانعين بأكل تمورهم التي تتوفر عندهم بمقادير كبيرة ، وهم لا يتغذون بغيرها. وهذه الحالة في المعيشة سائدة على ما وصفنا في كلا ساحلي الخليج : فإذا سرنا من البصرة إلى نهر السند (Indus) وهي مسافة طولها ستمائة فرسخ ، أو إذا سرنا والساحل العربي إلى مسقط ، وجدنا فقراء الناس لا يعرفون ما هو أكل الرز ، بل يتعيشون بالتمر والسمك المملح المقدد بالهواء. والبقر عندهم لا تطعم عشبا ، وإذا خرجت إلى الحقول لا تجد من الأعشاب إلا الشيء الزهيد ، أو قد لا تجد شيئا منها. ولهذا ، فإن أصحابها صباح كل يوم ، قبل أن يخرجوها إلى الحقول ، وبعد أن يعودوا بها إلى الدار ، يطعمونها رؤوس السمك ونوى التمر المسلوقين معا.

وعندما اشتبك الترك في حرب مع العرب ، أخذوا منهم البصرة ، غير أن العرب لما كانوا يغيرون دوما على المدينة وينهبون ما تناله أيديهم من غنائم وأسلاب ، اضطر الترك إلى عقد اتفاق معهم ، كان للعرب بموجبه حرية التنقل في البادية إلى قيد فرسخ من المدينة ، وعلى أن تبقى المدينة للترك. غير أن

__________________

(١) راجع الملحق رقم (٢١).

٧٠

هذا الاتفاق لم يدم طويلا ، ذلك أنه كان في وسط المدينة قلعة تعرف ب «حوش الباشا» (١) (Aushel ـ Basha) أو ديوان الباشا. وقد بناها الترك. ولما كانت الحامية من الترك ، والأهلون من العرب الذين لم يطيقوا التحكم بهم. فإن هؤلاء العرب كثيرا ما نازعوا الترك ، وبلغ بهم الأمر إلى الضرب ، فيبادر عرب البادية إلى نجدة الأهلين ، ومحاصرة الباشا في القلعة. وأخيرا لما لم يمكن عقد اتفاق مثل هذا ، لما يتوقع من انتهاز أحد الطرفين المتعاقدين الفرصة لنقضه ، فإن علي باشا (٢) الذي كثرت المنازعات والثورات في زمنه فأتعبته وأرهقته ، قرر التخلص من هذا العبء ، فباع حكومته بألف قرش (٣) لنبيل من أغنياء البلد. فعمد هذا من فوره إلى تجنيد عدد كاف من الرجال ليخشاه أهل البلد. ان هذا الرجل العظيم يسمى افراسياب باشا (Efrasiabs) وهو جد حسين باشا الذي كان حاكما لما مررت بها قبلا. لقد خلع افراسياب عنه النير التركي ، ولقب نفسه بأمير البصرة. أما الباشا الذي باع حكومته ، فإنه ما كاد يبلغ القسطنطينية حتى شنق. وبعد استيلاء مراد على بغداد ، كان أمير البصرة يسره أن يتحفه دائما بالهدايا والألطاف ، وخصوصا بجياد الخيل التي تشتهر بها تلك البقعة. وعند ما استولى الشاه عباس الكبير على مدينة هرمز ، أرسل جيشا قويا بقيادة إمام قولي خان ، حاكم شيراز ، للاستيلاء على البصرة. ولما وجد الأمير نفسه أضعف من أن يقاوم هذه القوة الكبيرة ، اتفق مع عرب البادية على كسر السد الذي يحجز ماء البحر. فلمّا فعلوا ذلك طغى ماء البحر وأغرق ما مسافته خمسة عشر فرسخا إلى البصرة بل أربعة فراسخ مما وراءها. فاضطر الفرس الذين أحدق بهم الماء ، وكان بلغهم خبر وفاة الشاه عباس ، إلى رفع الحصار. ومنذ هذا الغرق ، أصبحت أراض وبساتين واسعة مغمورة بكليتها ، أو ذات إنتاج زراعي ضئيل ، للأملاح التي خلفها ماء البحر وراءه بعد انحساره عنها.

__________________

(١) هذه التسمية العربية عن الأستاذ يعقوب سركيس.

(٢) تحرف هذا الاسم في الرحلة الى Aiud.

