صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

الدول الكبيرة وإن كانت إذ ذاك دخلت بصفة دولة «سردانيا» حيث انعقد الصلح بين الدولة العلية والروسيا وعقدت له شروط «معاهدة باريس» التي اجتمع لها نواب الدول الكبار الست الأوروباوية ونواب الدولة العلية ، ووقع الجميع على المعاهدة وكان منهم نواب «سردانيا» لدخول دولتهم في الحرب كما سبقت الإشارة إليه.

فصل في بعض عوائد أهالي إيطاليا وبعض صفاتهم

إعلم أن سكان إيطاليا من أبناء أجناس من الأمم الذين وفدوا عليها قديما واتحد الجميع بصفة الطليانيين منذ قديم ، وديانتهم عموما مسيحية على المذهب الكاتوليكي ، وهو مذهب الدولة وكثير ممن تفننوا في العلوم الرياضية قادتهم الطبيعيات فصاروا لا يعتقدون شيئا من الديانات ظنا منهم أنها جميعا مردودة بالعقل ، مثل ما يرون من عقائد ديانة النصارى واليهود. لكن عقلاؤهم يقرون بالخالق جل وعلا ولو اطلعوا حقيقة على حقائق الديانة الإسلامية لما وسعهم من الإنصاف إلا اتباعها لمطابقتها للعقل وسطوع برهانها ، والمسؤول عن عدم إبلاغ الشريعة إليهم على حقيقتها هم من أناط الله بهم ذلك على ما سيأتي إيضاحه في الخاتمة إن شاء الله تعالى.

وسكان إيطاليا هم بيض أقوياء مدنهم أكثر أهاليها مهذبون ، وأما القرى والبوادي فهم على الخشونة والاعتقاد التقليدي البحت للقسوس ، وهم أصحاب جد في العمل والأشغال ، وأصحاب الأعمال البدنية يبكرون إلى أشغالهم. وأما ذوو الترف والأحكام فإنهم يطلبون السهر ويفيقون من نومهم مؤخرا ولا يبتدئون الأشغال إلا قبل الزوال بساعة أو ساعتين أو عند الزوال ، وكثيرا ما يدعو الأحباء بعضهم بعضا للسمر والرقص في منازلهم وتارة يستدعونهم للعشاء مع ذلك وتارة يقتصرون على تقدم فواكه وحلويات وخمور ، وليس من عاداتهم الحياء مثل ما هو عندنا فترى البنت تخاطب زوجها وتفاكهه أمام والديها بل وتفعل مثل ذلك مع خطيبها وترقص مع الرجال أمامهم هذا في البنات فكيف بالبنين؟ وعندهم أن الغناء ليس بمعيب من النساء فترى أكبر الأعيان يحتفل في داره بدعوة عامة وتصير بنته أو زوجته أو إحدى النسوة الأعيان المدعوات تغني في ذلك الملأ وترقص مع الرجال على أشكال شتى ، من معانقة ومخاصرة وغيرها ولا تأثيم من ذلك بل يرونه إكراما بحيث أن المسلم الغيور يكاد يتفطر مما يرى.

وأما الرجال الأعيان : فالرقص عندهم مع النساء ولو في المواكب غير معيب لكن الغناء منهم معيب ، والنسوة يخرجن مكشوفات الوجوه ويتعاطين من الأشغال مثل الرجال إلا الأشغال الشاقة والتعاليم للعلوم العالية ، ويصاحبن الأجانب عن قرابتهن مثل الرجال ، ويقول رجالهم : إن الذي حمل المسلمين على حجب النساء مما في طباعهم من الخيانة ، وشدة الحجب توجب شدة الشوق ، وحيث أنا على خلاف ذلك فالأمن على نسائنا محقق والتي لا يحميها عرضها لا يحميها حائط دارها.

٤١

هذا مدار كلامهم وهو خطأ فاحش ، إذ موجب الحجب أمر طبيعي في سائر البشر بل في سائر الحيوانات ، ومن المعلوم أن لكل شيء سببا فرؤية الذات والوجه مكشوفا ثم المكالمة ثم المداعبة ثم الرقص في حالة شرب الخمر والطرب ثم المخاصرة ، كلها أسباب تدعو إلى الإتفاق طبعا إلى ما رواءها بلا شك ، وإثبات ذلك بالوجود أقوى دليل حتى صار من عوائدهم أن البكارة هي التي لم تتزوج صاحبتها من غير نظر إلى حقيقتها الأصلية ، والزيادة على هذا في الإستدلال خارج عن موضوعنا ومنصفهم يقر بذلك لا محالة ، وقد غلط من ادعى أن ديانتنا تبيح النظر لوجه المرأة ، وهو جهل بعدم التفرقة بين كون وجه المرأة ليس بعورة وكذا كفاها وقدماها حتى يجوز لغير محرمها النظر إلى تلك الأعضاء وكذلك للنسوة وأمثالها ، وبين كون الوجه يجب ستره عن الرجال الأجانب مطلقا لخوف الفتنة بنص الكتاب في قوله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) [النور : ٣١] الآية وذلك هو الحق المستقيم (١).

__________________

(١) (مبحث) : إعلم أن عورة المرأة أمام الرجل الأجنبي جميع بدنها سوى وجهها وكفيها فيجوز لها أن تخرج من بيتها كاشفة وجهها إجماعا ، وقد نقل هذا الإجماع ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الكبرى ١ / ١٩٩ ما نصه : «وحاصل مذهبنا أن إمام الحرمين نقل الإجماع على جواز خروج المرأة سافرة الوجه وعلى الرجال غض البصر» اه. وقال أيضا في حاشية شرح الإيضاح في مناسك الحج ص ٢٧٦ ما نصه : «إنه يجوز لها كشف وجهها إجماعا وعلى الرجال غض البصر ، ولا ينافيه الإجماع على أنها تؤمر بستره لأنه لا يلزم من أمرها بذلك للمصلحة العامة وجوبه» اه.

وقال في موضع آخر ص ١٧٨ قوله : (أي النووي) أو احتاجت المرأة إلى ستر وجهها ينبغي أن يكون من حاجتها لذلك ما إن خافت من نظر إليها يجر لفتنة ، وإن قلنا لا يجب عليها ستر وجهها في الطرقات كما هو مقرر في محله اه.

وقال زكريا الأنصاري في شرح روض الطالب ٣ / ١١٠ ما نصه : «وما نقله الإمام من الإتفاق على منع النساء أي منع الولاة لهن مما ذكر ـ أي من الخروج سافرات ـ لا ينافي ما نقله القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة وعلى الرجال غض البصر عنهن لقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠]. لأن منعهن من ذلك لا لأن الستر واجب عليهن في ذاته بل لأنه سنة وفيه مصلحة عامة وفي تركه إخلال بالمروءة كالإصغاء من الرجل لصوتها فإنه جائز عند أمن الفتنة وصوتها ليس بعورة على الأصح في الأصل» اه.

وقد جاء عن ابن عباس وعائشة أنّهما فسّرا قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) [النور: ٣١] بالوجه والكفين ، وهذا هو الصحيح الذي تؤيده الأدلة كحديث المرأة الخثعمية الذي أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داوود والنسائي والدارمي وأحمد من طريق عبد الله بن عباس قال : «جاءت امرأة خثعمية غداة العيد ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولها : يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ، قال : «حجي عنه» ، قال ابن عباس وكانت شابة وضيئة ، فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه حسنها ، فلوى رسول الله عنق الفضل».

وعند الترمذي من حديث علي : «وجعلت تنظر إليه أعجبها حسنه». قال العباس : يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ، فقال : «رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما» قال ابن عباس : وكان ذلك بعد آية الحجاب اه. ـ

٤٢

__________________

ـ وروى الحديث أيضا البخاري عن عبد الله بن عباس ولفظه : أردف النبي الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلا وضيئا ، فوقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها ، فالتفت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفضل ينظر إليها فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها. قال الحافظ ابن حجر في شرحه ١١ / ١٠ : قال ابن بطال : في الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة ، ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة لم يمتنع ، قال : ويؤيده أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحوّل وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها فخشي الفتنة عليه ، قال : وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء والإعجاب بهن. وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس عليهن من الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لو لزم ذلك جميع النساء لأمر النبي الخثعمية بالإستتار لما صرف وجه الفضل وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضا لإجماعهم على أن المرأة تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء ، وأن قوله عزوجل : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] على الوجوب في غير الوجه قلت : وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر لأنها كانت محرمة اه.

وهنا مسألة : تعقب الحافظ بن حجر لكلام ابن بطال مرفوع لأنه كان يمكنها أن تجمع بين المصلحتين مصلحة الإحرام ومصلحة تغطية الوجه. بأن تجافي الساتر بشيء يمنع من مس وجهها كما جاء ذلك عن أمهات المؤمنين في سفرهن للحج أنهن كن إذا حاذين الركب سدلن على وجوههن فإذا جاوزن رفعن الساتر ، كما رواه أبو داود برقم (١٨٣٣). وابن أبي شيبة في المصنف ٣ / ٢٨٤ وغيرهما. فلو كان سكوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمر الخثعمية بتغطية وجهها لأجل إحرامها لأمرها بسدل الساتر على وجهها مع مجافاته حتى لا يلتصق بالوجه ، لكنه لم يأمرها ، ولما لم يأمر المرأة الخثعمية بتغطية وجهها في ذلك الجمع الكبير ، علم من ذلك عدم وجوبه ولو كان واجبا لأمرها بذلك.

