صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي

صفوة الإعتبار بمستودع الأمصار و الأقطار - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد بيرم الخامس التونسي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

تحتك في أسفل سافلين وهكذا مناظر بديعة مختلفة تتوالى كل لحظة ثلاث ساعات في الجبال وعلى الإجمال أن السفر في جبال أوروبا المتمدنة ذات العمران ليس له من لذة عندي توازيه سيما مع الركوب في الرتل في الطبقة الأولى في مخدع منفرد للشخص وأصحابه ، وعلى الخصوص إذا كان معه صديق يساجله في سائر المقاصد فإن ذلك من نعم الدنيا الكبرى ، ومن هناك حجبت عنا الشمس بكثرة الأبخرة المتصاعدة من الجبال والثلوج ثم نزلنا إلى الوهاد بعد أن جزنا في الجبال صعودا ونزولا خمسة وأربعين نفقا ، فمنها : ما يسير فيه الرتل عشرة دقائق ، ومنها : ما يسير فيه دقيقتين. وكل نفق مظلم ويشتد ظلامه ويخف حسب طوله.

وبعد أن سرنا في الوهاد نحو ساعة وتكاثر نزول الثلج وصلنا إلى بلد بولونيا وهي بلدة ضخمة لكن أبنيتها وطرقها ليست بجميلة سيما القديم منها وأغلبها على ذلك النحو ، نعم بها منتزهات نزهة ، وأغلب الطرق يحفها يمينا وشمالا رواقات لشدة حرها صيفا وشدة بردها وكثرة ثلجها شتاء فتتقي المارة بتلك الرواقات ، وفيها موقف للرتل عظيم جدا لأنها مناخ للتجارة لتوسطها بين بقية ممالك إيطاليا وسفيسرة وفرنسا والنمسا وألمانيا ، فترد إليها الأرتال من الجميع ، ونزلنا في الموقف وتغدينا في محل الأكل هناك وكان وقوف الرتل نصف ساعة ، ثم سرنا إلى تورين في ذلك المنظر البهيج المنبسط على الوهاد لكثرة إتقان الزراعة وإثارة الأرض وتعميرها وكثرة الأبنية في الأراضي الزراعية كل ذي أرض له فيها بناء مع تحسين شكله وتزيين ظاهره ، ومع ذلك منظر الجمال في الجبال أبهج ، وعند ما أراد الليل أن يسدل حجابه تبدى وجه الغزالة محمرا من برقع السحاب على وجه الأفق فيا له من منظر بديع يشهد للباري تعالى بحسن الصنيع ، وما ودعنا نور الشمس إلا بعد ما استخلف ضياء البدر المنير إذ كان ذلك أواسط شهر ذي القعدة فتفضض الأفق والنواحي ببريق البدر ، وكان جمال الليل مزهرا في تلك المناظر الجميلة مستمرا إلى أن وصلنا إلى موقف الرتل بتورين بعد نصف الليل ، فإذا بذلك الموقف أبهى وأبهج وأضخم من جميع ما رأيناه سابقا. واستمر سير الرتل من مبادىء متعلقات الموقف إلى أن استقر فيه أزيد من عشرة دقائق فكنت ترى فيها المزجيات والمركبات منبثة في جميع الجهات مائسة لأركانها والرتل وارد وصادر من كل أوب ، ومحل نزول الركاب هو ساحة عظيمة مرفوع سقفها على أعمدة من الحديد المستطيلة من قضبان من الحديد مرصف فيها الزجاج والفوانيس موقودة بالغاز تضيء كالنهار ، فاسترحنا في بيت الجلوس إلى أن نزل رحلنا في الكمرك وفعلوا في تفتيشه ما فعل في البلدان السابقة ، ثم ركبنا أحد الكراريس الكبيرة المعدة لنقل الركاب إلى منازل المسافرين لأن كل منزل كبير له كراريس كبيرة تسع الواحدة ثمانية من الركاب فما فوق تحملهم من المواقف إلى المنزل والعكس ، وذهبنا إلى المنزل فلم نجده لائقا فانتقلت إلى منزل آخر حسن وأقمت بهاته البلدة يومين وهي مصر عظيمة ذات إتقان في الأبنية والمساكن والطرق.

ومن خصائصها أن طرقها تكاد أن تكون كلها متقابلة تتقاطع على التربيع بزوايا

٢١

مستوية ، كما أن من سماتها أن طرقها تكاد أن تكون كلها محفوفة برواقات يمينا وشمالا قائمة سقوفها على أعمدة من البناء أو الحجارة المنحوتة ولا يمشي الراجل إلا تحتها ، وفوقها أبنية القصور والمساكن وإليها تفتح أبواب الحوانيت والديار وغيرها ، وأواسط الطرق للركاب أو العابر من جهة إلى أخرى. وأعظم بطاحها البطحاء التي أمام قصر الملك وهي متسعة جدا في صدرها القصر الملكي وعلى جانبيها مساكن للعساكر ، والجهة الرابعة قبالة القصر في وسطها طريق كبير وعن يمينه وشماله ديار ومنزل المسافرين الذي نزلنا فيه ، وفي وسط البطحاء فوارات وأوّل ما رأيت «الترموي» في هاته البلدة. وهو مركبة ذات عجلات صغيرة من حديد تجري في صفحات من الحديد غائرة في الأرض ممتدة مع الطريق إلى نهاية ما يريدون إيصال السير إليه ، ويجرها إثنان من الخيل ولهم في كيفية إدارتها عند الوصول إلى نهاية الطريق كي ترجع إلى المكان الذي ابتدأت منه كيفيات.

فإحديها : أن في محل الإدارة يكون وقوفها على دائرة من الحديد ذات قطب تدور عليه بسهولة فبإدارة الدائرة تدور المركبة.

وثانيتها : أن المركبة يكون مقدمها ومؤخرها سواء فعند بلوغ النهاية من الطريق تحل الخيل الجارة من تلك الجهة ثم تربط من الجهة التي كانت مؤخرا وتسير المركبة راجعة إلى المكان الذي ابتدأت منه.

وثالثها : أن تكون الصفائح التي تجري فيها العجلات في نهاية الطريق مرسومة على نحو دائرة متسعة ، فتدور بها الخيل إلى أن تعود إلى الطريق الذي جاءت منه ، وكل كيفية من هاته في طريق خاصة وبلد خاص وسبب أعمال هذا الطرق هو لتسهيل جر المركبة على كبرها إذ يركب بها نحو العشرين نسمة في داخلها وعلى سطحها نحو نصفهم ، ولا يجرها سوى فرسين وهي وسيلة كبرى لترخيص أجرة الركوب وسهولة الإنتقال ، فيقف في مراكز معلومة كما تقف لكل من يطلب الوقوف للركوب أو النزول ويؤدي الأجرة زهيدة نحو ثلاثين سانتيم أي ثلاثين من تجزئة الفرنك إلى مائة ، هذا إذا كان المكان بعيدا وأما إذا كان قريبا فبنصف ذلك المقدار ، والقرب والبعد على حسب اتساع البلد وامتداد ذلك الطريق لكن القريب على كل حال لا يقصر عن الميل. وهاته البلدة بها نهر عظيم ومنظره خارج البلد بهيج وبقربه في إحدى تلك الجهات منزه عمومي كبير نزه وجبل به أماكن للأكل والقهاوي ، وقصر الملك حسن جدا وكبير متسع مونق في تزويقه بالذهب والألوان وبه جميع فرشه وحوائجه ، وقد كانت هاته البلدة هي قاعدة مملكة «الساردو» الذي استولى على جميع إيطاليا واتحدت أخيرا تحت ملكها ، وبها خزنة للكتب عظيمة جدا وعند ما دخلتها علمت كبير الفرق بين أهالي هاته البلاد وأهالي نابلي ، فإن الثانية لما دخلت خزنة كتبها لم أجد إلا أفرادا لا يتجاوزون جمع القلة وهاته لما دخلت إلى خزنة كتبها وجدتها مفعمة بمئات من الرجال وقليل من النساء كل منهم منكب على المطالعة في كتاب ولا تجد حسا

٢٢

لواحد إلا همسا لكي لا يشوشوا على بعضهم ، فمن مطالع ومن مقابل ومن ناسخ ومن مفكر والكتاب بين يديه ، فعلمت أن أهالي هاته البلدة معارفهم أوسع ، وسوقها لديهم أروج وذات الخزنة كتبها أكثر مما رأيته سابقا ، وبها مصاحف كريمة ذات خطوط أعجمية أنيقة مذهبة ومونقة للغاية القصوى ولها صناديق ووجهها وسقفها من الزجاج مقفولة لحفظها ولا يحلها إلا القيم عند التأكد ، ففتحها لي وتشرفت بها.

