رحلة الفرنسي تافرنيية إلى العراق

جان بابتيست تافرنييه

رحلة الفرنسي تافرنيية إلى العراق

المؤلف:

جان بابتيست تافرنييه


المترجم: كوركيس عوّاد وبشير فرنسيس
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ١٤٤

وفي اليوم الخامس منه ، بعد مسيرة احدى عشرة ساعة بلغنا الموصل ، التي لا تبعد عن نينوى القديمة إلّا يسيرا.

والموصل ، مدينة تبدو للمرء من خارجها فخمة المنظر. أسوارها (١) حجرية ، بينما هي في داخلها تكاد تكون برمتها خربة. وليس فيها سوى سوقين معقودتين ، وقلعة (٢) صغيرة مطلة على دجلة يقيم فيها الباشا (٣). وبوجيز الكلام ، ليس في الموصل ما يستحق المشاهدة والالتفات (٤).

وليس لهذه البقعة من شأن إلا كونها ملتقى مهمّا للتجار ، خاصة تجار العرب والكرد الذين يقطنون بلاد أشور القديمة ، المسماة اليوم بكردستان ، التي يكثر فيها العفص الرائج التجارة. وفي الموصل أربع فرق نصرانية ، وهي : الروم ، والأرمن ، والنساطرة ، والموارنة (٥). وللكبوشيين مقر جميل على دجلة (٦) ، ولكن الباشا غرمهم لأنهم حاولوا توسيعه قليلا فأجبروا على تركه وهجره. ويحكم المدينة باشا ، بإمرته جماعة من الانكشارية والسباهية يبلغ عددهم ثلاثة آلاف رجل.

وليس في الموصل غير خانين بسيطين ، كانا مكتظين بالمسافرين حين

__________________

(١) انظر الملحق رقم (٨) في الكلام على الموصل.

(٢) لا أثر لهذه القلعة اليوم ، وإنما يعرف موقعها فقد كانت تقوم عند «باب القلعة» المطل على دجلة ، في أعلى الجسر الحديدي الحالي.

(٣) كان يسوس الموصل في العهد العثماني «باشا».

(٤) انظر الملحق رقم (٨).

(٥) لا نرى المؤلف إلا واهما في ذكره هذه الفرق النصرانية. فلم تعرف الموصل في يوم من أيامها الماضيات بكونها موطنا للروم ولا للموارنة. بل إن الفرقتين السائدتين في زمنه هناك كانتا «النساطرة» و «اليعاقبة». أما الأرمن فلم يكن منهم فيها إلا عدد ضئيل لا يستحق الذكر.

(٦) قدم الرهبان الكبوشيون إلى الموصل سنة ١٦٣٦ وغادروها نهائيا بعد سنة ١٦٦٧ بمدة وجيزة.

٤١

وصولنا إليها. فطلبت أن تنصب خيمتان في الميدان ، أي في السوق (١) الكبيرة.

ويجدر بنا أن نتكلم قليلا على ما بين نهري دجلة والفرات من تباين في مجراهما ومياههما. فقد لاحظت أن ماء الفرات يبدو محمرا قليلا ، وأن تياره ليس سريعا كتيار دجلة الذي يظهر مائلا إلى البياض كنهر اللوار (٢). أما عن مجراهما فالفرات أطول من دجلة. والآن دعنا نقطع دجلة فوق جسر من القوارب (٣) لمشاهدة الخرائب الكئيبة لمدينة نينوى التي ملأت العالم ضجيجا ، وليس في مظهرها الآن ما يدل على سابق مجدها.

شيدت نينوى على الضفة اليسرى لدجلة ، أي في الضفة الأشورية. وهي الآن ليست إلا أكواما من التراب تمتد نحو فرسخ بامتداد النهر. ويرى فيها عدد من الأقبية والمغاور غير المأهولة (٤). ويصعب على الإنسان أن يعلم ما إذا كانت هذه بعينها المساكن القديمة في المدينة ، أم كانت هنالك بيوت مشيدة فوقها في الأزمنة الخالية. لأن معظم البيوت في البلاد التركية تشبه السراديب ، أو لا تتألف إلا من طبقة واحدة عالية. وعلى نصف فرسخ من دجلة تل تشتتت على سطحه بيوت وفي قمته مسجد يذهب أهل تلك البقعة إلى

__________________

(١) ما زالت «محلة الميدان» و «سوق الميدان» معروفتين مأهولتين في الموصل. وهذه السوق تمتد بموازاة دجلة ، من مشرعة شط القلعة إلى الجسر الحديدي الجديد. وبينها وبين النهر نحو مائتي متر.

(٢) اللوار من أنهار فرنسا.

(٣) كان للموصل منذ أقدم عصورها إلى يومنا هذا ، جسر يصل ما بينها وبين شاطئ دجلة الأيسر. وهو جسر خشبي من القوارب ، يجدد كلما ناله البلى. ولكن هذا الجسر الخشبي البسيط ، استعيض عنه ، سنة ١٩٣٣ بجسر حديدي مكين راسخ الدعائم.