فتبين بما ذكرنا أن دعوى بعض أن سكوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كشف الخثعمية وجهها كان لأجل الإحرام دعوى فاسدة لا عبرة بها. فسكوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليل ظاهر على أن وجه المرأة من غير أمهات المؤمنين يجوز كشفه في الطرق ونحوها. لأن هذه الخثعمية كانت عند الرمي وذلك الموضع يكثر فيه اجتماع الحجاج حتى إنه يحصل كثيرا التلاصق بين الرجال والنساء من شدة الزحمة بلا تعمد.

ووقع في رواية الطبري في حديث علي : وكان الفضل غلاما جميلا فإذا جاءت الجارية من هذا الشق صرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه الفضل إلى الشق الآخر ، فإذا جاءت إلى الشق الآخر صرف وجهه عنه وقال في آخره : «رأيت غلاما حدثا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان».

وفي هذا الحديث دلالة على رجحان جواز كشف المرأة وجهها مع خوف الفتنة ، وهذا ما قاله شارح مختصر خليل ، محمد عليش المالكي في كتاب الصلاة ، ومحل الدليل في الحديث قوله : «ورأيت غلاما حدثا وجارية حدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان». ومقابله ما ذكره بعض الشافعية من المتأخرين كالشيخ زكريا الأنصاري ، والرملي ، وهذه الرواية التي عزاها الحافظ للطبري صحيحة أو حسنة عنده لأنه التزم في المقدمة أن ما يورده من الأحاديث مما هو شرح لرواية البخاري أو زيادة عليها فهو صحيح أو حسن.

وقال صاحب المبسوط الحنفي ١٠ / ١٥٢ «ثم لا شك أنه يباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف أمن الفتنة في ذلك فكذلك وجهها وكفيها» اه.

فالراجح عدم اشتراط أمن الفتنة لما في حديث الخثعمية السابق الذكر. فلا حجة في قول بعض المتأخرين ممن ليسوا من أهل الوجوه إنما هم نقلة أن ستر الوجه في هذا الزمن واجب على المرأة دفعا ـ

٤٣

والمشاهدة أقوى دليل فكل بلاد حافظت على ذلك قلت فيها الفاحشة حتى كادت أن لا تقع ، وكل بلاد تساهلت في خروج النساء كمكشوفات الوجوه بالبراقع الصفيقة وغض النظر عن مكالمة النسوة للرجال والمزاحمة في الأسواق والمجامع فشت فيها الفاحشة واتخذ رجالها هجيراء مسارتهم التكلم بوقائعهم مع النساء سواء كانت بلدة إسلامية أو إفرنجية وقلب الحقائق وإخفاء الجهر وعكس الطبائع ليس في الوسع ولا يحاوله ذو إنسانية.

وأهالي إيطاليا يستعملون الموسيقى ذات آلات النفخ وذات الأوتار وهم برعاء فيها وألحانهم هي ألحان الأروباويين وهي ألحان مخالفة للألحان المعروفة عند المشرقيين والعرب وأهالي أفريقية الشمالية ، حتى أن هاته الألحان لا يحصل منها ما يحصل من السماع لهؤلاء وبالتعود تصير مؤثرة في النفس ولها تعاليم مخصوصة معتنى بها ، ولا يدقونها إلا على تطبيق لما هو مرسوم في أوراق خاصة على أشكال يتبعها صوت النغمات بحيث أن كل صاحب آلة تكون أمامه تلك الأوراق ينظر فيها ويدق على نحوها ولا يدقون من محفوظاتهم إلا قليلا ، وأهل البادية وبعض القرى لهم آلات من مزامير بالجلود ينفخونها بلا أوراق ، وفي كل بلدة مراسح للعب والتلهي على حسب كبر البلدة تفتح ليلا للسهر وتشكل فيها ألعاب على صور تاريخية مرئية أو للغناء والسماع ولهم تقدم وشهرة في ذلك على سائر أهالي أوروبا ، والأهالي عموما ذوي رجولية في التمسك بالآلات الحربية حتى لا تكاد تجد من لا يحمل السلاح الصغير الخفيف مخفيا ، ويركبون الخيل رجالا ونساء غير أن المرأة تركب السرج بلا فتح لرجليها بل أنها تثني رجلها اليمنى على مقدمة السرج ورجلها اليسرى تضعها في الركاب ، وعادة الأهالي في السلام عند الملاقاة هي المصافحة مع هز

__________________

ـ للفتنة لا لأنه عورة لأمرين :

أحدهما : أن هذا القول أي اشتراط أمن الفتنة منها أو عليها لعدم وجوب ستر الوجه كما زعمه بعض الشافعية. ليس منقولا عن إمام كالشافعي أو غيره من الأئمة ولا هو منقول عن أصحاب الوجوه من المذهب. وكيفما كان الأمر فالصحيح ما وافق النص.

والمراد بالفتنة في هذه المسألة الداعي إلى جماع أو خلوة أو نحوهما كما صرح بذلك زكريا الأنصاري في شرح روض الطالب ٣ / ١١٠ ويشهد لهذا أيضا ما رواه ابن حبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ١ / ٣٠٩ مرفوعا من حديث ابن عباس قال : «كانت تصلي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس ، فكان بعض القوم يتقدم في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فكان إذا ركع نظر من تحت إبطه فأنزل الله في شأنها : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) [الحجر : ٢٤] الشاهد فيه أن الرسول لم يقل لتلك المرأة الحسناء انقبعي في بيتك أو تعالي مغطية وجهك ، فلما لم يقل ذلك علمنا أن خوف الفتنة لا يناط به الحكم. ثم الإجماع الذي انعقد على أنه يجوز للمرأة كشف وجهها وعلى الرجال غض البصر لا ينتقض حكمه برأي بعض المتأخرين وهذا الإجماع قد نقله ابن حجر الهيثمي في حاشية الإيضاح وغيره بعد نقل القاضي عياض لذلك قد اسفر الصبح لذي عينين.

وبما مر يعلم انتقاض قول بعض المتأخرين من أهل القرن الثاني عشر ونحوه أنه يجب ستر المرأة وجهها لا لأنه عورة بل دفعا للفتنة.

٤٤

اليد ويقول أحدهما للآخر : «يوم حسن أو ليل حسن» وإذا قدم مسافر على حبيبه أو قريبه قبله في فمه ولو الولد مع والده أو امرأة مع قريبها ، لكن النسوة يزدن أن الحبيبات متى اجتمعن قبلن بعضهن في الأفواه. والرجال لا بد في سلامهم من كشف رؤس بعضهم لبعض والرفيع بالنسبة للوضيع يضع يده على قلنسوته كأنه يريد رفعها فقط ، وإذا دخل وارد على آخر في بيته لا يجلس إلا وهما مكشوفا الرأس ، وهي عادة جارية في جلوسهم في بيوتهم مكشوفي الرؤوس إلا من كان به أذى من رأسه ، ومن عاداتهم أن لا يبعدوا المشي لتلقي القادم لكنهم يبعدون التشييع ، ومن الآداب أن يحدث أحدهم كلاما لصاحبه عند الفراق فيتمه في حالة الوداع ، ويتصافحون أيضا عند ذلك.

مطلب في التجارة

الطليانيون لهم مهارة في التجارة كغيرهم من أهالي أوروبا فرادى ومجتمعين والذي وسع تجارتهم هو عقد الشركات ، فأموال الواحد لا تكفي لمزيد الاتساع في التجارة ولذلك يعقدون شركات ذات أسهام عديدة ويقيضون للمباشرة بعضا منهم ممن يأتمنونه ، وتكون لشركاتهم فروع في الأقطار التي يواصلون معهم التجارة ويعلنون كيفية التجارة والبضاعة وأسعارها وكيفية إيصالها بواسطة الصحف الخبرية وبأوراق وكتب يودعونها مجانا ، ويرسلون الرسل لاكتشاف تجارات البلدان والأقطار وإن بعدت ويشهرون بها تجارتهم ودولتهم تحميهم في أنفسهم وأموالهم أينما حلوا ، ولا تقتصر تجارتهم على نتائج بلادهم. ثم إذا لم توف أموال الأفراد أو الشركات للمقصود من التجارة تراهم يفترضون من ديار الصيارفة ، وهؤلاء الصيارفة هم ذوو الأموال إما أن تكون لواحد أو لعائلة أو للعموم بأن يكون كل من له شيء من المال ولا يريد التعب في ترويجه والريح منه لعجز أو غيره ، فإنه يدفع ماله لإحدى ديار الصرافين المسماة عندهم بالبنوك ويأخذ منها حجة في مقدار ما دفع وتاريخه ويأخذ على ذلك ربا في كل سنة وهو لا يتجاوز ستة على المائة في السنة ، ومهما أراد رأس ماله فإنه يحاسب على مقدار ما بقي عند الصراف ويأخذ ربحه ورأس ماله حالا ، وكذلك إذا أراد أخذ البعض من رأس المال فله ذلك ، وكذلك إذا أراد إرجاع ما أخذ أو أكثر أو أقل فله أن يدفع متى أراد ويأخذ متى أراد ويحاسب متى أراد ، فسهل بذلك إدارة أموال العاجزين مع أرباحهم.