ثم رحلنا من هاته البلدة قاصدين باريس في مرحلة واحدة ولما كانت المرحلة بعيدة آثرت كراء مخدع في الرتل ذي فرش ومستراح ولزم لذلك إعلام مدير الرتل من قبل وقت الركوب لكي يحضره على الصفة التي نريدها ولكي يعلم موقف الرتل في حدود فرنسا بإحضار مثله في رتلهم حيث أن الركاب ينتقلون هناك من الرتل الطلياني إلى الرتل الفرنساوي ، فركبنا في الساعة الثامنة بعد الظهر ليلا في مركبة ذات مخدع له ثلاث مساطب فرشها حريرية وكل مسطبة تنفتح فتستطيل إلى أن تصير فراشا له وسادة وقد اخترتها بحيث يكون الراكب فيها مواجها إلى جهة السير ، لأن عكسه يورث لي دوارا. وفي وسط المخدع باب يدخل منه إلى محل ذي مستراح في أحد جهتيه ومقابله محل ذو أنبوب للماء ينفتح وينغلق يجري منه الماء وذو إناء ينزل منه الماء المغسول به وبه مرآة بحيث يستطيع الإنسان التوضي هناك وإصلاح لبس ثيابه ، وفي المخدع أيضا مرآة ومائدة تنفتح من جهة الحائط الموالي لمحل المرافق حتى أن الإنسان يقضي هناك جميع حاجاته بغاية الراحة ، وإنما رفعنا معنا مناديل الوضوء وبيت إبرة لمعرفة القبلة في صندوق صغير من الجلد فيه بعض الثياب ومناديل الأنف ، وإذا حان وقت الصلاة نصلي بلا تعب سوى أن الأتباع ينزوون إلى جهة غير القبلة ولمثل هذا الإطلاق يتحرى الإنسان في الركوب مع الرفقاء لكي لا يكون عليه حرج فيما يريد ، كما أنه إذا حان وقت الأكل ووقف الرتل في إحدى المواقف على البلدان ننزل إلى محل الأكل فنجد فيه ألوان الطعام والفواكه فنشتري ما نريد ونحمله إلى مخدعنا لكي نأكل بالإستراحة إذ الأكل في المواقف يلزم أن يكون عاجلا خوف سفر الرتل ، والرتل ولئن كان يقف بعد كل نحو نصف ساعة أو ساعة على البلدان ، غير أن وقوفه لا يطول إلا بقدر ما ينزل الركاب القاصدين تلك البلدة ويركب منها غيرهم أو أخذ المزجية الماء أو الفحم أو إبدالها بغيرها إذا تمت ساعات نوبتها بحيث أن الحصة أطولها عشر دقائق ، أما في وقتي العشاء والفطور فيقف الرتل نصف ساعة أو أزيد بقليل ويعلم الركاب جميع ذلك من المنادي الذي ينادي عند وقوف الرتل رافعا صوته بقوله : «بلد كذا» ، ويسمى البلد الذي وقف عليه وكذا دقائق ، أي يقف كذا دقائق ، ويفتح الأبواب للمركبات فينزل من يريد النزول ولو لقضاء ضرورة ويرجعون على عجل.

واستمر بنا السير إلى أن وصلنا لجبال المنسني الشاهقة وطفق الرتل يجري بين صعود ونفوذ في أنفاق واحدا بعد آخر إلى أن جاز في نفق استمر في الجري فيه خمسة وعشرين دقيقة غير أنه دون السير المعتاد وهو أطول نفق في أوروبا وصناعته من عجائب صناعة

٢٣

الهندسة ، إذ هذا الجبل واقع في الحد بين فرنسا وإيطاليا فناحيته الشرقية الجنوبية إلى إيطاليا والشمالية الغربية إلى فرنسا ، ولما أرادوا وصل الطرق الحديدية اتفقوا على خرق الجبل فجعلت عملة كل من الجنسين تشتغل من جهتهم وبعد الإشتغال بضع سنين اتصل العاملون بعضهم ببعض على خط مستقيم ، والحال أن طوله تسعة أميال تقريبا وتنور فيه فوانيس ليلا ونهارا ويقيم به حراس لتفقد الطريق ولهم مساكن منحوتة وأماكن وسيعة لوضع الضروريات التي يحتاج إليها إصلاح الطريق ومراكز لسلك الكهربا والرتل لا يدخل إلا إذا رأى علامة الحارس بالإذن بالدخول ، وبينما كنا سائرين فيه وإذا برتل آخر مقبلا من فرنسا ذاهب إلى إيطاليا فمرا متعاكسين متحاذيين مع اشتداد دوي العجلات والصدى والظلمة وسرعة السير فكان منظرا هائلا واشتد البرد هناك اشتدادا خارقا للعادة حتى أن بخار النفس كان يجمد على شاربي وزجاج طواقي المخدع كان ينجمد عليه بخارنا إلى أن يمنع الضوء وينكسر بالتكسير قطعا كالجليد وأيقظتني شدة البرد من النوم مع التردي بالثياب الثخينة الصوفية وأحدها مستبطن بجلد الفراء العالي ، وفي المخدع قنوات من النحاس ملآنة بالماء الحار جدا ملفوفة في خرق من الصوف وعندما وصلنا إلى بلد «مودان» أول موقف الرتل من جهة فرنسا نزلنا للإنتقال للرتل الفرنساوي وابتدأ الأمر فيما شاهدته بفرنسا.

فلنعد الآن لبقية الكلام على إيطاليا ، فإني عدت إليها سنة ١٢٩٨ ه‍ سنة ١٨٨١ م وزدت معرفة بالبلدان التي ستذكر وهي : ابرندزي ، التي هي أكبر المراسي جهة شرقي إيطاليا ولها مأمن حسن وحصون وبقية البلد ليست إلا قرية محتوية على لوازم أهلها ، وأقمت بها ليلة ثم توجهت إلى «باري» وهي مرسى أيضا دون الأولى ولكنها أكبر منها بلادا وأحسن حضارة سيما الأبنية الجديدة التي لها إتقان في انتظام الطرق وسعتها وأقمت بها ليلة ثم توجهت إلى بولونيا وقد مر ذكرها ، وجميع ما مررنا عليه كان في غاية العمران والإنتظام في الزراعة وكثرة الشجر من الزيتون المعمر لجميع تلك الأرض مع بعض غلال أخرى شتى ، وجميعها يسقى بالنواعير من الآبار بإدارة الدواب حميرا وخيلا وبغالا وكذلك القرى كانت كثيرة منتشرة وحيث كان مرورنا وقت الحصاد صيفا كنا نرى جميع الجهات مشتغلا أهلها فبعضهم يحصد الزرع حتى الذي تحت أشجار الزيتون ، وآخرون يتبعونهم بسقي الأرض وفي أثرهم آخرون يثيرون بالحرث ما جف من الأرض وهكذا بحيث لا تبقى الأرض مدة بوارا ، ويزرعون في بعض الجهات إذ ذاك بقولا بحيث يصح أن يقال إن الجهة الشرقية من إيطاليا أعمر من الغربية.

وبعد إقامتي ليلة في «بولونيا» توجهت إلى قرية «منتكاتيني» التي بها مياه معدنية عليها حمامات تهرع إليها الأهالي صيفا لنفع المياه وفيها شيء من التحسين ، غير أنها شديدة الحر لاكتنافها بالجبال المغمورة بالقرى والأشجار ذات الغلال الصيفية ، والحاصل أن الجهات البعيدة عن البحر صيفا في أوروبا هي مساوية أو أشد حرا من شمال أفريقية ، ويشتد تعب الراكب في الرتل من الحر لأنه إن فتح الطواقي إسود لونه وربما أوذيت عيناه من الدخان

٢٤

والغبار بسرعة الرتل ، وإن أغلقها حميت عليه نار لظى. وحالة البلدان في الحر كما مر ، ولذلك لم نطل الإقامة هناك وتوجهت إلى «ليفورنو» التي هي على البحر كما سبق وبقيت بها حتى توجهت منها «لسفيسرة» ثم عدت إليها مارا على مدينة «ميلانو» التي أعد فيها إذ ذاك معرض عام لمصنوعات إيطاليا ومخلوقاتها ، فإذا هي أي «ميلانو» أجمل بلاد إيطاليا وأكثر حضرية وانفردت بالسوق المسمى «القلارية» الذي هو في غاية الجمال والبهجة ، ومن غرائبه أنه توقد قبته الوسطى بمزجية تمر على طريق حديدية لسرعة الإيقاد للبخار الغازي وهي مزجية صغيرة نحو ذراع طولا ، وأما المعرض فهو أنموذج من معرض باريس الآتي ذكره ، وإنما هذا أصغر بكثير وخاص بمتعلقات إيطاليا. وشاهدت فيه تجربة جر الرتل بالقوة الكهربائية السارية في قضبان طريق الحديد ، لكن التجربة أفادت أنهم لم يبلغوا المراد لحصول الوقوف أحيانا عن غير اختيار ، لكن بلغني فيما بعد أنه تم أمره في ألمانيا وصار مشتغلا به.

فصل : في تعريف إيطاليا

اعلم أن إيطاليا قسم من أوروبا الجنوبية وهي شبه جزيرة في البحر الأبيض تتصل من جهتها الشمالية بالقارة فيحدها شمالا «اسفيسره» وفي الشمال الشرقي «النمسا» وفي الشمال الغربي «فرنسا» وفي الغرب والجنوب «البحر الأبيض» وفي الشرق «بحر البنادقة». وهي على شكل مستطيل من الشمال إلى الجنوب بميل إلى الشرق على هيئة تشبه جزمة ذات عقب ومهماز ، وقبالة منتهى أصابع القدم جزيرة «صقلية» «المسماة الآن «بسيسيليا» يفصل بينهما خليج ضيق يعرف بخليج «مسينا» وتبتدىء من الشمال من عرض ستة وأربعين درجة وأربعين دقيقة ، وتمتد إلى الجنوب إلى عرض سبعة وثلاثين درجة وخمسين دقيقة من العرض الشمالي ، وتبتدىء جهة الطول من باريس من الدرجة الثالثة وخمس وأربعين دقيقة إلى ستة عشرة درجة وخمس دقائق ، فنهاية طولها نحو ألف ميل وذلك من جبل «مون بلانه» إلى رأس «سبارتيفينتو» وأما عرضها فيختلف جدا ، فمن جهة الشمال نحو ثلاثمائة وستين ميلا ومن جهة الجنوب نحو مائة وخمسين ميلا وفي بعض الجهات الوسطى نحو أربعين ميلا فقط ، ولها عدة جزائر أشهرها وأكبرها ، جزيرة «صقلية» وجزيرة «سردانيا» ولها قرب تونس جزيرة «بنتلريا» فهي ذات شطوط وسيعة جدا وبها كانت دولتها دولة بحرية.