(٤) لم نفهم مراد المؤلف بقوله «الأقبية والمغاور» فهل يدل ذلك على حفريات وتنقيبات في نينوى منذ ذلك العهد؟ مع أن المعروف بين علماء الآثار ، أن الحفريات في نينوى لم تبدأ إلا في سنة ١٨٤٠ م وأن معظمها تم بشق الأنفاق في باطن التل لاستخراج الآثار منه ، ولا تزال معالم هذه الأنفاق تشاهد وكأنها أقبية ومغاور.

٤٢

أنه الموطن الذي دفن فيه يونس (١) (يونان) ، وهذا المسجد جليل المكانة ولا يباح لنصراني أن يدخله إلا بوجه خصوصي ، فضلا عن دفع نقود في سبيل ذلك. وبالوسيلة ذاتها أمكنني ، مع اثنين من الرهبان الكبوشيين ، الدخول فيه ، ولكننا أجبرنا على خلع نعالنا قبل السماح لنا بالدخول. وفي وسط الجامع ضريح مغطى بسجادة فارسية منسوجة من الحرير والفضة ، وفي كل ركن من الضريح شمعدان نحاسي كبير فيه شمعة من شمع النحل ، هذا إلى جملة من القناديل وبيض النعام مدلاة من السقف. ووجدنا جمعا كبيرا من المسلمين خارج المسجد ، وفي داخله رأينا درويشين يتلوان القرآن.

وعلى رمية بندقية من الموصل ، إلى شمالها الشرقي ، أطلال دير كبير متهدم ، يحيط به سور عال ما زال معظمه قائما (٢).

لقد مكثنا في الموصل عشرة أيام ، وبعد أن تزودنا منها بكل ما نحتاج إليه لبقية سفرنا ، غادرناها قاصدين أصفهان.

__________________

(١) انظر الملحق رقم (٩).

(٢) انظر الملحق رقم (١٠).

٤٣
٤٤

الفصل الخامس

(من الكتاب الثاني من الرحلة)

نسخة الكلام على الطريق من نينوى إلى أصفهان

بعد أن عبرنا دجلة ، نزلنا في مكان على مسيرة ثلاثة أرباع من نينوى منتظرين تجارا أزمعوا على السفر مع قافلتنا. ولم نسلك الطريق المعتاد إلى بلاد فارس ، بل سرنا في طريق يقل فيه دفع الرسوم ، ذلك إلى كونه أقصر مسافة. وتقطع القافلة ما بين حلب وأصفهان بثمانية وخمسين يوما. إننا من ضفاف دجلة حتى المكان الذي نزلنا فيه مساء ذلك اليوم ، لم نمر بغير خرائب متصلة ، مما حملني على الاعتقاد أنها البقعة التي كانت تقوم فيها نينوى القديمة.

وقد مكثنا يومين قرب المسجد (١). والذي يتناقله المسلمون ، إن يونس دفن فيه. لقد اخترنا رجلا كرديا أي أشوريا (٢) ليتزعم قافلتنا (أي يصير كروان باشي). ومع أنه يشك في أمانته فقد كان اختيارنا له ضربا من السياسة ، لأنه كان علينا اجتياز بلاد آشور القديمة التي تسمى الآن كردستان ، وهذه بقعة يتكلم أهلها لغة خاصة بهم.

وفي اليومين الأولين من السفر ، عبرنا جدولين يأتيان من الجبال ويصبان في دجلة. وكان أول سفرنا في بسيط من الأرض بموازاة ضفة جدول. وفي مساء اليوم الثاني نزلنا عند نهر كبير ينحدر من الجبال الشمالية ويجري جنوبا فيصب في دجلة ، ويسمى بهرز (٣) (Bohrus) ، وتياره سريع عنيف ، وهو زاخر

__________________

(١) يريد به مسجد النبي يونس ، وقد مر ذكره.

(٢) يريد به كرديا ساكنا بلاد آشور. وقد سبق للمؤلف في الفصل الماضي أن سمى كردستان بلاد آشور.

(٣) انظر الملحق رقم (١١).

٤٥

بالسمك وخصوصا سمك سليمان. وقد ظلت القافلة في عبورها هذا النهر يومين لعدم تيسر القوارب هناك. فكان على الناس أن يربطوا أعمدة خشبية طويلة ، والواحد فوق الآخر ، يسميها الأهلون هناك «الكلك» ، وهم يصنعونه بشكل مربع ، ويضعون تحته نحو مائة جراب منفوخ بالهواء لتجعل الكلك يطفو على وجه الماء دون أن يلامس خشبه. وعلى التجار أن يحتاطوا بوضع لبابيد ثخينة فوق الكلك لئلا يتسرب الماء إليهم وتتبلل أحمالهم. وفي زوايا الكلك الأربع ، خشبات تقوم مقام المجاذيف ، ولكن فعلها ضئيل بإزاء قوة التيار. ولهذا ، ينبغي سحب الكلك ضد التيار إلى مسافة أربعمائة أو خمسمائة خطوة ، ومن ثم يجذف مع التيار حتى يبلغ المكان الذي يراد إنزال الأحمال فيه في الجانب الآخر. وبعد تفريغ الأحمال ، على الملاحين أن يرفعوا الكلك من الماء ، ويفكوا الجربان ويحملوها على بغال معدة لهذا الغرض. إن أصحاب الخيل والبغال والحمير هناك ، سواء أكانت للحمل أم للركوب ، حالما يرون قافلة قادمة ، يهرعون بها إلى ضفة النهر ، وليس عليهم إلا وزرة من قماش أو من جلد الماعز ، يسترون بها عوراتهم ، أما ثيابهم فينزعونها ويلفونها على رؤوسهم كأنها العمامة. ويربط كل منهم تحت بطنه جرابا منفوخا فيتقدم اثنان أو ثلاثة من أمهرهم راكبين أحسن الخيول الملجمة ، فينزلون في الماء ويتبعهم البقية سباحة ، سائقين خيلهم أمامهم. وقد قبض كل منهم ذيل دابة بإحدى يديه وبالأخرى يسوقها. فإن وجدوا حصانا أو حمارا ضعيفا ، ربطوا تحت بطنه جرابا منفوخا عونا له. فإذا أدركنا هذه المصاعب ، اتضح حين ذاك أن ما يستغرقه عبور قافلة من خمسمائة أو ستمائة دابة لا يقل عما ذكرنا.