ثم إن البنك الذي يأخذ الأرباح على النحو المذكور يدفعه لمن يريد الإستقراض بزيادة في مقدار الربا على ما يعطي هو وهاته الزيادة محدودة لا تتجاوز العشرة على المائة في السنة ، وكل من مقدار المدفوع والمأخوذ مختلف بحسب البنوك والبلدان لكنه على كل حال لا يتجاوز الحدود المذكورة لمنعه بالقوانين ، حتى أن من تجاوزها يعد سارقا ، ثم إعطاء البنوك المال للمستقرضين إنما يكون برهن أو لمن له اعتبار يأتمنه به صاحب البنك ، ثم أن بعض أصحاب البنوك تجيزهم الدولة على قانون معلوم بأن يخرجوا أوراقا تتداولها

٤٥

الناس عوضا عن النقدين بشرط أن لا تتجاوز الضعف مثلا من مقدار رأس المال ، وبعض تلك البنوك مخصوص بالفلاحة وبعضها مطلق ، وبما تقدم تجد التجارة رائجة بين أيدي السكان بأكثر من أضعاف كسبهم ، وأهم الوسائط لتزييدها : الحوالات المالية ، وهي أن التاجر يشتري شيئا أو يأخذ مالا من أحد ويعطيه حوالة بقبض ما يطلب منه على أحد التجار أو البنوك على أن يقبضه على تسعين يوما وهو الأكثر دورانا وتارة يكون أقل أجلا وتارة يكون أكثر ، وعند بلوغ تلك الحوالة للمحال عليه يوقع عليها بالقبول ليدفع في الأجل وقبيل حلول الأجل يرسل المحيل المال إما مما باعه أو بما قبضه من حوالة أخرى ، بحيث أن المحال عليه يدفع المال في أجله من غير أن يخرج من ماله شيئا مع ربحه لجزء من المال لأنه يلزم الإتفاق من قبل بين المحيل والمحال عليه في قبول الإحالة وفي مقدار ما يربحه ولا يتجاوز النصف في المائة ، وتارة يكون بلا ربح بالمرة لمصادقة أو معاوضة بمثلها بينهما ، كما أن المحال عليه يربح بقبضه ماله نسيئة أيضا جزءا يسيرا والمحيل يربح لأنه يتجر بمال ليس له فيه رأس مال ، ولكن مع ذلك كثيرا ما يعتري الإفلاس تجارهم وبنوكهم لأن من أحكامهم أنه إذا حان الأجل ولم يدفع المؤجل ما عليه ففي الحال يفلس ، ولذلك كانت أكثر البنوك بإيطاليا التي لها أوراق مالية لا تصرف إلا ببخس بالصرف بالعين لاحتمال الإفلاس ولا تتداول خارج المملكة بل ولا خارج بلدانها إلا بنك الدولة فإنه رايج في جميع مملكته فقط.

وفي كل مدينة محل ضخم للمناداة على المتاجر العالية يمسى «بورسي» : يفتح بضع ساعات عند الزوال ، إذا دخله الإنسان يجده محتبكا بالخلق والضجيج بأصوات السماسرة ينادون على أوراق ديون الدول وأوراق الشركات التجارية الكبيرة ذات الحصص ، كطرق الجديد وخليج السويس وأشباهها ، وكثير من التجار يفلسون في تلك المتاجرة لأن بعضهم لا يشتري ولا يبيع إلا يدا بيد وهؤلاء لا يعتريهم الإفلاس إلا نادرا لأنه إذا انحطت أسعار ما اشترى لا يطالبه أحد بشيء وإنما يصبر على خسران نفسه إلى أن ترتفع الأسعار ، وبعضهم يكون ليس له رأس مال لما يشتريه وما يشتريه أيضا ليس بحاضر بل هو مؤجل لرأس الشهر ويعتمد على أن ما يشتريه اليوم يرتفع سعره غدا أو بعد أسبوع فيبيعه ويأخذ الربح ، ويحيل المشتري على البائع فيما اشترى ويخرج من البين بالربح ، فكثيرا ما يربحون بذلك أموالا جسيمة وكثيرا ما يفلسون في أموال جسيمة بأن ينحط السعر عما اشترى به ويحل الأجل فيلزمه دفع الثمن وأخذ المبيع أو دفع مقدار الخسران فقط ، فيستغرق كسبه في كرة واحدة أو عن كرات. وهذا النوع لا يحكم به الحاكم عندهم لأنه يراه من المقامرة لكنه لا يمنع منه فالمفلس يفلس نفسه بغير حكم لكي لا يسقط اعتباره رجاء أن يربح مرة أخرى بمعاملة التجار إليه ، فما تقدم كله من أسباب الثروة واتساعها وسيأتي في الخاتمة إن شاء الله تعالى ما يجوز لنا شرعا عمله وما هو ممنوع.

ومن أعظم أسباب الثروة واتساع التجارة تسهيل الطرق لنقل البضائع بأجرة يسيرة

٤٦

وزمن قليل ، وكانت الطرق الحديدية أنفع وسيلة لذلك حسبما تقدم في الكلام على تونس ولكن الطرق الحديدية وحدها غير كافية لأنها إنما تمر على الأماكن الأكثر عمرانا فيلزم لها طرق فرعية صناعية لجلب البضاعة بسهولة لمراكز الطرق الحديدية ، ولذلك كانت سائر الجهات في إيطاليا طرق صناعية.

ومن أنفع وسائل التجارة والعمران انتظام البريد ، وهو أن الدولة تجعل أماكن في سائر البلدان لوضع المكاتيب في محل منها ويؤدي صاحب المكتوب أجرة على حمله أجرة زهيدة بالمرة ، بأن يشتري بطاقة من الورق عليها علامة مخصوصة وظهرها عليه صمغ قبيل الصمغ ويلصق البطاقة على المكتوب بحسب ثقل المكتوب في زيادة الأجرة ويكتب عنوان المكتوب بإسم المرسل إليه وبلده وحارته وعدد منزله ، فتحمل المكاتيب من كل بلد في الرتل ولها مركبة خاصة بها مرافع ذات أقسام ومستخدمون فعندما تأتي المكاتيب إلى المركبة في وعاء ، يسير الرتل ويشتغل المستخدمون في توزيع المكاتيب على أسماء البلدان ويميزون كلا على حدة ، ومهما وصل الرتل إلى بلد أقبلت أتباع البريد عن عجل إلى تلك المركبة ودفعوا لها ما عندهم وأخذوا منها ما يخص تلك البلدة ، ثم يسير الرتل وهكذا وكل بلدة أخذت المكاتيب من الرتل يؤتى بها لمحل البريد وتعطى لموزعين يوزعونها على أصحابها حسبما هو معنون عليها ، وإذا وجدوا مكتوبا غير خالص الأجرة يوصلونه للمرسل إليه فإن دفع أجرة حمله وهي إذ ذاك مضاعفة سلم إليه المكتوب وإلا أرجع إلى محل البريد وحفظ فيه مدة ثلاثة أشهر فإن جاء صاحبه باحثا عنه أدى أجرته وأخذه وإلا فتح فإن وجد به إسم مرسله ومحله أرجع إليه وأخذ منه الأجر مضاعفا وإلا أحرق ، وهكذا فيما إذا لم يوجد المرسل إليه بالمرة وكان خالص الأجرة فإنه يرجع من غير أجرة ، وإذا كان المكتوب ذا أهمية فلصاحبه تضمينه أي يجعل صاحب البريد ضامنا لإيصاله بأن يجعل عليه خواتم بالشمع خمسة أو علامة أخرى ويأخذ من صاحب البريد حجة في إيصاله إلى صاحبه ويؤدي عليه أجرا ضعفين على المعتاد ، وإذ ذاك لا يسلمه البريد إلى صاحبه إلا بأخذ حجة منه في الوصول إليه ، فإذا فرض ضياعه من صاحب البريد فإنه يؤدي للمرسل ستين أو خمسين فرنكا وهكذا سائر الأوراق المكتوبة على النحو المتقدم ، غير أن الصحف الخبرية أجرة إيصالها زهيدة بالمرة وكذلك الكتب وقد جربوا أنه مهما رخصوا في الأجرة إلا ازداد الدخل للبريد وما تقدم في كيفية الحمل للبريد في الأماكن المتصلة في البر.

أما إذا كانت الأماكن يتوصل لها بحرا فإن الدولة تتفق مع إحدى الشركات التي لها بواخر سيارة للتجارة على أن تحمل البريد بأجرة سنوية على مقدار ما يتفقون عليه من السنين ، على أن تقلع البواخر في أوقات معينة وتصل إلى أماكنها في أوقات معينة من غير تقديم ولا تأخير ، وإذا تأخرت الباخرة عن ميعادها فلا بد أن تبين بحجة السبب الإضطراري الذي حملها على التأخير وإلا فتخسر شركتها أموالا بليغة ضمانا عن التأخير ، وكذلك الرتل إذا كان لغير الدولة أعني في الإتفاق معه على حمل البريد ، أما في تعيين الأوقات

٤٧

وانضباطها فالكل سواء برا أو بحرا ولذلك تجد السفر مع البريد في غاية الإنضباط لأنه لا يتخلف عن مواعيده فالمسافر معه يكون مرتاح البال عالما بيوم سفره وساعته وكذلك بساعة وصوله ، إلا أن يعرض عارض سماوي. ثم إن السفر في بواخر البريد هو أحسن من غيرها من البواخر التجارية لأن تلك أتقن نظافة وأقل ازدحاما وأرفق خدمة بالركاب حتى إذا كان البحر راكدا كان السفر نزهة ولكن قلما يصفو الحال بسبب اضطراب البحر ، أما السفر في الرتل فهو على نحو ما تقدم من الإنضباط سواء كان حاملا للبريد أم لا ، ولكل رتل رقاع مكتوب بها الإعلام بوقت سفره من كل بلد ووقت وصوله وكم يقف بها من الدقائق ويتحفظون على تلك الأوقات للغاية ، وعند ما يصل بلدة ترى خدمته يصيحون باسمها وعدد الدقائق التي يقف بها إعلاما للمسافرين ووقوفه لا يتجاوز نصف ساعة في وقتي الأكل. وأما غيرهما فأكثر وقوفه عشر دقائق إلى الدقيقتين ، وبلدان الوقوف للأكل يجد بها في المواقف بيوتا ضخمة بها موائد الأكل والمأكولات المطبوخة والفواكه كلها مهيئة ، فمنهم من يأكل هناك ومنهم من يشتري ويحمل أكله معه ، والأثمان في تلك الأماكن أغلى من غيرها. كما أن البلدان الأخرى يوجد في محطاتها الأكل لكنه دون ذلك ، وفي كل محطة تجد المستراحات ، فالركوب في الرتل منتزه على كل حال سيما مع ما أحدث فيه من المخادع المنفردة حتى يستطيع الإنسان أن ينام ويقضي جميع ضرورياته بغاية الراحة ، وفي أيام البرد تسخن المخادع بأواني نحاسية مملوءة ماء حارا ويزيد أجر هاته المخادع على الإعتيادية نحو عشرة في المائة ، وقد أحدث نوع من المركبات ذو مقاصير للإنفراد وبيت للإجتماع ، فيكون الإنسان كأنه في دار مع جيران وهو مسافر ولا يزيد الأجر في هاته المركبات على المركبات من الطبقة العليا إلا نحو الثلث.