وأما جبالها : ففيها عدة سلاسل ، فمنها : جبال «ألبا» وجبال «البنين» وجبل «كورنو» وهو أعلاها وارتفاعه على سطح البحر ٩٥٢٠ قدما ، وجبل «فيلنيو». وفيها عدة جبال بلكانية منها ما انعدم وصار عوضا عن فوهة النار بحيرات مثل : «بحيرة رسيمين ، وبرسيانو ، وبلسنا» كلها في الجبال ، وأما الباقي منها بلكانا فهو جبل «الفوزوفيو» قرب «نابلي» الذي ارتفاعه ١٢٠٠ ميتر ، وجبل «اتنا» في سيسيليا وارتفاعه ٣٣١٣ ميترو والثلج دائم عليه ، وجبل «الترنبل» في جزائر ليبرى ويظن أن بين هاته الثلاثة منافذ تحت الأرض ، وبقرب

٢٥

نابلي عدة جبال تقذف بخارا كبريتيا وتسمى «سلفتار» وبقرب «ليفورنو» جبل يقذف بخارا مائيا ويسمى «سوفيوني».

وأما أنهرها : فهي كثيرة لكنها لا تعظم جدا لقربها من البحر وأعظمها نهر «بو» الفاصل بينها وبين النمسا ، ونهر «تيبر» الذي يجري إلى رومة ، ونهر «أرنو» المار على فيرينسا وبيزة وأديج جهة ولاية الترولو التابعة إلى النمسا وغيرها ، وكلها لا تحمل السفن إلا القوارب الصغيرة سوى الأول ، فإنه يحمل القوارب الكبيرة وإن كان السير فيه صعبا لوجود جزائر رملية به نعم إن نهر أديج يحمل السفن من بلد «تيرنتو» إلى البحر ، وبها أيضا ترع صغيرة أشهرها الترعة التي بين بيزة وليفورنو تحمل القوارب الصغار ، وكذلك الترعة الموصلة بين نهري التيفروارنو ، وبها أي إيطاليا عدة بحيرات منها المسماة «لاغوما» جورى أي الكبرى وكومو ، وغاردا ، وليكو ، ولوغانو ، وإيزيو ، وأما هواؤها فهو جيد في كل الجهات إلا في الجهات الوسطى حيث توجد مستنقعات الماء المسماة «بونتين» ، فإنها يحدث منها أمراض عامة في الصيف لأهالي البلاد ومنها رومية كما تقدم ، وتوجد تلك المستنقعات أيضا قرب فينسيا وقرب نهر بو ، وفي ولاية كلابريا الجنوبية ولا زالوا مجتهدين في إزالة تلك العوارض ، فإن بلد ليفورنو كانت من أشد الأماكن وخامة لذلك السبب وكان أهلها قليلين جدا ، فاجتهدوا في تنشيف الماء ورغبوا في عمرانها حتى أعفوا الساكن بها عن كثير من الضرائب وصارت الآن لا بأس بهوائها كثيرة العمران ينتدبها الناس صيفا من كثير الجهات العليا من شمال إيطاليا فإنها منتزه جيد ، وكذلك جهات نابلي وجزيرة صقلية والهواء فيها على الإجمال مائل إلى الحر المعتدل والصيف في جنوبها يطول ، وإذا هبت ريح السموم فعلت بها من المضرة بالجفاف ما تفعله بتونس وأما شمالها فهو إلى البرد أميل.

وأما نباتها : فينبت بها الحبوب من القمح والشعير والذرة في جهاتها كلها ، والبطاطس ونبات التكروري الذي يصنع منه الحبال والكتان والقطن والفوة والعنب ، وتنفرد الجهة الجنوبية بالبردقان والموز والنخيل والهندي أي التين الشوكي والتبغ وقصب السكر وإن كان النخل لا يثمر التمر ، وتنفرد الجهة الشمالية بالأرز والزعفران والقسطل والحبة الحلواء والجوز ، كما يعم بها الزيتون والتفاح والكمثري والإجاص والتوت والتين واللوز والفزدق وعروق رب السوس ، وبها عدة آجام وغابات غير أنها في الجهة الجنوبية مهملة وغير منتظمة وأشجارها متفرقة ، وأنواع هاته الأشجار هي : الصفصاف والدردار وغيره مما تقدم ذكره في غابات تونس.

وأما حيواناتها : ففيها الخيل لكنها قليلة وأحسنها في فينسيا وما حولها ومنها نوع قصير جدا وحشي يوجد في جزائر سردانيا ، ومنها البغال وأكثرها في الجهات الجنوبية وكذلك الحمير ، ومنها البقر والمعز والضأن بقلة والجاموس والخنزير ودود الحرير والنحل

٢٦

والسمك بأنواع شتى في الأنهر والأبحر ، ومن الحيوانات الوحشية الضبع والثعلب والذئب والخنزير البري وبقر الوحش والدب.

وأما الطيور : ففيها أغلب ما في القطر التونسي وتزيد «بالغيزان» بأنواعه وأكثره أبلق اللون بين السواد والبياض وهو أكثر ما رأيناه في البراري ، وهو ثقيل الطيران وحجمه أكبر من الحجل وأصغر من الدجاج ، وفيه أنواع حضرية كبيرة ولها ألوان جميلة مفضضة ومذهبة كما توجد به الحشرات التي توجد في الأقاليم الحارة سيما في الجهة الجنوبية ، غير أنها ليست بشديدة الخبث بالنسبة لحشرات أفريقيا. ومن غريب حيواناتهم نوع من الكلاب يربى عند قسيسين في جبل «صان برنانتو» في الجهة الشمالية الدائم فيه الثلج ، ومن خصائص هاته الكلاب أنه إذا اشتد البرد وحدثت زوابع فالقسيسون يسرحون كلابهم وفي عنق كل واحد إناء صغير معلق مملوء بشيء من الأرواح المسكرة الحادة وله أنبوب ينفتح ، فتذهب تلك الكلاب وترود الجهات لعلها تجد إنسانا على شفا الهلاك من البرد فتقرب منه وتمكنه مما برقبتها لكي يسخن به ، فإن استطاع بعد ذلك الذهاب معها دلته على محل أصحابها وإن رأته لم يتبعها ذهبت لأصحابها وأعلمتهم بهيئة خاصة حتى يتبعونها ويخلصون الإنسان من شدة البرد ، فتتفرق الكلاب على ذلك النحو وتكون سببا لنجاة من تظفر به ، وهؤلاء القسيسون لا يبيعون من أناث هذا النوع ليكون خاصا بهم.

وأما معادنها : فليس فيها معادن كثيرة ولا غنية سوى شيء من الفحم الحجري في التوسكانة وقرب مسينة من سيسيليا ، ونوع من الطين يشعل بعد التجفيف مثل الفحم الحجري وفيها زيت البترول أي النفط ، وفيها الحديد بكثرة في عدة جهات منها المباردية وسردانيا وسيسيليا وكلابريا وجزيرة ألبا ، وفيها النحاس في جبل لمبارديه وفي فينيسيا وألبا وتوسكانا ، وفيها الرصاص أيضا في عدة جهات والزاوق والزنيكو ومعدن انتمونيو ومعدن منفنيز والكبريت وأعظمه في سيسيليا قرب بلد قلتاني سيتا وهو الذي تشتغل منه جميع أوروبا ، وفيها من معادن الحجارة كثير وغني فمنه الرخام الأبيض الشفاف الذي تصنع منه التحف والمرمر الأحمر والرخام الأسود والبرسلانه والطين الملوّن والمرمر الرفيع والرخام الأبيض المعتاد ، وفيها سباخ عديدة للملح ومعادن ملحية ومعدن التنكار الذي يشغله الصاغة ، وفيها مياه معدنية كثيرة أهمها في ولاية البيمنت وولاية فينيسيا وولاية التوسكانا وفي نابلي وأشهر الجميع منتيكاتيني في التوسكانة.

وأما مدن هاته المملكة : فقاعدتها رومية التي أخطت سنة ٧٥٣ قبل التاريخ المسيحي ، وموقعها كأنها متوسطة بين الجنوب والشمال في المملكة وتقرب إلى الشاطىء الغربي وقد تقدمت صفتها. وقد انقسمت هاته المملكة الآن باعتبار الإدارة إلى إثنتي عشرة ولاية كبرى لكل منها عدة أوطان ، فينقسم جميعها إلى تسعة وستين وطنا كل وطن له مركز من المدن ويعرف باسمه ، فأما الولايات الكبرى فنذكرها بأسمائها ونذكر عدد أقسامها فقط

٢٧

بدون ذكر لأسماء بلدان الأوطان الثانوية لطول الكلام وقلة الجدوى.

فالأولى من الولايات : البمنت وقاعدتها تورينو وسكانها ٠٠٠ ، ٢١٥ وبها أربعة أوطان.

وثانيها : لمبارديه وقاعدتها ميلانو وسكانها ٠٠٠ ، ٢٦٣ ولها ستة أوطان.

وثالثها : فينيسيا وقاعدتها مدينة فينيسيا التي أغلب طرقها خلجان بحرية يمرون فيها بالقوارب وسكانها ٠٠٠ ، ١٣٠ ولها تسعة أوطان.

ورابعها : ليفوريا وقاعدتها جنوة وسكانها ٠٠٠ ، ١٣٠ ولها وطنان.

وخامسها : أميليا وقاعدتها بولونيا وسكانها ٠٠٠ ، ١١٦ ولها تسعة أوطان.

وسادسها : توسكانا وقاعدتها فيرينسا وسكانها ٠٠٠ ، ١٧٦ ولها سبعة أوطان. وما تقدم كله جهة الشمال ثم في الوسط.

وسابعها : ماركي وقاعدتها أنكونة وسكانها ٠٠٠ ، ٤٦ ولها أربعة أوطان.

وثامنها : لومبريا وتختها بروزه وسكانها ٠٠٠ ، ٥٠ ولها وطن واحد.

وتاسعها : لاتسيو وقاعدتها رومة قاعدة الجميع وسكانها ٠٠٠ ، ٢٤٥ ولها وطن واحد.

ثم في الجنوب. عاشرها : نابلي وقاعدتها نابلي وسكانها ٠٠٠ ، ٤٠٠ ولها خمسة عشر وطنا.