وبهذا الوجه عبرت القافلة ، ولكنها سارت في اليومين أو الثلاثة الأولى من سفرها في طريق رديء جدا ، لأن الخيل في اليوم الأول من السفر كانت تسير في مياه تبلغ ركبها دون انقطاع. وفي اليوم الثاني وشطر من الثالث كانت تسير في قفار موحشة لم نجد فيها لخيلنا علفا ما ، عدا عن أحطاب قليلة لطبخ رزنا. وبعد اجتيازنا هذا الطريق الرديء بلغنا نهرا يقال له الزاب الكبير (١)

__________________

(١) انظر الملحق رقم (١١).

٤٦

(Great Zarbe) فعبرناه فوق قنطرة حجرية (١) تتألف من تسعة أقواس. ويروي الأهلون أن هذه القنطرة أقامها الإسكندر الكبير عند مسيره لمناجزة دارا. وعلى قيد ربع فرسخ من جنوب شرقي القنطرة ، يلتقي نهيران يصبان في دجلة وبعد اجتيازنا القنطرة ، بلغنا بلدة يسمونها شهرزور (Sherazour) وهي مبنية على نشز من الأرض ، فيها ثلاثة متاريس ، ويقيم فيها «باشا» لا مندوحة للقافلة أن ترشيه بهدية ولو صغيرة ، وذلك كي يسمح لها بالمرور من هناك. ونزلنا عند ضفاف نهر ولبثنا هناك يومين. ثم سرنا يوما في جبال جرد لا ماء فيها. على أننا في اليوم الثاني انتهينا إلى سهل مبهج تكثر فيه الأشجار المثمرة ، وما هذا إلا سهل إربل الذي تغلب فيه الإسكندر على دارا (٢) ، ويبلغ طوله خمسة عشر فرسخا ، وتسقيه جداول عديدة. وفي وسط الجبل تل صغير محيطه نحو نصف فرسخ كسته الطبيعة بأجود أشجار البلوط التي لم ير مثلها. وفوق قمته خرائب حصن تدل على أنه كان بناء عظيما. ويروي أهل تلك البقعة أن دارا مكث في هذا الحصن أثناء اشتباك رجاله بالمعركة مع الإسكندر. وعلى ثلاثة فراسخ من هذا الحصن ، قرب جبل عظيم يتجه شمالا ، بقايا حصن آخر وعدة بيوت ، يتناقل الأهلون فيما بينهم أن دارا حمى بعض نسائه فيها لما خسر المعركة. ويقوم هذا الحصن فوق بقعة جميلة المنظر. وفي حضيض الجبل عين ماء ، تنساب مسيرة ربع فرسخ ، ثم تصب في نهر صالح لسير القوارب الكبيرة. وهذا النهر يتلوى بين الجبال متجها جنوبا ، يحيث إنك بعد مسيرة يومين من التل تعبر هذا النهر ثانية قرب بلدة يقال لها شهرزور ، فوق قنطرة من الحجر ذات تسعة أقواس ، وهي التي أمر الشاه عباس الكبير بهدم ثلاثة من أقواسها بعد استيلائه على بغداد.

__________________

(١) لعل تافرنييه يريد بها ، قنطرة أسكي كلك ، التي هدمت ، وأقيم بجانبها في السنوات الأخيرة جسر حديد ثابت.

(٢) جرت الموقعة بين الاسكندر ودارا في بقعة كوكاميلا قرب إربل ، سنة ٣٣١ قبل الميلاد ، وكان النصر فيه للإسكندر. وتعد هذه المعركة من المعارك الفاصلة في تاريخ العراق القديم.

٤٧

وشهرزور بلدة تختلف في بنائها عن أي بلد في تلك الأنحاء ، فجميعها منحوت في الصخر بما يبلغ امتداده ربع فرسخ ، ولهذا عليك أن ترتقي بيوتها بمرقاة تتألف من خمس عشرة إلى عشرين درجة ، وأحيانا أقل ، بنسبة ارتفاع المكان الذي تقصده. وليس لمداخل بيوتها أبواب ، بل لها أحجار مستديرة تشبه حجر الرحى ، يدحرجونها حين الدخول أو الخروج. وحافات الحائط نقرت بوجه يستوعب هذا الحجر. كما هي الحال في العلبة وغطائها ، إذ يصبح الحجر باستواء واجهة الجبل عند وضعه على الباب.