(٣) انظر الملحق رقم (٢٢).

٧١

وصار للأمير علاقات بأمم أجنبية مختلفة ، فأنى توجهت لقيت ترحيبا. ويعم المدينة الطمأنينة والنظام. حتى ليمكنك أن تسري طول الليل في شوارعها دون أن يعترض سبيلك أحد. ويجلب الهولنديون إلى البصرة التوابل كل سنة ، ويحمل إليها الانكليز الفلفل وشيئا من القرنفل. أما البرتغال فلا تجارة لهم معها ويجلب إليها الهنود نسيج قالقوط والنيل وشتى أنواع السلع. وبوجيز الكلام ، أن في البصرة تجارا من مختلف البلدان : من القسطنطينية وأزمير وحلب ودمشق والقاهرة وغيرها من الأصقاع التركية ، يقصدونها لشراء مثل هاتيك البضائع التي ترد إليها من جزر الهند ، فتحمل على الإبل المشتراة من هناك ، وهي التي يبيعها عرب البادية في المدينة. إن التجار الوافدين من ديار بكر والموصل وبغداد وما بين النهرين ، يشحنون بضاعتهم بطريق الماء في دجلة ، إلا أن وراء ذلك تعبا منهكا ونفقات طائلة ، لأن السفن التي يسيرها الرجال لا تتمكن من قطع أكثر من فرسخين ونصف فرسخ في اليوم ، وليس بوسعها السير ضد الرياح ، مما يضطرهم في الغالب إلى اجتياز الطريق بين البصرة وبغداد بأكثر من ستين يوما ، بل هناك من العقبات ما يطيل في أمد سفرهم فوق الماء إلى ثلاثة أشهر.

ويستوفي الجمرك في البصرة خمسة بالمائة ولكن موظفي الجمرك أو الأمير نفسه ، يتكرمون على أصحاب البضائع عادة ، فلا يتقاضون منهم أكثر من أربعة بالمائة. ومدخول أمير البصرة شيء كثير قد يبلغ ثلاثة ملايين ليرة (١) في السنة. ويتكون دخله من أربعة موارد : النقود ، والخيل ، والإبل ، والنخيل. والمورد الأخير رأس ثروته لأن البقاع الممتدة من ملتقى النهرين حتى البحر ، وهي مسافة ثلاثين فرسخا ، مغطاة كلها بالنخيل. ولا يجسر أحد على لمس ثمرة واحدة منها ما لم يدفع عن كل نخلة ثلاثة أرباع الطويلة (Larin) أو تسعة سوات فرنسية. أما الربح الذي يحصله الأمير من النقود ، فيرده بالوجه التالي : على التجار الذين يأتون من الخارج أن يحملوا ريالاتهم

__________________

(١) كانت الليرة في زمن تافرنييه ، كما وردت أسعارها في رحلته ، تساوي نحوا من ٧٥ فلسا.

٧٢

إلى دار الضرب العائدة للأمير (١) حيث تضرب وتحول إلى طويلات ، ومدخوله من ذلك ٨ بالمائة. أما عن خيله فليس في العالم ما يفوقها قابلية للسفر أو يبزها في جمال قوامها. وقد يقطع بعضها ثلاثين ساعة دون ما توقف ، خاصة الأفراس منها. ولنعد الآن إلى النخيل فهي جديرة بالملاحظة. فهناك أصول فنية في إنماء هذا النخيل تختلف عن غيره من الأشجار. ذلك أن أهل تلك الديار يحفرون حفرة في الأرض ، يضعون فيها مقدارا كبيرا من التمر ، بشكل هرمي وينتهي رأس الهرم بنواة واحدة. ثم يوارى بالتراب فينتج منه النخيل (٢). ويقول معظم السكان ، إن من النخيل ما هو فحل وما هو أنثى. وعليه يجب غرسهما الواحدة بجانب الأخرى ، وإلا فإن أنثى النخل لا تحمل ثمرا. ولكن غيرهم يؤكد أن هذه الطريقة ليست ضرورية وأنه يكفي عندما يطلع الفحل أن تأخذ طلعه فتضعه في قلب (جمار) الأنثى ، على بعد يسير من أعلى ساق النخلة ، وإلا فإن الثمر يسقط قبل نضجه.