وحادي عشرها : سيسيليا وقاعدتها بالبرمو وسكانها ٠٠٠ ، ٢٢٠ ولها سبعة أوطان.

وثاني عشرها : سردانيا وتختها كالاري وسكانها ٠٠٠ ، ٣٣ ولها وطنان.

وأما مراسي هاته المملكة : فهي كثيرة : فمنها جنوة في الشاطىء الغربي الشمالي ثم ما يأتي يليها جنوبا على الترتيب الآتي : وهي أسبيسيا ثم ليفورنو ثم شيفي تافيكيا ثم نابلي ثم كستا لاماري ، التي هي أعظم الكل لاشتمالها على معمل كبير للسفن ولو المدرعة ، ثم ميسينا وهي في الجنوب وهي حربية تجارية ، ثم تارفتوفي شاطئها الشرقي على بحر اليونان ، ثم مرسى إبرنديزي ، ثم أنكونة ثم فينيسيا وهما على بحر البنادقة ، فهاته هي المراسي الكبيرة وهناك غيرها كثير.

وأما الأهالي : فعددهم على ما تحرر سنة ١٢٩٨ ه‍ سنة ١٨٨١ م تسعة وعشرون مليونا ، وهم في الأصل من أبناء الأصليين وهم من الأمم الذين ارتحلوا إلى هناك من المشرق والشمال في أوقات مختلفة ولكن صاروا بالآخرة جنسا واحدا بيضا مع سمرة قليلة حسان تامي الخلقة ، أهل جد في الشغل وأهل الشمال منهم تقدمت فيهم الحضارة أكثر من أهل الجنوب ، إذ أهل الجنوب والوسط لا زال فيهم أناس على سذاجة تقرب من التوحش ، وكلهم على الديانة النصرانية على المذهب الكاتوليكي إلا خمسة وثلاثين ألفا ، فهم على مذهب البريتستنت ، وثلاثة وعشرون ألفا من اليهود ، ومن الأهالي ستون ألفا من جنس الأرناؤوط.

٢٨

فصل : في إجمال تاريخ إيطاليا

مطلب : في تاريخها القديم

اعلم أن أول ما تسمت إيطاليا بهذا الإسم حسبما وجد بتواريخ الرومان الأقدمين في أواسط الألف الثانية قبل التاريخ المسيحي نسبة إلى مكلها أحد العائلة التي أتت من «الموره» واسمه إيطاليوس ، وقد كانت من قبل ذلك تسمى ساتورينا وكانت مسكونة بأمم أصليين إسمهم أبو ريجان ، ثم وفدت عليهم أمم في أزمان مختلفة من اليونان وأهل الشمال وغيرهم وابتدأ فيهم ملك الرومان العظيم من المائة الثامنة قبل الميلاد وكان منشؤه في مملكة رومية التي هي قطعة من إيطاليا ، وامتد شيئا فشيئا وتكاملت أوصاف الفخر في الرومان تدريجا في المائة الثانية والثالثة قبل الميلاد ثم اتحد تاريخ إيطاليا بتاريخ الرومان إلى أن تسلط الرومان على غالب المعمور المعروف إذ ذاك تحت تسلط الدولة الجمهورية الرومانية ، ثم أبطلت الجمهورية وأحدثت الأمبراطورية التي يلقب صاحبها بالقيصر قبل الميلاد بثلاثين سنة ، ودامت سلطنة عظيمة مع التقلبات والحروب إلى أن انقسمت في سنة ٣٩٥ مسيحية إلى سلطنة غربية وهي الأصلية ، وسلطنة شرقية مقرها في سورية وآسيا الصغرى وما والاها ، وأصحاب هاته هم المذكورون في سورة الروم وهم المعنيون بذلك اللقب أي «الروم».

والسلطنة الغربية التي مقرها إيطاليا تخربت وتسلط عليها أمم متعاقبون ثم دخلت تحت سلطنة المشرق ثم افتكها منهم أمة لومبارد ، لكن بقي للمشرقيين الجهات الجنوبية وكانت تسمى السلطنة اليونانية أو الإغريقية أو الرومانية ثم انخرمت أيضا ، وتأسس تسلط البابا في رومية من سنة ١٠٤ ه‍ سنة ٧٢٢ م لكنها ما سلمت حتى ودعت فاستولى الفرنسيس على قسم من إيطاليا وقوم النباردي استولوا على قسم والسلطنة اليونانية على قسم وبقي البابا تحت ولاية الأمبراطور شارلمان (١) ملك فرنسا وغيرها ، ثم استقلت إيطاليا وكان لها تاج خاص ووقعت إنقلابات وانقسامات إلى أن جدد ملك البابا سنة ٤٦٦ ه‍ سنة ١٠٧٣ م وتم ذلك في سنة ٥٢٦ ه‍ سنة ١١٣١ م حيث تأسست مملكة الصقليتين واضمحلت بقية السلطنة اليونانية وغيرها ، وصار ملكها «جيرو الأول» تابعا للبابا ثم ثارت الثورات في عدة جهات وانقسمت إيطاليا أقسام بعضها جمهوري وبعضها ملكي وتعاقبوا على رومية مقر سلطنة البابا وتفوه منها ، وحدث في الجنوب مملكة صقلية التي كان المسلمون استولوا على جانب كبير منها بعبورهم البحر من تونس واستولى فتح قسم منها القاضي الإمام أسد بن الفرات (٢) فقد كان جامعا بين

__________________

(١) هو شارلمان (Charlemagne) أو شارل الأول الكبير (٧٤٢ ـ ٨١٤) ملك الإفرنج وامبراطور الغرب. مؤسس السلالة الكارولية ، جعل أكس لا شابل (آخن) عاصمة له. حاول الإستيلاء على إسبانيا ففشل في سرقسطة سنة (٧٧٨) المصدر السابق ص (٣٨١).

(٢) هو أسد بن الفرات بن سنان مولى بني سليم أبو عبد الله (١٤٢ ـ ٢١٣ ه‍) قاضي القيروان وأحد القادة ـ

٢٩

علوم السياسة والحرب والشرع وتوفي هناك رحمه‌الله ، ثم بعد مدة تغلب النصارى عليها كما أن الجهة الجنوبية أيضا انتشأ بها مملكة نابلي ثم رجع البابوات إلى إيطاليا من نفيهم إلى فرنسا سبعين سنة ولم ينجح الأهالي في إبعاد الأجانب من الإستيلاء عليهم مع الجهد فيه ، وتعاظمت حروب فرنسا وإسبانيا على الإستيلاء على إيطاليا إلى أن تم الأمر إلى إسبانيا سنة ٩١١ ه‍ سنة ١٥٠٥ م ولم يخرج عليها إلا البندقية ، ثم تقهقرت إسبانيا هناك تدريجا ثم تغير الحال في حروب «نابليون الأول» (١) إمبراطور الفرنسيس أوائل القرن الحالي هجري ، وأولى الإمبراطور على إيطاليا أخاه ثم صهره ولم يبق خارجا منها إلا صقلية تحت حكم أحد عائلة البربون ، وكذلك سردانيا تحت حكم أحد عائلة ساقويا ، ثم عند سقوط الإمبراطور المذكور سنة ١٢٣٠ ه‍ سنة ١٨١٤ م انقسمت إيطاليا إلى سبع ممالك كل منها مستقل وهي.

مملكة رومية : تحت حكم البابا الروحي والملكي.

ومملكة سردانيا : تحت حكم عائلة ساقوريا ويتبع الجزيرة قسم من القارة الشمالية الغربية.

ومملكة اللمباردية : تحت ولاية إمبراطور النمسا.

ومملكة بارمة : تحت ولاية نسل امرأة نابليون الأول.

ومملكة مودينا : تحت ولاية دوك من عائلة إمبراطور النمسا.

ومملكة توسكانا : تحت ولاية دوك من تلك العائلة أيضا.

ومملكة نابلي : ويتبعها صقلية تحت ولاية أحد عائلة البربون.

مطلب : في تاريخها الجديد

اعلم أن دولة الساردو إحدى الممالك المذكورة قد أسست القوانين والحرية الشخصية ومشاركة الأمة في السياسة الكلية من عهد شارل البرت المتولي سنة ١٢٤٧ ه‍ سنة ١٨٣١ م وكان من همه استقلال إيطاليا واتحادها تحت علم الحرية ، لكنه لم يصادف رجالا ذوي همم تعين على المقصود إلى أن تنازل عن الملك لولده «فكتور أمانويل» (٢) سنة ١٢٦٦ ه‍ سنة ١٨٤٩ م وكانت دولته لها التقدم من جهة القوة المعنوية لأنها ذات قوانين وحرية عادلة وإن كانت مملكة نابلي أعظم قوة صورية وأما بقية الأقسام فما كان منها تحت النمسا حسا

__________________

ـ الفاتحين ، ولد بحران وتوفي من جراحات أصابته وهو محاصر سرقوسة برا وبحرا. الأعلام ١ / ٢٨٩ ، قضاءة الأندلس (٥٤) معالم الإيمان ٢ / ١٧ رياض النفوس ١ / ١٧٢.

(١) هو نابليون (Napoleon) الأول من عائلة بونابرت (١٧٦٩ ـ ١٨٢١) ولد في أجاكسيو امبراطور فرنسي اشتهر في حملة إيطاليا الأولى والثانية ، نشر القانون المدني سنة (١٨٠٤) وسمّي امبراطورا في تلك السنة. عزل سنة (١٨١٤) وانزوى في جزيرة ألبا ، عاد إلى باريس بعد شهور قليلة فتحالفت أوروبا ضده فهزم في معركة «واترلو» سنة (١٨١٥) نفي إلى جزيرة هيلانة حيث توفي : المنجد ص (٧٠٣).

(٢) هو فكتور عمانوئيل (V ittorioEmmanuele) الثاني ملك سردينيا سنة ١٨٤٩ ثم إيطاليا ١٨٦١ ، أنشأ الوحدة الإيطالية بمساعدة وزيره كافور المصدر السابق ص (٥٢٩).