وتبدو أعالي بيوتهم كالروازين في الجبال ، وقد اتخذ الأهلون مغاور لحفظ ماشيتهم فيها ، ومن ذلك نحكم أنها نقرت لتحمي السكان من عرب ما بين النهرين وبدوهم.

انتهينا إلى شهرزور في ليلة عيد الفصح ، ومكثنا هناك ثلاثة أيام طلبا للراحة بعد صوم تمسكنا به. وقد رأيت هنا ينابيع يخرج منها الماء بفقاقيع كبيرة. وبعد أن مزجت هذا الماء بكأسين من الخمر وشربته وجدت له خاصية الإسهال ، كما أنه ذو مذاق معدني. إن ماء هذه العيون يغلي قرب ضفة نهر يسمى ألتون صو أو نهر الذهب الذي يصب في دجلة ، وبعد مسيرة ثلاثة أيام من مصبه يصل المرء إلى بغداد.

وفي اليوم التالي ، نزلنا بلدة حقيرة على الحدود بين تركيا وإيران (١).

وفي اليوم الذي يليه ، وهو اليوم الخامس بعد مغادرتنا نينوى مررنا بعدة مناقع ومياه حارة تفصل بين الامبراطوريتين. وهكذا دخلنا في بلاد فارس ، وصادفنا جبلا شامخا تغطيه أشجار البلوط التي تحمل العفص. ولعلو هذا الجبل الشاهق ، استغرقت القافلة بضع ساعات لبلوغ قمته. ولدى صعودنا هذا الجبل ، وخاصة عندما أدركنا قمته ، سمعنا طلقات بندقية تدوي في الفضاء ، فظننا بادئ الأمر أن أناسا يصطادون الخنزير البري أو الغزال مما تكتظ به

__________________

(١) يقصد الحدود بين إيران والعراق. لأن العراق كان حينذاك في ضمن الامبراطورية ، ويسميها الإفرنج أحيانا تركيا.

٤٨

الجبال ، ولكن صوت الرصاص كان أقوى وأشد مما يستعمله الصيادون. فتأهبنا للأمر. وكان من الواجب التدبر في مسيرنا لو كنا نعلم ما سيجابهنا من أمر ، إذ تذكرت أن الأهلين هناك لا يبيعون شيئا إلا مقابل بارود أو رصاص. وكان الكروان باشي قد نصحني مرة أن لا أقايضهم خشية أن يستعملوا ما يأخذونه منا ضدنا. ثم انحدرنا من الجبل إلى سهل خصيب تسقيه عدة أنهر.

فالمقاطعة التي اجتزناها حتى الآن ، تؤلف القسم الأعظم من بلاد آشور القديمة.

٤٩
٥٠

الفصل السادس

(من الكتاب الثاني من الرحلة)

[ملاحظة : وفي رحلة تافرنييه الرابعة الموصوفة في الفصل السادس من الكتاب الثاني ، التي بدأ بها في ١٨ حزيران سنة ١٦٥١ م ، بخروجه من باريس مارا بمرسيليا ، ومنها إلى سردينيا ، فتونس ، فبانتيلاريا ، فصقلية ، ثم مالطة ، فكريت ، ومنها اجتاز بحر المورة ، فوصل إلى قبرص ، ومنها إلى ساحل سوريا في خليج انطاكيا ، فالإسكندرونة ، ومنها إلى حلب] قال بعد ذلك :

وفي الثالث عشر من كانون الأول (١٦٥١ م) توجهنا نحو نينوى بطريق يختلف قليلا عما سلكته في رحلتي الثالثة من باريس ووصفته في وقته. وصلنا في اليوم الثاني من شباط (١٦٥٢ م) مدينة الموصل أو نينوى ، فمكثنا فيها إلى اليوم الخامس عشر منه ، وذلك إلى أن تهيأت الأكلاك ، وهي سفن ذلك البلد. وكان في كلكنا ثلاثون مسافرا وأحمال كثيرة. فسار بنا الكلك فوق دجلة ، من الموصل إلى بابل. (١)

__________________

(١) إن غير واحد من الرحالين الأقدمين قد خلطوا بين الموصل ونينوى كأنهما شيء واحد. كما أنهم ذهبوا إلى أن بغداد هي بابل ، وكل ذلك من الأوهام الظاهرة التي لا تخفى على من له اقل الوقوف على بلدان العراق.

٥١
٥٢

الفصل السابع

(من الكتاب الثاني من الرحلة)

مواصلة الطريق الذي سلكه المؤلف في رحلته الرابعة في آسيا ،

وخاصة سفره في دجلة من نينوى إلى بابل (بغداد)

في الخامس عشر من شباط (١٦٥٢ م) ، تحركنا من الموصل ، وبعد أن جرى الكلك بنا ست ساعات ، رسونا قرب حمام حار المياه ، على بعد رمية بندقية من دجلة ، وكان مزدحما بالمعلولين الذين أمّوه للاستشفاء من كل حدب وصوب (١). وقد أقمنا على حراسة الكلك طوال الليل ، ولكن بالرغم من تيقظنا فقد سرق الأعراب غطاءين من أحد التجار وثيابا من رجل تركي كان قد نزل إلى الحمام.