وفي البصرة قاض ، عينه الأمير الذي يحكم هناك. وفي المدينة أيضا ثلاث فرق من النصارى : اليعاقبة والنساطرة (٣) ونصارى القديس يوحنا (٤). وفيها أيضا دار لمبعث الكرمليين الإيطاليين ، وأخرى للرهبان الأغسطينيين (Austin) البرتغاليين. ولكنهم غادروا البلدة منذ انقطاع البرتغاليين عن المتاجرة معها.

ونصارى القديس يوحنا كثيرون جدا في البصرة والقرى المجاورة لها ،

__________________

(١) عرفت البصرة ، في العصور الإسلامية ، بكونها دارا للضرب. وفي الخبر المذكور أعلاه إشارة إلى أنها ما زالت على ذلك حتى المائة السابعة عشرة للميلاد.

(٢) الطريقة الشائعة في غرس النخيل في العراق اليوم ، هي أن تقلع الفروخ التي حول أمها وتغرس في الأماكن المطلوبة. وتسمى فروخ النخل الثال ، ومفردها الثالة.

(٣) انظر الملحق رقم (٢٣).

(٤) يريد بهم «الصابئة». ولكن هؤلاء لم يكونوا في وقت من أوقاتهم فرقة نصرانية ، فهذا وهم من المؤلف.

٧٣

وقد كانوا في القديم يقطنون قرب نهر الاردن ، حيث اعتمد مار يوحنا الذي نسبوا إليه. إلا أنه منذ زمن فتح محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفلسطين (١) تعهد لهم بمنع التعرض لهم. ولكن خلفاءه عملوا على إبادتهم. وللوصول إلى هذه الغاية خربوا كنائسهم وأحرقوا كتبهم واستعملوا كل وسائل القسوة ضدهم (٢) ، فاضطرهم ذلك إلى الانتكاص إلى بلاد ما بين النهرين وكلدية ، وبقوا مدة خاضعين لبطريرك بابل ، ثم انفصلوا عنه منذ مائة وستين سنة (٣). ثم انتقلوا إلى فارس وبلاد العرب والمدن التي في أنحاء البصرة مثل : شوشتر (٤) (Souter) ، ودسبول (Despoul) ، ورامز (٥) (Rumez) ، والباطنة (Bitoum) ، والمناوي (Mono) ، وهندجان (Endecan) ، وخلف آباد (٦) (Calafabat) ، والحويزة

__________________

(١) كذا ما في الأصل. وكلها كذب وافتراضات ولو كان ذلك صدقا لما بقي شرذمة منهم على وجه البسيطة ولكن كل ذلك لحاجة في نفس يعقوب. والصواب أن فلسطين فتحت في أيام الخليفة أبي بكر الصديق ، لا في أيام النبي. طالع هذا الموضوع في كتاب فتوح البلدان للبلاذري (ص ١٣٨ ـ ١٤٤ طبعة دي غويه).

(٢) لم نطلع على حادثة اضطهاد من هذا القبيل في تاريخ الصابئة ، وقد حصلت هجرتهم من فلسطين قبل الإسلام بزمن طويل. وكان سبب الهجرة على ما جاء في رسالة حران (حاران كاويثة) العداء الشديد بينهم وبين اليهود القاطنين في فلسطين ، مما جر إلى معارك طويلة بينهم وكان الصابئة أقلية فغلبوا على أمرهم وهجروا فلسطين إلى العراق وإيران وعاشوا بعد ذلك بوئام تام مع الإسلام. (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

(٣) لم نعثر على نص تاريخي يؤيد زعم المؤلف. ولم يكونوا في وقت من الاوقات من اتباع بطريرك بابل.

(٤) بعض الأمكنة التي ذكرها تافرنييه جاءت بوجه مصحف ، لم نستطع معه تحقيق اسمه العربي ، فأبقينا اسمه بالفرنجية كما ورد في الرحلة ذاتها.

(٥) قال ياقوت في معجم البلدان (٢ : ٧٣٨) في كلامه على مدينة «رامهرمز» : «ان اسمها مختصر من رامهرمز أردشير ... والعامة يسمونها رامز كسلا منهم عن تتمة اللفظة بكمالها واختصارا». وقد سماها ابن بطوطة (تحفة النظار ٢ : ٢٢ طبعة باريس) بلفظة «رامز» أيضا.

(٦) هذه التسمية العربية عن الدكتور مصطفى جواد.