٣٠

أو معنى فالأهالي نافرون منه وإن كان بعضهم له الحرية والقوانين ، كما أن ما كان تحت البابا كان يجري فيه الظلم بحسب الشهوات فدام الحال على ذلك إلى سنة ١٢٦٩ ه‍ سنة ١٨٥٢ م حيث وقعت الحرب بين الدولة العثمانية والروسيا وتعاضدت فرنسا وانكلترة على إعانة الدولة العثمانية ، وكان ملك دولة الساردو المذكور ملكا عاقلا واستوزر وزيرا ذا دهاء وفطنة وهو «كافور» (١) وكان يأتمنه وينقاد إلى نصائحه ، كما أن الأهالي لهم اعتماد على صدقه ووفائه بحقوق الوطن وكان فيه من الأهلية ما أعانه على اتحاد إيطاليا بتدبيره وسعيه كما سيتلى عليك ، فقد عمل الجهد واتفق مع فرنسا على إعانة الدولة العثمانية في الحرب المذكورة وأرسل عساكره البالغة إثني عشرة ألفا وسفنه مع قوات الدولة الكبيرة ، وكان ذلك أول خطوة لإيطاليا في الدخول في زمرة الدول العظام في الأعصر الأخيرة ، ثم بعد وقوع الصلح وقع الإتفاق بين دولة الساردو ودولة فرنسا على إخراج ما بيد النمسا من إيطاليا وضمه إلى دولة الساردو على أن تعطي هاته إلى فرنسا وطني ساقوي ونيس ، اللذان هما في حدود فرنسا جهة إيطاليا حول الشاطىء بدعوى أن أصلهما من جنس الفرنسيس ، وأسس «نابليون الثالث» ملك فرنسا من ذلك الوقت قاعدة اتحاد الجنسية أي أن كل جنس من البشر له حق الوحدة في انتشائه دولة مستقلة إذا كانت فيه أهلية لذلك ، وساعده على هذا المقصد كون مملكة فرنسا كلها جنسها متحد فرنساوي فلا يخشى على مملكته من تلك القاعدة ، كما أن مستعمراتها يدعى أن ليس لأهلها أهلية لدعوى الوحدة وعند حصولها لهم لا يمنعهم من ذلك وعند إشهاره لهاته القاعدة وإرادته الإعانة على إنفاذها في العالم كان عقلاء الفرنسيس معارضين له فيها ، ومن أشهر المضادين له «تيرس» ذو الشهرة بالتدبير والسياسة وكان يصرخ في مجلس الندوة أن هاتيك القاعدة تؤل بالوبال على فرنسا لا من حيث الخوف من تفرق أهلها لأنهم من جنس واحد ولكن من جهة تقوي جيرانها كإيطاليا وألمانيا ، فإن الجار إذا كان ضعيفا فجاره القوي يكون آمنا منه بل يكون له النفوذ فيه بخلاف الجار القوي فإنه يأبى الضيم ويقع معه التشاحن المؤدي إلى الحرب التي تجهل عاقبتها فضلا عما تستلزمه من الخسائر المحققة في الدماء والأموال ، غير أن صراخه لم يثمر شيئا لأن دولة فرنسا في مدة إمبراطورية «نابليون الثالث» ولئن كانت قانونية شورية ظاهرا فإنها في الباطن استبدادية في السياسة العامة وكل ما يريده الإمبراطور يتمم غرضه فيه ، ولذلك أعلنت دولة فرنسا بطلب النمسا أن تسلم في الولايات الطليانية لدولة الساردو وأعلنت الحرب لذلك وتعاضدت فرنسا والساردو على حرب النمسا وحدها ، وقد كانت أنشئت جمعية أهلية طليانية تسمى جمعية وحدة إيطاليا تحت رياسة رجل منهم شهير بالشجاعة وحب الوطن وهو «كاري بالدي» وتعسكر تحته كثير من المتطوعين الطليانيين من

__________________

(١) هو كافور (Cavour) (١٨١٠ ـ ١٨٦١) ولد في تورينو وهو من كبار رجال السياسة الإيطاليين وأحد العاملين في سبيل وحدة بلاده المصدر السابق ص (٥٨١).

٣١

جميع جهات إيطاليا وأعانوا الساردو والفرنسيس ، واستعرت الحرب وكان ملوك الدول الثلاث في معسكراتهم وإن كان قسم وحدة إيطاليا كله تحت رياسة إمبراطور الفرنسيس ، وانخذلت النمسا ووقع الصلح المسمى بصلح «زوريك» نسبة للبلد التي أمضيت فيها الشروط وبمقتضاها سلم إمبراطور النمسا في مملكة لمباردية إلى إمبراطور الفرنسيس وهو أحالها إلى ملك سردانيا كما سلم له هذا في ولايتي نيس وساقويا وذلك سنة ١٢٧٦ ه‍ سنة ١٨٥٩ م.

وبينما كانت الحرب مستعرة في ميادين لمباردية وإذا ببقية إيطاليا ثارت من جميع الجهات منادية بالوحدة تحت راية «كاريبالدي» إلى ملك الساردو ، فأما الممالك الشمالية فعقدوا مجامع في عدة مدن للتدبير في أمرهم واستقر أمرهم على الإتحاد ورضيت به الأمة فانخلع ملوكهم طوعا وسلمت ممالكهم إلى ملك الساردو.

وأما الجهة الوسطى : وهي مملكة رومية فخرج منها ولايتان اتحدتا مع بقية إيطاليا وبقيت مدينة رومة وما تبعها للبابا ، لأن الفرنسيس أبى على الساردو إذاية البابا حيث أن الرهبان لهم نفوذ على العائلات العالية في فرنسا والأمبراطور يتقي جانبهم ، فألزم الساردو الحيادة عن البابا وأرسل الفرنسيس إلى رومة لحماية البابا من ثورة رعاياه قسما من العساكر الفرنساوية وأسطولا على مرسى شيفي تافيكيا.

وأما الجهة الجنوبية : فثار أهلها أيضا ونادوا بالوحدة تحت راية «كاريبالدي» ثم وردت لهم عساكر الساردو واشتدت الحرب مع ملك نابلي إلى أن قهر وفر هاربا وتمت وحدة إيطاليا بذلك سنة ١٢٧٧ ه‍ سنة ١٨٦٠ م ، وقبل فيكتور امانويل الثاني الملقب بملك إيطاليا غير أنه بقي خارجا عنها بقية مملكة رومية وولاية فينيسا التي تحت النمسا ، لأن إمبراطور الفرنسيس في الحرب المار ذكرها استشعر بأن الروسيا تريد الإعلان بالحرب ضده إذا طالت المدة ، فعجل بإيقاع شروط الصلح مغتنما بهرجة النصر بما أمكن وبذلك وحماية البابا لم تتم منّة الفرنسيس على إيطاليا ، ثم ابتنت على قاعدة الوحدة الجنسية المار ذكرها دعوى ألمانيا التي كانت إذ ذاك تحت رياسة النمسا الحق في الإستيلاء على ولايتي «الهولستين» و «الشولسويغ» اللتين هما من جنس الألمان ، وولايتهما كانت بالوراثة راجعة إلى ملك الدانيمرك وأجرى فيهما قوانين مملكة الدانيمرك ، فادعت ألمانيا بلزوم إخراجهما ولحوقهما بألمانيا وأعلنت بسبب ذلك الحرب بين دولة النمسا صاحبة الرياسة ومعها دولة البروسيا التي هي أكبر دول ألمانيا ، وبين دولة الدانيمرك الصغيرة واستغاثت هاته بكبار دول أوروبا ، وكانت دولة إنكلترة مع مصاهرة عائلتي الملك بينها وبين الدنمرك مسلمة بالحق للدنيمرك ومتيقنة بأن حرب ألمانيا معها مضر بالآخرة بالموازنة الأوروباوية ، حتى قال اللورد «بالمنستور» كبير وزراء إنكلترة إذ ذاك : «إن هاته شرارة ألقيت في أوروبا لا تلبث أن تشتعل منها نارا» ، غير أنه أحجم عن العمل لأن فرنسا كانت مخالفة له وممضية لقاعدة

٣٢

الوحدة ، فاشتبكت الحرب بين ألمانيا والدنيمرك وغلبت هاته في أقرب وقت وأخذت الولايتين منها غير أنه اشتد النزاع فيما بعد بين النمسا وبروسيا ، وذلك أن ألمانيا كما تقدم في المقدمة منقسمة إلى عدة ممالك وقد كانت الرياسة عليها متداولة بين دولتين النمسا والبروسيا حسب السطوة والإقتدار ، واستقرت منذ مدة الرياسة بيد النمسا غير أن الدولة البروسيانية حانقة من ذلك ولم تساعفها الأحوال للغرض ، وقد كان ولي عليها ملك عاقل ذو خبرة وتبصر بالعواقب وهو «فريداريك (١) الكبير» فأعطى الحرية للأهالي من نفسه ، ومن ذلك الوقت أخذت بروسيا في التقدم واتساع المعارف وكان من قوانينها أن الأهالي كلهم تجب عليهم الخدمة العسكرية حتى أنهم في وقت الحرب يكونون كلهم عساكر ، وبذلك صارت دولة حربية قوية أيضا غير أنها مع ذلك لم تساعفها الظروف الحالية لإنفاذ مقصدها في الإستيلاء على الرياسة الإلمانية ، إلى أن تولى الملك «غليوم» (٢) الملك الحالي فاستوزر رجلا ذا تبحر في السياسة وجد في العمل وهو الأمير «بيزمرك» (٣).