ومن وسائط رواج التجارة ورود الأخبار بالأسلاك الكهربائية ، فأصحاب الشركات يخبرون أصحابهم كل حين بما يروج عندهم في الأقطار المختلفة وما يكسد من البضائع فيكونون على بصيرة منه ، وأعظم ما يكون ذلك في متاجر محلات «البورسي» فترى الأخبار تتساقط عليها كالمطر وبذلك ترفع أسعار أوراق الديون وغيرها أو تنحط ، وأعظم ما يؤثر في ذلك الأخبار السياسية سيما الواردة من قواعد الممالك السبع الكبيرة وهي : الاستانة ، وباريس ، ولوندره ، وبرلين ، وفينيا ، ورومة ، وصان بطرس بورغ. إذ هاته الدول هي التي عليها مدار السياسة العامة ، وقد اتخذ التجار الأخبار السياسية ملعبة للأرباح حتى صاروا يختلقون أحيانا أراجيف سياسية تارة بالتصريح وتارة بالتلويح وتتلقفها عنهم صحف الأخبار فينشأ عنها أرباح أو خسائر مبنية على أوهام ، ولذلك يرى بعضهم أن سهولة قرب الأخبار ونقل البضائع مضر بأرباح التجارة وأن الأرباح انحطت عما كانت عليه في القديم ، وهو صواب بالنظر لهيئة التجارة القديمة لكن في نفس الأمر قد ازدادت كمية التجارة ، وذلك أن التاجر ذا البضاعة من الصوف مثلا كانت لا تأتيه سفينة شراعية بها ألف قنطار من الصوف والمكاتيب المعلمة بالأسعار إلا بعد عدة أشهر فيبني عليها عمل تجارته ويشتهر خبرها ولا يبيع تلك الألف قنطار إلا بعد عدة أشهر فيربح فيها في السنة عشرين في المائة إن ساعده

٤٨

البخت ، والآن صار يأتيه في كل أسبوع نحو ذلك القدر مثلا وتأتيه الأخبار كما تأتي غيره فيبيع صوفه بربح عشرة في المائة فقط في شهر ، ثم الشهر الذي بعده كذلك وهكذا ، فعوضا عن كونه كان يدير رأس ماله مرة في السنة ويربح فيه عشرين في المائة صار يديره إثنتي عشرة مرة يربح فيها أزيد من الضعف ، فبالنظر إلى كمية الربح كل مرة تجد الأرباح القديمة أوفر لكن في الحقيقة الناتج في السنة من الأرباح الحالية أكثر ، ولا يظن أن ما قلنا مبالغة بدعوى أن كمية المحتاج إليه من الصوف مثلا في القطر المجلوبة إليه لم تزدد فما يأتي زائدا لا يباع.

وبيان فساد ذلك أن الإدارات والحركات كلها مرتبط بعضها ببعض فكما سهلت المواصلة سهلت آلات النسج بالمعامل البخارية ، والبلد التي كانت تنسج ألف قنطار صوفا في الشهر بآلات اليد صارت تنسج أضعاف أضعافها بآلات البخار ، وتلك المنسوجات تنفق مهما ازدادت بانحطاط أسعارها فيكثر راغبها ، فمن لم يكن قديما قادرا على لبس الملف وهو الجوخ لغلوه صار الآن يتوصل إليه لرخصه برخص ثمن الصوف ، بما نقص من أجرة حملها وقلة ربح تجارها وبرخص آلات النسج وبقناعة البائع بالربح اليسير وهكذا ، وكذلك كثرت سكان الممالك المتمدنة وكثر المتمدنون وكثر اتساع التجارة وإيصال البضائع إلى الأقطار الشاسعة التي لم تكن تصل إليها من قبل ، فارتبطت الأشياء بعضها ببعض واتسعت التجارة وازدادت الأرباح على نحو ما ذكرناه ، وأضف إلى ذلك أن المنسوجات بالمعامل ليست متينة مثل عمل الأيدي فصار أغلبها يبلى ويتمزق بسرعة بالنسبة للمنسوجات المصنوعة باليد ، ثم أن تجارة إيطاليا أغلبها بيد أهاليها وفيهم كثير من الأجانب وقد كانت سابقا تجارتها أغنى مما رجعت إليه ثم انحطت بتقدم الممالك المجاورة لها وتأخرها عند انقسامها وظلم ولاتها لكنها الآن تراجعت للغنى ، وأغلب ما يخرج منها الحرير الغير المصنوع والدقيق وأنواع العجين المصنوع والحبوب والحيوانات المأكولة والجلود وزيت الزيتون والكبريت وهي كما سبق لها انفراد به ، وقد خرج منه في عام واحد مائتان إثنان ألفا وخمسون ألفا «تونولاته أي قنطار» ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٥ ، وكذلك يخرج منها المرمر والرخام الأبيض والكتان والحشيشة المعروفة بالتكروري والمنسوجات الحريرية والأعطار والتبن المصنوع منه كراسي وغيرها ، والحجر مثل الحجر المعروف بحجر سيسيليا الذي هو لبين خفيف وبعض المعادن المشار إليها في التعريف بإيطاليا ، وقيمة تجارتها في سنة واحدة وهي سنة ١٨٧٦ ملياردان وستمائة ألف فرنك والمليارد ألف مليون ، وهاته التجارة مع جميع الممالك المعروفة لكن أكثرها مع النمسا وفرنسا ثم بقية الممالك ، ويخص من ذلك الزيت وحده ثلاثمائة وخمسون مليونا.

مطلب : في الصنائع الفلاحية في إيطاليا

إعلم أن هاته الصناعة لها ترق كبير لحسن الموقع واعتدال الهواء ومع ذلك لم تبلغ إلى درجة النهاية نعم هي في الجهة الشمالية مناكبة لما جاورها من فرنسا وغيرها ،

٤٩

فلأهلها اعتناء واتقان للزراعة وتربية الأشجار وتنميتها حتى ترى الأرض كأنها حديقة متقنة ولا تجد أرضا خالية من الأشجار ولو الأراضي الزراعية ، بحيث تجدها مقسمة بصفوف من الأشجار وبينها براحات للمزروعات فصاحب الأرض ينتفع بغلال الأشجار والحطب والزرع معا ، وترى الأرض مقسمة بتقاسيم لها منظر بهيج ونفع عظيم هذا زيادة عما يحصل من الأشجار من السبب في المطر ، وذلك لأن الله بحكمته البالغة جعل عروق الأشجار تمتص الماء من عوامق الأرض ثم تنفثه بخارا من أغصانها وأوراقها وينشأ من البخار السحاب وإذا كانت الأشجار مرتفعة جذبت ذلك السحاب لبطىء السير حتى يمطر عليها ويحصل بسبب ذلك كثرة المياه في الأرض فيكثر خصبها وقد بانت سببية ذلك بالتجربة والله الخالق الحكيم ، ثم إن صناعة الفلاحة لا يأخذونها بمجرد التقليد في العمليات بل أنها لها علم مخصوص يدرس ويصور بالمشاهدة وله مدارس مخصوصة ويعتمد كثيرا من الكيمياويات ، وحول المدارس أراضي للبيان بالعيان والتجربة والعمل وأراضي الرعي مخصوصة ، ومن حسن التربية وحراسة الحكم لا يتجاسر أحد بالرعي ولا غيره في أرض ليست له إما بالملك أو بالكراء حتى أنه ليس لبساتينهم طوابي تمنع الداخل ولا تقع عندهم سرقة الغلال إلا نادرا.

وأما بقية الصنائع فلهم كفاية في كل الصنائع الضرورية والتحسينية ، لكنهم ليس لهم معامل كثيرة التي هي من أعظم أسباب الثروة والترقي وإن كانوا لا زالوا مجتهدين في ترقياتها إلى بلوغها لمثل درجة الأمم البالغة للنهاية في المعارف والتمدن ، والحاصلون عليه الآن هو أن لهم معامل للسلاح بأنواعه ومعامل لإنشاء السفن والبواخر المدرعة ومعامل للتحليلات الكيمياوية وللأعطار وللشمع المتخذ من الشحم للدباغة للجلود ولصناعة الورق وغزل القطن ونسج الجوخ والشاشية وأنواع المنسوجات الحريرية ، ومنه النوع الفاخر المسمى «بالأمير» أو القطيفة ، ومعامل للطرز ، كما أنه يصنع بالأيدي أيضا.