٧٤

(Aveza) ، والدجة (١) (Dega) ، والدورق (٢) (Dorech) ، والمعقل (Masquel) ، وكمار (Gumar) ، والكاريان (٣) (Garianous) ، والبصرة (Balsara) ، والنازور (Onezer) والزكية (Zech) ، ولوزا (Loza). وهم لا يسكنون مدينة أو قرية لا يجري فيها نهر. وقد أكد لي غير واحد من رؤساء دينهم أن هؤلاء النصارى يبلغون في كل المواطن المذكورة أعلاه ، نحو خمسة وعشرين ألف عائلة (٤) بينهم تجار ، ولكن معظمهم من أصحاب الحرف خاصة الصياغة (٥) والنجارة والحدادة. وعقيدتهم مشحونة بالخرافات والأوهام ، ويسميهم الفرس والعرب الصابئة ، أي الشعب الذي ترك دينه واعتنق دينا آخر (٦) أما هم فيسمون أنفسهم في لغتهم الخاصة «مندائية يحيى» أي اتباع يوحنا ، الذي منه ، كما يؤكدون ، استمدوا عقيدتهم وعنه تلقوا كتبهم وتقاليدهم (٧). ويحتفلون في كل سنة بعيد يدوم خمسة أيام ، يذهبون في أثنائها جماعات إلى رؤسائهم ليعمدوهم على غرار عماد مار يوحنا.

__________________

(١) بتشديد الجيم المثلثة والتسمية عن الأستاذ يعقوب سركيس. وقد أفادنا ان اسم «الدجة» أو «الدكة» ورد في مخطوط في خزانته ، بعنوان «تحفة الأزهار زلال الأنهار» للسيد صامن ابن السيد شدقم (المجلد ٣ ص ١٤ وذلك في حوادث سنة ٩٩٩ ه‍ (١٥٩٠ م).

(٢) عن الاستاذ يعقوب سركيس.

(٣) عن الدكتور مصطفى جواد.

(٤) راجع الملحق رقم (٢٤).

(٥) ما زال الصابئة في العراق إلى يومنا هذا ، موضع اعجاب الناس عامة بإتقانهم صياغة الفضة وتفننهم في نقشها وتلبيسها بالميناء التي لا يضاهيهم فيها أحد.

(٦) في كتب اللغة : صبأ ، وصبؤ : إذا خرج من دين إلى دين آخر. فهو صابىء.

(٧) الصابئة كما يعتقدون ، يتبعون تعاليم آدم. ولديهم كتاب «الكنزا» ، أي صحف آدم. غير ان تقادم العهد على الرسول الأول للدين ، ونشوء بعض المذاهب الزائفة والأديان الوثنية ، كل هذه أدخلت تعاليم غريبة في الدين. فجاء يحيى ليخلص الدين من هذه المذاهب الدخيلة ، ولم يكن رسولا بل نبيّا خاصّا بهم. (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

٧٥

وهم لا يتعمّدون إلا في الأنهار ، في أيام الآحاد فقط. وقبل الذهاب إلى النهر يحملون الطفل المراد تعميده إلى معبدهم (١) فيتلو فيه الكاهن ، صلاة معلومة على رأس الطفل ، ومن ثمة يحملون الطفل إلى النهر ويرافقه رهط من الرجال والنساء. فينزل الجميع ومعهم الكاهن حتى الركب في الماء. ثم يقرأ الكاهن صلاة ثانية معلومة من كتاب يحمله بيده. وعند ذاك يرش الطفل بالماء ثلاث مرات قائلا بلغتهم ما معناه بالعربية «بسم الرب ، أول وآخر العالم والجنة ، الخالق العالي لكل الأشياء». ثم يقرأ الكاهن صلاة أخرى في كتابه ، بينما الاشبين (العراب) يغطس الطفل كله بالماء. ويعود الجمع بعدئذ إلى بيت أهل الطفل للاحتفال به.