وكان الملك عاملا بأفكاره حتى حصلت له ضدية من بطانة الملك وأهل بيته ، بل ومن مجلس نواب الأمة أيضا عندما رسم بوجوب الزيادة في القوة العسكرية إذ علم أنها الوسيلة لإتمام الأمل مع حسن إجراء السياسة في الداخل والخارج ، لكن الملك لم يقبل فيه قول قائل لسيره لأفكاره ومقاصده حتى أنه لما خالفه مجلس النواب أمر بحله وانتداب الأمة إلى انتخاب غيره تحفظا على سياسة وزيره ، وبقي الوزير في خطته وعمل بما رسمه ثم وقعت الواقعة المشار إليها مع الدانيمرك وكانت دولة البروسيا أو عزت إلى فرنسا استحسان قاعدة الإمبراطور نابليون الثالث في وحدة الجنسية وأطمعتها بفوائد لو تساعدها ولو معنى فقط على إبعاد النمسا من بقية ألمانيا ، كما أن «بيزمرك» أوعز إلى بقية ممالك ألمانيا للتنفير من رياسة النمسا عليهم لأنها ليست من جنسهم خاصة بل هي مركبة من أعضاء متعددة وليس الألمان فيها إلا جزءا من الأجزاء ، ودام إغراء صدورهم إلى أن أثر فيهم أشد التأثير ثم حصلت المنازعة بين النمسا والبروسيا على الإستيلاء على الولايتين المأخوذتين من الدانيمرك ، وفي أثناء النزاع أغرت البروسيا دولة إيطاليا بالمعاضدة معها لإخراج بقية إيطاليا من تحت النمسا فأعلنت الحرب بين البروسيا ومعها إيطاليا وبين النمسا فكانت النمسا غالبة

__________________

(١) هو فردريك الثاني الكبير (١٧١٢ ـ ١٧٨٦) ملك بروسيا سنة (١٧٤٠) حتى وفاته. رجل حرب وإدارة قاوم التحالف الفرنسي الروسي النمساوي في حرب السبع سنوات استفاد من تقسيم بولونيا سنة (١٧٧٢) كانت ثقافته واسعة وانفتاحه على الآداب والفلسفة المصدر السابق ص (٥٢٢).

(٢) غليوم ـ فيلهيلم ـ (Wilhelm) إمبراطور ألمانيا الأوّل من آل هو هنزولرن (١٧٩٧ ـ ١٨٨٨) ملك بروسيا سنة (١٨٦١) ثم ألمانيا سنة (١٨٧١) المصدر السابق ص (٥٣٧).

(٣) هو بسمارك (Bismarck) (١٨١٥ ـ ١٨٩٨) من مشاهير السياسيين الألمان وأحد الذين حققوا الوحدة الألمانية وجعلوا ألمانيا في مقدمة الدول الإستعمارية في القرن التاسع عشر. المصدر السابق ص (١٣٢).

٣٣

لإيطاليا لكنها مغلوبة غلبا فظيعا لبروسيا ، وذلك لأن البروسيا كانت اخترعت نوعا من المكاحل مسدسا يحشى من أسفله ويثور باروده باندفاع إبرة من أسفل المكحلة ويسمى هذا النوع المكحلة ذات الإبرة ، وكان أبعد مرمى وأسرع انطلاقا من النوع القديم بكثير فكانت عساكر النمسا يصيبهم رمي عدوهم المتوالي كالمطر الدافق من غير أن يصيب رميهم عدوهم ولو بواحدة ، وكان صف العساكر يخر ميتا دفعة من قبل أن يتمكن من رمي عدوه إلى أن ضجت عساكر النمسا ولم يكن لهم من وجه للتخليص إلا عقد الصلح بما طلبته أبروسيا ، ومن العجب أن ذلك السلاح كانت عساكر أبروسيا مقلدة ومحاربة به للدانيمرك عند تعاضدهم مع النمسا ولم يلتفت إليه أحد إذ ذاك ولا تهيأت النمسا لمقابلته فوقع الصلح سنة ١٢٨٣ ه‍ سنة ١٨٦٦ م ، على أن البروسيا تتولى تلك الولايتين وتدخل فيها أيضا مملكة الهانوفر ، والهاس ، ودوكاتوناسو ،. وبلد فرنكفورت الحرة ، وأن تخرج النمسا عن رياسة العصبة الجرمانية بالمرة ، وتبقى ممالك جرمانيا فالشمالي منها داخل تحت رياسة أبروسيا مستقل بإدارته ، والجنوبي منها له معاضدة مع البروسيا لكن ليس داخلا تحت رياستها تماما ، إلى أن وقعت الحرب مع فرنسا كما سيأتي في محله.

كما تضمنت شروط الصلح أيضا تنازل النمسا عن ولاية فينيسيا إلى إمبراطور الفرنسيس وهو سلمها للطليان ، وذلك لأنه هو الذي تداخل بالصلح عندما رأى فظاعة تقهقر النمسا ، ثم لما انهزمت فرنسا في حربها مع ألمانيا سنة ١٢٨٧ ه‍ سنة ١٨٧٠ م واضطرت إلى إخراج جيشها من رومة تم اتحاد إيطاليا بجعل مدينة رومة تختا للمملكة فدخلتها جيوش الملك «فيكتورا مانويل» والثائرون بعد محاربة ضعيفة من عساكر البابا وبقي البابا حاكما روحيا على الكاتوليك ، واتحد الحكم السياسي لمملكة إيطاليا ولم يبق خارجا عنها سوى «صان مرينو» التي أهلها نحو سبعة آلاف نسمة فإنها مستقلة بنفسها ، وكذلك «صان بيترو» وهي كنيسة رومية الكبرى والفاتيكان وهو محل استقرار البابا ، وبقيت قطعة أخرى على شاطىء البنادقة العليا الحاوية لمرسى ترست تحت يد النمسا وفي نفوس الطليانيين الدعوى باستحقاقها ، ثم إن المزية في ذلك الاتحاد ولئن كانت إلى الملك فيكتور امانويل لإجرائه للقوانين في ممالكه حتى أحبته سائر إيطاليا وفاز بالشهرة بذلك وزيره كافور لمهارته وحزمه في إدارة السياسة العامة وجلب المساعدة من الخارج وتقديم الأهم فالأهم ، لكن للأمة الطليانية أيضا الحظ الأوفر من ذلك الفخر حيث هيأت نفسها واستعدت لإنفاذ ذلك المراد بفتح بصائرها وتمييزها السقيم من المستقيم ومعرفتها بما يؤل لخيرها حتى كانت تعقد لذلك الجمعيات السرية في أقطار المملكة وتتواصل المخابرات بينهم في الإستعداد وغرس حب الوطن والنفرة من الضيم ، ومن تلك الجمعيات الجمعية المسماة «بالفرمسيون» التي نهاية سعيها نشر الحرية من غير إذاية لأحد على شروط عندهم ، وتحملت تلك الجمعيات مصاعب كبيرة في عدة جهات ومع ذلك لم يفتر عزمهم وآثروا النفع العام على حظوظهم الشخصية إلى أن وجدوا يد المساعدة من دولة الساردو المستعدة لما يرومونه

٣٤

فنادوا بها من جميع أطراف المملكة ، وكان «كاري بالدي» مظهر وجود تلك الجمعيات التي كانت تنفق على متطوعيه كإنفاق دولة على عساكرها. وذلك الزعيم لما تم مقصد إيطاليا رامت الدولة مكافأته بترقيته في الرتب العالية فاحتسب عمله لفخر بلاده وأبى قبول شيء ما مع احتياجه.

ومن أهم مساعدات البخت وجود قاعدة نابليون الثالث المار ذكرها ، ويقال إنها مؤسسة منه قصدا لأنه يدعي بأنه كان من أعضاء «الفرمسيون» وأنه لما كان منفيا بإيطاليا وعد جماعته بالمساعدة إذا تولى ملك فرنسا ، وإعانته لها اعتبار عظيم لأنها كسرت سورة النمسا ذات الشأن ، فلو لم تقع مساعدة فرنسا لكانت النمسا أول مخضد لشوكة الاتحاد ولو أنها ترى الحرب لأجل ذلك مع غيرها كنابلي مثلا لأنها تعلم أن المآل بالمضرة لها حسبما قيل أقسم تحكم ، فمنة فرنسا لا تنكر في ذلك لأن إحياء الأمة بعد الإندثار وتغلب الدول العظيمة عليها لا يمكن بدون مساعدة دولة ذات شأن واقتدار كما بينه الإستقراء.

ومن غرائب ما سمعته من جهة علوم الحدثان هو أن نابليون الثالث زار إيطاليا أثر إتمام إعانته لها وفي مسامرة الوليمة التي أعدت له من ملك إيطاليا ، كانت امرأة عجوز من الأعيان حاضرة فاختلت بالإمبراطور مع بعض الأعيان المقربين إليه وقالت له : هل وجدت ما قلته لك صدقا؟ فقال : نعم فقالت : لكن ما أدري كيف الحال في الباقي ، فسفسطها وفض المجلس. فسألها أحد الحاضرين عن معنى كلامها فقالت : إنها تعلم نوعا من الحدثان وأنها كانت أخبرت نابليون مدة هروبه بإيطاليا قبل ولايته على فرنسا بجميع ما يقع له ، ومنه أنه يخلع بعد حرب وقد حان وقتها ولذا قطع الكلام ، وقد رويت هاته الحكاية عن ثقة قبل حرب فرنسا وبروسيا سنة ١٢٨٧ ه‍ سنة ١٨٧٠ م فلم يطل الزمن حتى كان الأمر كما ذكرت والله أعلم بكيفية علمها بما ذكر فإن بعض أنواع ذلك الفن لا يتوقف على صلاح ولا على دين بل كأنما هو صناعة. وفي مقدمة ابن خلدون (١) كفاية لبيان ذلك.

وأما أسماء ملوك إيطاليا : فإن لها الآن ملكان فقط. الأول : فيكتور امانويل. الثاني : إبنه امبيرتو وذلك لقرب العهد بالاتحاد ، نعم إن الملك الأول كان ملكا على الساردو وهو من عائلة ساقويا التي لها رسوخ في الملك والإمارة من قديم.