ولهم معامل للزجاج والفخار والعقيق والزهور الصناعية وآلات المرايا المكبرة وآلات الموسيقى ، وخصوص أوتار بلد نابلي لها صيت كبير في جميع الجهات ، وفي نابلي وميلانو معامل متقنة للكراريس أي عجلات الركوب ، كما أن في إيطاليا إتقان لصناعة الأحذية وسائر الأنعلة وخياطة الملبوسات وهم فائقون في صناعة نحت المرمر ونقشه وكذلك صناعة المرجان والصياغة والكهربان والمادة المتجمدة النارية المنقذفة من أفواه البلاكين والموزايكو أي القطع المرمر التي الواحدة منها قدر الظفر ترصف على أشكال بديعة ويلصق بعضها ببعض بنوع من الطين والجير ، وقد شاهدت في معرض ميلانو سنة ١٢٩٨ ه‍ سنة ١٨٨١ م من تقدم إيطاليا في سائر الصنائع ما صيرها قادرة على الإستغناء بنفسها في سائر الحاجات والتحسينات فضلا عن الضروريات ، حتى أن ملكها لما دخل المعرض مع رجال الأمة تعجب مما احتوت عليه المملكة مما لم يكن يخطر بباله ، ومن جملة ما احتوى عليه هذا المعرض تشخيص سائر أصناف الطليانيين بصور على ألوانهم

٥٠

وهيئة لبسهم ، فرأيت أكثر من ثلاثين صنفا كل منهم له سحنة وشارة خاصة ، وأعظم ترقيهم في مصنوعات الجلد والطين والعجلات ولهم مشاركة في سائر المصنوعات.

مطلب : في المعارف

المعارف الدينية المسيحية لها سوق رائجة من القسوس ولهم صوامع ومدارس ، لكنهم قد منعوا نوع القسوس الجزويت من التجمع في المدارس لأنهم يخلطون التعاليم الدينية بالتعاليم السياسية ويتخذون المدارس كالقشل للتعكسر ، فمنعوا من ذلك لخوف الدولة من تشويش سياستها لمخالفة مشرب الجزويت لمشرب الدولة في أصول السياسة. وأما العلوم الرياضية : فقد أخذوا في التقدم فيها وعلى الإجمال فأهالي الشمال متقدمون على غيرهم في سائر الفنون والتجارة والفلاحة وعلومهم الأصول ثلاثة :

أحدها : علم جر الأثقال.

وثانيها : علم الكيمياء أي تحليل الأجزاء وتركيبها.

وثالثها : علم الطبيعيات. ولكل منها فروع كثيرة ومن فروع الثاني والثالث علم الطب الذي كانت اشتهرت به بلد بيزة قديما والآن لم يبق لها ذلك الإعتبار ، وعلى العموم ففي إيطاليا الآن مدارس ومكاتب على ثلاث طبقات ، والمكاتب العليا فيها إلى الآن لم تناكب مكاتب فرنسا وألمانيا ، وفي إيطاليا من أسباب تيسير المعارف كل اللوازم سيما المطابع والصحف الخبرية وخزائن الكتب ، ففيها ٤٩٣ خزنة كتب تحتوي على ٢٨١ ، ٣٤٩ ، ٤ مجلدا من الكتب المطبوعة ، و ٥٧٠ ، ٣٣٠ من كتب الخط ، وفي خصوص مكتبة قصر الفاتيكان ٠٠٠ ، ٣٠ كتاب ، وهي أحسن المكاتب من جهة حسن كتب الخط.

مطلب : في هيئة المساكن والطرقات

إعلم أن إيطاليا تكاد أن لا تجد بين بلدتين فيها طريقا غير صناعية ، بل كلها متصلة ببعضها بالطرق المحصبة المتقنة الصناعية ، غير أن الطرق في البرية لا تنظف وإنما لها قيمون لإصلاح ما يفسد منها ، كأن يكون على كل ثلاثة أميال قيم له مركز يأوي إليه وفيه من آلات الإصلاح الخفيف ما فيه كفاية ، ويكون هو طول يومه متفقدا لما في عهدته ومهما وجد مكانا متغيرا بادر لإصلاحه وهكذا ، فإذا طال الأمر على الطريق واحتاج للتجديد باشره بذلك المكلف من المجالس البلدية ، وعلى أولئك القيمين متفقدون في كل الأوقات ، كما أن سائر أطراف المملكة متصل بعضها ببعض بالطرق الحديدية وكذلك تتصل بسائر الممالك المجاورة لها بالطرق الحديدية وتلك الممالك متصلة بغيرها بذلك أيضا فكانت أوروبا كلها كأنها بلد واحد في سهولة الإنتقال والسرعة من مملكة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر ومع ذلك فلم تزل إيطاليا مجتهدة في زيادة الفروع للطرق الحديدية.

أما الطرق في دواخل البلدان فزيادة على كونها صناعية لها خدمة ينظفونها مرات في اليوم ولا تجد في البلد مزبلة لأن خدمة التنظيف يرفعون الأزبال الملقاة من الدور في آخر

٥١

الليل ومن طرح الأوساخ من داره في غير الأوقات المعينة عوقب على ذلك بالعقوبة المالية بحيث تجد سائر الطرق نظيفة وفي الليل منورة بالبخار الغازي والفوانيس نظيفة ، وغاية ما هناك هو الفرق بين البلدان في شدة النظافة والتنوير واتساع الطرقات فقط ، أما الأصل فهو موجود في الكل ولو في القرى. والطرقات أغلبها يمر فيها عجلتان ومنها ما هو أوسع وفي البلدان القديمة لم تزل طرق ضيقة لا يمر فيها إلا الماشي.

وأما هيئة المساكن فإن المدن لا تكاد تجد فيها الديار ذات طبقتين فقط بل تزيد إلى السبعة والثمانية ، ويكون ظاهرها على الطرقات ملتئما بعضه ببعض قريب المشاكلة في الصورة مع التحسين الظاهري والتنظيف وطول الطرق واتساعها ، وجعل البطحاآت فيها والأشجار على أوسعها فكانت مدنهم بذلك ذات منظر بهيج حتى أن الحكم يوجب على المالك أن يحسن ظاهر بيته على حسب ما يشير به المهندسون من المجلس البلدي ، وأما داخل الديار على الإجمال فإذا دخل الإنسان من الباب يجد سقيفة ثم درجا متصلا بعضها ببعض متصاعدة أما على شكل دائرة أو مربعة إلى أن تنتهي لأعلى طبقة ، ومهما وصلت الدرج إلى طبقة تجد فيها فسحة ذات أبواب بقدر ما في الطبقة من المساكن ، فإذا دخلت مسكنا تجد إيوانا مسقفا وبه أبواب للبيوت وباب إلى ممر به بيوت ومطبخ ومستراح وتارة يكون في إحدى البيوت الأخرى مستراح آخر ، وجميع الحيوط مطلية والسقوف إما خشب أو بناء مطلية مدهونة ، وكل البيوت لها طواقي كبار ويعتنون بمقابلة الأبواب والطواقي والأبواب وعواضدها من خشب متقن الصنعة ، وسائر الأماكن مبلطة إما «بالجليز» أي نوع من الآجر المطلي المتقن ، أو المرمر وكذلك الدرج. ومن اقتصادهم أن كل بلد تقتصر على ما عندها من مواد البنيان ولا تأخذ من بلاد أخرى شيئا إلا ما لا يمكن الإستغناء عنه بما فيها ولو كان الشيء من بلد في نفس المملكة ، ثم البيوت التي بكل دار أكثرها مائل إلى شكل التربيع واحدها بيت للجلوس وآخر للأكل وهما أكبر البيوت ثم آخر للنوم وكل منها به من الفرش ما يناسب موضوعه ، وفرشها مختصرة متقنة مرونقة من كراسي كبار وصغار وساعات ومرايا وزرابي وأسرة يعتنون بنظافتها ، ويعتنون باتساع الدرج وراحتها. وكل مسكن لعائلة فتجد الدار الواحدة يسكنها عدة عائلات كل عائلة منفردة في إحدى المساكن على قدر كبرها وطبقاتها ، وأما دور الأعيان والأغنياء المنفردين بديارهم فهي على ذلك النحو أيضا لكنها كلها تكون ذات مسكن واحد وطبقاتها لا تزيد على الثلاث أو الأربع ، وكثير من أغنيائهم يسكنون في الديار المشتركة من النوع الأول لكنهم يختارونها وسيعة وكل مسكن يكون بابه مغلقا ، وعند الباب الخارجي للدار بيت يسكنه بواب بالأجرة من جميع أصحاب المساكن للحراسة ، وكل البلدان لها خنادق تحت الطرق لجريان القذورات فيها أولها دهاليز والجميع مغطى ولا يفتح للإصلاح أو التنظيف إلا ليلا ، وسطوح الديار في جميع الجهات الشمالية مسنمة لئلا يتثاقل عليها الثلج ، وأما الجهات الجنوبية ففيها بعض من السطوح مبسوطة.