أما أساقفتهم وكهنتهم ، فإذا مات أحدهم وخلف ابنا ، انتخبوا الابن مكان أبيه (٢). وإن لم يكن له ابن اختاروا الذي يليه في القرابة ممن هو أقدر وأعرف بأمور دينهم. ويصلي المنتخبون عدة صلوات على رأس المنتخب ، فإن كان المنتخب أسقفا ، يطوف بعد توليه منصبه لتعيين آخرين ، وعليه أن يصوم ستة أيام يتلو في أثنائها صلوات معلومة مكررة على رأس الكاهن المرسوم الذي يصوم أيضا ويصلي طوال المدة المذكورة. ولما كان الابن

__________________

(١) ليس من الضروري حمل الطفل إلى المعبد قبل التعميد ولكن «الكاهن» يقرأ بعض الصلوات خارج النهر قبل مجيء الطفل ، ثم يدخل النهر منفردا ويقف في الماء ويقرأ بعض الصلوات ثم يأتي الشخص المراد تعميده ويتم تعميده. ولا حاجة لأي مرافق : فالشخص الذي يتعمد يذهب منفردا ، إلا إذا كان طفلا فيحمله شخص واحد. (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

(٢) الكاهن لا ينتخب انتخابا. وليست المسألة مسألة وراثة كما يتصور المؤلف. بل إن الكاهن يدرس دراسة خاصة ويمتحن ثم يصبح كاهنا بعد أن يقوم برياضة روحية خاصة. وأهم ما يجب أن يستعمله ليكون كاهنا صغيرا (ترميذ) هو أن يحفظ «سيدرة نشماثا» و «انياني» أو قسما كبيرا منهما وأما الكاهن الكبير «الكنزبرا» فيجب أن يكون مطلعا على كثير من التفاسير والشروح الدينية ، ويجب أن يكون قد أتم ، أو حفظ كتاب الكنزا وهو كتابهم الرئيسي. (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

٧٦

يخلف أباه وجب علي القول إن نصارى تلك الأنحاء ، يتزوج أساقفتهم وكهنتهم كسائر الناس ، غير أنه إذا توفيت زوجتهم الأولى ، لا يباح لهم التزوج بأخرى ما لم تكن عذراء. هذا إلى أن من ينخرط في سلك الكهنوت ، يجب أن يكون من سلالة الأساقفة ، وأمه يجب أن تكون عذراء حين زواجها. ويطيل أساقفتهم لحاهم ، ويعلقون على صدورهم صليبا مثبتا بدبوس (١).

وفي الاحتفال بزواج ما ، يذهب الأقارب والمدعوون مع العريس إلى بيت العروس ، ويحضر الأسقف أيضا ، فيسأل العروس التي تكون جالسة تحت مظلة عما إذا كانت عذراء؟ فإن كان الجواب بأنها كذلك ، يطلب منها أن تؤيد ذلك باليمين ، ثم يعود إلى الضيوف ، فيبعث بزوجته مع نساء أخريات ماهرات لفحصها فإن وجدنها عذراء حقا ، تعود زوجة الأسقف فتؤدي اليمين بصحة الأمر. وحينئذ يذهب الجميع إلى النهر ، ويعيد الأسقف تعميد الاثنين المزمع عقد زواجهما. ثم يعودون إلى البيت ، ويقفون في الطريق قبيل وصولهم إليه ، فيأخذ العريس بيد عروسه ويقودها سبع مرات من مكان الحشد إلى البيت وبالعكس ، والأسقف يتبعهم في كل مرة ، ويتلو صلاة معينة. ثم يدخلون الدار ويجلس العروس والعريس معا تحت مظلة ، واضعا كل منهما ذراعيه قبالة الآخر. ويعود الكاهن إلى الصلاة طالبا منهما أن يحنيا رأسيهما معا ثلاث مرات ، ثم يفتح كتابا في عرافة المستقبل ، ليستطلع أوفق يوم لعقد زواجهما فيخبرهما به (٢). اما إذا لم تجد زوجة الأسقف العروس عذراء ، فإن الأسقف لا يواصل مراسم الزواج. فإذا كان الشاب لا يزال راضيا بالفتاة ، عليه أن يذهب إلى كاهن أوطأ درجة ، ليقوم بالاحتفال. ولهذا ، يرى الناس أن من العار الكبير عقد الزواج من غير حضور الأسقف. فإذا تمّ الزواج على يد الكاهن ، كان ذلك دليلا على أن العروس ليست عذراء.

وبما أن الكهنة يعتبرون زواج المرأة وهي غير عذراء خطيئة كبيرة أيضا ،

__________________

(١) لا صحة لهذا القول بتاتا. فالأساقفة لا يعلقون شيئا على صدورهم عن (الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

(٢) راجع الملحق رقم (٢٥).