وفي اليوم السادس عشر منه ، بعد أن جذفنا حوالي خمس ساعات ، بلغنا سدا ضخما (٢) ، عرضه ٢٠٠ قدم ، ويشكل شلالا في النهر انحداره عشرون قامة.

ويقول العرب إن الإسكندر الكبير قد أقامه رغبة منه في تغيير مجرى النهر ، بينما يقول غيرهم إن دارا هو الذي أمر ببنائه لصد مرور المقدونيين الآتين بطريق الماء (٣). ومهما يكن من أمر هذا السد ، فقد اضطررنا إلى النزول برا مع أحمالنا ، فحملناها على الدواب التي جاءنا بها العرب.

إن عبور هذا السد لأمر جدير بالمشاهدة ، لأنه من العجيب أن ترى الكلك يهوي بغتة من علو ١٢٠ قدما ، وهو محافظ على موازنة جريانه فوق

__________________

(١) انظر الملحق رقم (١٢).

(٢) ورد في حاشية خطية في كتاب الرحلة ، تعليقا عل هذا السد : إنه بني من حجارة كبيرة تصلبت بمرور الأيام فأصبحت كالصخر.

(٣) راجع الملحق رقم (١٣).

٥٣

الماء بواسطة الجربان. ويربط ملاحو الكلك أنفسهم ومجاذيفهم ربطا وثيقا بمرابط مقوسة بهيئة نصف دائرة ، ليحموا أنفسهم من قوة الماء. وفي الحقيقة ، إن هذا السد هو الذي يجعل من دجلة نهرا غير صالح للملاحة.

ثم جاء الكلك إلى المكان الذي كنا ننتظره فيه ، فوسقنا أحمالنا ، ورسا حيث كنا من ضفة النهر. ومن عادة الأعراب أنهم إذا شعروا بنوم التجار ، يقطعون حبال الكلك ويتركونه يبتعد عن حافة النهر ، فيتبعونه سباحة ، ويسرقون منه ما راق لهم.

وفي اليوم السابع عشر ، بعد تجذيف ثلاث ساعات ، التقينا بنهر الزاب الذي يصب في دجلة من جهة بلاد كلدية. وعلى نصف فرسخ من النهر حصن (١) من الآجر على تل صغير ، مهجور فأدى ذلك إلى خرابه. مكثنا فوق الماء في هذا اليوم اثنتي عشرة ساعة ، ثم رسونا في حويجة ، وأوقدنا نارا عظيمة ، وأطلقنا بنادقنا غير مرة لترويع الأسود (٢).

وفي اليوم الثامن عشر ، لبثنا في الكلك ثماني عشرة ساعة ، ورسونا على ضفة النهر ، عند الجهة الآشورية. وفي المساء جلب لنا الأعراب لبنا وزبدة ، لقد جاءوا إلينا سابحين من ضفة النهر الأخرى وتحت بطونهم جربان وأخرى فوق رؤوسهم فيها ما جلبوه لنا ، وهم لا يتقاضون عنه نقودا بل تبغا (٣) أو كعكا أو فلفلا.

__________________

(١) لعل الحصن المشار إليه ، من بقايا «السن» وهي مدينة داثرة كانت على مصب الزاب الأسفل.

(٢) كان الاسد ، في الأزمنة القديمة ، كثير الوجود في جهات العراق. ويؤخذ من الآثار المستخرجة من خرائب المدن الأشورية ، أن ملوك أشور كانوا من أمهر صيادي الأسود وأشجعهم. والظاهر ان الأسود كانت في زمن تافرنييه ترتاد أراضي العراق. على أنها أخذت تقل بمر السنين حتى أننا لا نسمع بوجودها اليوم إلا في النادر جدا.

(٣) في هذا إشارة إلى استعمال التبغ في العراق قبل ثلاثمائة سنة ، وهو خبر طريف. وللأستاذ يعقوب سركيس بحث مطوّل في هذا الشأن بعنوان : «التتن في العراق : وجوده وزرعه ، قبل نيف وثلاثمائة عام» وقد نشر في مجلة غرفة تجارة بغداد سنة ١٩٤١.

٥٤

وفي اليوم التاسع عشر ، بعد أن جرى بنا الكلك أربع ساعات ، التقينا بنهر يقال له ألتون صو (١) ، أي نهر الذهب وهو الذي ينبع من جبال ماذي ، وقد سرت بهذا النهر ثلاثة أيام في إيابي من تبريز إلى حلب ، عابرا دجلة عند ميسيا (٢) (Mesia). ولماء هذا النهر مذاق عذب ، وهو يصب في دجلة عند الجهة الآشورية. وعلى امتداد دجلة ، من الجهة ذاتها ، عدد كبير من عيون القار (٣) وغيرها من المياه الحارة ذات الرائحة الكبريتية. وفي ذلك اليوم لم نر غير أعراب وأكراد يسيرون بمحاذاة ضفتي النهر : الكرد في جهة ما بين النهرين ، والعرب في الجهة الآشورية. لقد كانوا في حرب ، وكان كل من الفريقين يسير بنظام تام : الشبان يحملون الأقواس والنشاشيب وبعض البنادق وعدة حراب نصفية ، ومن ورائهم نساؤهم وفتياتهم وأطفالهم ، مع أبقارهم وأغنامهم وإبلهم ، ويسير في المؤخرة المسنون. وكان كل من الأكراد والأعراب يرسلون فرسانهم للاستطلاع على المرتفعات ، فإن رأى أحد الطرفين المجال مساعدا للهجوم ، سبحت جموعه في الماء وهاجموا أعدءاهم. أما نحن ، فلما كنا لا نثق بمثل هؤلاء الناس ، جذفنا مدة تسع عشرة ساعة لنتجنبهم.