٥٢

مطلب : في اللبس

الرجال يلبسون قميصا وسراويل وصدرية تسمى «جيلي» وسترة أي جبة مفتوحة الطوق إلى أسفل قصيرة إلى نحو نصف الفخذ ذات يدين ضيقتين وسراويل أخر طوال إلى أسفل القدم ضيقة الرجلين والمقعدة جدا كأنها لاصقة بالعضو ، وفي بعض المواكب يلبسون سترة مقطوعة الذيول من أمام ، وفي الشتاء يلبسون على جميع ذلك جبة أوسع من الأولى وأطول وتارة تكون مبطنة بأنواع من الفراء ، وبعضهم يزيد لبس قمصان ضيقة من الصوف وفي أرجلهم الجوارب من قطن أو صوف وأحذية كالخف الضيق ولهم فيها أنواع كلها ذات أقدام مرتفعة ، وعلى رؤسهم قلانس من قطعة واحدة على أشكال منها ما هو من الجوخ ومنها ما هو سعف أو تبن ، ولما كانت ألبستهم ضيقة فلا يجلسون إلا على الكراسي وما شاكلها ولذلك كانت فرش بيوتهم كلها ملائمة لذلك ، نعم لهم جبائب وسيعة ذات ألوان يلبسونها في الأوقات التي لا يخرجون فيها ولا يأتيهم فيها أحد وكل ألبستهم غير القمصان والجوارب لونها أسود أو ما قاربه وأغلبها من الصوف ولا يلبسون الحرير إلا نادرا في بعض الثياب ، ويلبسون في كفوفهم قفازا إما أسود أو ما قاربه وكذلك في رقابهم يلبسون روابط ولقمصانهم رقبات بيض يطلونها بالنشا وكذلك أطراف أكمامها الضيقة وصدورها ، ويتحفظون على نظافتها ويرسلون شعر رؤسهم لكنه لا يتجاوز شحمة الأذنين ويفرقونه ، وأما لحاهم وشواربهم فهي لعبة بأيديهم تارة يحلقون الكل وتارة البعض دون البعض وتارة يبقون الكل فتجد الوجوه على أشكال شتى ولكن من يحلق تراه يحلق يوميا لأن إبقاء أثر الشعر عندهم من الوسخ ، وأما لبس النسوة فقميص وسراويل وسيعة من كتان وصدرية مضبوطة على الصدر لها عيدان من شعر سمك البلين لتصغر البطن والخصر وترفع النهود وتعلي الردف ، وفوقها جبة طويلة إلى الأرض ضيقة النصف الأعلى ولها أكمام ضيقة إلى الرسغ ووسيعة الأسفل من الخصر إلى الأرض ذات تكاميش ، ويتنوعن في هيئتها وقد يطلن ذيلها من وراء حتى يصير يجر على الأرض نحو ذراعين أو أزيد من ورائها ، ويلبسن جوارب في أرجلهن وأحذية ذات أعقاب عالية وصرن يجعلن العقب قرب نصف القدم ليتراءى للناظر أن قدمها صغير مع أنه لا يرى لطول ذيولهن وأضراره بهن كما يذكره الأطباء ، من أنه يؤذي الرحم لنزول ثقل البدن على وسط القدم أي الأخمص ، وتارة يزدن فوق اللباس أردية أو متاتن عند الخروج في الطريق ويسدلن على وجوههن خمارا شفافا صفيقا لمجرد التزين ويطوين شعورهن الحقيقية أو التقليدية بهيئات حسنة على أنفوخهن ، ويلبسن قلانس ظرافا ذات أزهار صناعية وغيرها ويلبسن القفازين أيضا ويلبسن من الحلي أقراطا وسوارا وخواتيم وقلائد ومساسك من أنواع المجوهرات على حسب الرفاهية ، وأكثر ألوان لباسهن مائل إلى السواد ثم الأبيض ثم غيره.

وأما اللباس الرسمي لأصحاب الوظائف من الرجال فهو على الشكل الذي تقدم غير أن السترة تكون مطرّزة بقصب الذهب أو الفضة على صدرها وعنقها ويديها وظهرها على

٥٣

حسب الرتب ، وكذلك يكون للسراويل شرطان من القصب وعلى القلانس علامات أيضا من القصب ويلبسون مع ذلك النياشين أي علامات الفخر ، ولبس العساكر نظيف جدا متقن من ذلك الشكل غير أن سترتهم مقفولة الصدر وتبلغ في الطول إلى الخصر فقط إلا ضباطهم فهي طويلة كغيرهم مقفولة الصدر.

مطلب : في الأكل

هيئة الأكل عندهم هي موائد مرتفعة يجلس حولها على كراسي وتغطى برداء أبيض وكل آكل يجعل أمامه صحن فارغ ويأتي الخادم بأناء الطعام فيأخذ منه الآكل في صحنه مقدار ما يريد ، ومن إصطلاحاتهم أن تجد حذاء الصحن بطاقة بشكل لطيف مكتوب بها ألوان الطعام الحاضر لتلك الأكلة حتى تأخذ مما تشتهيه ، وهاته العادة هي من المستحبات عندنا كما نص عليها في آداب الضيافة وقرّرها الغزالي في الأحيا (١) لكن لا بخصوص الكتابة وإنما هي بأي إعلام للضيف بأنواع الطعام. ثم كل صحن حوله ملعقة وشوكة وسكين وبعد الفراغ من كل لون يبدل الصحن والسكين والملعقة بغيرها نظيفة ، وكذلك يوجد حذو الصحن كيسان على قدر أنواع المشروبات التي تكون لتلك المائدة من أنواع الخمر ، وفي وسط المائدة أواني بالزهور بحيث أنها في غاية المنظر الحسن والنظافة ويتحفظ الآكلون على النظافة ، والعادة أن لا يزيدون غالبا على خمسة ألوان إلا في الضيافات والمواكب ، ثم بعدها يؤتى بنوع من الحلويات ثم بجبن ثم بفاكهة من إحدى غلال الوقت وطعامهم له أنواع شتى أحسنها أنواع المشوى ، وأغلب أنواع الطعام مائل إلى التحريد عن كثرة الأخلاط وإلأبزرة حتى يضعون على الموائد أواني لطيفة بالملح والفلفل الأسود والخل والزيت لما لعله يطلب منه الآكل إذا وجد الطعام غير لائق به في الملح ، كما أنه يجعل على المائدة أوان ظريفة بالخرذل المسحوق المخلوط بالخل وقنينات بالماء وآخر بالخمر المعتاد عندهم للأكل ، ثم في أثناء الطعام يؤتى بأنواع أخر من الخمر أرفع من المعتاد وفي آخر الطعام يؤتى بنوع منه يسمى شنبانيا إذا صب في الكاس غلى وارتفع ، وإذ ذاك يخطب خطباؤهم في مقاصد تلائم حالة الاجتماع إما قائما أو جالسا ثم في آخر كلامه يقف ويشير بعضهم إلى بعض بالكؤس كناية عن التوادد ويشربونها ، ولكن هذا لا يقع في منازل المسافرين في الموائد العامة الاجتماع عن غير قصد وإنما يقع في الضيافات والمحافل وتارة يصرخ الحاضرون بيعيش كذا إما فلان أو مقصد سياسي ، ومن لا يريد الشرب من الخمر لا يعيبون عليه ذلك بل يعرض له صاحب المحل تعريضا خفيفا بمدح نوع الخمر فإن امتنع فلا تثريب عليه ويوجد فيهم أفراد لا يشربون كما أن غالب متبصريهم يعلم أن الخمر حرام عند المسلمين.

والنسوة في الديار هن المتكلفات بأحوال الأكل والطباخون يكونون من الرجال

__________________

(١) انظر إحياء علوم الدين ٢ / ١١. [الباب الرابع في آداب الضيافة].

٥٤

ومن النساء ولهم كتب مؤلفة في تركيب الأكل والطبخ.

مطلب : في المواكب

أما المواكب الرسمية فإن الملك له بيت كبير في القصر الرسمي وبصدره عرش على نحو ما تقدم في عرش والي تونس ويزيد بأن يكون على يسار محل جلوس الملك كرسي لزوجه ، وقبل حضور الملك يحضر المأذونون بالحضور بملابسهم الرسمية ويقفون يمينا وشمالا على حسب رتبهم ولما يحفل الموكب يخرج عليهم الملك لابسا لباسه الرسمي الذي هو على نحو ما تقدمت صفته ، غير أن بعض الملوك يزيد على ذلك بلبس رداء طويل الأذيال واسع جدا ليس له أكمام وإنما يوضع على ظهره وكتفيه ويغلق حول العنق بأزرار ثمينة ويرفع أطراف ذيوله من ورائه بعض أبناء الكبراء من العائلة الملكية أو من أقاربهم إلى أن يجلس الملك على عرشه ، وكذلك يكون له تاج مجوهر يضعه على رأسه مع اللباس الرسمي المقصب ويخرج في المواكب من حجرته ومعه زوجه وأهل بيته ويصعد على كرسيه ويكشف رأسه مسلما بالإيماء إلى ميمنتهم ثم إلى ميسرتهم ثم يخاطبهم بخطبة مناسبة لمقتضى الحال موميا لأحوال السياسة الراهنة ، وتلك الخطبة تكون قد هيئت من قبل بتدبير الوزراء وتارة يلقيها الملك بنفسه وتارة يلقيها رئيس كتبته ويكون الحاضرون كلهم مكشوفي الرؤس ، فيحيونه بالدعاء له بطول العمر وينفض الموكب وهاته المواكب هي في رأس السنة وهو شهر يناير الأعجمي ، وفي عيد ولادة الملك ، وكذلك يوم فتح مجلس النواب والأعيان من كل سنة ويكون ذلك في محل المجلس ، وكذلك تعقد مواكب أخرى على حسب الحوادث.