٧٧

فإنهم لا يتزوجون من مثل هذه إلا اضطرارا واجتنابا لما لا تحمد عقباه ، إذ يؤدي ذلك أحيانا إلى اعتناقهم الدين الإسلامي. وسبب فحص العروس هو لكيلا يخدع الأزواج ، وكذلك لإبقاء الفتيات متهيبات حذرات.

أما عقائدهم في خلق العالم (١) ، فيقولون إن الملاك جبرائيل أخذ على عاتقه خلق العالم على ما أمره الله به. فأخذ معه ثلاثمائة وستة وثلاثين ألف شيطان ، وجعل الأرض خصبة للغاية ، بحيث إذا زرعت في الصباح حصدت في المساء ، وإن هذا الملاك علم آدم الغرس والزرع وكل العلوم الأخرى اللازمة. وهذا الملاك صنع الكرات السبع السفلى ، أصغرها يصل إلى مركز الكون بالوجه الذي عليه السماوات. وكلها مرسومة الواحدة في داخل الأخرى ، وهذه الكرات تختلف في معدنها : فالأولى التي تلي المركز من الحديد ، والثانية من الرصاص ، والثالثة من الشبه ، والرابعة من النحاس ، والخامسة من الفضة ، والسادسة من الذهب ، والسابعة من التراب. وهذه الأخيرة تحتوي على جميع ما في غيرها من مواد ، وهي رأس الكل كما أنها أكثرها خصبا وثمرا للإنسان وأوفقها لحفظ الجنس البشري. أما الكرات الأخرى فالظاهر أنها صنعت لتحطيم البشرية. ويعتقدون أن فوق كل سماء ماء. ويستنتجون من ذلك أن الشمس تسبح في سفينة فوق الماء ، وأن صاري تلك السفينة صليب ، وأن عددا كبيرا من الغلمان والخدم يقودون سفينتي الشمس والقمر. وعدا ذلك ، فعندهم صورة قارب يقولون إنه للملاك باكان (Bacan) الذي يرسله الله لزيارة الشمس والقمر ولرؤية ما إذا كانا يتحركان حركة صحيحة أم لا.

أما بخصوص العالم الآخر والحياة الآتية (٢) ، فيعتقدون أن ليس من عالم

__________________

(١) يعتقدون أن الله أراد أن يخلق العالم ، فجعله في ماء أولا. ثم أمر جبرائيل فهبط إليه وجمده وجعله تربة كما هي وقصة خلق العالم عندهم طويلة ، وتجدها مفصلة في كتاب «الكنزا» مما لا يتسع له المقام هنا. (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

(٢) بخصوص العالم الآخر يعتقدون أن هناك الجنة ويسمونها «المه دنهودة» وترجمتها «عالم النور» ، كما هناك نار ويطلق عليها اسم «اور» ويتصورونها مخلوقا كبيرا يبتلع الاشرار.

٧٨

سوى ذلك يعيش فيه الملائكة والشياطين ، فتستقر معهم النفوس الصالحة والطالحة. وفي ذلك العالم مدن وبيوت وكنائس. وللنفوس الشريرة أيضا كنائس تصلي فيها وترتل وتحتفل بآلات الطرب ، وهي تعيّد كما في هذا العالم. وحينما يدنو الإنسان من ساعة الموت ، يأتي ثلاثمائة وستون شيطانا ويحملون روحه إلى محل مليء بالثعابين والكلاب والأسود والنمور والأبالسة. فإن كانت الروح لإنسان شرير ، مزقته تلك المخلوقات إربا إربا ، وإن كانت لانسان صالح ، فإن الروح تزحف تحت بطون هذه المخلوقات إلى حضرة الله الجالس على كرسي جلاله لإدانة العالم. وهناك أيضا ملائكة تزن أرواح البشر في ميزان ، فإن ظهر المرء صالحا تمتع بالمجد حالا. وهم يعتقدون أن الأبالسة رجال ونساء ، وأنهم يتوالدون ، وأن الملاك جبرائيل (١) هو ابن الله ، حبل به من النور ، وأن له بنتا تدعى سوريت (Souret) لها ابنان. وأن بإمرة جبرائيل سبع فرق من الشياطين ، هم بمثابة الجنود ورجال العدل ، يبعث بهم من مدينة إلى مدينة ومن بلدة إلى أخرى ليعاقبوا الأشرار.