مطلب : في الإدارة الداخلية

إعلم أن الإدارة عندهم منقسمة إلى كليتين :

الأولى : هي ما يتعلق بالإدارة العامة.

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون (٧٣٢ ـ ٨٠٨ ه‍) أبو زيد ولي الدين الحضرمي الإشبيلي فيلسوف مؤرخ. توفي في القاهرة. الأعلام ٣ / ٣٣٠ ، الضوء اللامع ٤ / ١٤٥ جذوة الإقتباس (٧) نيل الإبتهاج (١٧) تعريف الخلف ٢ / ٢١٣ دائرة المعارف الإسلامية ١ / ١٥٢.

٣٥

والثانية : ما يتعلق بإجراء الأحكام الشخصية. فكل منهما إدارة مستقلة عن الأخرى ولا دخل لها فيها وكل من الإدارتين راجعة إلى رئيس الدولة وهو الملك ، فدولة إيطاليا دولة ملكية ولملكها إدارة السياسة العامة داخلية وخارجية ورياسة القوات الحربية برية كانت أو بحرية وعقد المعاهدات والحرب والصلح ورياسة الأحكام الشخصية وتنفيذها ، لكنه لا يتصرف في كل ذلك إلا على مقتضى قانون مرتب معلوم وملخص كلياته : أن الملك يتصرف في جميع ما تقدم بواسطة الوزراء وهو ينتخب الوزير الأول ، أي صاحب رياسة الوزراء ويكلفه بأن ينتخب هو بقية الوزراء ممن توفرت فيهم شروط الأهلية ، وبعد اختيارهم يعرضهم على الملك وهو يوظفهم في وزاراتهم وهي وزارة الداخلية والخارجية والمال والأحكام والتجارة والمعارف والنافعة والديانة والحرب والبحر. وقد يتقلد رئيس الوزراء إحدى تلك الوزارات مع الرياسة وقد يجمع بين صغارها كالتجارة والنافعة والمعارف ، وكل وزير له حدود في إدارته يكون هو المسؤول عنها.

وهناك مسائل تجتمع فيها المسؤولية على الجميع وما يستقر عليه رأي الوزراء منفردين أو مجتمعين يمضيه الملك ، وإن لم يره يعرضه على المجالس الآتي بيانها فإن وافقوا الوزراء أمضى الملك وإن خالفوهم وأصر الوزراء على رأيهم لزمهم الإستعفاء ، وينتخب الملك غيرهم. كما أنه إذا وافق الملك الوزراء وخالفهم المجلس فللملك الخيار إن شاء انتخب وزراء آخرين وإن شاء حل المجلس وأذن العامة بانتخاب غيره ، ومن حقوق الوزراء الحضور في مجلس النواب والأعيان للمناضلة عن أعمالهم ، ثم وراء أعمال الوزراء مجلسان.

أحدهما : يسمى مجلس الأعيان ، ووظيفة أعضائه عمرية وينتخبهم الملك من عموم أهل المملكة الأعيان وأعيان المتوظفين وجميع أعضاء العائلة الملكية ، إذا بلغ الرجل منهم إحدى وعشرين سنة ، ولكن ليس له رأي وصوت يقبل إلا إذا بلغ خمسا وعشرين سنة ، ولذلك لم يكن عدد أعضاء المجلس محصورا وكان مقتضى قواعدهم أن يكون من أعضائه كبراء الديانة ، لكنه لما كان البابا مضادا لملك إيطاليا حيث نزع منه السلطة المملكية كان جميع رؤساء الديانة مضادين للحكومة الطليانية ويرونها عاصية فلا يتداخلون في أمرها بل لهم سعي في إبطالها وإعادة سلطة البابا ، لكن العقلاء منهم الذين يؤثرون نفع الأمة عموما على حظوظ نفوسهم يعملون ما ذكر ظاهرا فقط قياما بوظائفهم الدينية وأما باطنهم فهو مع الدولة.

ووظيفة هذا المجلس : هو الرأي في الإحتساب على أعمال سائر المتوظفين وفصل النوازل التي يقع فيها الخصام بين المتوظفين مما يرجع إلى الوظيف واستحسان أو استقباح ما يرد من مجلس النواب بحيث لا يمضي شيء من تراتيبه إلا بعد مصادقة مجلس الأعيان عليه وهو الحاكم في الجنايات السياسية.

٣٦

والمجلس الثاني : هو مجلس النواب وأعضاؤه تنتخبهم الأهالي من عموم المملكة فكل قسم من المملكة ينتخب عددا على قدر عدد سكانه بأن يكون على كل خمسة وثلاثين ألف نسمة عضو واحد بشروط في الذين ينتخبون ، بأن يكون كل منهم ذكرا طليانيا بلغ من العمر خمسا وعشرين سنة ، وأن يكون غير محجور عليه وأن يعرف القراءة والكتابة وأن يكون مؤديا للدولة أربعين فرنكا في السنة من أي طريق كان من أنواع الأداء ، ويستثنى من هذا أقسام لهم امتياز بالعلم والتجارة فلهم الإنتخاب مطلقا ، كما يشترط فيمن ينتخب لأن يكون عضوا أن يكون طليانيا وأن يعرف بالرشد وأن يبلغ ثلاثين سنة ، وأن لا يكون متوظفا له مرتب من الدولة نعم يغتفر في الشرط الأخير إذا لم يبلغ عدد أهله في المجلس قدر الخمس ، ووظيفة هذا المجلس هي المحافظة على القوانين الموجودة وتغيير ما يرى تغييره وتحرير ميزان الدخل والخرج وترتيب كيفية توزيع دخل الدولة على الأهالي والاحتساب على جميع أعمال الدولة ، ويوجد مجلس آخر يسمى مجلس الشورى ينتخب أعضاءه الملك من أعيان المتوظفين ، ووظيفة هذا المجلس هي إعطاء الرأي فيما يعرضه عليه الوزراء من المسائل وتهذيب القوانين لتعرض على من له قبولها من المجالس ، ثم أن تنفيذ جميع الأعمال مناط بالوزراء وهم المسؤولون عما يقع من الخلل بمباشرتهم أو بواسطة من يعينونه للمباشرة في الوظائف ومسؤليتهم لمجلس النواب ولمجلس الأعيان ، فهذا هو ترتيب تصرفات الدولة.

وأما الإدارة في الولايات : فقد تقدم أن المملكة منقسمة إلى إثنتي عشرة ولاية كبرى وكل منها لها أقسام حتى صار مجموعها تسعة وستين ولاية ثم الولايات في ذاتها لها أقسام صغرى وهاته تحتها أقسام أصغر منها ، فلكل ولاية وال معين من الدولة وله مجلس يسميه الملك ومدة وظيفتهم ليست محددة ومأموريتهم هي تنفيذ أوامر الدولة وتنفيذ ما يستقر عليه رأي مجلس الولاية الآتي ذكره ، ولهم التدبر فيما يصلح بولايتهم وإمضائه بعد موافقة المجلس المذكور عليه ، وفي كل ولاية أيضا مجلس أعضاؤه تنتخبهم الأهالي لمدة خمس سنين ويبدل خمسهم كل عام ، وعددهم على حسب عدد سكان الولاية لكنهم لا يتجاوزون الستين نفسا فيما إذا كان عدد السكان أزيد من ستمائة ألف وينقصون إن كان عدد السكان أقل ، ومدة اجتماعه مرة في السنة تدوم على قدر الحاجة ومأموريتهم هي تعيين المقادير اللازمة لمصاريف مصالح الأيالة كتمهيد الطرقات وبناء الجسور والمكاتب والمستشفيات وتحسين البلدان وغير ذلك ، وأول ما يعتبر في مقدار الدخل المقدار الذي يحصل من الأوقاف المعينة لمصالح الولاية ثم ما يزيد عليه من المصاريف يوزع على الأهالي على نسبة ما يدفعونه لمداخيل الدولة ، ومن وظائفه أيضا تعيين حدود الولايات وتغييرها فيما بينها على حسب ما تقتضيه المصلحة.

ويوجد في كل ولاية أيضا مجلس مركب من الأعضاء المنتخبين من تلك الولاية لمجلس النواب العام ، ومأموريتهم مستمرّة ما داموا أعضاء لمجلس النواب ، وإدارتهم هي

٣٧

قبض وصرف المبالغ المعينة من المجلس السابق بواسطة الوالي ومجلسه ولهم الإطلاع على سائر أعمال المجالس والمصالح المدارة في ولايتهم ، ثم أن كل وطن تحت الولاية فيه نائب عن الوالي مأموريته الاحتساب على أعمال المجالس البلدية الآتي ذكرها وإيقاف ما يراه من أعمالهم مخالفا للقوانين وإنهاؤه إلى الوالي ، ثم في كل جهة وبلد مأمور من الدولة وله أعوان مكلف بحفظ راحة السكان وحراستهم من الجنايات والمشاجرات وهم المعروفون بالضابطية.

كما يوجد في الأوطان أقسام من العساكر ومكلف بكيفية أخذ العساكر من الأهالي على مقتضى القانون وكذلك يوجد في كل بلد قرية أو مدينة مجلس بلد لا تتجاوز أعضاؤه الستين نفسا في البلدان الكبيرة وينقصون في غيرها على حسب كبرها تنتخبهم أهالي البلد لمدة خمس سنين كما تقدم في غيرهم ، وشروط انتخابهم كشروط مجلس النواب بنقصان في شرط مقدار الآداء للحكومة ، ومأموريتهم ما يتعلق بمصالح بلادهم والإحتساب على الضابطية ، ومدة اجتماعهم مرتان في السنة أو عند الإقتضاء ، ثم ينتخبون منهم لجنة لا تزيد أعضاؤها على ستة ولا ينقصون عن أربعة بحسب عدد سكان البلاد تحت رياسة شيخ البلد لإجراء المصالح المتفق عليها في بقية السنة ، ومن حقوق صاحب الملك أن يغلق جميع المجالس المتقدم ذكرها إذا رأى ما يوجب ذلك بشرط أن ينتخب غيرهم هو فيما يرجع إلى انتخابه ويدعو الأمة إلى انتخاب من يرجع إلى انتخابها في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر ، وفي مدة التعطيل يكلف الملك من يجري المصالح التي ترجع إلى المجلس المعطل وتكون عليه مسؤولية ما يجريه ولا يعزل صاحب وظيفة إلا عن ذنب أو نقل لغيرها ، فهذا كله في القسم الأول من الإدارة وهو الإدارة السياسية.