وأما المواكب الأهلية فهي رأس العام ولا يحتفلون لغيره من الأعياد وإنما يكثرون استدعاء بعضهم إلى بعض للمسامرة ليلا فيما بين المعارف زيادة على الاجتماعات في أماكن العموم كالملاهي والمنتزهات ، وبسبب ذلك يقع التعارف بين الرجال والنساء المريدين للتزوج فتكثر المخالطة بينهم في حالات مختلفة فإذا حسن عند كل طبع الآخر وسيرته خطب أب الزوج أبا الزوجة في بنته لابنه فإذا حسن لديه أيضا أجابه ، وإذ ذاك في الغالب يجمعون خواص أحباب كل من الفريقين في بيت الزوجة لوليمة من طعام من الحلويات والخمور وإن لم تكن الدار لائقة للإجتماع تجعل الوليمة في إحدى منازل المسافرين ، فيوصي صاحب الوليمة صاحب المنزل على ما يريد ويعين له الوقت وعدد الأشخاص ويتوافقون على الثمن وعند قدوم المدعوين يجدون المحل على أحسن انتظام ، وكذلك يصنعون في الولائم في الديار إذا كان صاحب الدار ليس له عدة الضيافة مع أن داره قابلة فإن صاحب منزل المسافرين يأتيه بكل ما يكفي من أوان وأطعمة وخدمة وغيرها وليس على صاحب الدار إلا دفع الثمن مع الراحة وحسن الإنتظام في سائر أنواع الولائم ، ثم إذا حان زمن العرس يحضر أبو الزوجة ويدفع للزوج مهر ابنته من مال عين أو أملاك ويكتب ذلك على الزوج ويكون أمانة في يده ، ثم بعد ذلك يتوجهون إلى الكنيسة فيجدون

٥٥

المدعوين هناك ويحضر القسيس ويبارك على كل من الزوجين ويأخذ خاتما من ذهب من إصبع الزوج ويدخله في إصبع الزوجة ويرش عليهما ماء ، وتكون العروس إذ ذاك لابسة لأحسن لباسها في لون البياض ومتحلية بما لها من الحلي ثم يحلق الزوج يده اليمنى على صدره وتدخل الزوجة يدها اليسرى في ذراعه وينصرفون ، ويقف آباؤهم معهم في محل عند باب الكنيسة لقبول الهناء من المدعوين ، ثم يسافر العروسان حالا إلى أي بلد أرادوا مدة ما على حسب الرفاهية والجدة وذلك لأمرين.

أولهما : عدم الحياء من معارفهم بالإستراحة من الإشتغال بحركاتهم وسكناتهم.

وثانيهما : تقضى مدة في الإنكباب على لذاتهما من غير تعب بأدني كلفة مع الإقتصاد في المصاريف للوليمة لأجل المعارف وينفقون ما ينفقون في لذاتهما هذا في الأغنياء.

أما الفقراء فيستعوضون عن السفر بالخروج لإحدى المنتزهات ثم إن الزوجة لا تكسو في العرس إلا نفسها والزوج هو الذي يكسو بيته ، وبعد ذلك يكون مصروف الزوجة في أكلها ولبسها وسكناها على زوجها وذلك المال الذي أعطته مهرا للزوج باق على ذمتها وإنما يصرفون دخله على كل منهما.

ومن ولائمهم أيضا وليمة بلوغ البنت فيلبسونها لباسا كله أبيض وبرقعا أبيض صفيقا وتذهب إلى الكنيسة ثم تعود لدار أبيها ويصنع لذلك وليمة. واعلم أن ما ذكرناه من الذهاب إلى الكنائس ليس أمرا حتميا بل هو عادي لمجرد التعود عليه عند ما كانوا يجرون الأحكام الديانية في الأحوال المدنية ، وموكب المآتم عندهم لا يجهرون فيه بالبكاء وبعد قدوم القسيس لحضور موت الميت يبقى مدة من الأيام لتحقق الموت ، حيث أنهم وجدوا بعض الذوات يظهر عليها الموت وهي في الحقيقة لم تمت مع تعسر الإطلاع ولو من حذاق الحكماء ، ويكون هذا بالخصوص في موت الفجئة وأمثالها ، وكان هذا لا مانع في ديانتنا منه إذ استحباب التعجيل بالدفن إنما هو عند تحقق الموت بيقين أما قبله فيحرم ، لأنه يصير قتلا وقد شوهد ذلك في كثير ممن نبشت قبورهم بعد زمان فيجدونهم في حالة غير التي يوضع عليها الميت ، ويجدون الأكفان ممزقة وحيوط القبر بها آثار الخدش. فيجب التنبه لمثل ذلك وقد قالوا إن ذلك النوع يحصل بكثرة في الأمراض المستوبية وقد سمعت بذلك في بلادي مرات متعددة ، منها في سنة ١٢٨٤ ه‍ حيث استوبي مرض الحمى الخبيثة فكانت عدة جنائز ذاهبين بها فاطلع المارة على حركات في الميت وأوقفوا الجنازة ووجدوه حيا ، وتارة ينادي هو من نفسه متفجعا من الحالة التي هو فيها. ثم إن أهل إيطاليا بعد تحقق الموت يكفنون الميت في لباسه النظيف ويجعلونه في صندوق من خشب ملفوف في رداء أسود عليه شرطان من قصب الفضة ، وتحمل الجنازة في كروسة معدة لذلك ويركب مشيعوا الجنازة في كراريس معدة للحزن كلها سود ، وأغنياؤهم يربطون في كروستهم خيلا سودا أيضا وعدتها سوداء ويذهبون بالميت إلى المقبرة فيدفن في قبر عميق ويحكم سد التراب

٥٦

والبناء عليه ، ويجعلون على القبور هياكل من الرخام ويتأنقون فيها.

وأما الفقراء : فتجعل جنائزهم في سراديب مع بعضها ، وقد اتخذ بعضهم ما تنوسي في هاته الجهات ولم يبق إلا عند بعض الهنود وهو إحراق الميت ، فإنهم يجعلونه في فرن من حديد محكم السد لكيلا تخرج الرائحة ويصب عليه زيت النفط ويحرق ، ثم يأخذ رماده ويخزن في إناء في مكان عزيز في دار أهله ، وبعض الأغنياء العزيز على أهله تصبر جثته بعد إخراج أمعائه ويلبس ثيابه الفاخرة ويجعل واقفا في جهة من البيت في خزنة وجهها زجاج.

مطلب : في اللغة

لغة عموم الأهالي تسمى طليانية وهي فرع من اللاتينية وما يكتب فيها ينطق به على حسب الحركات المرسومة ، وهي لغة واسعة مساعدة في النثر والنظم على بحور عندهم معلومة ، ولذلك تجد أشعارهم بها جيدة المعاني على حسب اصطلاحاتهم فمنها ما يستحسن عند أهل العربية ومنها ما يخالف الأسلوب البلاغي ، وتلك اللغة وإن كانت هي اللغة العامة والرسمية في الكتابة والعلوم وغيرها لكن توجد في أطراف إيطاليا لغات شتى حتى لا يكاد بعضهم يفهم بعضا بالتخاطب ، أما إذا رجعوا للكتابة فيرجع الكل إلى لغة واصطلاح واحد.

مطلب : في القوة المالية والحربية

فرنك

٩٦٥ ، ٥٨٣ ، ٤٢٥ ، ٠١

دخل الدولة سنة ١٨٨١.

٩٦٥ ، ٥٨٣ ، ٤٢٥ ، ٠١

خرجها.

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١٠

دينها.

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٦٠٠ ، ٠٢

قوّة التجارة في المملكة بين الداخل والخارج من السلع.

عساكر

٩٥١ ، ٣٩٥

تحت السلاح.

٨٧٦ ، ٤٣٣

رديف.

٨٢٧ ، ٨٢٩ ٥٠٠ ، ٠١٠

بحرية.

٨٠

سفن حربية مدرعة وخشبا منها مدرعة تسمى الدوبلو هي أكبر مدرعة في البحر.

٦٥٥

مدافع.

٠٩٨ ، ٥

امتداد سكك الحديد أميالا سنة ١٨٨١.

٥٧

الباب الرابع

في مملكة فرنسا وما رأيته فيها

الفصل الأول : في سفري إليها

قد تقدم أنا وصلنا إلى بلد مودان التي ينتقل فيها المسافر إلى الرتل الفرنساوي وكان وصولنا إليها الساعة واحدة ونصف بعد نصف الليل ، فوجدنا المحطة منورة والخدمة متدرعين باللباس الثخين للتدثر من الثلج والبرد وبأرجلهم أحذية من الخشب ، فلما أردنا الركوب في الرتل الفرنساوي وجدنا المخدع الذي أوصينا عليه بسلك الإشارة حاضرا في الرتل ، وسألنا المكلفون عن ورقة الجواز ، فلما أخبرناهم أنا من تونس وأردنا إحضار الورقة ورأوا لباسنا رحبوا وقالوا إلا يلزم إخراج الورقة ولا فتح الصناديق لنظر ما بها ، فركبنا حالا في غاية الراحة وقفل الرتل سابحا على الأرض بسرعة أزيد من الرتل الطلياني ، غير أن المخدع كان أقل انتظاما من المخدع السابق فأردنا النوم بقية الليل لكن شدة البرد منعت من استراحة النوم ، ولم يزل الرتل سابحا ولما بدا الفجر ظهر منظر الأرض والحاصل أنه على نوع متشابه مع أعالي إيطاليا غير أن الفرق الذي يرى هو كثرة البلدان والقرى بأرض فرنسا على إيطاليا وكثرة الديار المنفردة في الحقول والأراضي بإيطاليا على فرنسا.