أما عن الأولياء ، فيعتقدون أن المسيح تلمذ اثني عشر حواريا ليعظوا الأمم. وأن العذراء مريم ليست ميتة ، إنما تحيا في مكان ما في العالم على الرغم من أنه ليس من يقول أين هي. ويليها مار يوحنا وهو أعظم أولياء الجنة. ويليه زكرياء وإليصابات ، ويروون عنهما كثيرا من الأعاجيب والأقاصيص

__________________

وبين الجنة والنار شيء ثالث هو ما يسمونه «المطراثي» أي المطهر. وفي هذا المحل تعذب الأرواح التي ارتكبت ذنوبا بسيطة ويكون عذابها لأمد محدود ثم تنتقل من مواضعها في عالم النور. ويعتقدون أن «اور» الذي يلتهم الأشرار يأتي من عالم الشياطين ، وأن عالم النور مملوء بالملائكة الصالحين. (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

(١) يعتقدون أن الله لم يلد ولم يولد. وأن جبرائيل هو ابن أحد الملائكة الصالحين الذي يسمونه «مند اوهي» وليس ابن الله. ولم يكن لجبرائيل بنت ، بل له ابن اسمه «ايثاهيل». ولا يعتقدون بأنه يتأثر بالشياطين كما يذكر المؤلف ولكن هناك خرافات كثيرة بطلها جبرائيل ، وحوادثها تدور في الجنة وفي بلد الشياطين ، يمكنك الاطلاع عليها في كتاب «الكنزا». (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

٧٩

المزيفة. لأنهم يعتقدون أن هذين أولدا يوحنا بالمعانقة فقط. ولما بلغ يوحنا مبلغ الرجال زوّجاه فولد له أربعة بنين ، ولدوا فوق مياه الأردن. وهم يعتقدون أن يوحنا حينما ابتغى ابنا ، صلى إلى الله ، فسحب له واحدا من الماء. وهكذا لم يبق لمار يوحنا من علاقة مع زوجه إلا أن يعطيها الطفل لتربيه. وأن يوحنا مات ميتة طبيعية ، ولكنه أمر تلاميذه أن يصلبوه بعد وفاته تشبها منه بالمسيح ، وأخيرا يعتقدون بأنه مات في مدينة فوستر (١) (Fuster) ، وإنه دفن في جدث بلوري جلب بأعجوبة إلى هذه المدينة ، وأن قبره كان في بيت ما قرب نهر الأردن.

وهم يكرمون الصليب (٢) تكريما بليغا ، ويسمون أنفسهم به ويعنون كثيرا بإخفاء ذلك عن أعين الترك. وهم يقيمون حارسا على أبواب كنيستهم في أثناء احتفالاتهم خوف أن يدخلها الترك فيفرضوا عليهم غرامة مجحفة. وبعد أن يفرغوا من تكريم الصليب يجعلونه قطعتين ولا يجمعون بينهما إلا لأداء صلاة ثانية.

إن تكريمهم الصليب بهذا الوجه ، مستمد من كتاب عندهم عنوانه «الديوان» ورد فيه أن في صباح كل يوم ، يأخذ الملائكة الصليب ويضعونه في وسط الشمس فيقتبس ضياءه منها على نحو ما يفعل القمر (٣). وفي هذا الكتاب أيضا صورة سفينتين إحداهما تسمى «الشمس» والأخرى «القمر» وفي كل من هاتين السفينتين صليب مزدخر بالأجراس ، وإذا خلت السفينتان من صليب يضمحل النور من الشمس والقمر ، وتتعرض السفينتان للغرق.

وأعظم أعيادهم ثلاثة : أحدها في الشتاء ، ومدته ثلاثة أيام ، وهو لذكرى

__________________

(١) لعل المؤلف يريد بها مدينة «شوشتر».

(٢) هم يكرمون ما يسمونه «دربشة اد يهبه» أي علم يحيى وهو في تركيبه يشبه الصليب وله كسوة من القز. (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

(٣) يعتقدون أن الشيء المضيء في الشمس أو القمر هو «دربشة اديهبه» مشابه لما يستعملونه. وعند المغرب يطوى من الشمس فتغيب ويفتح في القمر فيشرق. (عن الأستاذ عبد الجبار عبد الله).

٨٠