وأما القسم الثاني وهو الإدارة الحكمية : فإن في كل بلد مجلسا يحكم في الحقوق الشخصية ثم في كل قاعدة من قواعد الأوطان مجلس لتحقيق الأحكام الصادرة من مجالس أحكام البلدان الراجعة لتلك القاعدة عندما يطلب الخصم تحقيق الحكم ويستثنى من ذلك النوازل الصغيرة. ثم وراء ذلك مجلس آخر لتحرير أحكام مجالس التحقيق إذا طلب الخصم ذلك أيضا في نوازل معينة ، ثم في كل بلد مجلس للجنايات الخفيفة ومجلس للصلح يدعو الخصوم إليه وأحكام هاته المجالس يستندون فيها إلى قوانين مرتبة عندهم عقلية مستخرجة من عدة قوانين قديمة للرومان واليونان وغيرهم موصلة الحقوق إلى مستحقيها على ما يرونه وزاجرة عن الجنايات ومراع فيها حالة البلاد وأخلاق الأهالي وعوائدهم واصطلاحهم. ومجلس النواب يغير من قوانين الحكم ما تدعو المصلحة لتغييره بحسب تغير الزمان والعرف ، وقوانين الحكم معلن بها يتوصل إليها كل أحد ليعرف ما له وما عليه وإذا تغير عندهم حكم مسألة لا يجري العمل به إلا بعد مدة ، لكي يكون الناس عالمين به وأحكام مجالس الحكم وسماعهم للدعوى والجواب يكون علنا ولكل من أراد الحضور في تلك المجالس أن يدخل إليها ويجلس في مكان معد لذلك ليسمع ويرى ، لكنه

٣٨

ليس له التداخل في الشيء من أعمال المجلس نعم إذا رأى شيئا مخالفا للقوانين فإنه يرفعه لمن له النظر في حفظ القوانين أو يكتبه في الصحف الخبرية ويعلن به ، وليس في قوانينهم العقاب بالجلد ، وإنما يعاقبون بالقصاص في النفس وفي غيرها بالغرم المالي والسجن على حسب الجناية في درجة عذاب السجن ومدته ، وأحكام المجالس تنشر في الصحيفة الخبرية المعدة لذلك لكي يعلم الحكم من أراده من العموم ، ووظيفة أعضاء مجالس الأحكام عمرية لا يعزل صاحبها عزل عقاب ولا تأخير ليكون في إجراء الأحكام آمنا إلا إذا ثبت عليه ذنب بمقتضى القانون فإنه يعزل ويعاقب ، نعم يترقى العضو من مجلس إلى غيره ومن بلد إلى غيرها وذلك بيد وزير الأحكام على قانون لهم في ذلك ، ولعموم الأهالي والواردين أيضا الحضور في مجلس النواب ومجلس الأعيان لسماع مفاوضاتهم ولأصحاب الصحف الخبرية مكاتبون يحضرون في تلك المجالس لينشروا جميع المفاوضات ، وكذلك فيها بيت معد للملك إذا أراد الحضور الغير الرسمي وفيها بيت معد لمن أراد الحضور من أعيان الأهالي والسفراء والوافدين تعطى لهم أوراق الإذن بالدخول إليها من الوزارة ، كما أن العامة إنما يدخلون بورقة الإذن من الرئيس والحصول عليها سهل وإنما يلزم الإذن لكي لا يزدحم الحاضرون في مكان الاجتماع بأن يكون عددهم أكثر مما يسعه المحل ، ولأن في المجالس جلسات سرية يضر إفشاء خبرها فلا يسمح عندها بحضور غير الأعضاء بل ربما اعترى ذلك في وسط الجلسة الجهرية فيؤذن للحاضرين بالإنصراف.

مطلب

قد تلخص مما تقدم أن دولة إيطاليا هي دولة ملكية قانونية شوروية وللأهالي الحرية الشخصية والسياسية ، فإما كونها ملكية : فلأن الرياسة والتصرف العام هو بيد ملك وراثي ، أعني أن الملك ينتقل من الأب إلى إبنه الأكبر في عائلة مخصوصة ومن هذا إلى إبنه الأكبر وهكذا ، وبقية العائلة الملكية تستخدم في الوظائف كسائر أعيان الأهالي على حسب التأهل. وأما كونها قانونية : فلأن التصرفات العامة والأحكام الخاصة كلها منضبطة بقواعد عقلية مدونة معروفة. وأما كونها شوروية : فلأن تطبيق تلك القوانين على الحوادث مناط بآراء متعددة ووراءها أنظار أخر متعددة بحيث لا يمضي شيء إلا ما يستقر عليه غالب آراء أهل الحل والعقد. وأما كون الحرية الشخصية للأهالي : فلأن كلا منهم له الإطلاق في التصرف في نفسه وكسبه داخلا في دائرة حدود القوانين لا يخشى من مجاوزتها عليه وهي كافلة له بالأمن في دينه ونفسه وماله وعرضه. وأما كون الأهالي لهم الحرية السياسية : فلأن كلا منهم إذا توفرت فيه الشروط المؤهلة من صفاته الذاتية فله التداخل في تدابير المصالح الكلية العائدة لوطنه ، ولكل منهم نشر أفكاره على العموم بواسطة المجامع أو الكتب والصحف الخبرية على شرط عدم الخروج عن حدود القوانين المراقب لها في جمهوريتي جنسه.

مطلب : في السياسة الخارجية لإيطاليا

إعلم أن دولة إيطاليا الآن هي سادسة الدول الأروباوية الكبار وهي ألمانيا وفرنسا

٣٩

وانكلترة والنمسا والروسيا وإيطاليا ، فهاته الدول بما لهم من القوة واتساع نطاق التمدن صار لهم المداخلات في كل ما يمس حقوقهم من سياسات العالم ، وشدة مراقبة بعضهم لبعض لا تترك أحديها تتداخل في شيء يمكن منه لمس حقوق الآخرين ولو في الوجاهة والنفوذ ، ولكنهم عموما يتجنبون المداخلات في أحوال الدول ذات الإنتظام لا لمجرد مراعاة الإنتظام بل لأن الإنتظام يشيد حصونا على أبواب المداخلات باستناد أصحابها إلى أصولهم وآراء العموم مع جريان سيرتهم على استقامة من القيام بواجباتهم في أنفسهم والوفاء بحقوق المعاهدات الأجنبية ، ومع ذلك فالقوة في الدول الكبيرة تغري بالتداخل في أحوال الضعيف كيفما كان الحال لكن الغيرة والتحاسد بين الكبار يوجب ردع بعضهم بعضا ، فإذا كان المصوب إليه سهام التداخل مستقيما في نفسه وجد بقية الدول الكبار مستندا لردع الجاني منهم على الضعيف ، إذ اختلاف منافعهم ومباينة مقاصدهم موجبة للإختلاف وعدم الاتحاد على الإضرار بالضعيف ، حيث أن الإضرار به لا يمكن أن يوفي بأغراض جميعهم فلا يسمح أحدهم برجحان كفة غيره على كفة نفسه ولذلك يجد الضعيف راحة من اختلافهم الذي كانت أعماله باستقامته سببا فيه.

أما إذا كان في نفسه غير مستقيم تورث سيرته الكوارث التي تقلق جميع الدول الكبيرة ، فيقتحمون تحمل ضياع بعض أغراضهم ليسدوا باب التشاحن من قبيل ارتكاب أخف الضررين ، وذلك لا ينشأ إلا في الجهات التي تشترك فيها منافع الجميع.

أما الجهات التي تخص بعضا منهم : فإن المشاحنة إنما تقع بين من له تشارك فيها فقط. ولذلك كان لدولة إيطاليا مراقبة لأحوال شطوط البحر الأبيض وكل الدول المجاورة لها ، ولم يكن يعنيها ما يقع في غربي أوروبا ولا ما يحصل في الصين والهند وأمثال ذلك ، نعم ليست درجة غربي أوروبا عندها كدرجة الصين ، والحاصل أن تداخلها هي أو غيرها على حسب منافعها السياسية والتجارية ، ولذلك كانت لها معاهدات مع الدول التي لها معها علقة في السياسة أو التجارة وهاته الدول هي جميع دول أوروبا والدول التي على شطوط البحور من آسيا وغالب جهات أفريقيا ، ولها سفراء نواب عنها في تخوت تلك الممالك وهم على طبقات في المقام ، فلها سفراء من الدرجة العليا في الدول العظيمة التي لها معها خلطة سياسية معتبرة ، ولها سفراء من الدرجة الثانية في غيرها من الدول المستقلة أو التي لها معها معاهدات ، ولها قناسل وهي رتبة أقل من السفير في الحكومات الغير المستقلة أو التي هي صغيرة وتارة تكلف بمصالحها نواب لمجرد الشرف بالرتبة من غير مرتب أو تكلف نواب بعض الدول الأخرى كل ذلك في الممالك التي تقل خلطتها معها ، ولكل سفير أو مكلف نواب وأعوان ومحل إدارة يسمى بالسفارة كأنه وزارة تنفق عليها الأموال في المرتبات وغيرها ، وكل دولة فيها سفير من إيطاليا يلزم أن يكون لها هي أيضا سفير فيها على قدر مصالح تلك الدولة وهي قاعدة مطردة في سائر الدول بالنسبة لسيرتهم في الخارجية ، ومنذ سنة ١٢٧١ ه‍ ١٨٥٤ م دخلت إيطاليا في عقد المعاهدات العامة بين

٤٠