ثم وصلنا إلى باريس في الساعة السادسة قبل نصف الليل فكانت مدة السير من تورين إلى باريس إحدى وعشرين ساعة ، وكانت باريس تظهر من بعد في الليل كأنها سماء زينت بالكواكب ، واستمر الرتل سائرا من مبدأ علائق المحطة إلى أن وقف نحو خمس عشرة دقيقة فإذا هي محطة أضخم وأوسع من جميع ما رأيناه ، فنزلنا ودخلنا إلى الكمرك ولما نظرنا المكلفون قالوا لا لزوم لتفتيش رحلكم وأنتم مصدقون ، هل عندكم من سلعة تؤدي الكمرك؟ فقلنا ليس إلا نشوق وماء زهر وورد ، فقالوا : هو بمقدار حاجتكم أم للتجارة؟ قلنا : بقدر حاجتنا ، فأذنوا بسراح الرحل بدون تفتيش ، ولا أداء ، فركبنا كروسة كبيرة لمنزل المسافرين المسمى أوتيل «دي كابوسين» الذي هو من المنازل الحسنة الواقعة بأعز طرق باريس وأكثر التونسيين نزولا به ، فاستمر السير خببا من الخيل نحوا من ساعة من المحطة إلى المنزل وكانت الطرق كلها منيرة بالفوانيس نورا زائدا على غيرها وهي طويلة وسيعة أزيد من غيرها بحيث ينتهي النظر في طول الطريق ، فأقمنا بذلك المنزل تلك الليلة وتعشينا وفي الصباح أفطرنا فطورا خفيفا وطلبت الحساب حيث لم أساوم قبل النزول فإذا أجرة البيوت ليلة وثمن العشاء والفطور الصباحي لثلاثة أنفس نيف وسبعون فرنكا ، فخرجنا من

٥٨

هناك وتلاقينا مع المعارف واكتروا لي منزلا خاصا ذا أربع بيوت بجميع لوازم فرشها وخدامها بثلاثمائة فرنك في الشهر غير أن الأكل خارج عن ذلك بل يأتون به من إحدى أماكن الأكل القريبة هناك وهي كثيرة ، إذ كان المنزل على النهج العظيم في باريس المسمى «بلغاردي كابوسين» وهو من الأماكن الشهيرة بالعمران في باريس ، ثم إن كثرة قرقعة العجلات التي تفوق عن الرعد في ذلك الطريق ليلا ونهارا كدرت لي الإستقرار هناك حيث أنها لا يخف دويها إلا بعد نصف الليل بساعة وما يضيء النهار إلا وتعود لما كانت عليه ، فانتقلت إلى منزل آخر أوسع من الأول ويحتوي على مطبخ وبيت جلوس وبيت أكل وثلاثة بيوت للنوم بجميع لوازم ذلك كله مع تغيير الفرش والمناديل بالنظيفة ، والكراء قدره ثلاثمائة فرنك في الشهر وأحضرت طباخا بأربعين فرنكا في الشهر وخادما بشعرين فرنكا وكان المصروف اليومي على لوازم الأكل نحو العشرين فرنكا في اليوم مع الإقتدار على قبول بعض من الضيوف والإرتياح من الإحتراس في الأكل ، وكان هذا المحل أيضا بإحدى الأماكن الشهيرة النزهة المسمى «بشانزي لزي» لكنه لما كان طريقه شديد الإتساع ومحل مرور العجلات فيه يبعد عن حيطان الديار نحو العشرين مترو وكان تحصيب الطريق بالحصا المسواة بالرمل بخلاف الأول لأنه مبلط بالحجارة الصلبة التي في قطع الشبر فكانت أذية الدوي مفقودة في الثاني مع حصول المنظر الجميل.

واجتمعت في باريس بأشهر أطبائها في المرض العصبي إذ لكل نوع من الأمراض عندهم مشاهير مخصوصون به والحكيم الشهير في هذا المرض عندهم هو الحكيم «شاركو» وأحضر معه إليّ في بعض الأيام إثنين من مشاهير أطبائهم ، وكانت أجرة زيارة الواحد في المرة الواحدة ستين فرنكا وإذا يزار الحكيم في داره يعطى أربعين فرنكا ، ومما يدل على شهرة هذا الحكيم وغناه بعلمه أنه دعي يوما لمريض في بلد برلين قاعدة مملكة ألمانيا فذهب عشية الجمعة ورجع عشية الأحد في الرتل وأعطي خمسة عشر ألفا فرنكا لأجل تلك الزيارة وعلى ذلك فقس ، وهو إنما يقبل المرضى في يومين فقط من الإسبوع وبقية الأيام يقرىء فيها دروسا عالية في الطب العصبي ، وله مستشفى خاص بالأمراض العصبية تحت نظارته يحتوي على نحو ثمانية آلاف مريض ، ذكر لي يوما الطبيب فيفرو الذي هو بمعية الحكيم المشار إليه ومباشر للعلاج بالكهربا أن ذلك اليوم كان في المستشفى مرضى أخذوا الأكل سبعة آلاف وستمائة ونيف عدا من لم يستطع الأكل ومن كان ممنوعا منه ، وذكر أن المستشفى حوسب على الأطباق الزجاجية الموضوعة في أبواب الطواقي فإذا هي ثمانون ألف طبق ، وذلك الحكيم مع سعة معارفه هو بشوش مؤانس حتى صار ودود إلي وله ولزوجه ولوع كبير بالثياب والمفروشات والأواني وغيرها الصينية والمشرقية والعتيقية من صنائع أوروبا ، حتى كانت بيوت داره مكسوة بأشياء بديعة ذات قيمة عالية جدا تتجاوز مئات آلاف فرنك ، ومن مصائب الجهل بالألسن ما حصل لي يوما : وهو أن الطبيب أخبرني بأن المسكن الذي تعودت عليه بالإحتقان تحت الجلد ربما يتأنس به البدن فلا يبقى

٥٩

مؤثرا ، ولذلك يريد أن يعمل وجها في ذلك وأن الأولى بي أن أنقص من مقدار الإستعمال منه بأن أصنع ربع المحقنة فقط هكذا أفهمني المترجم ، ثم أتى بالعلاج المسكن من الصيدلاني فتحير عليّ الألم بين العشائين كما هو عادة طروّه في الأغلب فعلت المقدار مثل ما قال الطبيب فلم يسكن ، وظننت أن الدواء هو المعتاد فزدت نصف محقنة. فلم ألبث قدر ثلاث دقائق إلا وأيقنت بالموت ووجدت ألما لم أعهده ولا أقدر على التعبير عنه ، وإنما أقول : أظلم الجوّ في نظري وأحسست بنفسي ساقطا في جب لا قعر له ، وغاية ما أدركت أن طلبت المصحف الكريم وضممته على صدري ، واستشعرت أني أتلو آية لقد جاءكم سبعا ولساني لا يكاد يصحح الحروف ولم أدر ما وراء ذلك فلم يبتدىء شعوري بالوجود إلا بعد نصف الليل بثلاث ساعات فرأيت أتباعي ومعارفي حولي يبكون وجميع ما أراه أحمر ثم رجع الإغماء ثم الإستيقاظ ولا زال الأمر يتدرج في الخفة إلى الصباح وأنا في غاية الضعف ، وسألت الطبيب عن السبب فأخبرني أن العلاج قد غيره بمسكن آخر يسمى «الأتروبينا» مضاد لمسكن «المرفينا» وأقوى منها بأضعاف كثيرة ، وأنه كان شدد الوصاية في التحذير منه للترجمان ، إذ ذاك المقدار الذي عملته يكفي لقتل عدة أشخاص وأن من لطف الله أن كان في مزاجي من «المرفينا» مقدار وافر من استعمالها سابقا حتى كانت مضادة لذاك السم القتال ولله الحمد على لطفه وعفوه وما ذاك إلا من جهل اللسان وإضرار المترجمين ، وقد أقمت بباريس في هاته السفرة نحو شهر ، ثم عدت إليها سنة ١٢٩٥ ه‍ وأقمت بها شهرين ثم عدت سنة ١٢٩٦ ه‍ وأقمت بها شهرا وها أنا أفرد لصفتها فصلا خاصا.

الفصل الثاني : في باريس وصفاتها

باريس وما أدراك ما باريس هي نزهة الدنيا وبستان العالم الأرضي وأعجوبة الزمان ، ولعمري إنها أحق بإسم مملكة من إسم مصر ، وهي أنموذج لغرائب مصنوعات البشر وحق للفرنساويين التفاخر بها ومباهاة الأمم بمحاسنها وجمالها وغناها ومعارفها ومصانعها ، فمهما فكرت في إحدى هاته إلا وقلت إن القوم قد انحصرت أعمالهم فيها ثم إذا التفت للأخرى تقول مثل ذلك وهكذا ، وكأنها فاقت على غيرها باجتماع الكل فيها فصدق عليها المثل : «كل الصيد في جوف الفرا» (١) ولو أراد الكاتب الإستقصاء في كل طرف مما احتوت عليه لضاقت عنه المجلدات واضطر إلى الإكتفاء بالإشارات ، وبالجملة فالواقف عليها يزداد يقينا في العلم بقدرة الخالق وأن أحوال الآخرة فوق عقولنا كما أخبر به الصادق الأمين عليه

__________________

(١) الفرا : حمار الوحش : وأصل المثل أن ثلاثة رجال خرجوا يصطادون فاصطاد أحدهم أرنبا والثاني ظبيا والثالث حمارا ، فاستبشر الأولان وتطاولا عليه ، فقال الثالث : «كل الصيد في جوف الفرا» أي أنه أعظم الصيد ، فمن ظفر به أغناه عن كل صيد. وقد ضربه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا لأبي سفيان حين قال له : أنت يا أبا سفيان كما قيل وكل الصيد في جوف الفرا ، يضرب في الواحد الذي يقوم مقام الكثير لعظمه. ولمن يفضل على أقرانه. انظر المستقصى ٢ / ٢٢٤ رقم ٧٥٦ ومجمع الأمثال للميداني ٢ / ١٦٢ رقم (٣٠١٠) وصبح الأعشى ١ / ٤٦٢

٦٠