وفي اليوم العشرين ، بقينا إحدى عشرة ساعة فوق دجلة ، ورسونا عند بلدة يقال لها تكريت ، في جهة ما بين النهرين. في هذه البلدة قلعة نصف خربة ، ومع ذلك لا تزال ترى فيها بعض غرف أنيقة. ومن الجهة الشمالية والشرقية يقوم النهر مقام خندق ، أما من جهتيها الغربية والجنوبية فيحدق بها خندق اصطناعي مرصوف بالحجارة. ويقول العرب إنها كانت قديما أقوى موضع في كل ما بين النهرين. ويشرف عليها تلان غير بعيدين عنها. وكان يسكن النصارى (٤) على مسافة نصف فرسخ من المدينة حيث إن خرائب كنيسة

__________________

(١) يريد به الزاب الصغير.

(٢) لا نعرف شيئا عن هذا الموقع.

(٣) راجع الملحق رقم (١٤).

(٤) للنصرانية في تكريت تاريخ حافل ، وما زال بين آثارها بقايا كنائس وديارات. إلا أننا لا نعلم بوجه التحقيق متى اندثرت النصرانية من هذه المدينة. وتقول دائرة المعارف

٥٥

وقسما من برجها لا تزال تشاهد ، ويظهر من بقاياها أنها كانت بناء عظيما فيما سبق.

وفي اليوم الحادي والعشرين ، بعد أن جذفنا ثلاث ساعات ، صادفنا بلدة على الجهة الآشورية ، تسمى إمام دور (Amet ـ el ـ tour) وهي باسم شخص له مرقد فيها ، ويعده الناس هناك وليا (١) وهو موضع تكريمهم ، يقصده كثير من أهل الدعاء والنذور. ومكثنا في ذلك اليوم اثنتي عشرة ساعة في الماء ثم رسونا عند ضفة النهر.

وفي اليوم الثاني والعشرين ، بعد أن بقينا في الماء ساعتين ، التقينا بجدول يأخذ ماءه من دجلة لسقي الأراضي هناك ، ويمتد إلى قرب قبالة بغداد ، وهناك يصب في دجلة مرة ثانية. ومن هناك نزلنا إلى البر في الجهة الكلدانية ، لأنه كان برفقتنا مسلمون أحبوا أن يتبركوا بزيارة مكان يقال له سامراء (Samatra) ، وفيها جامع لا يبعد أكثر من نصف فرسخ من النهر ، يؤمه كثير من المسلمين لتقديم فروض العبادة ، خاصة الهنود والتتر الذين يعتقدون أن أربعين نبيا من أنبيائهم مدفونون هناك. ولما علموا أننا نصارى لم يسمحوا لنا بأن نطأ أرضه. وعلى خمسمائة خطوة من الجامع برج (٢) مشيد بمهارة فائقة ، له مرقاتان من خارجه تدوران حوله دوران الحلزون. وإحدى هاتين المرقاتين أعمق في بناية البرج من الأخرى. وكان بإمكاني أن أمعن النظر فيه أكثر من هذا لو سمح لي بالدنو منه إلى مسافة قريبة. والذي لا حظته ، أنه مشيد بالآجر ، ويبدو عليه مسحة القدم. وعلى نصف فرسخ منه ، تبدو ثلاثة أبواب كبيرة كأنها أبواب قصر عظيم (٣). وفي الحقيقة لا يستبعد أن في هذه الأنحاء كانت مدينة عظيمة ، لأن على مسافة ثلاثة فراسخ على طول النهر لا يرى شيء

__________________

الإسلامية (٥ : ٤٣٦ من الترجمة العربية ، مادة تكريت) أن تافرنييه كان آخر من ذكر خبر النصارى بهذه المدينة.

(١) راجع الملحق رقم (١٥).

(٢) راجع الملحق رقم (١٦).

(٣) راجع الملحق رقم (١٦).

٥٦

سوى الخرائب (١). لقد بقينا اثنتي عشرة ساعة هذا اليوم فوق الماء ، ورسونا عند ضفة دجلة حسب العادة.

وفي اليوم الثالث والعشرين ، مكثنا عشرين ساعة في الماء ، ولم نشاهد طول اليوم على جانبي النهر شيئا غير أكواخ حقيرة من سعف النخل ، يسكنها بعض الفقراء الذين يديرون ناعورا لسقي الأراضي المجاورة. والتقينا في ذلك اليوم أيضا بنهر يدعى العظيم (Odoine) الذي يصب في دجلة في جانب كلدية القديمة.

وفي اليوم الرابع والعشرين ، لبثنا اثنتين وعشرين ساعة في الماء لم نغادر في أثنائها الكلك ، والسبب في ذلك أن التجار أخرجوا من الكلك كل ما عندهم من نقود وأحسن ما لديهم من بضاعة وسلموها إلى أبناء تلك البقعة الذين يحملونها بأمانة عظيمة إلى بغداد حيث يريد التجار بيع سلعهم. ويعمد التجار إلى ذلك تهربا من دفع خمسة بالمائة في المدينة (بغداد). ولقد أمنت أنا أيضا عندهم عدة أشياء قدموا لي بها حسابا دقيقا كما فعلوا مع الآخرين ورضوا لقاء أتعابهم بشيء زهيد.

وفي اليوم الخامس والعشرين ، انتهينا نحو الساعة الرابعة صباحا ، إلى مدينة بغداد التي تعرف عادة باسم بابل ، تفتح أبواب المدينة في الساعة السادسة ، فيجيء رجال الجمرك ليدونوا ثبتا بالسلع ويفتشوا التجار أنفسهم ، فإن لم يجدوا معهم شيئا ، سمحوا لهم بدخول المدينة. أما إذا كان عليهم ما يجب تأديته من رسوم ، فإنهم يأخذونهم إلى دار الجمرك ويدونون ما معهم من سلع ويدعونهم يذهبون. ويحمل إلى الجمرك أيضا جميع ما في الكلك من السلع التي يذهب التجار لتسلمها من هناك في خلال يومين أو ثلاثة أيام بعد دفع ما عليها من رسوم الجمرك. وهذا كله يتم بنظام تام ، دون ما جلبة ولا ضوضاء.

ومع أن مدينة بغداد تعرف عادة باسم بابل ، فإنها تبعد مسافة كبيرة عن

__________________

(١) راجع الملحق رقم (١٦).

٥٧

بابل القديمة (١) وسأتكلم فيما يلي على بغداد كما هي اليوم :

تقع بغداد على نهر دجلة ، وفي ضفة جانب فارس (٢) ، ويفصلها هذا النهر عما بين النهرين. وهي مبنية على خط عرض ١٥ ٣٣. ويروي المؤرخون العرب ، أن أحد الخلفاء المسمى بالمنصور ، شيدها سنة ١٤٥ للهجرة ، الموافقة لسنة ٧٦٢ للميلاد أو حواليها. وهم يسمونها أيضا دار السلام (Dar ـ al ـ Sani). ويذهب بعضهم إلى أنها اشتقت اسمها من دير كان في مرج حيث تقوم المدينة الآن. ولذلك سميت بغداد ، أي بستان موقوفة أو موهوبة (٣). وعندما كان بعض الفعلة يحفرون في أسس خان ، قبل نحو من أربعين سنة ، وجدوا جثة مسجاة كما يسجى الأسقف ، وبجانبه الكافور والطيب. وفي المكان نفسه ظهرت عدة قلال من بيوت دينية ، مما يترجح معه القول إن الموضع الذي بنيت فيه بغداد ، كان قديما ديرا كبيرا وبيوتا عديدة يسكنها النصارى. ويبلغ طول المدينة نحوا من ١٥٠٠ خطوة ، وعرضها ٧٠٠ أو ٨٠٠ خطوة ، ولا يتعدى محيطها ثلاثة أميال. أما سورها فمبني بالآجر ، ويقطع هذا السور في بعض النقاط أبراج كبيرة كالمتاريس نصب فوق جميعها زهاء ستين مدفعا ، ولكن ليس بين هذه المدافع ما يحمل أكثر من خمس أو ست قنابر. ويكتنف السور خندق عريض ، عمقه نحو خمس أو ست قامات. وللمدينة أربعة أبواب ، ثلاثة منها في جهة البر ، وواحد مطل على النهر (٤) ، ومنه يعبر النهر على جسر ذي ثلاثة وثلاثين قاربا ، بين القارب والآخر مسافة تبلغ عرض قارب واحد. والقلعة في داخل المدينة ، بالقرب من الباب المسمى بباب المعظم (el ـ Maazam) ، وهو في شمالي المدينة. ويطل قسم من القلعة على النهر ، ويضمها سور بعض أقسامه مسطح. إن هذا السور مقوى بأبراج

__________________

(١) تبعد بابل عن بغداد ٥٤ ميلا.

(٢) يريد المؤلف بضفة جانب فارس ، ضفة دجلة الشرقية ، أي ضفة النهر اليسرى.

ولكن الصواب أن بغداد تقع على كلتا ضفتي دجلة ، اليمنى واليسرى.

(٣) انظر الملحق رقم (١٧).

(٤) انظر الملحق رقم (١٨).

٥٨

صغيرة ، أقيم فوقها نحو من مائة وخمسين مدفعا لا عجلات لها. والخندق المحدق بسور القلعة ضيق لا يتجاوز عمقه القامتين أو الثلاث. وليس على الخندق أمام الباب جسر قابل للانفتاح. وفي القلعة حامية قوامها ثلاثمائة إنكشاري يرأسهم آغا. ويحكم المدينة باشا يكون عادة برتبة وزير ، ولمسكنه المطل على دجلة منظر بديع. وبأمرته دائما ستمائة أو سبعمائة فارس. وهنالك أيضا آغا يرأس بين الثلاثمائة والأربعمائة سباهي ، هذا إلى صنف آخر من الخيالة يسمون جنكوليلر أي الشجعان ، على رأسهم اثنان من الأغوات. وفي المدينة والبلدان المجاورة لها حوالي ثلاثة آلاف من هؤلاء الرجال. إن مفاتيح أبواب المدينة وباب الجسر تودع عند آغا آخر ، بإمرته مائتا إنكشاري. وهنالك أيضا ستمائة من المشاة يرأسهم آغا ، ونحو ستين مدفعيا كانوا في ذلك الحين بإمرة خبير يسمى السنيور ميخائيل ، الذي يعتبر تركيا وإن كان من مواليد كاندي (كريت). لقد وقف هذا الرجل نفسه لخدمة الباب العالي حينما ذهب لحصار بغداد سنة ١٦٣٨ م. ومما ذكره أن الأتراك الذين خدمهم الحظ للاستيلاء على المدينة بوقت قصير ، لم يكن الفضل في ذلك للثغرة التي أحدثها السنيور ميخائيل في السور فحسب ، بل أيضا إلى ما أحدثه الشغب والثورة حينذاك من التأثير في المدينة. وها أنذا أدرج فيما يلي قصة فتح المدينة بإيجاز :

إن الخان الذي تحمل العبء الأكبر أثناء الحصار في بادئ الأمر كان أرمني الأصل واسمه صفي قولي خان. فقد حكم المدينة مدة طويلة ، ودافع عنها مرتين ضد الجيش التركي الذي لم يتأت له الاستيلاء عليها من قبل. لكن ملك فارس أرسل ببعض محسوبيه لتسلم مهام القيادة بدلا منه ، فتسملها منه قبل أن يعمل المدفع عمله في ثغر السور. ولما وجد الخان السالف نفسه قد استخلف بالحاكم الجديد ، آثر الموت على تحمل الإهانة التي لحقت به. فدعا بخدمه وضباط الجيش وامرأته وابنه ، وتناول بيده أمامهم ثلاثة كؤوس من السم ، وأمر زوجته ، فيما إذا كانت تحبه حقا ، أن تبرهن على صدق حبها له بأن تشاركه الموت بطيبة خاطر. ووجه الخطاب نفسه إلى ابنه. وهكذا تجرع الثلاثة كؤوس السم الذي قضى عليهم سريعا. أما الجنود الذين كانوا يكنون له

٥٩

في قلوبهم حبا عميقا ، فإنهم بعد أن أبصروا هذا المشهد المفجع ، ولعلمهم أن السلطان أعد العدة لهجوم عام ، لم ينقادوا لخانهم الجديد ، بل ساروا في طريق التمرد والعصيان ، وبلغ من غلوائهم في هذا الموقف ، أن رضوا بتسليم المدينة للترك ، على أن يسمح لهم بالخروج منها بجميع سلاحهم ومؤنهم. غير أن الترك لم يحافظوا على كلمتهم ، إذ ما إن دخلوا المدينة حتى أشار الباشا على السلطان أن يضعف قوة الفرس ، بأن يعمل السيف في رقاب كل الجنود الذين كانوا في المدينة ، فوقعت حينذاك مذبحة ذريعة بلغت ضحاياها زهاء عشرين ألف نسمة ذهبت غدرا. واستولى الترك على دير الكبوشيين ، ولكن السنيور ميخائيل رئيس المدفعية أفلح في إعادته إليهم.

أما عن الحكومة المدنية في بغداد ، فليس فيها غير قاض تناط به كل الأعمال ، حتى منصب المفتي ، ومعه دفتردار يتسلم واردات السلطان. وفي بغداد خمسة جوامع : اثنان منها مبنيان بهندسة بديعة ، تزينها قباب مكسوة بالقرميد المدهون ذي الألوان المختلفة. وفيها أيضا عشر خانات بناؤها حقير ما خلا اثنتين منها ينال فيهما المسافرون قسطا من الراحة. وبالإجمال ، إن المدينة ساذجة البناء ، لا جمال فيها ، اللهم إذا استثنينا أسواقها المسقفة ، ولو لا ذلك لما استطاع التجار تحمل حرارة الصيف. وترش الأسواق ثلاث أو أربع مرات في اليوم ، يرشها قوم يتقاضون أجورهم من عموم أهل السوق. وتجارة المدينة رائجة ، ولكن ليست بما كانت عليه في أيام ملك فارس. لأنه عند ما استولى عليها الترك ، اغتالوا كثيرا من أثرياء التجار. ومع ذلك ، فإن الناس يتوافدون عليها من كل حدب وصوب ، ولا أدري أكان ذلك للتجارة أم للعبادة ، فإن شيعة علي (Haly) يعتقدون أن عليا عاش في بغداد (١). ثم إن كل من يرغب في الحج إلى مكة برا ، عليه أن يمر ببغداد ، وعلى كل حاج حينذاك أن يدفع إلى باشا بغداد أربعة قروش. ومما يجدر ذكره ، ان في بغداد مذهبين إسلاميين ، هما مذهب الشيعة ومذهب السنة ، وهؤلاء يشبهون في أحوالهم سكان القسطنطينية.

__________________

(١) لا نعلم من أين نقل المؤلف هذا الزعم الغريب!.

٦٠